المدونة, بوابة أعضاء جدل

«وما صاحبكم بمجنون»… من التبعية إلى عظمة الجنون

«وما صاحبكم بمجنون»… من التبعية إلى عظمة الجنون

بقلم: أ. منور الشوا

قد يكون أمراً معقداً اليوم أن يُفتح النقاش على إشكاليات الدين والعقل والعلم والمجتمع… لكن الحال الذي وصل إليه العالم العربي والإسلامي يستدعي البحث عن رسالة بشرية عظيمة تنسجم وعظمة الرسالة السماوية، رسالة تستند إلى معادلة التأمل والنظر والتمييز والتأويل والتعقل والطمأنينة واليقين… لكن قد يكون العلاج فارغاً ووهمياً ما لم يكن هناك تشخيص للحالة… يطرح الكتاب الكثير من الموضوعات المثيرة للجدل لكنها في الوقت ذاته مثيرة للأسئلة، والأسئلة نقطة بدء رحلة الوصول إلى الحضارة… لكنها رحلة لا شك محفوفة بالمخاطر، ومحطاتها ليست للانتظار أو الاستراحة، بل دعوة حرة من الكاتب لتَشارُكِ الأفكار وإثارة التفاعل…

– في المحطة الأولى «الإنسان في مأزق التبعية»، يناقش المؤلف القيود التي صنعها الإنسان بنفسه لنفسه ولمن هم حوله، ثم نسج في داخله خيوط رهبة التحرّر منها فوجد نفسه أسير الخمول العقلي… وبدأ من ثم رحلة استعادة الوعي، في مقابل آفات التناقل العشوائي، وتولية الأشخاص القداسة.

ففي الشأن الديني، يعيش الإنسان، اليوم، فوضى التناقل الخاطئ، وبناء المفاهيم العشوائية والسير عليها، لكن المشكلة ليست في الدين، بل في صنّاع الخطاب الديني، فالخطاب الديني الذي ينتزع ملكية الإنسان لإيمانه وعقله وعلمه هو خطاب ينتج التطرف، ويجبر على تطبيق ظاهر الدين دون بثّ روح الإيمان، بمعنى الاستلاب الإنساني.

في أصل الدين الإسلامي، مثلاً، الإيمان لا يعني التسلط، والرسول لم يأتِ ليتسلط على أمته، بل الإيمان طمأنينة، أما خلق المرجعية ومن ثم صناعة التبعية فتلغيان قيمة الوجود الإنساني، فإذا كان الدين للناس جميعاً فمن الذي منح أحدهم الوصاية عليه دون غيره من البشر؟

اجتماعياً، تواجهنا معضلة قوّة التوارث بين الأجيال، ويثير المؤلف جزئية من هذا التوارث الذي امتد من الجاهلية إلى الآن، وأعني به تحقير أنواع من العمل؛ لقد سخر العرب مثلاً قديماً من الصنّاع والمهرة والحرفيين، وما يفاجئك أن هذه السخرية ممتدة إلى اليوم، في شبه الجزيرة العربية على الأقل، وهم (الصنّاع والحرفيين) من أعمدة بناء المجتمعات. هذا العمل أولاَ.

ثانياً العلم، فلم يولِ العرب العلمَ الأهمية التي يستحقها، إن لم نجرؤ على القول إن العلم اقتصر إلى حد ما عندهم على العلوم الشرعية.

 ناهيك عن سيطرة السلطات القبائلية القائمة على الأعراف الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية، والإشكالية الاجتماعية ما بين البادية والحاضرة، ما أدى إلى شلل الحراك الاجتماعي: فلا حراك مهني، ولا حراك مكاني، ولا حراك اقتصادي، ولا حراك فكري، كل ذلك أصابه الشلل في ظل نظام المجتمعات القبلية والطائفية.

– في المحطة الثانية يقف المؤلف على صراع العقول في ملحمة العقل التي لن تنتهي، فناقش أولاً المفاهيم والواقع، وأهم هذه المفاهيم مفهوما الحرية والأخلاق في ظل اختلاف الثقافات، وتعددية الثقافات في البيئة الواحدة، والتفاوت في مستويات الإدراك، والاشتراك اللفظي في اللغة ذاتها، والانفعالات، أو التواصل بين لغتين. وكذلك مفاهيم الإسلام، والعقل، والعلم، ومفاهيم الجهاد والخلافة والدعوة والعدل… كل ذلك في ظل الجدلية الأزلية أو الصراع الأزلي بين منظومتين: منظومة الدفاع عن الإسلام خوفاً من جر المجتمعات المسلمة إلى الهاوية والضلال والخروج عن الشريعة الإسلامية، ومنظومة الدفاع عن مفاهيم يجب تطبيقها لأنها تسهم في الحفاظ على المبادئ الإنسانية!

فمن جزئيات هذا الصراع الصراعُ القديم الجديد بين العقل والنقل، فمنذ وقت مبكر اتخذ المجتمع العربي والإسلامي الأول موقفاً معادياً للفلسفة، فنذكر مثلاً ما تعرّض له ابن حزم الأندلسي من نقدٍ لتعلمه المنطق،

ولم يسلم الغزالي أيضاً من الانتقاد لتعلمه الفلسفة، إضافة إلى ما حل بالمعتزلة الذين قدموا العقل على النقل

ومن جديد نحن أمام جدلية أخرى وصراع آخر بين منظومتين؛ منظومة تريد تحديد دور العقل في مقابل الدين ومنظومة تريد تحديد دور الدين في مقابل العقل.

العمليات الإدراكية تنقسم إلى قسمين رئيسيين: الإدراك الحسي، والإدراك العقلي، ويتحقق الإدراك العقلي بالمعرفة، أما العقل النظري (التأمل والتدبر والتفكير، وهي العمليات العقلية التي تتحقق في وجود الحواس)

فهو المرحلة التي تؤهل للوصول إلى العقل العملي.

من بين هذه العمليات العقلية يقف المؤلف كثيراً عند التأمل، «فهو العملية التي تخلو من أيّ تأثيرات مسبقة في العملية العقلية، و التأمل مرحلة تقود إلى اليقظة العقلية في المقام الأول. إذاً، التأمل يولّد الدهشة التي يتمتّع بها العقل؛ إنه كضربة توقظ الإنسان من سبات الوعي».

وانطلاقاً من هذا االتأمل يرصد المؤلف ثلاثية الحياة: العقل، والعلم، والإيمان، فيبدأ بفلسفة الإنسان الأول ودينه، مؤكداً أنّ للفلسفة جذوراً دينية: «عند البحث عن علاقة الإنسان الأول بالدين والفلسفة، سنواجه فكرة الإنسان الأول التائه»، وهذا الإنسان الأول، بطبيعة الحال، هو آدم عليه السلام، طارحاً من جديد الصراع بين منظومتين؛ منظومة الإله الواحد ومنظومة الآلهة المتعددة، ليجد «أن فكرة وجود إله هي فكرة إنسانية سليمة وطبيعية في تكوينها»، ويناقش في سبيل ذلك براهين العقل وأدلة العلم والدين على وجود الإله ووحدانيته التي يجد أنها «مهمشة عند بعض الفلاسفة والعلماء، ما يجعلها بسيطة عند بعض المؤمنين ومعقّدة عند بعضهم الآخر»، فـ«بعض العلماء التجريبيين يحاولون… بطريقة غير عقلانية، نفي مُحدث للكون؛ أي نفي خالق له. إنهم ينفون الخالق لعدم رؤيته، وهذه الحجة (عدم رؤية الخالق) لا صحة لها، فالقوانين لا يمكننا رؤيتها؛ لأنها ليست مادة، إنما هي تعمل وفق مُحدث لها».

لكن يبقى السؤال المهمةَ الدائمة التي لا تموت ويصعب على الضعفاء تنفيذها. السؤال هو بداية الحقيقة التي دائماً ما يواجهها الإنسان التقليدي بضعف، رغم أنّ السؤال هو أحد الطرق للوصول إلى الإيمان وإلى اليقين، إلا أنه متهم، على الأغلب، بأنّه شكّ، وأهم الأسئلة النصية الدينية، كما نقرؤه في القرآن الكريم، السؤال في عقل النبي إبراهيم، عليه السلام، بتراتبيته التي تستحق حقيقة الوقوف عندها: نظر، فتأمّل، فتفكير، فسؤال، فاطمئنان، فتحقيق يقين.

– في المحطة الثالثة يقف المؤلف على قضية المرأة أمّ الإنسانية، فوجود المرأة من وجود الإنسان، لكننا إذا ما دخلنا إلى عالم المرأة المليء بالتعقيدات والمغالطات، فسنواجه العديد من الخيارات المصطنعة لحلها ومعالجتها للخروج من مآزق فكرية ومجتمعية وثقافية، لا تتطابق مع الواقع فعلياً، بل صُوِّر لنا تطابقها. ويبدأ ذلك من فكرة أصل النشأة وأبعادها، التي تنطلق نصياً من استبدادية الرجل التي تعزز دائماً قصة خلق المرأة من ضلع الرجل، وهي قصة توراتية، لكن ذلك لم يقتصر على النص الديني، بل ربما سبقته الفلسفة في ذلك، فالمرأة عند أرسطو، مثلاً، ليست سوى صورة مشوّهة من الرجل، ووجودها وجود عارض.

من قصة الخلق ينطلق إلى قصة الخطيئة أو المعصية، فكما ذكر سفر التكوين، المرأة هي من تسببت في معصية آدم، ومن ثم طردهما من الجنة، ما يرسخ دوماً فكرة أن الرجل هو الكائن الأول وأن المرأة كائن ثانوي ليس مستقلاً.

واستمراراً وتأكيداً لاستبدادية الرجل تم تحويل قوامة الرجل إلى قانون اجتماعي عاشت المرأة في ظله في مكانة حائرة ما بين التسليم بالتأويلات الدينية وقوانين المجتمع المتوارثة وبين البحث عن مكانتها خارج حدود جغرافيتها ومجتمعها فلم تسلم عندها من آفة الاغتراب عن هنا وهناك.

تاريخياً، كانت المرأة في العصور الأولى تمارس دورها في الحمل والولادة، أما الرجل فلم يهتم بالنسل والديمومة،

ثم فطن الرجل في العصر الحجري الحديث، بعد استقراره، إلى أهمية النسل، وأصبح يقدس مكانة المرأة المنجبة، وبعد التطور الفكري والاجتماعي والنهضة الحضارية، التي ابتدأت مع مرحلة الزراعة، ظهرت عقيدة عبادة الأم، فتولت المرأة قيادة البشرية حتى ارتقت إلى مكانة سامية مقدسة، وأصبحت الإله المعبود. إلا أن هذا العصر الذهبي لم يدم طويلاً بالنسبة إلى المرأة؛ فبعد قرون من تلك المكانة السامية للمرأة، تستمر محاولة الرجل في إضعاف المرأة على الدوام لنيل مكانة أعلى.

ارتبطت المرأة ارتباطاً وثيقاً بالجنس في المعتقد الذكوري، حتى كُرِّس ذلك في معتقدها كذلك. إن هذه المفاهيم الجنسية المُعادة صياغتها عبر العصور دون إخلال بالفكرة وتفسيرها، بقيت مستمرة بتوارث المعتقدات؛ حيث وأد الإناث الذي يرى المؤلف، كما يرى بعض المفسرين، أنّ له بعداً تعبدياً تحوّل عند البعض الآخر من المفسرين إلى العامة من الناس على أنه طقس اجتماعي تمارسه العرب خاصةً في زمن الجاهلية خوفاً من العار فحسب.

فلسفياً، سادت نظرة المجتمع اليوناني إلى المرأة على أنها كائن ثانوي دون اعتبار لوجودها بوصفها إنساناً له كيانه، فيما الفلسفة اليونانية لم تفعل شيئاً بهذا الخصوص… روسو أيضاً يراها كائنا ضعيفاً عليه أن يخضع للرجل. الفيلسوف فردريك نيتشه يكره النساء كثيراً، وعلاقته بهنّ محدودة، ويؤكد أن الروح الحرة لا تعيش مع المرأة. الفيسلوف آرثر شوبنهاور يرى أنّ النساء لم يخلقنَ للأعمال الفكرية والإبداعية، إنما للأمومة وحسب، ويقول إنّ النساء خلقنَ من أجل استمرار الجنس البشري فحسب.

– في محطته الرابعة والأخيرة يصل المؤلف إلى عظمة الجنون، لكنه ليس الجنون المقدس ولا الخبيث، بل الجنون المرتبط بالفكرة، الجنون العبقري، الجنون الذي يصنع التغيير، الجنون الذي لا يخلو من رسالة، فـ«ما الهدف الذي يريد الإنسان تحقيقه في هذه الحياة؟ ما الرسالة التي تختلف اختلافاً كلياً عن الأهداف التي يريد تحقيقها الإنسان؟ وأين موقع هذه الرسالة التي يحملها الإنسان، ويعمل عليها قبل أن ينشرها في حياته؟».

إن المثل الأعلى لهذه الرسالة هنا هو رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {ومَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ}.

«إن معاناة الرسول كانت معاناة الصراع مع الأفكار والمعتقدات، الصراع مع مجتمع بأكمله يحمل ثقافته المتوارثة… كان صراعه لتغيير وإصلاح المجتمعات، وما تحمله من أفكار ومعتقدات ومفاهيم وعادات وتقاليد وسلوكيات لا تليق بالإنسان. رسالة لم يهتمّ بأبعادها وعمقها الكثيرُ من الناس، وأُخذت على أنها تقف عند حدّ العبادة وتطبيق الشريعة فحسب، رغم أن الأخلاق والقيم الإنسانية هي جلّ ما جاء في هذه الرسالة… وهذه الرسالة يقدر الإنسان العاقل على أدائها، كلّ إنسان على وجه الخليقة، فهي لا تقتصر على المسلمين فحسب، بل تمتد إلى عامة البشر من جميع الديانات.

إن قرّاء ومفكري ومثقفي المجتمع هم الرسل؛ هم قادة المجتمعات الحقيقيون، الذين عليهم أن يعملوا على تطبيق فكرة الإصلاح والتغيير في مجتمعاتهم وتسويتها، هم المسؤولون الآن عن هذا الخلل في المجتمع.

إن الجنون تهمة تغيّر العالم، فالأفكار التي تتولد من عقولنا ليست وهماً نحلم به، وننادي بتحقيقه ونرفع شعاراته المزيفة، علينا النظر إلى الواقع كما يجب، وأن نستغرق في التفكير في كيفية إحداث تغييره. إننا قادرون على حمل أمانة هذا العالم وتغييره إلى الأفضل».

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *