المدونة, موضوعات متنوعة

‏رحلة في عوالم حميد الرقيمي: قراءة في عمى الذاكرة

‏رواية مخيفة، فيها من الحب والحرب ما يكفي لتبقى عالقًا، متقرفصًا بين أروقتها حتى آخر ورقة. وأنا أقرأ مستهل صفحاتها الأولى، شعرتُ أنني في مواجهة تتطلب شرفة هادئة ونفسًا عميقًا، وربما جاهزيةً مكتملة الأركان للدخول إلى عالمٍ طويل، وهذا ما حدث بالفعل. في تلك اللحظة، لم يكن لي إلا أن أُسلم أشرعتي لحميد، حيث تودي بي قريحته. كنتُ مطمئنًا على نفسي، وفي رفاهيةٍ وأنا أتنقل مع شخصيات روايته، أعيش معهم غربة المكان، وخوف المستقبل، وقلق الأسئلة المبتورة.

‏الريبة التي توشحت “سالم المجهول”، دفء الجد الذي ملأ رأسه جنون البشرية كلها، صدفة “عبده حمادي” وحياة كوخه الذي احتضن الشتات والتيه والشرود الطويل لـ”يحيى” القادم من اللا شيء، كوخٌ تسربت من خلاله الكثير من الحيوات والكثير من الآمال إلى قلبه، وجعل منه لافتًا وملفتًا لزملائه، ولـ”يافا” تحديدًا، الفتاة التي كسرت في فمه جمود الريف، ليصبح عاشقًا مشدوهاً متلهفًا، صخبُ حنينه يلوي شوارع صنعاء حتى انتهى به القدر، مع تفاقم تخوم الحرب في المدينة، إلى اقتناء حماقة لا يغفرها الزمن: الانتقال إلى يافا التي تسكن شملان، الملتهبة بالصراع والموت، للاطمئنان عليها فحسب، متجاهلًا فكرة ما قد يلحق به وبـ”النبيل عبده حمادي” من قذيفة أو رصاصة طائشة قد تمحو وجودهما إلى الأبد، وهو ما حدث بالفعل. إذ اعترض جنونهما طريق “يافا” التي نزحت إلى المجهول، فيما قذيفةٌ وزعت جسد “عبده حمادي” إلى أشلاءٍ صامتة، دون أن يوحي شيءٌ منها بقوام رجلٍ كان يمشي على الأرض.

‏وأنا أقرأ براعة حميد في عمى الذاكرة، وقفتُ مراتٍ عدة متعجبًا من طراوة هذا الرجل، وعلاقته مع اللغة والكلمة، وكيف يكتب بهذه الغزارة إلى درجة يخال إليك وأنت تقرأه أن قلبه ليس إلا محبرةً تضخ الكلمات والأحاسيس التي تهوي بك إلى عالمٍ لم تكن تتوقعه. لا أنكر أنني عشتُ وشاطرت شخصيات عمى الذاكرة أرواحهم العليلة، وألم الهجرة والبقاء خارج الحدود، بعد أن خذلهم الزمن داخل البلد، وكيف أرغمتهم صيرورة الحياة على بدء رحلة جديدة من الضياع والموت المؤجل.

‏ثلاث ليالٍ وأنا أقرأ حميد، وفي كل لحظة تزداد لوعتي التصاقًا بما كتب، وبما سيكتبه أيضًا. حميد الرقيمي كاتبٌ من النوع الذي ما إن تقرأه حتى يلقي على كاهلك مسؤولية المواصلة، حتى وإن كانت الوجهة إلى أوروبا والطريق شائكًا بالموت. سيربّت على كتفك بجنون السطر الأول، ويمسك بيد قلبك ليعبر بك صحاري طويلة، ويجبرك على الغرق دون أن تشعر بذلك. ولا تفسير لهذا أكثر من كونه حميد الدهشة، والمنجم الطويل الذي ينبض أدبًا وقصيدة.

‏رواية ماتعةٌ للغاية، وهذه الثالثة لحميد الرقيمي التي أقرؤها بشغف، بعد حنين مبعثر والظل المنسي.

‏خالص التوفيق، يا حميد الخصال..!

‏بقلم: عتصم الجلال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *