Blog
القراءة وتحوّلات الإنسان

نوره بابعير
في حياة الإنسان لحظات لا تصنعها الأحداث الكبرى، بل تصنعها جملة في كتاب، أو فكرة تقع على القلب . القراءة ليست هواية، وليست مجرد عادة ذهنية، إنها فعل داخلي عميق، يشبه التهذيب الروحي. الإنسان الذي يقرأ لا يبقى كما هو، لأنه يُعاد تشكيله سطرًا بعد سطر، وفكرة بعد فكرة.
القراءة ليست مجرد استقبال للمعلومة، بل هي دعوة إلى حوار داخلي، إلى مساءلة الذات والعالم. إنها لحظة يتوقّف فيها الزمن الخارجي، ليبدأ زمن آخر؛ زمن التأمل والتخيّل والانفعال. نقرأ لا لنكتسب معرفة فقط، بل لنعبر إلى أماكن لم نصلها، لنتحدث مع أرواح لم نلتقِ بها، ولنشعر بما لم يحدث لنا، لكننا نعيشه كأنه حقيقي.
في أولى مراحل وعيه، يكون الإنسان كتلة من الأسئلة، من الانفعالات الغامضة، من الإحساس المتكرر بالعجز عن الفهم. القراءة تأتي لتمنحه المفردات، لا لتشرح له العالم فقط، بل ليعيد بناءه من الداخل. الطفل الذي يكتشف الحكايات لا يعود كما كان. العاشق الذي يقرأ الشعر يرى لذة الشعر بعينٍ أخرى. الحائر الذي يقرأ الفلسفة لا تهدأ حيرته، لكنها تتحوّل من فوضى إلى سؤال ناضج.
وحدها القراءة تزرع فينا القدرة على النظر إلى الحياة بأكثر من زاوية. إنها لا تغيّر الواقع، لكنها تغيّر من يرى الواقع. تقوّم العقل، وتلين القلب، وتفتح النوافذ في جدران الذات. إنها تُهذّب، لا بالقوة، بل بالتماس العميق بيننا وبين تجارب الآخرين، أفكارهم، رؤاهم، وهزائمهم أيضًا.
نقرأ لنعرف، لكننا نقرأ أكثر لنشعر. في الرواية، نعيش حيوات لا نملكها. في الشعر، نستعير لسانًا أبلغ مما نملك للتعبير عمّا لا نستطيع قوله. في كتب السيرة، نختبر قدرة الإنسان على السقوط والقيام. في الفلسفة، نطرح الأسئلة التي لا يجرؤ الكثيرون على مواجهتها. في كل قراءة، هناك باب يُفتح في داخلنا، وغالبًا لا يُغلق أبدًا.
قد يقال إن الكتب لا تغيّر العالم، لكن من ينكر أنها تغيّر الإنسان؟ والإنسان هو من يصنع العالم. من قرأ عن العدالة، لا يمكنه أن يحتمل الظلم بسهولة. من غاص في عوالم الفكر لا يمكنه أن يقبل الجهل كما هو. من قرأ عن الشجاعة، عن المعنى، عن الألم، عن الحب، لا يمكنه أن يعود فارغًا كما كان. إننا، بغير قراءة، نظلُّ في سطح ذواتنا، نعيش في حدود التجربة المباشرة. أما القراءة، فهي توسّع تلك الحدود، تجعل الداخل أعمق، والخارج أكثر وضوحًا.
ليست القراءة مجرد معرفة تُكتسب، بل هي وعي يُعاد بناؤه. إن الإنسان حين يقرأ، لا يبحث فقط عن إجابات، بل يصير أكثر وعيًا بأسئلته، وأكثر شجاعة في مواجهة تعقيده الداخلي. يصبح أكثر قدرة على الإصغاء، وعلى الشك، وعلى الإيمان أيضًا – لا الإيمان الأعمى، بل ذلك الذي يأتي بعد أن نعرف كم أن الحقيقة أوسع من أي إطار جاهز.
ومن أجمل ما في القراءة، أنها فعل حر. لا يُفرض ولا يُشترى. هي ذلك الوقت الذي نهبه لأنفسنا، لا لنستعرض معلومات، بل لنتنفس ببطء في زمن يركض. في ظل عالم يتكدس فيه الضجيج، تأتي الكتب كصوت خافت لكنه عميق. صوت لا يصرخ، لكنه يبقى. في زحام الأيام، نقرأ لنستعيد توازننا، لنفهم ما لم يُفهم، ولنتذكّر من نكون.
القراءة لا تغيّرنا دفعة واحدة. إنها أشبه بالماء الذي ينحت الصخر قطرة بعد قطرة. نقرأ اليوم، ونظن أن شيئًا لم يتغير، لكن بعد شهور، وربما سنوات، نجد أننا لم نعد أولئك الذين كنا من قبل ، صرنا أكثر إنصاتًا، أقل حكمًا، أكثر امتلاءً، وربما، أكثر حزنًا، لكن ذلك الحزن الجميل الذي لا يُهين، بل يعلّم.
ربما لا نحتاج أن نقرأ لنكون مثقفين، بل لنكون إنسانيين أكثر. لأن القراءة، في أعمق تجلياتها، ليست تكديسًا للمعرفة، بل رفقة هادئة تذكّرنا بأننا لسنا وحدنا في هذا الطريق المعقّد،وأن بين السطور أناسًا يشبهوننا أو يختلفون عنا، لكنهم يمنحوننا فرصة أن نكون أكثر فهمًا، وأكثر حياة