Blog
أصناف الكتّاب في رأس شوبنهاور
أصناف الكتّاب في رأس شوبنهاور
من يكتب للحمقى، يضمن دائمًا جمهورًا واسعًا
- ثمّة ثلاثة أصناف من الكتّاب:
الأول يكتب من غير تفكير، والثاني يفكّر أثناء الكتابة، والثالث يفكّر قبل أن يكتب.
الصنف الأول يحظى بأكثر القرّاء عددًا، وأوسع شهرةً، لأن كتابته سهلة المأخذ سريعة الزوال. أمّا الصنف الثاني فيكتب لأن الكتابة وسيلته إلى التفكير، فهو ينسج كتابه كما تنسج العنكبوت خيوطها، بجهدٍ وصبرٍ، غير أنّ ما يصنعه كثيرًا ما يكون محكومًا بحدود ما يصادفه لا بما يبتكره. أمّا الصنف الثالث، النادر في كل عصر، فهو الذي يفكّر مليًّا قبل أن يخطّ قلمه حرفًا، ويكتب لأن لديه ما يستحق أن يُقال. هؤلاء وحدهم الكتّاب العظام، وأعمالهم هي التي تخلّد في الزمن.
يمكن تشبيه كتابة الصنف الأول بوجبةٍ أُعدّت على عجل؛ والثانية بوجبةٍ طُهيت بعناية؛ أمّا الثالثة فهي كطعامٍ صُنع من مكوّنات مختارة وبذوقٍ فنيّ رفيع.
ما يقدّمه النوع الأول أشبه برغوة البيرة أو زَبَد البحر، يختفي لحظة ظهوره. وما يقدّمه الثاني قد يعيش زمنًا قصيرًا، وربما يصبح موضة مؤقتة. أمّا ما يقدّمه الثالث فهو الذي يدوم إلى الأبد.
- وضوح الفكر وجمال التركيب
فنّ التأليف الحقيقي يقوم على أن تُرتّب الأفكار بحيث يلتقطها القارئ بسهولة من غير أن تفقد عمقها.
ولهذا فإن الوضوح هو القانون الأول في الكتابة، والقانون الثاني هو الوضوح أيضًا.
فلا وضوح بلا ترتيبٍ للأفكار ولا تسلسلٍ منطقيٍّ في عرضها.
الكاتب الواعي وحده هو من يجمع الكلمات بوعيٍ تامّ لمعانيها، ويختارها بعناية مقصودة. لذلك، فإن كتابته تشبه لوحةً رسمها فنانٌ بريشته، لا طبعةً نُفّذت بقالبٍ جاهز.
فالكاتب العادي يبني فقراته كما يبني الإنسان جدارًا من حجارةٍ وجدها مصادفةً على الطريق؛ أمّا الكاتب الحقّ فيقطع حجارة معناه من المحجر بيده، وينحتها لتلائم بناء فكرته بدقّةٍ وإتقان.
- مراتب الكتّاب
الكتّاب من الطبقة الأولى يُجلّون أفكار الإنسانية ويجعلونها أوضح،
أما كتّاب الطبقة الثانية فيجعلونها غامضةً وملتبسة،
في حين أن كتّاب الطبقة الثالثة يطمسونها تمامًا.
قلّةٌ من الكتّاب يبنون كتبهم كما تُبنى الكاتدرائيات، وكثرةٌ يشيّدونها كما تُبنى الأكشاك في الأسواق.
الكاتب العظيم لا يكتب لعصره وحده، بل لكل الأزمنة. لذلك يتجاوز زمنه وغالبًا ما يُساء فهمه من معاصريه.
إنّ أعمال العبقرية مرايا تعكس الفكر الإنساني، غير أنّ الجموع لا تحتمل أن ترى وجوهها الحقيقية فيها.
- بين الكاتب والمجرّد من الفكرة
الفرق بين الكاتب الحقيقي والكاتب المتكسّب أنّ الثاني يكتب ليكسب رزقه أو مجده، أمّا الأول فيكتب لأنّ لديه ما يجب أن يُقال.
للكاتب التافه الأسلوب كلّ شيء؛ أمّا للكاتب الأصيل فالفكر هو كلّ شيء.
فالأسلوب عند الأوّل ثوبٌ يختبئ خلفه خواء المعنى، أمّا عند الثاني فهو رداءٌ شفيفٌ يشفّ عن الفكر دون أن يحجبه.
- جوهر الكتابة
قيمة الكاتب لا تكمن في ما يقوله، بل في ما يفكّر فيه، وفي عمق تفكيره.
إن فنّ الكتابة ليس سوى فنّ إيصال الفكر بوضوحٍ وجمالٍ.
وليس وفرة الأفكار ما يصنع الكتاب العظيم، بل وحدتها وتماسكها الداخلي.
العباقرة الحقيقيون يفكّرون لأنفسهم ويكتبون لأنفسهم، بينما يكتب الآخرون للناس ويفكّرون كما يفكّر الناس.
العبقرية مرآة تعكس العالم كما هو، أمّا الموهبة فهي عدسةٌ تكبّره فحسب.
- الأدب كذاكرة الإنسانية
إنّ فنّ الأدب ليس سوى فنّ التفكير من خلال اللغة.
الكتب هي ذاكرة الإنسانية؛ بها يتكلّم الموتى إلى الأحياء، ومن خلالها يظلّ أنبل ما في الإنسان حيًّا بعد فنائه.
فليتساءل كلّ من يرغب في الكتابة:
هل عندي ما أقول لم يقله العالم من قبل؟
إن لم يكن، فليكتفِ بالقراءة والتفكير.
- خاتمة
بهذا المعنى، يرى شوبنهاور أنّ الكتابة ليست فعلًا لغويًا بل فعل وعيٍ فكريٍّ وفنيٍّ في آنٍ واحد؛ هي تمرينٌ على النظر في جوهر الأشياء، وصياغة المعنى في صورةٍ تحتمل الخلود. فالكاتب العظيم هو من ينقل الفكر الإنساني من العابر إلى الأبديّ، ومن اللغة إلى الروح.
آرثر شوبنهاور
ترجمة: إعداد خاص عن النسخة الإنجليزية المترجمة 1981
بقلم: T. Bailey Saunders