المدونة, موضوعات متنوعة

القرية التي لم تمت: هويّة الماء بين تخييل ياماثاريس وتأمّلات باشلار – بقلم حسن بن أبي سهيل

القرية التي لم تمت: هويّة الماء بين تخييل ياماثاريس وتأمّلات باشلار.

القرية التي غابت تحت الماء لم تغب عنّا، نعيش بعيدًا عنها، لكنّنا نحملها في كلّ شيء“. (خوليو ياماثاريس- طرائق مختلفة للنّظر إلى الماء).

حين يغمر الماء قريةً بأكملها، فإنّه لا يبتلع فقط الأحجار والبيوت والممرّات، بل يُغرق في جوفه ما لا يُرى ولا يُقال: الذّكريات، الأصوات، أنفاس الطّفولة، مشاعر الفقد الأولى، وأجساد الغائبين التي لم تودَّع كما يجب. في رواية طرائق مختلفة للنّظر إلى الماء، يتقدّم خوليو ياماثاريس من هذا الغرق لا بوصفه حدثًا هندسيًّا طارئًا فرضه مشروع سدّ مائي، بل بوصفه انكسارًا هويّاتيًّا ممتدًّا عبر أربعة أجيال، انكسارًا لم تلتئم شروخه حتّى مع مرور الزّمن. الخزّان ليس مجرّد مساحة مائيّة بديلة عن القرية المطمورة، بل هو مرآة عملاقة تطفو على سطحها حيوات كاملة لم تعد تُرى، لكنّ أثرها لا يزال يحاصر الشّخصيّات في لغتها، وذاكرتها، وصمتها المبلّل.

هذه المياه التي تغمر المكان، هي في جوهرها ما وصفه غاستون باشلار بـ “الماء الحالم”، ذاك الذي لا يُشبه في صفاته الماء الفيزيائيّ، بل الماء الحيّ الذي يُقيم في أعماق المخيّلة، ويستثير الصّور الغائرة في النّفس، ويفتح في الوعي فجوات غير مرئيّة تسمح لذكريّات الطّفولة، وأشباح الفقد، أن تخرج من صمتها. باشلار لا يتعامل مع الماء كعنصرٍ محايد، بل كمجال تأمليّ، وكمادّة رمزيّة تمارس فعلها على الذّات من الدّاخل، وتعيد تشكيل علاقتها بالزّمن والحنين.

وعند هذا التّقاطع بين النّصّ الرّوائيّ والنّصّ الفلسفيّ، يبدأ هذا التّأمّل. ليس بوصف الماء مشهدًا طبيعيًّا مشتركًا بين ياماثاريس وباشلار، بل لأنّه يتحوّل في كليهما إلى بنية تخييليّة فاعلة، بل إلى فاعل وجوديّ يعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الدّاخل والخارج، وبين التّذكّر والنّسيان. فكل شخصيّة في الرّواية ترى الماء بطريقتها الخاصّة، لكن ما يجمع بينها جميعًا هو أنّ الماء لم يكن يومًا صامتًا. هو الذي يحمل ما لم يقال، ويُرجع صدى الغياب، ويعيد إلى السّطح ما طُمر في الأعماق.

يقول أحدهم: “أفنيت عمري في العمل من أجل العودة”، والعودة هنا لا تعني استعادة جغرافيا القرية، بل استعادة الذّات التي تُركت هناك، معلّقة بين ضفّتين، تنتظر أن يُعاد لها اسمها، وهويتها، وموتاها. لكنّها عودة مستحيلة، لأن الماء حين يغمر الأرض، لا يُرجعها كما كانت، بل يجعل منها صورة طيفية، لا تقبل الاستعادة ولا النّسيان. وهذه المفارقة هي ما يستثير باشلار حين يتأمّل الماء بوصفه مرآة لا تعكس فقط ما نضعه أمامها، بل ما نخفيه عنها.

باشلار، وهو يحاول تفكيك علاقة الإنسان بالماء، لا يكتفي بتصنيفه كمادّة طبيعيّة، بل يراه جوهرًا نفسيًّا محضًا، خزّانًا للصور التي لا يطيقها الوعي، لكن المخيلة تلبث أن تستدعيها. في أحد مقاطعه الفاتنة، يتحدث عن “الزّمن الذي لا يُقاس بالسّاعات، بل بالصّور”، عن الزّمن الذي يتّخذ من الماء وسادةً وملاذًا. فالماء لا يحمل فقط انعكاس الأشياء، بل تاريخها غير المحكيّ.

وفي الرّواية، حين تُقال الجملة: “لم تدهشني رغبة جدّي في العودة إلى هنا، إلى هذا الوادي الغارق تحت المياه، المياه التي لا تزال تطفو على سطحها ذكرياته، أحلامه كلها وتطلّعاته كلّها”، فإنّنا لا نكون بإزاء وصف استعاريّ، بل أمام توصيف باشلاريّ دقيق. الماء هنا لا يطمس، بل يصون. لا يمحو، بل يراكم. إنّه خزينة هادئة للغائب، شاهد أخرس على ما لا يُقال. الماء إذن لا يتحدّث، لكنّه لا يكفّ عن التّذكير، ولا يتلفّظ، لكنّه يُبقي كلّ شيء حيًّا في صمت.

في تضاعيف الرّواية، شخصيّات تحاول أن تنسى، أن تصمت، أن تمضي. لكنّ الذّكرى تشبّ فوق الماء كما تنبثق أعشاب قعرٍ خفيّ. دومينغو، الذي قضى حياته دون أن يذكر القرية، يمارس ما يسمّيه باشلار “النّسيان الصّامت”، ذلك النّسيان الذي لا يُلغي الذّاكرة، بل يضعها في حالة كمون. لكنّ الشّخصيّات الأخرى، وعلى رأسها الحفيدة، تظلّ مُحاصرة بما لا يُنسى، متألّمة كلّما حاولت النّسيان، حيث تسرد: “بل إنّها بقدر ما كنت أبذل من الجهد لنسيانها، كانت تلح عليّ فيزيدني التّذكّر ألمًا. باشلار كان يعرّف أنّ النّسيان في حضور الماء ليس فِعلًا ناجزًا، بل صراعًا لا نهائيًّا. فالماء لا يسمح بالدّفن، بل يتيح للصّور أن تُحفظ في قعره السّاكن، فيجعل من كلّ محاولة للنّسيان استدعاءً أعمق لما طُمر. الماء، في ظاهره، هادئ. لكنّ القاع يضجّ بما لم يُحكَ.

حين تمتدّ الأيدي النائمة خارج الأسرة لتلامس الماء المتسلّل إلى الكوخ، لا يكون هذا الفعل مجرّد حركة عابرة، بل انفتاحًا على حسّيةٍ دفينة وصفها غاستون باشلار بـ “المياه العاشقة”. فالماء هنا لا يُدرك كعنصر خارجيّ يبلّل الجسد فحسب، بل كتيّار داخليّ يتسرّب إلى الحواس، ويعيد تشكيل العلاقة بين الجسد والذّاكرة. إنّه لا يلامَس فقط، بل يُستَشعر كصدى لمشاعر دفينة: دفء الطّفولة، قلق الغياب، رعشة الحنين، أو برد الفقد. هذا التّلامس الطّفيف يستدعي صورًا كامنة، ويوقظ في الذّات ما ظنّته قد نام إلى الأبد. فالقرية التي غمرها الماء لم تُغرق مساكنها وحسب، بل أغرقت قاطنيها شعوريًّا، حتّى صار التّلامس مع الماء تذكيرًا دائمًا بما كان. في تصوّر باشلاريّ عميق، لا يكون الماء طوفانًا عنيفًا، بل لغة صامتة تتسلّل إلى الأجساد المطمئنّة لتعيد إحياء سؤال الهويّة: من نكون بعد كلّ هذا الغرق؟

في أحد المقاطع اللّافتة، تنظر إحدى الشّخصيّات إلى الخزّان وتقول: “نعم هو يذكرنا بأمر مأساويّ، لكنّه في الوقت نفسه يعد من المشاهد الطبيعيّة الرّائعة”. هذا التّوتّر بين الجمال والمأساة هو ما يُعلي باشلار من شأنه. فالماء –إذا ما نظرنا إليه من خلال الحواس والذّاكرة – يصير جمالًا جريحًا. هو في ذاته كائن فاتن، لكن حين يُغرق الذّكريات، يصير جماله مشوبًا بالحزن. هذا التّداخل هو ما يجعله أكثر العناصر قدرة على إثارة الرّعشة، لا لأنّ فيه خطرًا، بل لأنّ فيه حياةً لم تكتمل، وموتًا لم يُنتهَ منه. الخزان، في الرّواية، ليس مكانًا للبكاء فقط، بل للنّظر، للتّأمّل، للرّؤية المشروطة بالغياب. هو – كما في تصوّر باشلار – نقطة تماسّ بين ما كان، وما لن يعود، وما لا نعرف أن كنّا نريده أن يعود.

الغربة التي تعيشها شخصيات رواية ياماثاريس لا تنبع من الفقد وحده، بل من اتّساع الهوّة بين ما كان وما صار. فالمكان الجديد، رغم ما يوفّره من مأوى، لا يمنحهم شعور الانتماء، بل يُكرّس إحساسًا مستمرًّا بالتّيه. تقول إحدى الشّخصيّات: “يا له من إحساس مؤلم! فأن تشعر بالغربة في كلّ مكان، وأن ينتابك هذا الإحساس يوميًّا هو بلا شكّ أمر مؤلم، مهما حاولت الاعتياد عليه”. هذا القول يلتقط بعمق ما يراه غاستون باشلار في الماء: إنّه ليس فقط حاضنًا للذّكريّات، بل هو نفسه فضاء للاغتراب. فالماء لا يسمح بالثّبات، ولا يحتفظ بالشّكل؛ هو عنصر لا يُقيم فيه شيء طويلًا، ولا يترك الأشياء كما كانت. من هنا، يغدو خزّان الماء في الرّواية أكثر من مجرّد بُنية مائيّة، بل مجالًا وجوديًّا أغرق جذور الشّخصيّات قبل أن يغرق قريتهم، ونفى هويّتهم إلى قاع لا يُرى. لم يكن المنفى مكانيًّا فحسب، بل وجدانيًا، إذ كلّما مرّ الزّمن، ازدادت الجذور تصلّبًا في الأعماق، وتحوّلت إلى شظايا هويّة ممزّقة بين ما يطفو على السّطح وما رُدم في العمق.

ما تنجزه رواية طرائق مختلفة للنظر إلى الماء هو أكثر من استعادة لأثر النّفي القسريّ. إنّها تحويل للماء من خلفيّة روائيّة إلى شخصيّة ضمن السّرد، من عنصر خارجيّ إلى كيان حميميّ يتغلغل في اللّغة والشّعور والحدث. وباستحضار تصوّرات غاستون باشلار في الماء والأحلام، ندرك أنّ ما غمر القرية لم يكن ماءً فقط، بل لغة كاملة من الذّكريات، من الغربة، من الحنين، ومن الأحلام التي لم تُعش بعد.

الماء في هذا السّياق هو مرآة لا تعكس، بل تُغرق. هو سرديّة موازية، تتقاطع مع السّرد الأصليّ، وتعيد صياغة الفقد لا كحدث، بل كحالة دائمة. الماء لا يحكي، لكنّه يُذكّر. لا يبكي، لكنّه يُبلّل كل جملة، كلّ ذاكرة، وكلّ جسد ظلّ يفتّش عن قرية غمرها الصمت، لا ليُنهيها، بل ليجعل منها صورةً لا تموت. ما تكشفه هذه الرواية، من خلال عدسة باشلاريّة دقيقة، هو أنّ الهويّة ليست ثابتًا يُكتب، بل قاعًا غامضًا من الصّور التي ندفنها في الأعماق، والتي يعود الماء، في كلّ لحظة، ليهزّها، ويوقظها، ويعيدها إلى السّطح من جديد.

حسن بن أبي سهيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *