المدونة, موضوعات متنوعة

للعلاقات تاريخ انتهاء | قصة بعنوان: ذو شأن عظيم

ستمر به لحظة يُسَائل فيها نفسه، ويقرر بعدها أن يكون شخصًا غير الذي اعتاده، سيضاعف من مجهوده في السنة الأخيرة له في الثانوية، ثم سيتخرج بمعدل عالٍ، سيحتفي به من في المدرسة، سيعلّق اسمه في لوحة الطلاب الأوائل والمتفوقين، وسيشيد به أحد المعلمين أمام والده حين يلتقيه، سيخبره أنه أب لطالب متفوّق، الجميع هنا يحبه، وأنه سيكون ذا شأن عظيم مستقبلًا.

  سيفرح والده، سيعود دون أن يعطيه هدية نجاح أو تخرج كما سيحصل عليها أقرانه، ولكيلا يلعب هو دور الضحية، سيردد أنه ليس الوحيد الذي لم يحصل على تقدير كافٍ من والديه، بل إن غيره لم يحتف به.

  سيتجَاهله الجميع في اليوم التالي من انتهاء العام الدراسي، لكن والدته ستظل تردد لأشهر قصة تفوقه أمام صديقاتها، وستحجب الأمر عن قريباتها اللواتي تخشى حسدهن، ستمر الإجازة سريعًا، وسيذهب إلى الجامعة في غير تخصصه الذي يريده، لن يعرف أحد من عائلته التخصص الذي يرغب فيه، وسيشكك بعدها فيما إن كان هو يعرف بدوره، سيفاضل بين هذا التخصص أو ذاك، وسيتظاهر أنه يرغب في التخصص الذي قُبل فيه، لربما يكون هو التخصص الذي سيقوده لأن يكون ذلك الشخص، ذا الشأن العظيم.

  سيقضي سنوات في التفكير في شأنه العظيم، وسوف يتساءل: عظيم في ماذا؟ وإن كان قد قال له ذاك المعلم، إلا أنه لم يحدد في أي مجال سيكون ذا شأن عظيم، أي طريق عليه أن يسلكه ليصل إليه، ما هو ذاك الشأن على أي حال!

   وحين يسترجع طفولته لا يعثر على أية أمارات تَدلّه على ذلك، كان الأكثر تفوقًا، لكنه كان الأقل حظًا، الأقل فرحًا، الأقل صداقة، والأقل تلقيًا للحب، لكن حين يعود الأمر بينه وبين إخوته، فهم جميعًا، لا ينالون إلا ذلك القدر الشحيح من الحب، يقتسمونه فيمَا بينهم، فلا يكاد يبدو أنه تم تقديمه.

  ثلاثة إخوة كانوا، هو ثاني الأبناء ترتيبًا بعد أخيه الأكبر، ثم يأتي أخوهم الأصغر الذي تأخر أعوام قبل مجيئه.

  كانوا إخوة لبعضهم أكثر مما هو مفترض، يلعب كل واحد منهم دور أحد والديه للآخر؛ يعطي كل منهم ما يملكه لأخيه، ويطلب هذا من والديه ما يريده ذاك، ويبرر الأول تصرف الأخير، ويقفون جميعًا صامتين، ليغطوا على الفعل الخاطئ لواحد منهم.

  حين يفكر في الأمر أكثر مما ينبغي له، يبقى مرتبكًا، تُرى هل سيقوده التفوق لذلك الشأن؟ سيفقد ثقته في ذلك، فما إن يبدأ سنواته الجامعية حتى يبدأ بالتعثر، سيتعثر في مادتين في السنة الأولى، ثم في أربع في السنة الثانية، ستزيد وستنقص في السنوات القادمة، وحين يتخرج بعد ست سنوات في تخصص كان من المفترض أن ينهيه في أربع، سيعرف أن الجميع قد مضى بحياته، لن يعرف والديه أنه قد تجاوز المقرر منه بعامين، ولكن كلمته ستكون كافية لهم لتصديقه، أو كافية على الأقل ليشعروا أنهم قد سألوا، وبإجابته هذه، تجنبوا هم التفكير فيما يمر به، وفيما يجب عليهم تقديمه له، لكن إن لم يكن هناك ما يقدمونه له في سنوات دراسته الماضية، فماذا يمكنهم تقديمه له في السنوات الجامعية؟ سنوات دراسية أدرك بنهايتها أن التفوق لم يعد طريقًا يقوده نحو ذاك الشأن العظيم.

  ستمضي الفترة التي سيقضيها بعد الجامعة في البحث عمّا يميزه، سيفكر كيف يفتتح مشروعًا يقوده نحو الثراء السريع، مشروعًا يبدأه صغيرًا ثم يقوده ليكون عظيمًا، وبمال المكافأة الذي كان يجمعه، سيفتتح محلًا يبيع فيه أغلفة واكسسوارات للهواتف المحمولة، لن يستطيع الاستمرار فيه طويلًا، سيكتشف أنه لم يكن ذلك العمل هو طريقه نحو الثراء، بالكاد كان يستطيع تغطية تكاليف إيجار المحل الذي قام باستئجاره، وفي نهاية العام، سيبدأ بجَرد لكل ما في المحل، ثم سيأخذ كل ما تبقى معه للبيت ليعرضه لاحقًا للبيع في أحد المواقع بثمن زهيد.

  سيقرر في الأخير أنه يجب عليه أن يجد مشروعًا يقوم به من البيت، دون دفع إيجارات تجعله يسعى طوال الشهر لتأمينها لا لكي يربح من مشروعه، وقد وجد الفكرة، وجدها من شيء كان يفعله لمن حوله بالمجان، خدمات إلكترونية! لطالما كان يقوم بالتسجيل لهذا أو ذاك في موقع ما، ولطالما فتح حسابات للكثيرين في جهات أو قدم لهم فيها، وأصلح لمرات عديدة هواتف من حوله، سيكون الأمر سهلًا عليه، والعمل الذي لم يمر عليه قبل ذلك سيتعلمه مع مرور الوقت.

  سيبدأ بإنشاء التصاميم التي سيعرض فيها خدماته، سيرسلها لكل من يَعرف، سيشاهدها أقاربه ومعارفه وأصدقاؤهم ممن يحفظون رقمه لطلب خدماته.

  سيتجاهلها الجميع، وسيتوقفون عن طلب خدماته، ستبقى إعلاناته ورقم الأعمال مهجورًا إلى أن ينقطع الخط لعدم استخدامه، سيعرف أن بعضًا منهم أصبح يذهب إلى مكاتب الخدمات لينجزوا ما كانوا يطلبونه منه، وآخرين قد استقروا على مقدم خدمات غيره، سيعرف أنهم يفضلون أن يدفعوا لغيره على أن يدفعوا له نصف ما يدفعونه هناك، سيتفاقم شعوره بالحنق تجاههم، وسَيُقنع نفسه أنه على الأقل قد ارتاح من عناء العمل دون تقدير منهم.

  ستمضي ثلاث سنوات بعد انتهاء مرحلته الجامعية، ستختلط عليه الأيام فلا يعرف أن السبت هو الأربعاء، سيتلقى الكثير من رسائل إعلانات الوظائف من أصدقائه الموظفين، وممن يعرف من أقاربه أنه ما زال عاطلًا عن العمل، سيقدم هنا وهناك، سيلاحظ أن الكثير منهم أصبح يعيد إرسال كل ما يصادفه له، وسيلومونه على تقصيره وعدم سعيه للبحث عن وظيفة، سيظن البعض الآخر منهم أنه تروق له جلسة البيت دون عمل، لن يقول لهم: إن تلك الإعلانات الوظيفية التي يرسلونها له تتطلب تخصصات غير تخصصه، أو خبرة لا يمتلكها، أو أن هذه العروض الوظيفية قد فات موعد التقديم عليها.

  سيستمر في التقديم في كل ما يجده، ستنخفض درجة تَطلبه، سيدرك أنه لا يمتلك رفاهية اختيار الوظيفة التي يرغب بها، ولكثرة ما أصبح يقدم عليه من الوظائف، سيجهل أي وظيفة هي التي قدّم عليها وجاءته منها طلب للمقابلة، سيسافر لمدينة ثانية ليجري المقابلة، ستصله رسالة الرفض ما أن ينزل من رحلة العودة، سيصاب بخيبة لإدراكه أنه خسر الكثير من المال دون جدوى، وسيبقى محبطًا لوقت طويل قبل أن تصله مقابلة وظيفية أخرى، وبتثاقل وتردد سوف يسافر لإجرائها هذه المرة أيضًا، ولكن هذه المرة سيُقبل فيها، وسيعود من جديد للتعجل في الحياة التي شعر أنها فاتته حين كان الكثيرون قد سبقوه إليها، الحياة التي تجعله يتطلّع إلى الأمام باحثًا عمن تجاوزه في حياتهم دون النظر للخلف ليرى من كان معه.

   سينتقل لمدينة أخرى لأجل الوظيفة، سيقضي شهرين عند أحد أقاربه، ثم سيبحث عن شقة يستأجرها، سينتقل لها ثم سيعود للبحث عن الشأن العظيم، وحين تقترح عليه والدته أن يتزوج ليجد من تُؤنس وحدته سيوافق مباشرة، فلربما كان معها الشأن العظيم، أليس وراء كل رجل عظيم امرأة؟

  سيختار له والداه إحدى قريباتهم، سيوافق عليها، وسيقرر أن يستخرج قرضًا للزواج، وسيصرف كل ما يملكه ليتم الزواج في مدينته، سيتزوج بعدها وسيسافر ليقضي شهر العسل في المدن التي حوله، سيكون غارقًا في سعادته كما هو غارقٌ في ديونه، وستكون حياته الزوجية رغم بعض الأمور التي سيتجاهلها حياة مثالية في العام الأول، وجيدة في العامين التي تليها، وستبدأ بعدها زوجته بمطالبته بالخروج للتنزه أو التسوق عوضًا عن بقائها وحيدة في البيت، بينما يذهب هو للعمل، سيخبرها أنه يذهب ليعمل لا للتنزه، وأنه بالكاد ينتظر وقت انتهائه من العمل ليعود للبيت لكي يرتاح، لا لأن يخرج من جديد، سيحتَدّ النقاش بينهما، سيتنازل حين يدرك أنها لا ترى أحدًا هنا ولا تعرف غيره، سيتحامل على تعبه في البداية، ثم سيشعر أنها لا تقَدّر تنازلاته ومجهوده الذي يقوم به كفاية، ستتفاقم المشاكل، ستعود إلى عائلتها، وستصلح العائلتان فيما بينهما، ثم سيعود الاثنان لبعضهما معتذرًا كل واحد عن تصرفه، وبعد أن يجرب كل واحد منهما الحياة دون الآخر، ستعود العلاقة كما كانت في بدايتها.

   ستمدد رقعة الرتابة لتحاوط أيامه، لتعود من جديد لاعتياديتها، سيتجاهل الاثنان تقصيرهما تجاه الآخر، سيخونان بعضهما، سيخونها بالجسد وستخونه بالفكرة، وسيعود الاثنان لبعضهما دون أن يعرف أحد عما فعله الآخر، لكنهما حينها سيقدّرَان قيمة بعضهما، متأخرين.

   وفي إجازة يسافر فيها مع زوجته سيحاول سدَّ الفجوة التي اتسعت بينهما، وحين يعود من السفر قبل انتهاء الإجازة بثلاثة أسابيع، سيكون البيت هو المكان الذي يقضي فيه جلّ وقته، ستعود معها النزاعات بينهما من جديد، وسيقرران الانفصال في النهاية.

  ستعرف زوجته بعد قرار الانفصال بشهر أنها تحمل جنينًا في بطنها، وسيعودان للعيش معًا، ستنجب الطفل الأول، وستصبح كل الخلافات مركونة في زاوية يتجاهلان النظر إليها، سيتغاضيان عن أي مشكلة تَعقب ذلك لأجل الطفل، وستصبح حياتهم روتينية تمامًا، هي تنشغل برعاية الطفل وهو ينشغل بالعمل، سيدرك حينها أن لا شأن عظيم سيأتي من هذه الحياة التي تتكرر كل يوم دون حَدث فارق فيها، لكنه سيقبل بها، سيقبل بالحال الذي أصبح عليه، ممنيًا نفسه، أن كثيرًا من العظماء لم يصبحوا ذوي شأن إلا في نهاية حياتهم.

  سيتجاهل بعدها جملة المعلم التي كانت ملحّة في سنواته الماضية، سيتظاهر أنه قد بدأ في تناسيها، سيكبر وتكبر زوجته، ويكبر أبناؤه، سيحاول أن ينمي أي هواية أو موهبة يرى بذورها في أبنائه، سيسعى ليمرر رغباته التي لم يستطع تحقيقها فيهم دون أن يدرك، محاولًا أن يكون أحد أبنائه هو من يقوده للشأن العظيم، سيتخلى أحد أبنائه عن تلك الهواية في مرحلة مبكرة من عمره، وسيتخلى الآخر عنها في مرحلة متأخرة يتحسر فيها والده على الوقت الذي قضاه في تنميتها، ستبدأ اهتماماتهم بالتغير، سيحاول، مرة أخيرة، في تنمية الاهتمامات التي طرأت عليهم فجأة، ثم سيتوقف عن المحاولة، ستتحطم آماله في الأول، وسيمضي الثاني حياته دون حدث يُذكر.

  وحين تنتهي سنوات عمله، سيتقاعد ويبقى في البيت دون شيء يشغله، سيعرف أن زملاءه ما هم إلا محض زملاء لا أصدقاء، وسيختفي تواصله معهم تدريجيًا.

  سينقص راتبه بعد التقاعد، وسيقلص من التزاماته، سيتخلى عن فكرة المزرعة التي كان قد قرر شرائها بعد التقاعد، وسيشعر حينها بعدم حاجته للكثير من الأشياء التي كان يرى أنها ضرورية.

   سيبحث عن شيء ما يملأ فراغ وقته الذي خلا فجأة من كل شيء، ولن يجد، سيحاول أن يعود للعمل، سيخبرونه أنهم لم يعودوا بحاجة لخدماته، سيكتفي حينها بالجلوس في البيت، وسيكثر بعدها من زيارة أقاربه.

  سيموت والداه وأحد إخوته، سيبدأ بعدها بالتلفت إلى الماضي أكثر مما كان معتادًا، سيعتب في كل مرة على أبنائه لعدم زيارتهم له، سيزورهم هو وزوجته، وستنزعج عائلاتهم لكثرة زياراتهم، سيتوقف بعدها مكتفيًا بزياراتهم حين يرغبون، سيُرزَق ابنُه الأكبر بحفيده الأول، ثم بعد عام بحفيده الثاني، سيحاول أن يعيد فيهم أبنائه، سيغدق عليهم بكل الحب الذي لم يعد يطلبه منه أحد، سيشعر حينها بفارق السنوات الكبير بينهم، وبين اهتماماته واهتماماتهم، وسيجهل الكثير مما يعرفونه، سيحاول مجاراتهم في البداية، ثم سيتوقف عن محاولاته، سيرضى بما بقي له من حياته، وسيترك كل شيء يسعى إليه دون أن يسعى له.

   سيرى الجميع يبتعد حين لا يبادر إليهم، سيدرك أنه قد كَبر على كل شيء إلا الموت حين يرى الذين يعرفهم يموتون تباعًا عامًا تلو الآخر، سيمضي في عزاءاتهم فاقدًا لكل شيء، مسترجعًا كل ما مضى من حياته، وسيبقى منتظرًا دوره، ستموت زوجته قبله بعامين، وسيبقى حينها بمفرده، سيعيش مع نفسه لأول مرة منذ زمن طويل، وحينها ستعاوده تلك الفكرَة الملحة، سيحاول فيما تبقى من عمره أن يفعل شيئًا يجعله ذا شأن عظيم، وإن كان ذلك في سنواته الأخيرة، لكن كل شيء سيكون قد شَاخ معه، سيبدأ في التقاط أفكار زارته متأخرة، سيبدأ في محاولات إتمام هذه أو إنجاز تلك، سيموت في أثناء محاولاته، وسيدفن في المقبرة التي دفنت فيها زوجته ومن مات من أقاربه، وسيضيع قبره بين قبور متشابهة لن يفرّق بينها أحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *