Blog
بيئة العمل: من يُشعل فتيل الصراع؟

نوره بابعير
دائمًا ما توجد قيمة ذاتية وقيمة اجتماعية تُبنى على مفاهيم عقل الإنسان، الذي يمارس حقه في الفهم بين مساحات وعي ناضج وأخرى يغلب عليها الجهل. أما الاختلافات التي تنشأ في بعض المواقف، والأماكن، والإمكانيات، والمهام التي تفرضها ظروف الحياة، فترتبط بمدى التقبّل أو الرفض، بين قابلية الصواب وردّ الخطيئة، أو على العكس، بين صدّ الصواب وقبول الخطيئة. وهذا ما يمنح أحد الطرفين الاستمرارية والتأثير، ويُعيد تشكيل مفهوم الإنسان للبيئة من حوله.
تظهر العوائق بحسب قدرة الإنسان على استخدام عقله، مما يعكس درجة نضج وعيه، وهو ما يحدد مدى تقدمه أو تأخره في التعامل مع التحديات.
طرحتُ سابقًا سؤالًا عن أهمية تناول موضوع مرتبط بتطوير الذات، وكانت أغلب الإجابات تطلب الحديث عن “صراعات بيئة العمل”. الغريب أن معظم المشاركين كانوا يتشاركون ذات الفكرة. ورغم أن الفكرة كانت جديرة بكتاب كامل، قررت أن أتناولها بمقالة، أتناول فيها هذا الموضوع من مختلف الزوايا.
في مجال تنمية الذات، تتنوّع مسارات التنمية بحسب احتياجات الفرد، ويمكن للمحتوى التطويري أن يُسهم في إكساب الذات وعيًا جديدًا، يجعلها قادرة على خلق بيئة عمل متوازنة على المستوى العام، ومرتبطة بالاستقرار الشخصي على المستوى الخاص.
لكن لماذا يحدث الصراع في بيئة العمل؟ وسرعان ما يرافقه سؤال آخر: ما الذي ينقص الإنسان حتى يصل إلى مرحلة الصراع؟ ثم يتبعه تساؤل ثالث: ما التطور والثقافة التي يحتاجها الإنسان حتى يُكوّن بيئة عمل متوازنة؟
البداية…
لا بد من التفكير أولًا في أسباب ظاهرة الصراع داخل بيئة العمل. وللإجابة، نحتاج العودة إلى مفاهيم الذات: هل هي مستعدة فعلًا للبقاء في هذه البيئة؟ وهل نضجها كافٍ ليسهم في إنتاجية العمل أم في إفساده؟
حين يعرف الإنسان قيمة وجوده في مكان العمل، ويركّز على إنتاجيته، يستطيع أن ينشغل بما يستحق من إنجازات دون أن يسمح لذاته أن تشتته بين جدّ العمل وهوى النفس.
هذه هي المشكلة الجوهرية التي تؤدي إلى اختلاق “الذات الأنانية”. قبل أن نحكم على بيئة العمل بأنها سيئة، علينا أن نفهم أنفسنا بشكل صحيح، بعيدًا عن أوهام الطموح المزيّف والطمع في ما لا نملك حقّه.
الأنانية انطباع ذاتي قبيح، يشوّه الأفعال ويُفسد على بيئة العمل إيجابياتها المفترضة، بل يجعلها عبئًا على من فيها. أحيانًا يفرط الإنسان في تقدير ذاته، ويظن أن ما يشعر به من استحقاق هو حقّ مطلق، حتى وإن كان انعكاسه سلبيًا على من حوله. وهنا تغرق الذات في متاهة من الغموض وسوء الفهم، وتتحوّل المهام من مساحة تعاون إلى صراع بين فشل الآخرين ونجاح الفرد المزعوم.
في المنتصف… هناك أسباب عديدة تتعلق بترتيب الأولويات.
حين تختل الأولويات داخل بيئة العمل، تبدأ الفوضى بصورتها الهادئة أولًا، ثم تتحول تدريجيًا إلى نزاعات محسوسة، ومشاعر متأججة، ومواقف شخصية تُفسد المهام المهنية. أحد أهم أسباب الصراع هو غياب التوازن بين الأداء الفردي وروح الفريق. حين يطغى حب التميز الشخصي على مبدأ التكامل الجماعي، تصبح بيئة العمل ساحة منافسة مَرَضية، لا ساحة إنجاز.
كذلك، غياب الوضوح في توزيع المهام، وافتقار المؤسسة إلى أنظمة عادلة وشفافة، يؤدي إلى خلق شعور بالظلم أو الإقصاء، فتتأجج النفوس ويُساء تفسير كل تصرف، حتى وإن كان محايدًا. وهذا ما يجعل بيئة العمل خصبة لنمو النزاعات وتراكم الضغائن.
ومن الأسباب أيضًا: ضعف مهارات التواصل، وسوء إدارة المشكلات، وغياب ثقافة الحوار. فبيئة العمل ليست فقط مكانًا لإنجاز المهام، بل هي امتداد للتربية الشخصية، والوعي الاجتماعي، والمهارات الذاتية التي يختبرها الإنسان عمليًا كل يوم.
الحل يبدأ من الداخل…
كل صراع خارجي يبدأ غالبًا من صراع داخلي غير محسوم. حين يعمل الإنسان على فهم ذاته، وضبط توقعاته، والتمييز بين الحقوق والامتيازات، يخفّ لديه الشعور بالتصادم.
وعندما يتعلّم فن الإنصات، ويمارس ضبط النفس، ويطوّر قدرته على تقبّل الرأي الآخر، سيكون قادرًا على التعامل مع بيئة العمل بوعي ناضج، يساهم في تهذيب الخلاف بدل إشعاله.
بيئة العمل الصحية لا تُبنى فقط بالأنظمة واللوائح، بل تُبنى بالعقول الواعية، والنفوس المتزنة، والقلوب التي تُقدّر قيمة الاحترام المتبادل .