بوابة أعضاء جدل, موضوعات متنوعة

التذوق الحسي للفن والجمال: حين تتكلم العين وتُصغي الروح

نوره بابعير

غالباً التفكير يعيد للأشياء هيبة أعماقها يبيّن الخفايا المبطنة في المعنى نفسها فيبقى الإنسان عالقاً في صحبة التفكير ، فيجد نفسه بين تفكير ناقد يحلّل للأشياء وجودها به ويترك الأخريات تأخذ أنصافها من غيرها . لذلك حينما تتكاثر الأفكار حول المواضيع تبقى رهينة البقاء حتى تجد جدواها من البحث عن المعنى وتبقى المفاهيم اساس يقود للعقل طريق فكرهُ .
لذلك غالباً ما يلامس العقل أفكاره بأشياء تلحُ عليه الاطلاع نحوها والأخذ بالانطباع من خلفها ، وهذا ما يجعلني دائماً أكتب عن الفن والجماليات و الحس مما ادرك الاثر الذي تستطيع أن تغير مجرى الانسان الذاتي إلى حس ذوقي يترك من بعده التهذيب الاخلاقي .
تهميش الفن عند البعض ليس إهمالاً منهم بقدر الجهل والتوسع للمفهوم الذي يحمله الفن للمعنى الحقيقية في حياة الإنسان . الفن في المعرفة و الثقافة والأتساع الفلسفي هو ليس مجرد مادة تُعرض ، ولا الجمال هو مشهداً يشاهد ، بل أنهما تجربة داخلية تبدأ من الحواس ، لكنها واسعة لا يمكن أن تنتهي عندها ، أن يتذوق الإنسان الفن ، هو لا يستخدم بصره دون سمعه ولا يمكن له أن يستخدم سمعهُ دون بصره وما إلى ذلك ، بل هو يُجنّد كل ما في كيانه من المشاعر و الذكريات و الخيال وهذا يولد التذوق الحسي ، بصفة تبين للإنسان مفهومها أن ما وصّل إليه من هذا الفن هو أرقى الأشياء لتفاعلك الإنساني مع الجمال .
التعمق في التفكير يولد التساؤلات المفرطة و الذي لا يرضيها إلا الفهم ، حينَما تتساءل عن التذوق الحسي نبدأ في محاولات عديدة لتفسر التذوق الحسي سواءً من منظورك أو من منظور الآخرين تبحث عن المعنى الناتجة من خلق الكلمة ما هو التذوق الحسي ؟ قد يكون هو الاستجابة الشعورية العميقة التي تحدث في النفس و عندما تتعرض لمثير جمالي مثل لوحة فنية أو قطعة موسيقية أو مبنى معماري، أو عادات بشرية تميز الأساليب بين شخص وأخر ، حتى لو كانت تقتصر على زهرة في طريق، أو مشهد طبيعي بسيط. هو ما يجعل العين تُضيء عند رؤية لون متناغم، يلامس القلب و يخفق لسماع نغمة موسيقية تتسلل دون استئذان و يخلق شعور الدهشة لأشياء غير معتاد عليها فتنفض ركودها وتستبدلوا بالتذوق الحسي العميق ليفسر كل ما شعر به الإنسان من تلك اللحظة وتميزت من زاوية شعوره .
ثم تعوّد للتفكير مرّة اخرى تنغمس في المفاهيم الواسعة لهذا الوصف تجد أنه شعور خفي لا يمكن لك أن تشرحه بالكلمات لكنهُ فعلاً يعاش بالكامل ، حينما يقف عند للوحات فنية أو الميول إلى مقطوعة موسيقيّة أو تأملات في الطبيعة ، هو يعلم تماماً ما الذي يعنيه من هذا الوقوف و الاكتساب الذي أضيف له من حراك الذوق الحسي حينها .
حينَما نرى أن الفن يتشكل على مدى حواسنا، نستطيع أن نضعه بوصف جسوراً للحواس تعبر الأشياء من وجهتهُ ، الفن يتشرب حواسنا لكنه لا يبقى على سطحيتها ، العين لا تكتفي برؤية الخطوط والألوان إذا تحدثنا عن الأعمال الفنية ، بل تترجمها إلى مشاعر ، والأذن لا تسمع فقط الالحان بل تلتقط المعاني من خلف الإيقاع، واليد حين تلامس خامة فنية لا تكتفي بإدراك الملمس بل تُحسّ بالحرفية التي صنعتها ، بالزمن الذي عبرها و احتفظ فيها في أعمال فنيّة و هنا، يتحول التذوق من مجرد “إدراك” إلى “إحساس”، ومن مجرد “نظر” إلى “رؤية داخلية”. فالجمال ليس شيئًا نراه فقط، بل شيء نُحسّ به، ونتفاعل معه على مستوى أعمق.

ما زال التذوق الحسي قابل لطرح التساؤلات ، هل التذوق الحسي فطري أم مكتسب؟

هو سؤال فلسفي قديم و اختلف فيه الفلاسفة والنقاد: هل نحن نولد بحسّ جمالي فطري، أم أننا نتعلم التذوق؟ في الواقع، ربما يكون كلاهما الأمرين صحيحان . فثمة إحساس فطري يجعلنا ننجذب للجمال منذ الطفولة و طفل صغير يتأمل فراشة ملونة أو يُصغي بانبهار لصوت الناي – لكن هذا الحسّ يظل خامًا حتى تصقله التجربة، والثقافة، والمشاهدة.
من يقرأ الادب و الشعر كثيرًا، تتشكل لديه ذائقة لغوية مرهفة، ومن يزور المتاحف ويتأمل الأعمال الفنية، تتسع رؤيته للجمال، ويبدأ في تذوق ما لم يكن يراه من قبل. وهكذا، و يصبح التذوق الحسي مهارة تُنمّى، لا موهبة فطرية فقط.
أما إذا تواجد التذوق يصيح الجمال قيمة شعورية كيف ؟ الجمال ليس دائماً ما هو “متناسق” أو “مألوف”. أحياناً يكون الجمال في الغرابة، في كسر الروتين في المفارقة. أو قطعة فنية قد تكون مربكة بصرياً، لكنها توقظ فينا مشاعر غير متوقعة. وهنا يأتي دور الذوق الحسي في استقبال الفن بروح متفتحة، لا تكتفي بما تعرفه مسبقاً، بل تجرّب وتغامر وتُنصت إلى الجديد.التذوق الحسي لا يبحث عن “الإعجاب السريع”، بل عن الأثر البعيد. عن ذاك الشعور الذي يصيبك حين ترى شيئًا لا تعرف لماذا أحببته، لكنك أحببته بقوة. عن المشهد الذي يظل عالقًا فيك بعد زمن طويل.

من المفترض أن يكون التذوق الحسي هو تربية للنفس و ليس ترفاً ثقافيًا، بل ضرورة إنسانية. تهذيب للمشاعر، وتوسيع لأفق الحياة. فالحياة، رغم صعوبتها، تصبح أكثر احتمالاً حين نراها بعيون تعرف كيف تلتقط الجمال حتى في التفاصيل الصغيرة. اقرأ لوحة. استمع إلى مقطوعة. امشِ في معرض، أو شاهد فيلماً فنياً، لا لتُعجب به فقط، بل لتتركه يتسلل إليك، ويُعيد ترتيبك من الداخل. لأن التذوق الحسي في جوهره، ليس فقط ما نُحب… بل ما يجعلنا أكثر إنسانية، وأكثر اتصالاً بالمعنى الأعمق لما نراه ونعيشه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *