هل ما زال لنا أن نقرأ ترولوب؟ .. ترجمة : زينب بني سعد

لويز وينبرغ “هل ما زال لنا أن نقرأ ترولوب؟”

في صحبة ترولوب من جديد

ترجمة : زينب بني سعد

شرعتُ القراءة لترولوب من جديد، فإذا بي أجد نفسي مضطرًة للدفاع عنه، ومعه عن نفسي أيضًا. حتى أصدقائي الذين يقرأونه يشاركونني هذا الحذر الغامض، كأنّ في قراءته شيئًا يستدعي التبرير. أمّا أولئك الذين لم يطرقوا عالمه بعد، فينظرون إلينا بدهشةٍ رقيقة، متسائلين: ما الذي يدفعنا إلى القراءة له؟. ذلك السؤال الأول – هل ما زال لنا أن نقرأ ترولوب؟- يبدو، كما يعلم الجميع، أنه نشأ لأن ترولوب نفسه، نسف سمعته بيده في سيرته الذاتية. تلك العادات المنظَّمة في العمل! وتلك الأرباح المدوّنة بدقّة، حتى آخر شلن وبنس! لقد جعل من نفسه، في نظر الفيكتوريين، كاتبًا تجاريًا مأجورًا من كتّاب “شارع گراب” اللندنيّ.

لكننا اليوم تجاوزنا تلك الأوهام الرومانسية التي حملها الفيكتوريون، إذ ظنّوا أن السمة الحقيقية للحياة الفنية هي الفوضى والطيش البوهيمي. في المقابل، أصدرت دار نشر جامعة أكسفورد مؤخرًا، طبعات فاخرة جديدة من روايات باريستشاير والبرلمانيات، إلى جانب نسخٍ أنيقة بغلافٍ ورقي لتلك الأعمال وغيرها من مؤلفات ترولوب. لا شك أن هناك من يشتريها. تتدفّق اليوم سيرٌ ذاتية جديدة عن ترولوب من كل صوب. ومع ذلك – كما كان ترولوب نفسه يحب أن يفتتح جمله بعبارة “ومع ذلك” أو حتى “لكن مع ذلك” – ثمة خللٌ عميق ما يزال يعتري سمعته إلى هذا اليوم. فهناكَ قرّاء لا يكتفون بعدم القراءة لترولوب، بل يرفضون قراءته رفضًا قاطعًا. وأكثر من يصرّ على ذلك هم الإنكليز أنفسهم. ففي نظرهم، لا يقرأ ترولوب إلا أناسٌ “فظيعون” – وأكاد أراهم في خيالي عمّاتًا عزباوات وضبّاطًا متقاعدين. أظنّ أن شعورهم هذا نابع من أن ترولوب، في مخيّلتهم الثقافية، كاتبًا من “الطبقة الوسطى” ثقافيًّا. ويُدرَج في هذا التصنيف مع غيلبرت وسوليفان، اللذين لا يجمعهما به شيء سوى روعتهما التي لا يُقدّرها الناس حقّ قدرها. والمفارقة أن هذا الكاتب الإنكليزي الصميم، بات ذوقًا أمريكيًا خالصًا. فمهما كان أولئك “الناس الفظيعون” الذين يقرؤون ترولوب، فنحن الأمريكيين قد انضممنا إليهم. ولأكون صريحة، أظن أننا نحن بالفعل، أولئك الناس الفظيعون. ناقشتُ كل هذا في لندن مع شابة تعمل في مجال النشر، قالت لي:

“انظري، إنَّ ترولوب بمثابة ديكنز من الدرجة الثانية. وإن كنا نريد هذا النوع من الأدب، لقرأنا الأصل، شكرًا جزيلًا.”

وأطلق رفاقها تلك الهمهمات الإنكليزية القصيرة التي تعبّر عن الموافقة. ثم أضافت:

“وعلى أي حال، قد سئم الجميع من ديكنز أصلًا.”

لا أدري لِمَ قرنت تلك الشابة بين ترولوب وديكنز. ربما كانت تقصد أن ديكنز كاتب “من الطبقة الوسطى” هو الآخر، أو لعلها – كما يفعل الذين لم يقرأوا ترولوب عادة – كانت تفكر في ميله إلى اختيار أسماءٍ ذات دلالات لافتة وشبه ساخرة. لكنّ الجمع بين ترولوب وديكنز خطأٌ بيّن، ليس فقط لأن أشخاصًا مثلي لا يمكن أن يفكروا أصلًا في مشروعٍ لإعادة قراءة ديكنز (فنحن، مثل صديقتي الإنكليزية، قد سئمنا من ديكنز). بل لأن الكاتبين في الجوهر لا يجمعهما الكثير. ديكنز، في نهاية المطاف، كان صاحب رسالة اجتماعية إصلاحية، يسعى إلى تليين قسوة قلوبنا تجاه من يُسمَّون اليوم بـ “المشرّدين” أو “الطبقة الدنيا” أو “العمال الفقراء”.  كان يريد أن نرى كم يمكن لأولئك الناس، المتّسخي الثياب، أن يكونوا محبوبين في حقيقتهم، وكم قد تبدو عيوبهم المنفرة جذّابة، حين نراها بعين التعاطف، وكم يمكن للطبقة الوسطى ومؤسّساتها أن تكون قاسية على النساء والأطفال الضعفاء الذين لا يملكون سوى هشاشتهم. أما ترولوب، فلم يكن معنيًّا بشيءٍ من هذا كله. بل كان في ردٍّ صريحٍ على ديكنز – الذي سمّاه هو نفسه “السيد عاطفة” – حين أعلن في روايته “راعي المأوى” أن شخصياته ستكون في آنٍ واحدٍ، محبّبةً وأنانية، جذّابةً وفاسدة، مثل الناس في الحياة الواقعية تمامًا. وبطبيعة الحال، يعترف ترولوب في الموضع نفسه – وبصراحةٍ لا تخلو من المودّة – بأنه يُحب ديكنز. فهو يُبدي إعجابًا مدهشًا بشخصيات ديكنز الثانوية، التي “تحيا؛ نعم، تحيا، وستظل تحيا”، حتى يغدو اسم الممرّضة في الذاكرة الشعبية مرادفًا لـ السيدة غامب نفسها. ولا شك أن ديكنز، من حينٍ إلى آخر، يتجاوز برنامجه الأخلاقي والاجتماعي المرسوم، ولا سيما في روائع مثل “آمال عظيمة”. لكن ترولوب لم يكن يمتلك ذلك البريق العبقري الآسر الذي مكّن ديكنز من أن يمنحنا شخصيات مثل مس هاڤيشام وإستيلا. فهاتان الشخصيتان، رغم خلودهما الأدبي، تَبدوان في نظر ترولوب شديدتي الإغراب، مبالغتين في سطوعهما، بحيث لا يمكن أن يولدهما خياله الواقعيّ الهادئ. لم يكن ترولوب يمتلك ذلك الوهج المسرحي الذي يلمع في أعمال ديكنز. أما صديقتي الإنكليزية، التي وصفت ترولوب بالعبارة القاتلة: كاتب من الدرجة الثانية، فقد كانت تعبّر بذلك عن الشعور السائد بأن ترولوب لا يمثل شيء من “الأدب” بالمعنى الرفيع للكلمة، وأن أدبه ليس “فنًّا عظيمًا”. فهو، وإن كان فريدًا في قدرته على الإمتاع، يبدو – في نظرهم – خفيف الوزن بعض الشيء، يفتقر إلى الجلال والسمو. أظنّ أن هنري جيمس، وهو كاتبي المفضّل الآخر، قال يومًا عن توماس هاردي بإنه – ومهما كانت عيوبه – كان قادرًا على أن يلمس الوتر التراجيدي ويضبط نغمة المأساة. أما ترولوب، فلم يلمس ذلك الوتر قط. إذ وصفه جيمس بأنه “سيّد العاديّ”. ومع ذلك، لا يعني هذا أن صفحات ترولوب تخلو تمامًا من العتمة أو المأساة؛ فحين نفكّر في نهاية ملموت في رواية “العالم الذي نحيا به اليوم” أو في الخراب الكامل الذي أصاب حياة السيدة لورا في روايات “ڤينياس فين”، ندرك أن ظلال الألم والحسرة تتسرّب إلى عالمه بين حينٍ وآخر.

وهناك أيضًا، زلات تثير القلق وتحبس الأنفاس: الوثيقة المزورة في رواية “العالم الذي نحيا به اليوم”، والوصية المزورة في “مزرعة أورلي”،  أو “ماسات ليزي يوستاس” المسروقة. ومع ذلك، فإن هذه الظلال لا تبدو إلا وكأنها تتساقط برفق تحت عين ترولوب الهادئة المتعاطفة، فهو ليس من أولئك الذين يغوصون في المأساة الكبرى. والأمر الطريف أنني لست متأكدة مما إذا كان هنري جيمس نفسه قد نجح يومًا في مسّ الوتر التراجيدي. إذ يشترك ترولوب وجيمس في مساحة واسعة من الاهتمامات. ولا أعني بذلك فقط أن كلا الكاتبين منشغل بمخاطر العالم الخارجي على الناس العزلاء: فعند ترولوب، التهديد يأتي من الجديد في العالم؛ أما عند جيمس، فيأتي من القديم. بل إن ثمة مادة متطابقة بشكل يثير الدهشة تجذبهما: فكلاهما يعرف كيف يحوّل شخصية المغامرة القارية الزائرة وأخيها الفنان البوهيمي إلى مادة سردية شيقة – جيمس في روايته “الأوروبيون” وترولوب في جزء من “أبراج باريستشاير” – وقد سبق ترولوب جيمس في هذا الأسلوب بحوالي عشرين عامًا. لكن الأهم، والأعظم، ما يمنحه هذان الكاتبان المختلفان في طبيعتهما للقراء، هو رفيق السرد الحميم. هذا الرفيق شخصية ممتعة إلى أقصى حد: رشيق، مصقول، ومطّلع على العالم، وفي الوقت نفسه ودي، وفضولي، وثرثار. وهذا الرفيق يعرف كيف يضبط نغمة الفكاهة بطريقة بديعة. لكن كتب ترولوب، على عكس كتب جيمس، لا تتجه نحو ذروة الألم العاطفي بين الشخصيات، ولا نحو كشف مثير للريبة. فجيمس يمتلك عنصر الجلال، حتى دون أن يلمس الوتر التراجيدي، وحتى إذا تجاهلنا نظرياته الجمالية وأسلوبه المترف في الكتابة. وليس من المستغرب أن يقطع الناس الطريق، للحج إلى منزل جيمس في راي وينادوه بـ “المعلم”. لكن ما من أحد قد يتصرف بالمثل تجاه ترولوب؛ فهو يفتقر إلى كل ما في جيمس من غموض وسحر.

على أي حال، لعل كل هذا مجرد تفاصيل جانبية. فأنا بدأت أشك في أن السبب الحقيقي وراء اعتبار قراءة ترولوب أمرًا “غير مقبولٍ أو لائق” في عصرنا الحالي، يكمن في أنه ليس متوافقًا مع المقاييس السياسية الحديثة. أليسَ الحضور الأكثر هيمنة في أعمال ترولوب، والذي يطل على صفحات رواياته جميعها تقريبًا، هو شخصية النبيل الإنكليزي؟ فسؤال “ما هو النبيل الإنكليزي؟” يلهب تفكير ترولوب بلا انقطاع، وشخصياته لا تستطيع الوفاء بهذا المثل إلا بشكل ناقص في ألف موضع. ولا أحد يرغب في أن يُرى وهو يقرأ مثل هذا الأدب بدافع الفضول البريء. قد لا ترغب صديقتي الإنكليزية الشابة في أن يُكتشف أنها تقرأ كتابًا من كتب ترولوب أكثر مما ترغب أن يُكتشف أنها تقرأ كتابًا عن آداب السلوك. والأمر الأكثر إحراجًا، هو أن ترولوب نفسه، موظف مدني – موظف في مكتب البريد تحديدًا – منشغل بتفاصيل النبلاء والدوقات بطريقة قد تبدو سخيفة اليوم. كيف لنا نحن المؤمنين بالمساواة والمتفائلين، أن نعترف بانجذابنا لأيٍّ من هذا الفضول؟ وما لا يُطاق حقيقةً، هو أن ترولوب دائمًا ما يتحدث عن العرق والنسب والدم والتنشئة الاجتماعية، وكأنها محور الكون بأسره.

إنَّ ترولوب في الحقيقة، معقد للغاية بحيث لا يمكن لأسباب سطحية أن تنفرنا منه. فهو، أولًا وقبل كل شيء، ليبراليّ بالمعنى الحقيقي، وليس مجرد ليبراليّ من الطراز التقليدي. ففي “راعي المأوى”، كان راتب السيد هاردينغ محدّد وفق ما أقرّه التقليد، لكنه يظل عاجزًا عن تبريره لنفسه، لأنه يُستمد من صندوق مخصص لفائدة أولئك الذين تحت رعايته. يدرك ترولوب جوهر الأمور حين يكون الاعتياد محل شك، ويرى أن بعض الأحكام الإنكليزية المسبقة، أو السياسات الثابتة، قد تكون سيئة أو سخيفة. ومع ذلك، فهو يميل إلى  الأساليب القديمة، وبوجه عام لا يسعى إلى تغييرها. فراتب السيد هاردينغ، في الحقيقة، لا ينبغي أن يكون أقل بكثير مما هو عليه، ولا يمكن لأولئك الذين تحت رعايته أن يستفيدوا من شلن إضافي واحد أكثر مما خصّص لهم. وعندما يستقيل السيد هاردينغ، لا يكون أثر ذلك سوى حرمان المسنين الذين تحت رعايته من قرب صديق اعتادوا الاعتماد عليه. ففي عالم ترولوب – ولنعترف بذلك – التغيير يكاد يكون دائمًا للأسوأ. رغم ذلك، يجرؤ ترولوب على السخرية من الطرق القديمة بأسلوبٍ رقيق. ففي أبراج باريستشاير، يقدم لنا شخصية الآنسة ثورن من آل أولاثورن، الأخت العزباء للمالك الريفي، المتمسّكة بعاداتها القديمة بإصرار لا يلين. تتوقع الآنسة ثورن من ضيوف الحفلات أن يشاركوا في لعبة قرون وسطى طريفة، تتضمن أن يُغطّى اللاعبون بأكياس الطحين، فتغضب حين يرفض الجميع المشاركة.

صحيحٌ أنَّ ترولوب يكنّ فخرًا للعِرق، فالفتى الإنكليزي الأشقر هو محبوب ترولوب المدلل، ومع ذلك، تظهر في أعماله نساء داكنات البشرة، قريباتٍ من الطراز الفرنسي، يتبين فيما بعد أنَّ بعضهنّ إنكليزيات، مثل ليزي يوستاس والسينيورا نيروني في “أبراج باريستشاير”، وبعضهن لطيف جدًا، مثل ماري ملموت في رواية “العالم الذي نحيا به اليوم” وواحدة منهن تصل إلى مرتبة الروعة الكاملة – مدام ماكس غوزلر في الروايات البرلمانية.

كما يمتلك ترولوب الجرأة الفكرية على ما قد يُعد مستحيلاً؛ فهو يسمح للتعليم والمعرفة أن تتفوق على الدم والنسب، بل ويقرن الزواج بما قد يخرق الأعراف التقليدية. ففي رواية “الدكتور ثورن”، يقدم لنا بطلة رومانسية، رغم رقتها وتهذيبها، إلا أنها من أصل متواضع وابنة غير شرعية. أما في رواية “أبناء الدوق” يضطر بلانتاجانت باليزر، أعظم الليبراليين في عالم ترولوب، إلى تزويج كل من أبنائه، لشخصيات لطيفة وذات فضائل عالية، كان طوال الرواية يعتقد أنها بعيدة المنال. ندرك في النهاية أن فكرة “النبيل الإنكليزي ” التي أولع بها ترولوب ليست هاجسَ متكبّرٍ أرستقراطي، بل هي في جوهرها نزعةٌ ماكرة نحو المساواة. ففي روايةٍ تلو الأخرى، نراه يصوّر شخصياته وهي تدافع عن أصدقائها أو أحبّتها من ذوي المراتب الأدنى أو الأنساب المتواضعة، قائلة: “إن كان رجلًا نبيلاً – أو كانت سيدة بحق – فأي فرقٍ يصنع الأصل أو المقام؟”

وفي نهاية المطاف، يظل قلم ترولوب ودودًا رحبًا ومتسامحًا، يفيض روحًا من السكينة الإنسانية والاعتدال الأخلاقي. ومن هنا، لا ينبغي أن يكون في قراءة ترولوب ما يُستنكَر. لكن هذا يقودني إلى تساؤل آخر: ما الذي يجعل قراءته مجزية إلى هذا الحد؟ لماذا لا يزال حاضرًا على رفوف المكتبات دون انقطاع؟ ولماذا، في هذه اللحظة تحديدًا، هناك قرّاء في شتّى أنحاء العالم يستغرقون في صحبته، متلفّعين بدفء كلماته؟ وبطبيعة الحال، نقرأ ترولوب – كما نقرأ جين أوستن – من أجل كوميديا المجتمع؛ ذلك الفنّ الذي أتقنه ببراعة لا تُجارى. غير أنّ في ترولوب ما يتجاوز أوستن؛ ولا أعني بذلك أنه أعظم منها، بل أنه أوسع أفقًا وأغزر عالَمًا. فعالم ترولوب أكثرَ ذكوريةً، وأكثر حركةً وقلقًا من عالم جين أوستن. إنه عالم المضاربات المالية، وسكك الحديد الحديثة العهد، وتقلّب الإدارات، ومشروعات الإصلاح، والشكّ في رجال الدين الراسخين في مؤسساتهم. يكتب ترولوب قصص حبّ كما تفعل أوستن، لكنّ شخوصه يعيشون تحت وطأة ضغوطٍ هائلة. إنّه واقعيّ حتى العظم. فالرجل في روايات ترولوب، إذا أثقلته الحاجة – كما يحدث في معظم الأحيان – لا يختفي كما يفعل نظراؤه عند جين أوستن أو هنري جيمس، لا يُنفى إلى مستعمرة نائية، ولا يُلقى به في مكتبٍ بائسٍ في المدينة ليجرب حظّه. بل يبرم بعضهم صفقاتٍ حقيقية في مشروعات سككٍ وهميّة، ويعقدون اجتماعاتٍ فعلية لمجالس إدارةٍ زائفة، ويقترضون في مشاهد مؤلمة أموالًا حقيقية من أشخاصٍ طيّبين حدّ السذاجة في قلب لندن المالية. قال هنري جيمس ذات مرة إنّ كلَّ شيءٍ يحدث في حفلات العشاء. أما في روايات جين أوستن، فالأحداث تقع أيضًا في الحفلات الراقصة والنُّزهات وحدائق المنازل وغرف الاستقبال. وأظنّكم تأذنون لي بالقول إنّ هذه الفضاءات ذات طابعٍ أنثوي إلى حدٍّ بعيد. لكنّ الأمور في عالم ترولوب تجري على نحوٍ مختلف؛ فهي تحدث في نوادي الرجال – من النوع الراقي مثل نادي الإصلاح، ومن النوع المشكوك فيه مثل نادي بيرغاردن الذي لا يمكن نسيانه – كما تقع في المكاتب المغبرّة في المدينة، وفي أروقة المحاكم، وفي مساكن العزّاب، بل وتحت قبة مجلس العموم ذاته.

ثم انظروا إلى عالم ترولوب، إلى ما تزخر به رواياته من شخصيّات! فعنده تنضمّ إلى أولئك المتأنّقين من الطبقة الوسطى الذين وصفتهم جين أوستن في باث، وإلى نبلائها المتعالين المعتدّين بأنسابهم، طائفةٌ جديدة من الوجوه: تجّار رحلاتٍ يبيعون أثاثًا معدنيًّا فظيعًا، ومضاربون ماليّون نصّابون على مستوى عالمي، وصحفيون متنفّذون شعبويّون، وأعضاء في حكومة صاحبة الجلالة. ولا بدّ من الاعتراف بأنّ ترولوب، حتى في أروع رواياته، يمنحنا أحيانًا بطلاتٍ مملّات – حكيماتٍ وصالحاتٍ نعم، ولكن مملّات. ومع ذلك، يعوّض هذا الخلل بفيضٍ من النساء المدهشات، اللواتي لا يمكن نسيانهنّ. فهناك الفتاة الصاخبة ڤيولا إفنغهام التي تقتحم سلسلة “الروايات البرلمانية” في ڤينيس فين، وليزي يُستاس الذكية الفطِنة على نحوٍ عفويّ، والليدي كارْبري المستقلة في “العالم الذي نحيا فيه اليوم”، والليدي لورا الطموحة التي تهيم بحبّ ڤينيس، والسيدة براودي المتسلّطة، الأسقف الحقيقي لمدينة بارچستر. ثمّ هناك السنيورة نيروني المفعمة بالإغراء، التي تفوح منها هالة من “العطر” تكفي لأن تُغري من يقف بقربها أن يمدّ يده إليها. وهناك أيضًا النساء الحكيمات العارفات بالعالم، الناضجات بحقّ، مثل مدام ماكس، وفي المقابل، النساء الساذجات البريئات، غير العالمات، اللواتي لا ينضجن أبدًا، مثل الليدي غلين. جميعُ هؤلاء الأشخاص يمتلكون في عالم ترولوب واقعيةً نابضةً بالحياة. ففي رواياته، كما أراد لها، لا نجد أشرارًا خُلّصًا ولا قدّيسين مطلقين؛ بل بشرًا متناقضين، يجتمع فيهم النبل والضعف كما هو الحال فينا جميعًا. حين يُرفع الستار عن أبراج بارچستر، نرى رئيس الشمامسة غرانتلي واقفًا ينتظر موت أبيه الأسقف، وفي قلبه مزيجٌ من الحبّ الحقيقي والحزن العميق والاحترام البنوي الصادق. ومع ذلك، وفي اللحظة نفسها، يتمنّى – في أعماق نفسه – لو أن أباه يُسْرِع إلى الموت، إذ إنّ الحكومة إن سقطت قبل أن يرحل الأب، فسيضيع على غرانتلي أمله في أن يُعيَّن خلفًا له في الأسقفية. ومع هذا، يجعلنا ترولوب نغفر له، بل نتعاطف معه؛ إذ يُقنعنا بأنّ طموحه الدنيوي مفهومٌ إنسانيّ، وبأنّ حبَّه وحزنه واحترامه لأبيه صادقٌ لا غبار عليه. ثم، تأمّلوا الليدي كارْبري في رواية “العالم الذي نحيا فيه اليوم”، وهي تنسج خيوط مكرها لتظفر بمراجعاتٍ مشيدةٍ بكتابها الزائف الطابع، “ملكات الجريمة”. ثلاثةُ محرّرين عند قدميها، وهي مستعدة لأن تُقدِّم… لا كلَّ ما عندها، ولكن ما يكفي لتغويهم تمامًا. وهي تفعل ذلك فعلًا – تسحرهم جميعًا، وتسحرنا نحن أيضًا. فما العجب؟ إنّ ترولوب ابنُ أمّه بحقّ؛ فـفرانسِس ترولوب قد عاشت من قَلَمها، ورسمت لنا، في كتابها “العادات المنزلية للأمريكيين”، صورةً ما تزال تُقرأ إلى اليوم. لقد أدرك ترولوب أنّ النساء المستقلّات ذوات المواهب المتواضعة عليهنّ أن يشققن طريقهنّ في عالمٍ لا يرحم، وأنّ حِيَلَهُنَّ الصغيرة، مهما بدت براقة أو محسوبة، تُخفي وراءها شجاعةً تستحقّ الإعجاب، لا السخرية – ولهذا يجعلنا نبتسم لهنّ، بإعزازٍ لا استهزاء. سألني أحد الأصدقاء مؤخرًا سؤالًا بالغ الطرافة:

ماذا لو تناول ترولوب القصة التي كانت تشغل الرأي العام آنذاك- قضية فشل زوي بيرد في نيل ترشيحها لمنصب المدّعي العام في إدارة كلينتون الجديدة؟ كيف كان سيتعامل ترولوب مع ما سُمِّيَ بـ”انتهاكها” لقوانين الهجرة التي كانت ستتولى تطبيقها؟

أظنّ أن ترولوب كان ليدع حياتها تتحطّم أمام أعيننا، وليُهيِّئ نصرًا مدوّيًا لأولئك الكاشفين عن الفضائح في صحيفة جوبيتر “المشتري” – تجسيده الروائي لصحيفة التايمز – تمامًا كما فعل في رواية “راعي المأوى”.

لكنّ القارئ، في النهاية، كان سيدرك أن ترولوب يرى في هذا الانهيار الصاخب نوعًا من الوعظ الأخلاقي الفارغ والعبث الممجوج، كما رأى الأمر ذاته في مصير السيد هاردينغ “راعي المأوى”. وفي رواية “الدكتور ثورن”، نجد شخصيةً ثانوية هي المحامي رومر، يعمل لصالح المحافظين في انتخابات المقاطعة. يشتكي إلى السيد رومر صاحبُ حانةٍ محبّ للشراب، يمتلك نفوذًا انتخابيًا، من أنّ فاتورته – ويُرجَّح أنّها ثمن البيرة – لم تُسدَّد بعد الانتخابات الأخيرة. يشير رومر بهدوء إلى أنّ الامتناع عن الدفع كان نتيجة خلاف على الحساب، ولكن صاحب الحانة يصرّ على موقفه أيَّما إصرار قائلًا:

“يحبّ الرجل أن تُسدَّد فاتورته الصغيرة”.

عندها، وبروح طيّبة، يدفع رومر الفاتورة، ويبدو كل شيء على ما يرام. ولكن، عندما تنتصر القوى المحافظة، يكتشف الليبراليون تساهل رومر مع صاحب الحانة، فتثور صحيفة “المشتري” مدوّية، معلنةً أنّ رومر قد اشترى الانتخابات. فتغدو الحياة في إنكلترا مستحيلة على رومر، ويجد له أصدقاؤه ملاذًا بعيدًا في هونغ كونغ. والأسوأ من ذلك، أنّ المتعصّبين البرلمانيين يطالبون باستدعائه من هونغ كونغ ليواجه العار والدمار الكاملين. كل هذا، رغم أنّ ترولوب يشير بذكاء إلى أنّ جميع أعضاء البرلمان حينها قد جلسوا في مقاعدهم بعد أن دفعوا من أموالهم ما يعادل – بل أكثر- مما دفعه رومر ليحصل على منصبه ويحتفظ به. إنّ قصة السيد رومر، في جوهرها، تشبه كثيرًا قصة السيد هاردينغ في “راعي المأوى”. ومن هنا، أرى أنّ ترولوب كان سيُهلك زوي بيرد، لكنه لن يقف إلى جانب أولئك الذين يُدمّرونها بانتصارهم. قد أكون مخطئةً، لكن في “مزرعة أورلي” ترتكب الليدي ميسون زلةً أشدّ خطورةً من زلة بيرد، وكل ذلك من أجل خير أولادها، وبحقٍّ عادل لهم. تُبرَّأ في المحكمة، لكن ترولوب يرى أنّ العملية القانونية مجرد خدعة محتقرة. ورغم البراءة، ورغم تعاطفه ومحبته لها، يجعلها تتحمّل عقوبةً شديدة، لدرجة أنّ تضحياتها بنفسها، لا يراها سخيفة أو وعظية، بل يقدّرها مع أسى ويعتبرها لازمة. ومع ذلك، يبدو لي أنّ ترولوب الأخلاقي المتألم في “مزرعة أورلي ” أقلّ إقناعًا وأقلّ تمثيلًا لذاته الحقيقية مقارنةً بـ ترولوب المشكك اللاذع، الماكر في مقاربة مصائر هاردينغ ورومر.

يمتاز ترولوب بالسعة والشمول في تصوره الأدبي. تتطوّر شخصياته عبر مدى زمني طويل، وكتب ضخمة، وأحيانًا نصف دزينة أو أكثر من الكتب، متشابكة في علاقاتها المعقدة، ممتدةً إلى الأجداد وحتى الجذور الأسرية الأبعد. ولفهم اتساع رؤيته الأدبية، يجب أن نُدرك أنّ روايات “باريستشاير” و”الروايات البرلمانية” ليست مجموعتين منفصلتين كما نجدهما اليوم في النسخ المجلدة. بل هما ككل متكامل أكثر بكثير من مجرد مجموعتين منفصلتين. فتصبح كتب الكهنوت في باريستشاير جزءًا من الروايات البرلمانية، وتتشابك الروايات البرلمانية بدورها مع أحداث باريستشاير. فهناك، في باريستشاير، يقف سكاتشدَر، إمبراطور السكك الحديدية، والمدمن على الشراب، كرمز للبرلمان. ويلتقي بطل الروايات البرلمانية الخجول، أو قُلْ اللا-بطل، بلانتاجانيت باليزر بحبه الأول في جزءٍ من أجزاء باريستشاير، البيت الصغير في ألّينغتون – حُب لما قبل غلينكورا، الذي لم يُذكر إلا ضمن إشارات عابرة في الروايات البرلمانية.

أما في “دوق أومنيوم”، ذلك العجوز المتأنق الفاسق، فيتولى الرئاسة في قلعة جاتروم في كلا السلسلتين: في “الدكتور ثورن” كما في “ڤينيس فين”، وحتى خارج هاتين السلسلتين، في “العالم الذي نحيا فيه اليوم”. قد يكون تطور هذه الشخصيات متسرعًا أحيانًا، إذ يقتل ترولوب بعضهم بين كتاب وآخر، فقط لكي يفسح المجال لشخصية جديدة. والكتب نفسها ليست متسلسلة بالمعنى التقليدي؛ فالشخصيات تتسلل إلى الكتاب التالي، لكنه ليس عالمها بعد الآن، بل قصة شخص آخر. يُتابع ترولوب عشرات الشخصيات بدقة، وحتى ضمن حدود كتاب واحد، فيشعر القارئ بعظمة الفكر الذي استطاع ابتكار هذه العوالم، ونسجها بعناية لتصبح عوالم ضمن عوالم. وهذا، بلا شك، ليس مجرد “كوميديا اجتماعية”؛ بل هو كوميديا الإنسان بكل تناقضاته. أحيانًا يكون التأثير مذهلًا، وكأنّه من عالم آخر. ففي “البيت الصغير في ألّينغتون”، عندما نسمع لأول مرة عن الليدي غلينكورا، يقتصر الأمر على خبرٍ وحيد: أنّ بلانتاجانيت باليزر مخطوب لها. وعندما نلتقي بها لاحقًا في رواية “هل تستطيعين مسامحتها؟”، فهي ليست البطلة الرئيسة للعنوان، بل شخصية ثانوية عابرة. ولكن فجأة، يستقبلها ترولوب كما لو كانت صديقةٌ عزيزةٌ قديمة، فيمنح القارئ شعورًا بأنّه يحتفظ بمودة قديمة تجاهها، وكأن كل أحداث قصتها في الكتب الخمسة القادمة مألوفة له قبل أن يكتبها. ويقشعر بدنك عند هذه التحية الأولى للليدي غلين، تمامًا كما يقشعر بدن المرء عند سماع البوق الفرنسي وهو يرحّب بكلارا في الحركة الأخيرة من السيمفونية الأولى لبراهامز. وباستثناء رواية “راعي المأوى”، الجوهرة المتقنة، فإنّ هذه الكتب ليست كتبًا صغيرة ومرتبة بعناية، بل هي فسيحة وفوضوية بطريقتها الخاصة. ولكن عندما يُخبرك ترولوب بصراحة منذ البداية أنّ البطلة ستتزوّج بالبطل، فإنه واثق تمامًا من أنّك ستستمتع برحلته الأدبية مهما حدث. وفي هذه الكتب الواسعة، هناك مجال لكل أنواع المتع، وأهمها مشهد ترولوب المميز لمطاردة الثعالب. ففي منتصف معظم كتبه، بل في أفضلها من الروايات البرلمانية، نجد مشهد صيد متقنًا، حيًّا ومتحركًا. خلال هذه المطاردة، تتحرك الأحداث، وتتغير حياة الشخصيات، ومع ذلك تشعر وكأنك كنت في الميدان بنفسك، تصوب البندقية، وتلاحق الثعلب بين التلال. ولا أعني بذلك فقط أنّك تدخل إلى المناظر الطبيعية الإنكليزية على طريقة الفنان كونستابل، التي ينسجها ترولوب ببراعة فائقة، رغم أنّك تفعل ذلك أيضًا، بل إنّك تشعر بكل حواسّك، تشعر بالهواء العليل، برائحة العشب، بصخب الكلاب والخيول، وبنغمة المغامرة التي تملأ المكان. هناك رحلة مطاردة الثعلب على طريقة ترولوب، تبدأ من اللحظة التي تنتظر فيها على صهوة جوادك، متلهفًا لحدوث شيء ما (وما يحدث غالبًا هو تناول الغداء على ظهر الحصان)، وتمتد إلى اللحظة التي يُكتشف فيها الثعلب، فتتبع عن كثب رئيس الصيادين وتنطلق نحو المغامرة والخطر. الميدان مليء بالحياة: هناك الكلاب النابحة، والمتسكعون والمتواكلون على الآخرين، ورجال المقاطعة البارزون، والنساء الحازمات اللاتي يعرفن جيدًا ما يفعلن، والرياضيون الحكماء الذين يعرفون متى لا ينبغي السماح للحصان بالقفز فوق السور، والمخادعون الذين يختصرون الطريق ليصلوا إلى الثعلب دون أن يواجهوا أي خطر حقيقي. وتُعدّ مطاردات الثعالب هذهِ، واحدة من الجواهر النادرة للأدب الإنكليزي. يكمن أسلوب ترولوب الفريد في أنه، وسط صفحاتٍ ممتلئة بالحوار المليء بالسخرية والتوتر، يفتح لنا المونولوجات الداخلية الرائعة لشخصياته. فهو مهتم بما قد يفعله الناس في موقف معين، وطريقته الخاصة -التي يمكن وصفها بأنها “افتح صفحة عشوائية وستجدها”- هي أن يغوص في وعي الشخصية، ويسمح لنا بمراجعة الموقف من منظورها الخاص. وعادةً ما تكون هذه المواقف موترة ومشحونة بالتوتر، وهذا ما يجعل السؤال عن زوي بيرد مناسبًا تمامًا. في “العالم الذي نحيا به اليوم”، نجد عشاء ميلموت للإمبراطور الصيني موصوفًا عبر صفحات متتابعة من الحوار الهزلي الذكي؛ ثم، في لحظة يأسه، يخوض ميلموت مونولوجًا داخليًا غارقًا في التأمل، والاستياء، والوهم الذاتي، لكنه في الوقت نفسه، مدركٌ لواقعه، وهو يراقب المشهد ويتأمل مستقبله. هذه هي تراتيب ترولوب الأصيلة بكل ما تحمله من براعة فنية وتمثيل نفسيّ دقيق. إن التحولات الأنيقة في الحبكة تُحوّل مخاوف الشخصيات وتحليلاتهم الداخلية إلى تجربة حية للقارئ. ففي قصة زوي بيرد، كان ترولوب سيمنحنا نافذة على مونولوجها الداخلي: هل تتقدم لشغل المنصب الوزاري؟ هل تكشف عن هفوة صغيرة لفريق كلينتون؟ أم هل تنسحب؟ كل خيار من هذه الخيارات يُحلَّل ويُدار داخليًا بطريقة تتيح للقارئ فهم الصراع النفسي في كل خطوة. وفي عائلة السيد سكاربورو أو ألماس إيستاس، يتجلّى براعة ترولوب في استكشاف تأثير التغييرات على حياة شخصياته الداخلية: وصايا سكاربورو المتغيرة، أو مكان ألماس إيستاس المتنقل. تجادل الشخصيات نفسها حول كيفية نشوء الأمور، وحول خياراتها المتاحة؛ تستسلم أم تصمد أمام نقائصها، تبرّر أو ترفض التبريرات، بحيث تصبح كل لحظة من تصرفاتها نافذة إلى تناقضها الإنساني المستمر. وعندما تتحدث الشخصيات أو تكتب رسالة، قد يُحرِّك كل خيطٍ من هذه الخيوط الداخلية كلماتها، مما يجعل تصرفاتها المتقلبة كتابًا مفتوحًا أمام أعيننا. أفضل المشاهد لدى ترولوب هي تلك التي تتلاقى فيها الشخصيات في مواقف مشحونة بالتوتر، تتصارع، وتكشف عن نفسها- إن لم يكن لبعضها بعضًا، فلبعضنا نحن القراء. وكما يحب السيد سكاربورو المخادع أن يفاخر بزهوٍ مستحق:

“إنها خير من أي عرض مسرحي.”

وها أنا ذا، مرة أخرى أسير صوب سحر ترولوب الذي يأسرني. وبداخلي شعور طفيف بالحزن عند الشروع في إعادة قراءته، فحتى أعظم المتع الأدبية تصل إلى نهايتها، سواء شئنا ذلك أم أبينا. لكن ما يبعث على الاطمئنان هو أنّ مع هذا الكاتب السخيّ بلا حدود، النهاية لا تزال بعيدة جدًا، ومتعته لا تزال ممتدة أمامنا.

حِيلة مُثبَتة لتهدِئة القَلقْ سريعًا .. ترجمة : محمد الدّندن

حِيلة مُثبَتة لتهدِئة القَلقْ سريعًا
طريقة تفكيرٍ صغيرة تعينُك على استعادة السيطرة على القلقْ أيّاً كان عُمرُك        
بقلم د.جيفري برنستين – ترجمة: محمد الـدّنـدن 
     يجتاحُكَ شعورُ القلق كعاصفةٍ هوجاء، تجعلك عاجزاً وعالقاً في دوّامة من الأفكار المُبعثرة. ولكن ماذا لو كان هنالك حيلةٌ سهلة، تُغيّرُ نظرتَك للأشياء وتُهدِّئ الضوضاء التي تعبث بمشاعرك؟ هي بالطّبع ليست سِحراً، بل تحوّلٌ في نمطِ التّفكير، وتلك الطّريقة مُتأصّلة في ما يُسمّى: العلاج باليقظة الذهنيّة والعلاج السلوكي المعرفي. تدعى تلك الحيلة بـ ” تسمِية الخوف”، وهي حيلةٌ فعّالة عند تطبيقِها على جميع مواقف الحياة وعلى كُلّ الناس، في شتّى الفئات العُمريّة.
عندما تطلقُ اسماً على شعور الخوف، فإنّك تُبعِدُه من حيّز مشاعِرك المُشتّتة إلى خارج حُدود نفسك؛ وبذلك تستطيع تقييم ذلك الخوف واعتراضه، ثمّ التّقليلَ من حدّتِه بعد أنْ لاحظتَه.
إليكم طريقة تطبيق هذه الحيلة، في ميدان الحياة:  
                                                                              
لِيام، 8 سنوات: مواجهة وحوش ما قبل الّنوم. 
كان ليام يرتعب بشدّة عند وقتِ النّوم، وكلُّ صوتٍ يسمعُه من أرجاء البيت، يخلُقُ في خيالِه صورةً مُرعبة لوحوشٍ تختبئ تحت سريره، مما يجعله يعيش في دوّامة من الخوف. ومع محاولاتِ أهله الحثيثة لتهدئة روعِه، إلاّ أنّ القلق بات مسيطراً عليه.
وذاتَ ليلة، سألتهُ أمُّه: ليام، ما اسمُ ذلك الوحشِ الذي تسمعُ صوتَه باستمرار؟ 
همس إليها: الشّبح!
قالت له: حسناً، “دعنا نكتب ملاحظة في ورقة للشّبح، نُخبره فيها أنّك تحتاج إلى الراحة في هذه اللّيلة، وأنّ عليهِ أن يخرُج من الغرفة”.
اخرَجَ ليام ورقة ووضعَها بجانب سريره. وعندما قام بتسمية وتحديد خوفِه، أصبحتْ إدارة الخوف لديه أسهل مما سبق. وبعد مدّةٍ من الزّمن، انخفضَ مستوى القلق لدى ليام، وصار ينام نوماً هنيئا.
2-صوفيا، 27 عاما: التخلّص من التّوتّر في مقرّ العمل. 
   أحبّتْ صوفيا وظيفتها، لكنّها كانت شديدة الخوف من اجتماعات طاقم العمل. ودائماً ما باتت تشعر بالقلق إمّا من قول الشيء الخطأ أو من التعرّض للنّقد من زملائها. كان القلق يهاجمُها بوحشيّة في اللّيالي التي تسبق الاجتماعات؛ ممّا جعلها محرومة من النّوم.
وضِمنَ إطار خُطّتها العلاجية، طلبتْ المعالِجة النّفسية من صوفيا أن تُطلِقَ اسماً على القلق الذي تشعرُ به.
سألَتْها المُعالِجة: “ما الاسم الذي تودّين أنْ تسمّي هذا القلق به ؟
عزمَت صوفيا على أن تُسمّيه: ” القاضية جودي“، وكُلّما كانت تسمعُ ذلك الصّوتَ النّاقِد في نفسِها، باتت تقول ” أوه، ها هي القاضية جودي تظهرُ مجدّدا وتُحاول أنْ تُخيفني، ولكنّها ليستْ مُديرتي في العمل”.                                                                
منَحَ هذا النّهج المُمتع مساحةً شعورية لدى صوفيا؛ لتتحدّى خوفَها. ولأنّها دائما ما كانت تُذّكر نفْسَها بأنّ أفكارها ليست حقيقة، أصبحَ حضورُها لاجتماعاتِ العمل أقلّ خوفاً من ذي قبل.       
3.مارْك، 52 عاما: التّغلّب على الرّهاب الإجتماعي
دائماً ما ينتاب مارك شعور بالخجَلْ في المناسبات الاجتماعية. كان يشعر بالتّوتر أو الإحراج إزاء عدم وجود ما يتحدّث عنه من أمور وقضايا في الحياة. وقبل موعد الاجتماع السنوي للعائلة، قرّر أن يُجرّب تطبيق حيلة التّسمية!
سأل مارك نفسه: ما اسمُ هذا الخوف؟
مازَح نفسَه مُجيبا: “ستيف الصّامت“.
وعندَ موعِد الاجتماع العائلي، وكُلّما أحسّ مارك أنّ مشاعر القلق تتسلّل بداخِلِه، بدأ يقول في نفسه: “هيي أنت! رأيتُك يا ستِيف الصّامت، ولن تنطلي عليّ ألاعيبُك”. إنّ تطبيقَهُ لطريقة تسمية الخوف، جعلَهُ أكثرَ قدرة على إدارة مشاعِره. وعندما انقضتْ تلك اللّيلة، أدركَ مارك حجمَ سعادته بما صنَع، خِلافاً لما كان يتوقّع من نفسه.
وبالمداومة على استعمال هذه الطريقة، ستُدرك أنّ لهذا التغيير الطّفيف أثراً في تفكيرك، مما سيُساعدك في مواجهة مصاعب الحياة بثقةٍ وسكينة أكبر.
السببُ في نجاحِ هذه الحِيلة
عندما تقوم بتسمية القلق الذي ينتابُك، فإنّك تجعله خارجاً عن دائرة نفسِك، وتحوّلُه من شعورٍ مُرهِق وغامِض، إلى شيءٍ مُحدّد وقابلٍ للتّعامُل معه في يُسر. تسمح لك هذه المساحة، أن تُعيد تقييم المواقف العصيبة تقييماً منطقيّا. وتكشف لنا الأبحاث في مجال العلاج السلوكي المعرفي بأنّ تسمِيةَ المشاعر تُقلّل من وطأة تأثيرها على الناس، وتعزّزُ من إدارة المشاعر لديهِم.
عندما يجتاحُكَ شعورُ القلق في المرّة القادمة، اسأل نفسَك: “ما الاسم الذي سأطلِقُه على هذا الشعور المخيف؟” سمّه باسمِ دُعابة ما، أو باسمٍ من خيالِك، أو حتى باسمِ لقبٍ مشهور!

 

نُشرت الدراسة في 19 يناير 2025



القرية التي لم تمت: هويّة الماء بين تخييل ياماثاريس وتأمّلات باشلار – بقلم حسن بن أبي سهيل

القرية التي لم تمت: هويّة الماء بين تخييل ياماثاريس وتأمّلات باشلار.

القرية التي غابت تحت الماء لم تغب عنّا، نعيش بعيدًا عنها، لكنّنا نحملها في كلّ شيء“. (خوليو ياماثاريس- طرائق مختلفة للنّظر إلى الماء).

حين يغمر الماء قريةً بأكملها، فإنّه لا يبتلع فقط الأحجار والبيوت والممرّات، بل يُغرق في جوفه ما لا يُرى ولا يُقال: الذّكريات، الأصوات، أنفاس الطّفولة، مشاعر الفقد الأولى، وأجساد الغائبين التي لم تودَّع كما يجب. في رواية طرائق مختلفة للنّظر إلى الماء، يتقدّم خوليو ياماثاريس من هذا الغرق لا بوصفه حدثًا هندسيًّا طارئًا فرضه مشروع سدّ مائي، بل بوصفه انكسارًا هويّاتيًّا ممتدًّا عبر أربعة أجيال، انكسارًا لم تلتئم شروخه حتّى مع مرور الزّمن. الخزّان ليس مجرّد مساحة مائيّة بديلة عن القرية المطمورة، بل هو مرآة عملاقة تطفو على سطحها حيوات كاملة لم تعد تُرى، لكنّ أثرها لا يزال يحاصر الشّخصيّات في لغتها، وذاكرتها، وصمتها المبلّل.

هذه المياه التي تغمر المكان، هي في جوهرها ما وصفه غاستون باشلار بـ “الماء الحالم”، ذاك الذي لا يُشبه في صفاته الماء الفيزيائيّ، بل الماء الحيّ الذي يُقيم في أعماق المخيّلة، ويستثير الصّور الغائرة في النّفس، ويفتح في الوعي فجوات غير مرئيّة تسمح لذكريّات الطّفولة، وأشباح الفقد، أن تخرج من صمتها. باشلار لا يتعامل مع الماء كعنصرٍ محايد، بل كمجال تأمليّ، وكمادّة رمزيّة تمارس فعلها على الذّات من الدّاخل، وتعيد تشكيل علاقتها بالزّمن والحنين.

وعند هذا التّقاطع بين النّصّ الرّوائيّ والنّصّ الفلسفيّ، يبدأ هذا التّأمّل. ليس بوصف الماء مشهدًا طبيعيًّا مشتركًا بين ياماثاريس وباشلار، بل لأنّه يتحوّل في كليهما إلى بنية تخييليّة فاعلة، بل إلى فاعل وجوديّ يعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الدّاخل والخارج، وبين التّذكّر والنّسيان. فكل شخصيّة في الرّواية ترى الماء بطريقتها الخاصّة، لكن ما يجمع بينها جميعًا هو أنّ الماء لم يكن يومًا صامتًا. هو الذي يحمل ما لم يقال، ويُرجع صدى الغياب، ويعيد إلى السّطح ما طُمر في الأعماق.

يقول أحدهم: “أفنيت عمري في العمل من أجل العودة”، والعودة هنا لا تعني استعادة جغرافيا القرية، بل استعادة الذّات التي تُركت هناك، معلّقة بين ضفّتين، تنتظر أن يُعاد لها اسمها، وهويتها، وموتاها. لكنّها عودة مستحيلة، لأن الماء حين يغمر الأرض، لا يُرجعها كما كانت، بل يجعل منها صورة طيفية، لا تقبل الاستعادة ولا النّسيان. وهذه المفارقة هي ما يستثير باشلار حين يتأمّل الماء بوصفه مرآة لا تعكس فقط ما نضعه أمامها، بل ما نخفيه عنها.

باشلار، وهو يحاول تفكيك علاقة الإنسان بالماء، لا يكتفي بتصنيفه كمادّة طبيعيّة، بل يراه جوهرًا نفسيًّا محضًا، خزّانًا للصور التي لا يطيقها الوعي، لكن المخيلة تلبث أن تستدعيها. في أحد مقاطعه الفاتنة، يتحدث عن “الزّمن الذي لا يُقاس بالسّاعات، بل بالصّور”، عن الزّمن الذي يتّخذ من الماء وسادةً وملاذًا. فالماء لا يحمل فقط انعكاس الأشياء، بل تاريخها غير المحكيّ.

وفي الرّواية، حين تُقال الجملة: “لم تدهشني رغبة جدّي في العودة إلى هنا، إلى هذا الوادي الغارق تحت المياه، المياه التي لا تزال تطفو على سطحها ذكرياته، أحلامه كلها وتطلّعاته كلّها”، فإنّنا لا نكون بإزاء وصف استعاريّ، بل أمام توصيف باشلاريّ دقيق. الماء هنا لا يطمس، بل يصون. لا يمحو، بل يراكم. إنّه خزينة هادئة للغائب، شاهد أخرس على ما لا يُقال. الماء إذن لا يتحدّث، لكنّه لا يكفّ عن التّذكير، ولا يتلفّظ، لكنّه يُبقي كلّ شيء حيًّا في صمت.

في تضاعيف الرّواية، شخصيّات تحاول أن تنسى، أن تصمت، أن تمضي. لكنّ الذّكرى تشبّ فوق الماء كما تنبثق أعشاب قعرٍ خفيّ. دومينغو، الذي قضى حياته دون أن يذكر القرية، يمارس ما يسمّيه باشلار “النّسيان الصّامت”، ذلك النّسيان الذي لا يُلغي الذّاكرة، بل يضعها في حالة كمون. لكنّ الشّخصيّات الأخرى، وعلى رأسها الحفيدة، تظلّ مُحاصرة بما لا يُنسى، متألّمة كلّما حاولت النّسيان، حيث تسرد: “بل إنّها بقدر ما كنت أبذل من الجهد لنسيانها، كانت تلح عليّ فيزيدني التّذكّر ألمًا. باشلار كان يعرّف أنّ النّسيان في حضور الماء ليس فِعلًا ناجزًا، بل صراعًا لا نهائيًّا. فالماء لا يسمح بالدّفن، بل يتيح للصّور أن تُحفظ في قعره السّاكن، فيجعل من كلّ محاولة للنّسيان استدعاءً أعمق لما طُمر. الماء، في ظاهره، هادئ. لكنّ القاع يضجّ بما لم يُحكَ.

حين تمتدّ الأيدي النائمة خارج الأسرة لتلامس الماء المتسلّل إلى الكوخ، لا يكون هذا الفعل مجرّد حركة عابرة، بل انفتاحًا على حسّيةٍ دفينة وصفها غاستون باشلار بـ “المياه العاشقة”. فالماء هنا لا يُدرك كعنصر خارجيّ يبلّل الجسد فحسب، بل كتيّار داخليّ يتسرّب إلى الحواس، ويعيد تشكيل العلاقة بين الجسد والذّاكرة. إنّه لا يلامَس فقط، بل يُستَشعر كصدى لمشاعر دفينة: دفء الطّفولة، قلق الغياب، رعشة الحنين، أو برد الفقد. هذا التّلامس الطّفيف يستدعي صورًا كامنة، ويوقظ في الذّات ما ظنّته قد نام إلى الأبد. فالقرية التي غمرها الماء لم تُغرق مساكنها وحسب، بل أغرقت قاطنيها شعوريًّا، حتّى صار التّلامس مع الماء تذكيرًا دائمًا بما كان. في تصوّر باشلاريّ عميق، لا يكون الماء طوفانًا عنيفًا، بل لغة صامتة تتسلّل إلى الأجساد المطمئنّة لتعيد إحياء سؤال الهويّة: من نكون بعد كلّ هذا الغرق؟

في أحد المقاطع اللّافتة، تنظر إحدى الشّخصيّات إلى الخزّان وتقول: “نعم هو يذكرنا بأمر مأساويّ، لكنّه في الوقت نفسه يعد من المشاهد الطبيعيّة الرّائعة”. هذا التّوتّر بين الجمال والمأساة هو ما يُعلي باشلار من شأنه. فالماء –إذا ما نظرنا إليه من خلال الحواس والذّاكرة – يصير جمالًا جريحًا. هو في ذاته كائن فاتن، لكن حين يُغرق الذّكريات، يصير جماله مشوبًا بالحزن. هذا التّداخل هو ما يجعله أكثر العناصر قدرة على إثارة الرّعشة، لا لأنّ فيه خطرًا، بل لأنّ فيه حياةً لم تكتمل، وموتًا لم يُنتهَ منه. الخزان، في الرّواية، ليس مكانًا للبكاء فقط، بل للنّظر، للتّأمّل، للرّؤية المشروطة بالغياب. هو – كما في تصوّر باشلار – نقطة تماسّ بين ما كان، وما لن يعود، وما لا نعرف أن كنّا نريده أن يعود.

الغربة التي تعيشها شخصيات رواية ياماثاريس لا تنبع من الفقد وحده، بل من اتّساع الهوّة بين ما كان وما صار. فالمكان الجديد، رغم ما يوفّره من مأوى، لا يمنحهم شعور الانتماء، بل يُكرّس إحساسًا مستمرًّا بالتّيه. تقول إحدى الشّخصيّات: “يا له من إحساس مؤلم! فأن تشعر بالغربة في كلّ مكان، وأن ينتابك هذا الإحساس يوميًّا هو بلا شكّ أمر مؤلم، مهما حاولت الاعتياد عليه”. هذا القول يلتقط بعمق ما يراه غاستون باشلار في الماء: إنّه ليس فقط حاضنًا للذّكريّات، بل هو نفسه فضاء للاغتراب. فالماء لا يسمح بالثّبات، ولا يحتفظ بالشّكل؛ هو عنصر لا يُقيم فيه شيء طويلًا، ولا يترك الأشياء كما كانت. من هنا، يغدو خزّان الماء في الرّواية أكثر من مجرّد بُنية مائيّة، بل مجالًا وجوديًّا أغرق جذور الشّخصيّات قبل أن يغرق قريتهم، ونفى هويّتهم إلى قاع لا يُرى. لم يكن المنفى مكانيًّا فحسب، بل وجدانيًا، إذ كلّما مرّ الزّمن، ازدادت الجذور تصلّبًا في الأعماق، وتحوّلت إلى شظايا هويّة ممزّقة بين ما يطفو على السّطح وما رُدم في العمق.

ما تنجزه رواية طرائق مختلفة للنظر إلى الماء هو أكثر من استعادة لأثر النّفي القسريّ. إنّها تحويل للماء من خلفيّة روائيّة إلى شخصيّة ضمن السّرد، من عنصر خارجيّ إلى كيان حميميّ يتغلغل في اللّغة والشّعور والحدث. وباستحضار تصوّرات غاستون باشلار في الماء والأحلام، ندرك أنّ ما غمر القرية لم يكن ماءً فقط، بل لغة كاملة من الذّكريات، من الغربة، من الحنين، ومن الأحلام التي لم تُعش بعد.

الماء في هذا السّياق هو مرآة لا تعكس، بل تُغرق. هو سرديّة موازية، تتقاطع مع السّرد الأصليّ، وتعيد صياغة الفقد لا كحدث، بل كحالة دائمة. الماء لا يحكي، لكنّه يُذكّر. لا يبكي، لكنّه يُبلّل كل جملة، كلّ ذاكرة، وكلّ جسد ظلّ يفتّش عن قرية غمرها الصمت، لا ليُنهيها، بل ليجعل منها صورةً لا تموت. ما تكشفه هذه الرواية، من خلال عدسة باشلاريّة دقيقة، هو أنّ الهويّة ليست ثابتًا يُكتب، بل قاعًا غامضًا من الصّور التي ندفنها في الأعماق، والتي يعود الماء، في كلّ لحظة، ليهزّها، ويوقظها، ويعيدها إلى السّطح من جديد.

حسن بن أبي سهيل

أصناف الكتّاب في رأس شوبنهاور

أصناف الكتّاب في رأس شوبنهاور

من يكتب للحمقى، يضمن دائمًا جمهورًا واسعًا

  • ثمّة ثلاثة أصناف من الكتّاب:

الأول يكتب من غير تفكير، والثاني يفكّر أثناء الكتابة، والثالث يفكّر قبل أن يكتب.

الصنف الأول يحظى بأكثر القرّاء عددًا، وأوسع شهرةً، لأن كتابته سهلة المأخذ سريعة الزوال. أمّا الصنف الثاني فيكتب لأن الكتابة وسيلته إلى التفكير، فهو ينسج كتابه كما تنسج العنكبوت خيوطها، بجهدٍ وصبرٍ، غير أنّ ما يصنعه كثيرًا ما يكون محكومًا بحدود ما يصادفه لا بما يبتكره. أمّا الصنف الثالث، النادر في كل عصر، فهو الذي يفكّر مليًّا قبل أن يخطّ قلمه حرفًا، ويكتب لأن لديه ما يستحق أن يُقال. هؤلاء وحدهم الكتّاب العظام، وأعمالهم هي التي تخلّد في الزمن.

يمكن تشبيه كتابة الصنف الأول بوجبةٍ أُعدّت على عجل؛ والثانية بوجبةٍ طُهيت بعناية؛ أمّا الثالثة فهي كطعامٍ صُنع من مكوّنات مختارة وبذوقٍ فنيّ رفيع.

ما يقدّمه النوع الأول أشبه برغوة البيرة أو زَبَد البحر، يختفي لحظة ظهوره. وما يقدّمه الثاني قد يعيش زمنًا قصيرًا، وربما يصبح موضة مؤقتة. أمّا ما يقدّمه الثالث فهو الذي يدوم إلى الأبد.

  • وضوح الفكر وجمال التركيب

فنّ التأليف الحقيقي يقوم على أن تُرتّب الأفكار بحيث يلتقطها القارئ بسهولة من غير أن تفقد عمقها.

ولهذا فإن الوضوح هو القانون الأول في الكتابة، والقانون الثاني هو الوضوح أيضًا.

فلا وضوح بلا ترتيبٍ للأفكار ولا تسلسلٍ منطقيٍّ في عرضها.

الكاتب الواعي وحده هو من يجمع الكلمات بوعيٍ تامّ لمعانيها، ويختارها بعناية مقصودة. لذلك، فإن كتابته تشبه لوحةً رسمها فنانٌ بريشته، لا طبعةً نُفّذت بقالبٍ جاهز.

فالكاتب العادي يبني فقراته كما يبني الإنسان جدارًا من حجارةٍ وجدها مصادفةً على الطريق؛ أمّا الكاتب الحقّ فيقطع حجارة معناه من المحجر بيده، وينحتها لتلائم بناء فكرته بدقّةٍ وإتقان.

  • مراتب الكتّاب

الكتّاب من الطبقة الأولى يُجلّون أفكار الإنسانية ويجعلونها أوضح،

أما كتّاب الطبقة الثانية فيجعلونها غامضةً وملتبسة،

في حين أن كتّاب الطبقة الثالثة يطمسونها تمامًا.

قلّةٌ من الكتّاب يبنون كتبهم كما تُبنى الكاتدرائيات، وكثرةٌ يشيّدونها كما تُبنى الأكشاك في الأسواق.

الكاتب العظيم لا يكتب لعصره وحده، بل لكل الأزمنة. لذلك يتجاوز زمنه وغالبًا ما يُساء فهمه من معاصريه.

إنّ أعمال العبقرية مرايا تعكس الفكر الإنساني، غير أنّ الجموع لا تحتمل أن ترى وجوهها الحقيقية فيها.

  • بين الكاتب والمجرّد من الفكرة

الفرق بين الكاتب الحقيقي والكاتب المتكسّب أنّ الثاني يكتب ليكسب رزقه أو مجده، أمّا الأول فيكتب لأنّ لديه ما يجب أن يُقال.

للكاتب التافه الأسلوب كلّ شيء؛ أمّا للكاتب الأصيل فالفكر هو كلّ شيء.

فالأسلوب عند الأوّل ثوبٌ يختبئ خلفه خواء المعنى، أمّا عند الثاني فهو رداءٌ شفيفٌ يشفّ عن الفكر دون أن يحجبه.

  • جوهر الكتابة

قيمة الكاتب لا تكمن في ما يقوله، بل في ما يفكّر فيه، وفي عمق تفكيره.

إن فنّ الكتابة ليس سوى فنّ إيصال الفكر بوضوحٍ وجمالٍ.

وليس وفرة الأفكار ما يصنع الكتاب العظيم، بل وحدتها وتماسكها الداخلي.

العباقرة الحقيقيون يفكّرون لأنفسهم ويكتبون لأنفسهم، بينما يكتب الآخرون للناس ويفكّرون كما يفكّر الناس.

العبقرية مرآة تعكس العالم كما هو، أمّا الموهبة فهي عدسةٌ تكبّره فحسب.

  • الأدب كذاكرة الإنسانية

إنّ فنّ الأدب ليس سوى فنّ التفكير من خلال اللغة.

الكتب هي ذاكرة الإنسانية؛ بها يتكلّم الموتى إلى الأحياء، ومن خلالها يظلّ أنبل ما في الإنسان حيًّا بعد فنائه.

فليتساءل كلّ من يرغب في الكتابة:

هل عندي ما أقول لم يقله العالم من قبل؟

إن لم يكن، فليكتفِ بالقراءة والتفكير.

  • خاتمة

بهذا المعنى، يرى شوبنهاور أنّ الكتابة ليست فعلًا لغويًا بل فعل وعيٍ فكريٍّ وفنيٍّ في آنٍ واحد؛ هي تمرينٌ على النظر في جوهر الأشياء، وصياغة المعنى في صورةٍ تحتمل الخلود. فالكاتب العظيم هو من ينقل الفكر الإنساني من العابر إلى الأبديّ، ومن اللغة إلى الروح.

آرثر شوبنهاور

ترجمة: إعداد خاص عن النسخة الإنجليزية المترجمة  1981

بقلم:  T. Bailey Saunders

إرنستو ساباتو يتساءل: هل هي أزمة الفن أم فن الأزمة؟

هل هي أزمة الفن أم فن الأزمة؟

تحدث في هذه اللحظة الفارقة من التاريخ ظاهرة شديدة الغرابة: يُتهم الفن بأنّه يعاني من أزمة، وبأنه تجرد من إنسانيته، وبأنه نسف كل الجسور التي تربطه بعالم الإنسان. في حين أن الأمر على عكس ذلك تماماً، فإن ما يعدّ فناً في أزمة هو، بعبارة أكثر دقة، فن الأزمة، ولكن ما حدث أنّ الأمر نشأ نتيجة مغالطة. يرى أورتيجا، على سبيل المثال، أن تجريد الفن من إنسانيته مثبت كنتيجة الانفصال القائم بين الفنان وجمهوره. من دون أن يدرك أن الأمر قد يكون عكس ذلك تماماً؛ أن الجمهور وليس الفنان هو من تجرّد من إنسانيته. من الواضح أن الإنسانية شيء والجماهير العريضة شيء آخر مختلف تماماً؛ تلك المجموعة من الكائنات التي تخلت عن كونها بشراً لكي تتحول إلى أشياء مصنوعة بصورة متكررة، مقولبة وفقاً لتعليم نمطي، معلبة داخل مصانع ومكاتب، يُرجُّون يومياً على الإيقاع الموحد للأخبار التي تبثها محطات إلكترونية منحرفة ومكبلة بوساطة صناعة القصص المصورة والمسلسلات الإذاعية وعناوين الصحف والتماثيل التذكارية في البازارات. في حين أنّ الفنان هو الوحيد بامتياز، الذي استطاع للمفارقة الاحتفاظ بأروع خصال الجنس البشري، بفضل عدم مقدرته على التكيف، وبفضل تمرده، وجنونه. ما أهمية أن يبالغ أحياناً، ويقطع إحدى أذنيه؟ سيظل مع ذلك أكثر قرباً للإنسان الحقيقي من كاتب رصين في أرشيف وزارة. صحيح أن الفنان، المحاصر واليائس، ينتهي به الأمر بالفرار إلى أفريقيا، إلى فراديس الكحول أو المورفين، وإلى الموت ذاته؛ فهل كلّ هذا يدل على أنه هو الذي تجرد من إنسانيته؟

“إذا اعتلت حياتنا أحياناً (كتب جوجان إلى ستريندبرغ) فإن فننا يجب أن يكون كذلك أيضاً؛ وبوسعنا استعادة عافيته بالبدء من جديد، سواء كأبرياء أمكمتوحشين… تكمن علتكم في حضارتكم”.

ليس الفن سبب الأزمة بل المفهوم البرجوازي المتداعي “للواقع”، الاعتقاد الساذج في الواقع الخارجي. يُعدّ ضرباً من العبث الحكم على لوحة لفان جوخ وفقاً لذلك المنظور. في حين أنه بالرغم من حدوث ذلك (وبصورة متكررة!) لا يمكن استنتاج سوى ما يستنتج: أنّ اللوحات تصوّر نوعاً من اللاواقعية، وشخصيات وأشياء تنتمي إلى بقعة شبحية، نتاج مخيلة شخص ذهبت المعاناة والعزلة بعقله.

يقدم فنّ كلّ عصر رؤية للعالم، ومفهوم تلك الحقبة للواقع الحقيقي، ويستند ذلك المفهوم، وتلك الرؤية، إلى ميتافيزيقا وروح خاصة بها. بالنسبة إلى المصريين، على سبيل المثال، الذين اهتموا بحياة الخلود، لم يكن من الممكن أن يمثل هذا العالم الفاني ما هو حقيقي فعلياً؛ ومن هنا جاءت قداسة تماثيلهم الضخمة، وهندسيتها التي تعد دليلاً على الخلود، مع التجرد لأقصى مدى من العناصر الطبيعانية والفانية؛ هندسية تخضع لمفهوم عميق، وليست كما اعتقد البعض بصورة سطحية تنم عن قصور تشكيلي، لأنهم كانوا طبيعانيين بمنتهى الدقة حين نحتوا أو رسموا عبيداً بلا قيمة. عندما ننتقل إلى حضارة دنيوية مثل حضارة بركليس اليونانية، تقدم الفنون أعمالاً طبيعية، إلى درجة أنّ الآلهة ذاتها تصوّرعلى هيئة “واقعية”، ومن ثم، فإنه بالنسبة إلى هذا النمط من الثقافة الفانية، المعنية بصورة أساسية بالحياة الدنيا، الواقعُ الأساسي والواقعُ”الحقيقي” هو العالم الأرضي. يظهر من جديد مصاحباً للمسيحية، وللأسباب نفسها، فنٌّ مقدس مغاير للفضاء الذي يحتوينا والزمن الذي نحياه. ومع اقتحام الحضارة البرجوازية، ومع طبقة من المنتفعين، لا تعتقد إلا في هذا العالم وقيمه المادية فحسب، يعود الفن للطبيعانية من جديد. ونشهد الآن مع أفولها ردّ فعل الفنانين العنيف ضد الحضارة البرجوازية ورؤيتها المثالية للعالم. تكشف بتعصب وعدم اتساق، في كثير من الأحيان، أنّ ذلك المفهوم عن الواقع وصل إلى نهايته، ولم يعد يعبّر عن الهواجس العميقة لدى الجنس البشري.

كانت الموضوعية والطبيعانية في الرواية سمات إضافية (ومتناقضة في حالة الرواية) لتلك الروح البرجوازية. بلغت تلك النزعة الجمالية وتلك الفلسفة السردية ذروتها مع فلوبير وبلزاك وزولا بصفة خاصة، إلى درجة أنّه بفضلها بلغنا مكانة تتيح لنا معرفة أفكار ورذائل العصر، وحتى نوع المفروشات المعتاد استخدامه أيضاً. وصل الحال مع زولا، الذي تمادى مع هذا التقليد إلى حدّالعبث، إلى إعداد مذكرات عن شخصياته دوّن بها من لون عيونهم إلى أسلوبهم في ارتداء الثياب حسب فصول العام. كما أهدر جوركي، إلى حد ما، مواهبه الرائعة كروائي بامتثاله لتلك النزعة الجمالية البرجوازية (التي أعتقد أنها بروليتارية)، وطالما أكد أنه لوصف حارس أحد المخازن يجب دراسة مئةلانتقاء الملامح المشتركة بينهم، منهج في العلوم، يتيح الحصول على السمات العالمية بإزالة السمات الفردية؛ وهو السبيل إلى الجوهر، وليس إلى الوجود.وإذا كان جوركي قد نجا بصورة شبه مستديمة من كارثة تصوير شخصيات نموذجية مجردة بدلاً من نماذج حية، فكان ذلك رغماً عن جمالياته، وليس من أجلها؛ بدافع من غريزته الروائية، وليس من منطلق فلسفته الحمقاء.

قبل عقود من استسلام جوركي لهذا المفهوم، كان ديستويفسكي قد حطمه وفتح بوابات الأدب المعاصر كلها في “رسائل من تحت الأرض”؛ فلم يتمرد فحسب على سطحية الواقع الموضوعي لدى البرجوازي، بل عندما توغل في الأغوار السحيقة المظلمة للذات، وجد أن حميمية الإنسان لا علاقة لها بالعقل، أو المنطق، أو بالعلم، أو بالتقنية البليغة.

سيشمل هذا التحول نحو الذات العميقة كل الأعمال الأدبية الكبرى اللاحقة: سواء في رحابة أعمال مارسيل بروست أم الأعمال الموضوعية ظاهرياً عند فرانز كافكا.

ومع ذلك، أكد فلاديمير وايدلي في مقاله المعروف أننا نشهد عصر أفول الرواية؛لأن فنان اليوم “عاجز تماماً عن الامتثال للمخيلة الإبداعية”، مهووس كعهده بذاته الشخصية؛ وفيما يختص بكبار الروائيين في القرن التاسع عشر، يقول:”أولئك الكتاب، أمثال بلزاك، صنعوا عالماً، وقدموا مخلوقات حية من الخارج، أما أولئك الروائيون، مثل تولستوي، فقد أعطوا انطباعاً بأنهم الرب ذاته، أما كتّاب القرن العشرين فإنهم عاجزون عن إبراز ذاتهم، واقعون تحت تأثير التنويم المغناطيسي لمآسيهم ومخاوفهم، ومستوحدون للأبد في عالم من الأشباح”.

الحقيقة المستحيلة: قراءة في التحقيق لخوان خوسيه ساير

 

الحقيقة المستحيلة: قراءة في التحقيق لخوان خوسيه ساير

بقلم: م. كاندلاريا دي أولموس فيليز

“من يعبث بالكلمات لن يمتلك سوى الكلمات…”

تزفيتان تودوروف، العمر الصعب، في أجناس الخطاب

1. حبكة

التحقيق

لم تحظَ رواية التحقيق (1994) بالكثير من الاهتمام النقدي، وهي نص غير مألوف في مجمل أعمال ساير. فالإيقاع السردي الوصفي البطيء الذي اعتاد عليه قرّاؤه يفسح هنا المجال أمام متطلبات الرواية البوليسية، وهو جنس لم يتعامل معه الكاتب كثيرًا. حتى لو لم تصل الرواية إلى مستوى إدراجها ضمن “الأمثلة الكلاسيكية” للرواية البوليسية، فإنها على الأقل تستعير عدداً من تقاليدها لتنظيم مادتها السردية.

الفصل الأول يعرض قضية غريبة شغلت باريس لتسعة أشهر: سلسلة جرائم قتل استهدفت نساءً مسنّات يعشن بمفردهن. رغم جهود الشرطة، لم يتمكن مورفان ولا زميله لوتريه من كشف القاتل. في الوقت نفسه، يواجه القارئ مشكلة مماثلة: حتى الفصل الثاني، لا يعرف من يتحدث ومن يروي. هذه الاستراتيجية تجعل القارئ بدوره “محققًا”، يبحث ليس فقط عن القاتل، بل أيضًا عن هوية الراوي ولمن يوجه خطابه.

يتضح في الفصل الثاني أن الراوي هو بيشون، الذي يعود إلى الأرجنتين بعد عشرين عامًا في المنفى، ويقضي مساءً مع أصدقائه توماطيس وسولدي. خلال زيارتهم لابنة الكاتب واشنطن نورييغا، يعثرون على دَكتيلوغرام لرواية مجهولة العنوان في الخيام اليونانية. يبدأ الأصدقاء بالبحث عن هوية مؤلفها وزمن كتابتها.

أما الفصل الثالث فيعود فيه صوت بيشون لاستكمال الحكاية البوليسية: القاتل – وفق روايته – ليس سوى مورفان نفسه. غير أن توماطيس يعيد بناء الأحداث بطريقة مختلفة، تُدين لوتريه. وهكذا ينتهي القارئ أمام حلّين متعارضين، أي بلا حلّ.

باختصار، الرواية ليست سوى محادثة طويلة بين ثلاثة أصدقاء على العشاء، يتنقلون بين لغز الجرائم في باريس ولغز المخطوطة المجهولة. وكلاهما يتعلق بسؤال الهوية: من كتب الرواية؟ من ارتكب الجرائم؟ النتيجة النهائية: الحقيقة تظل احتمالية، مجرّد “نسخ” أو “إصدارات” سردية.

2. شهادة بيشون غاراي

يحاول بيشون أن يثبت أنه “شاهد”، فيصرّح:

لكن “شهادته” تتجاوز موقع الشاهد المحايد، إذ يروي تفاصيل عن أفكار ومشاعر مورفان لا يمكن لشاهد خارجي معرفتها. شهادته ليست نقلاً مباشراً بل مزيجاً من الصحافة والراديو والسينما والأدب. وهكذا، يفشل السرد “التوثيقي” ويذوب في تعدد الروايات. كل “نسخة” تولد أخرى، بحيث يصبح السرد عملية مفتوحة لا تصل إلى حقيقة واحدة.

3. نسخة بيشون: مورفان ولوتريه

يقدم بيشون صورة متناقضة عن الشرطيين:

  • مورفان: شرطي مثالي، حياته الخاصة تعيسة، لكنه عقلاني ومهووس بالحقيقة.
  • لوتريه: أقرب إلى الشرطي الخشن في الرواية البوليسية السوداء، يعتمد على العنف أكثر من المنطق.

كلاهما يمثل نموذجاً من تقاليد الرواية البوليسية (الإنجليزية الكلاسيكية مقابل الأمريكية السوداء). لكنهما في الوقت ذاته وجهان لعملة واحدة، وكل واحد منهما “نسخة” من الآخر.مع ذلك، سرعان ما ينقلب السرد: ربما القاتل هو مورفان نفسه. وربما لوتريه. وفي النهاية، لا أحد يعرف. الحقيقة الشخصية مثل الحقيقة الجنائية: عصية على القبض.

4. انقلاب توماطيس: التلاعب بالنوع البوليسي

يتدخل توماطيس ليقترح رواية أخرى: مورفان لم يكن القاتل، بل لوتريه هو المذنب. هذه “اللا-شهادة” تقوّض الرواية البوليسية التقليدية التي تعد قراءها بحلّ نهائي يعيد النظام للعالم. عند ساير، كل نهاية ليست سوى بداية “نسخة” أخرى. النتيجة: الرواية البوليسية تتفكك من الداخل، وتتحول إلى تأمل في معنى “الخيال” نفسه.

5. الشهادة المستحيلة للجندي العجوز

أما في المخطوطة المجهولة (في الخيام اليونانية)، فنجد ثنائية أخرى:

  • الجندي العجوز: حاضر في الأحداث لكنه لا يعرف شيئًا عنها.
  • الجندي الشاب: لم يشارك لكنه يعرف “الروايات” المتداولة في اليونان.

الأول يملك “تجربة بلا معرفة”، والثاني “معرفة بلا تجربة”. كلاهما يبرز استحالة تقديم شهادة كاملة عن الحقيقة. وما يبقى في النهاية هو الروايات، النسخ المتعددة، أي “الخيال” باعتباره الشكل الوحيد الممكن للمعرفة.

6. الاستنتاجات

تطرح التحقيق بوضوح موضوعًا محوريًا في أعمال ساير: الصراع بين الحقيقة والخيال. الرواية تستخدم “النسخة” (version) بثلاثة مستويات:

  • كتصنيف أدبي (الرواية البوليسية).
  • كأداة بنائية (تعدد الأصوات والحلول).
  • كتصور فلسفي عن الذات والحقيقة.

النتيجة أن البحث عن الحقيقة يظهر كمسعى مستحيل، لكن هذا الاستحالة بالذات هي ما يجعل السرد ممكناً. فـ”الخيال” عند ساير ليس خداعاً بل نوعًا من “الأنثروبولوجيا التأملية”، وسيلة لفهم الإنسان عبر الاحتمالات والفرضيات، لا عبر “الحقيقة المطلقة”.

إرنستو ساباتو: التعليم وأزمات الإنسان

التعليم وأزمات الإنسان

العالم يعاني بشدة من عدم الإيمان بالتزامن مع دوغمائيّة شرسة. أما نظامنا التعليميّ فلا يُستثنى من هذه المعاناة؛ لأنه يعدّ أصل العلّة وتبعاتها في جدلية مؤسفة؛ لأنها لا تظهر فقط في المدارس والجامعات، بل في الشوارع والمصانع والملاعب وداخل كل منزل أيضًا، عبر تلك الشاشات شبه المُشعة التي تبهر وتفتن أرواح الأطفال في الظلام وتخلّ توازنها. ومن ثمّ، لا يمكن للتعليم أن يكون غريبًا على الدراما الكليّة لهذه الحضارة، ولا يمكنه التنصل من الإخفاقات الجوهرية التي تهزّ الروح الكونية لعصرنا وتهدد بانهياره.

حتى في أكثر البلدان تحضرًا، تحوّل الاختطاف والجريمة السياسية إلى أدوات حلّت محل الحوار والعدالة. لا يتوانى فيها المتعصبون والديماغوجيون، الذين كانوا أو ما يزالون على رأس السلطة، عن إجبار المعلمين والأساتذة على استبدال السعي إلى الحقيقة بحقن أيديولوجياتهم الخاصة، وتتويج العقيدة في المكان الذي كان قد ساد فيه التسامح في أزمنة أكثر رخاءً وسعادة. وكما لو أن ذلك كله لم يكن كافيًا؛ إن ظهور التلفزيون ـ أكثر الوسائل التي اختُرعت لتشكيل وتشويه الضمائر شرًّاـ يُسهّل ويُحرّفوسائل للاعتداء والاختطاف والتعذيب. كذلك هي الحال في بلادنا، بوصفها حصيلة مشؤومة لأزمة تحوير الجنس البشري العامة.

ومن ثمّ يُرتكب خطأ فادح لدى محاولة إصلاح التعليم كما لو كان مشكلة تقنيّة بحتة، وليس بوصفه نتيجة متأتيّة من رؤية الإنسان التي تشكل أساساً للفرضيّات المسبقة التي يكرّسها المجتمع لواقعه ومصيره والتي -بشكل أو بآخر- تحدد كيفيّة الحياة والموت، والموقف تجاه السعادة والبؤس. فرضيات ساهم في وضعها الفلاسفة وعلماء اللاهوت، وتلك المعاهد التي تعمّقت من خلال الفن في الحالة الإنسانية، وحرّضت وعالجت بواطنها الأكثر غموضًا. ومن ثمّ، التعليم لا يمارس تجريديًّا، وليس صالحًا لجميع الأزمنة أو الحضارات، إنما يتم على نحو موجّه ومحدد، ويُنفّذ انطلاقًا من مشروع يشمل الإنسان والمجتمع: وعليه إن إسبرطة لا يمكنها اعتماد نظام تعليميّ مماثل لذاك الذي في أثينا، ولا نظام التعليم في البلدان الديمقراطية هو ذاته في تلك الشمولية. وقبل كلّ شيء، تمثل هذه الافتراضات دلالة على ما يُراد من شعب ما ولأيّ غرض يتم تعليمهم؛ إن كان بهدف تنشئة محاربين أو إنسانيين، أو بغرض تخريج جلادين أو بشر يحظون باحترام أقرانهم.كما أنّ أمتنا صاغت بدورها فرضياتها الخاصة فقد أسّسها مفكرون بحجم ألبيردي وسارمينتو بنهج واضح على أسس روحية وسياسية. على أنه لا ينبغي لومهم على الطائفيّة التي دمّرت تعاليمنا في فترة من الفترات. لقد سال نهر من الدماء حول العالم منذ ذلك الحين، ووصلت إلينا أيضًا المذاهب التي حوّلت في يوم من الأيام روسيا وألمانيا إلى جحيم، واقتلعت -مثل موجة المدّ العاتية- كل الخير الذي حققناه. لا، لم تكن المعطيات التي حكمت حياتنا في العقود الماضية -التي تخللتها فترات تسامحٍ قصيرة- هي ذاتها التي تقدّم بها هؤلاء المُؤسّسون، وإنّما -مع الأسف- كانت أخرى ومختلفة تمامًا.

أنا لست بيداغوجيًّا (عالمًا في أصول التدريس) ولا مُتخصّصًا في المجال التعليمي؛ غير أنني، في هذه المرحلة من حياتي، أعدّ نفسي مُتخصّصًا في الآمال واليأس؛ لأنني تَعلّمت شيئًا من الضربات التي تلقيتها، ومن الأخطاء التي ارتكبتها، من تبدّدِ الأوهام؛ أنا جاهل بأشياء لا تحصى، ومساحات شاسعة من التاريخ والجغرافيا مجهولة بالنسبة إلي؛ على أني أعرف وأشعر بأرضي جيدًا، ومصير أطفالي وأحفادي يُؤرقني، ومصير أبناء بلدي، وقبل كل شيء مصير الصغار؛ الذين لا ذنب لهم بأي شيء على الإطلاق، ولا نملك الحق في أن نورّثهم كونًا سوداويًّا. لقد تأملت كثيرًا في كل هذا، ومن خلال بعض التّخيلات غير المكتملة حاولت أن أكتشف شيئًا عن نفسي؛ أي عن أي رجل، لأن قلب الرجل هو قلوب جميع الرجال. لماذا إذاً لا يحق لي أن أدلي ببضع كلمات عن تلك العملية التي تصوغ أرواح الرجال؛ منذ مناغاة الطفولة حتى تلعثم الكِبر؟ آمل أن يساعدني المزيد من الأشخاص الأكْفَاء في إجلاء الشكوك التي تقضّ مضجعي، وتشوش مخيّلتي وأفكاري. هنا -في الوقت الراهن- أعرض مسودّات عن أوجه لشكوكي هذه.

العمى الأحمر.. قصة بعنوان: لقد كنت حلماً لفؤاد الملفوف بقامة الموت

وصفة مرق البامية مشترکة في أفغانستان وإيران، لكن مذاق الواحدة منهما يختلف عن مذاق الأخرى. كنت ضيفة عمي في مدینة هرات عندما أكلت مرق البامية الأفغانية، وقلت لنفسي ربما تختلف البامية الأفغانية عن الإيرانية. حاولت أن أتذكر طعم ما أكلته سابقاً، لكنني لم أستطع. بالنسبة إلى شخص لا يعرف من الطبخ شيئاً، يشبه تذكّر الطعم الجرف في البحر مستعيناً بالملعقة!

ربما كان مذاقه حامضاً أكثر مما اعتدته، أو قوياً أو، على حد علمي، أكثر ملوحةً. مهما كان فلم يكن طعمه يشبه مرق البامية الإيرانية. أخبرت زوجة عمي بذلك، وقلت: «يبدو طعمه مختلفاً». قالت: «إن شاء الله في أثناء إقامتكِ هنا ترتبي لنا الوصفة الخاصة بكم حتى نتعلم!».

هکذا الحال عندما تفتح فمك من دون حكمة، ولم يكن كلامك في محله. في الواقع لم أكن أعرف الطبخ على الإطلاق! كنت دائماً مستهلكة للطعام وليس صانعة له. في ثقافتنا من المستبعد جداً أن تجد امرأة لا تعرف الطبخ! الأمر كما لو كانت تقول إنني لست امرأة! کل هذا كان كفيلاً، بالنسبة إلى زوجة عمي -وهي امرأة تقليدية من عائلة باراكزاي البشتونية الأفغانية، كما أنها لم تحببني أبداً- وسبباً آخر لتعتقد أنني لا أناسب ولدها، وكلّ هذا لعبة أطفال فحسب!

كنت في التاسعة من عمري، أضع كرسياً بطول 20 سنتيمتراً تحت قدمي حتى أتمكن من رؤية داخل القِدر، وكانت والدتي تمسك المغرفة،وتقف أمام الموقد، وتلقي خطاباً مفاده أنَّ للأرز سبعة حزم؛ وعندما تفتح الحزمة الخامسة علينا أن نسكبه في المشخل للضيف، وعندما يصل إلى الحزمة السادسة لن يكون صالحاً للضيافة،لكنه ينفعنا نحن. كان هناك الكثير من الضیوف الذين یتردّدون إلى منزلنا، وكان هناك طهاة يمكنهم صنع الأرز بصورةٍ تليق بالضيوف حتى لا نشقي أنفسنا كثيراً؛ لكن والدتي كانت امرأة لطیفة تحب الكمال، وكانت تعلّمنا هذا الكمال. كنت أفكر؛ كيف يمكنني وضع رأسي في الإناء الساخن کي أرى حبات الأرز؛ حبة، حبة، وأعدّ الحزم السبع تلك. حدقت والدتي في وجهي كما لو كانت تنظر إلى ضفدع ناطق، وقالت: «عليك أن تنظري إليه بشكل كلي».

وقتها كان عليّ أن أدرك أنني لن أتعلم الطبخ أبداً. بالنسبة إلى أمي كان القدر والمكونات،التي في داخله، شيئاً عاماً يمكن رؤيته في لمحة بصر، وبالنسبة إلي كانت دائرة تحتوي من مئة إلى مئتي أو ثلاثمئة حبة أرز. في بداية تدريب الكمال كنت قد سكبت الأرز في المشخل عدة مرات، وقالت والدتي وهي تنظر بصورة عابرة: «الضيف يأكله، نحن نأكله، الكلب لا يأكله!»؛على الرغم من أنَّها لم تعطِ مما أطبخه أياً من الكلاب أو القطط أو حتى الخراف لتأكل أو لا تأكل. «هذه مخلوقات الله أيضاً، فما الذنب الذي فعلته؟»، فتتنهد بحسرة وعمق شديد،وتقول: «يا شجرتي غير المثمرة…!».

أكدت زوجة عمي مراراً وتكراراً أنني دون ثمر يذكر؛ إنما لا تعرف لماذا يجب أن يقع ابنها في حبّ مثل هذه الفتاة الدلوعة، وماذا سيحدث لنا؟! وقد تؤيد والدتي ذلك الكلام بصدق عندما تسمعه، وهو: نعم إنَّها دلوعة وشرسة.

لقد تغلّب الحبُّ عليَّ، أول مرة، عندما كنت مراهقةً، بلا رحمة وعناد، ولم أكن أعرف ماهيته جيداً إلى درجة أنني كنت أقضي كل وقتي في المشاجرة وسوء المزاج! كنت أرغب في ذلك، ولم أكن أرغب فيه، واستطعت أن أرى، من كلّ قلبي، القوةَ تغمرني وتشدّنی بشكل لا إرادي خلفها! بالنسبة إلي، أنا التي تسكن في إيران، وحبيبي في أفغانستان، يرتبط الحب بكلمات خاصة: إدارة الهجرة، الحدود، بطاقة المرور، الطالب الأجنبي، بطاقة الهوية، المذهب… أيّ شيء يمكنه أن يقلل أو يطيل المسافة بيني وبين ابن عمي.

كانت زوجة عمي قد غسلت البامية، التي مثل البامية الإيرانية، ونشرتها في صحيفة، ثم سألتني: «حسناً، وماذا أنتم تفعلون؟!».

قلت: «أوه. إذاً أنتم تجففونه بعد غسله. لا، نحن نسکبه بعد الغسل مباشرة في القِدِر».

إنَّ العثور على غطاء لعدم المعرفة یکون أكثر تعقيداً من الاعتراف بعدم المعرفة نفسها. وكلما انخفض الادعاء أصبح الأمر غير مقبول. زوجة عمي، التي رأت عنادي مرات عديدة، اكتفت بابتسامة ناتجة عن السخرية.

في تلك السنوات، من أجل سعادة أمي وزوجة عمي؛ كنت أسعى لأن أثمر؛ أن أفعل شيئاً تعتقدان أنَّني أستحق به أن أكون امرأة. في الواقع أستحق أن أكون امرأة لفؤاد.

لقد بدأت بكتاب الطبخ الذي كُتِب فيه: مئة جرام من الزبدة، مئتان وخمسون جراماً من شرائح لحم العجل… لكن المذاق ما زال ليس جيداً! تقول أمي: «في بعض الأحيان الأمر عائد إليك». لم أستطع فعل أيّ شيء يُذكر سوى ما ورد في ذلك الكتاب؛ حتى وإن حدث وخبزت كعكة الليمون من الكتاب نفسه، ونجح الأمر؛ إنَّه لاكتشاف مهم في أيام امتحان قبول دخول الجامعة في سنّ السابعة عشرة. يختلف الطهي عن خبز الكعك والمقبلات؛ لا يمكن خبز الحلويات الاستعانة بالعينين. يجب أن يكون حجم المواد ودرجة حرارة الفرن دقيقين.

قلت لزوجة عمي: «موقدك من طراز روسي قديم، ولأنَّ الطقس في روسيا أكثر برودة سيكون اللهیب في هذه المواقد أعلی بكثير. من الجيد شراء موقد جديد من إيران». الأمر كان أسخف من قول إنَّ رأس شعب الطاجيك أكبر من رأس شعب الأفغان؛ لذلك إنَّ نشل القبعات لا ينفع.

قالت زوجة عمي، وهي التي لم تكن امرأة بسيطة: «لكنّ الموقد الروسي أفضل بكثير من الموقد الإيراني».

أنا لست خبيرة في المواقد، لكن كان عليَّ الدفاع عن فكرتي البسيطة، فقلت: «لكن البامية سَتُسحق بسرعة لو غلت كثيراً منذ البداية».

قالت: «حسناً يا فتاة. إذاً سنقلل اللهيب كي لا تغلي بسرعة».

قلت: «لا يمكن ذلك؛ لأنَّ موقدك من صنع الروس».

لقد أصبت الهدف. جاء صوت عمي من الجهة الأخرى: «لقد صنعوا كلّ شيء لنا، وأخذوا كلّ شيء منا. اسمعي الكلام يا صفية».

مع تصاعد نقاشهما، أدركت أنَّهما لن يبقيا في هرات. اليوم، أو غداً، سيذهبان إلی دوشنبه. إذاً، لماذا دوشنبه؟

لقد أشغلت نفسي بأدوات المطبخ الخاصة بهم. كان لدى زوجة عمي رف للبهارات، وكانت قد ألصقت اسم كلٍّ منها علی الزجاجة الخاصة به. شيءٌ مثل الكمون مكتوب على الزجاج الخاص به: «قدم الفتاة»، وشيء مثل الكركم اللامع قليلاً: «روح ليلي»، وأعواد تشبه أعواد القرفة، لكنها حمراء: «نكاره». قفزت في منتصف جدل عمي وزوجته، وقلت: «کم هو جمیل. لكلٍّ من النكهات هنا اسم امرأة. تذهب النساء هنا داخل الطعام ليجعلنَه لذيذاً».

رد عمي: «نعم طعمها کطعم سمّ الحیة…».ووضعت زوجة عمي سلّة بامية أمامي.

لم تكن لدي طريقة أخرى للهروب، فقلت: «علینا فصل خمس وثلاثين حبة بامية من الطول والحجم نفسيهما».

نطقتُ بعدد الخمس والثلاثين هكذا بصورة عفوية وبدافع اليأس. عندما كنت في السابعة عشرة من عمري، كنت أزن حبات حلوی الحمص بعناية، وكنت أعد كلّ خمسٍ وثلاثين حبة، ثم أقوم بتعبئتها في أكياس بلاستيكية معقّمة. وترسل والدتي عبوات الحلوى إلى جميع الأقارب، ثمّ تنقل الأخبار إلى أفغانستان عبر الهاتف. بطبيعة الحال، لم يكن يهمّ فؤاد إطلاقاً ما إذا كنت أخبز الحلوى أو لا، كانت رسائله مليئة بالشوق والحماسة لقراءة الأدب، وبحلمه بتحرير أفغانستان. تبدأ رسائله على هذا النحو:

«لقلبي الوحيد.

الاستبداد لن يدوم طويلاً، وستكون حياته لا حول لها ولا قوة وخجولة أمام ظهور الناس…».

وبعد هاتين الجملتين، یكتب لي وصفاً لِمَا كان يمرّ به ويفعله؛ لكنّني كنت أحاول أن أكون امرأة. بعد عام لن يصنع أحد الحلويات في منزلنا، إلا إذا قام باستشارتي، أو أذهب أنا إلى الفرن وأدواته كي أضبط درجة الحرارة والحجم. كان هذا النجاح نتيجة اهتمامي بالتفاصيل، وحاولت أن أقدّمها بشكل جيد، كما بدت والدتي مقتنعة بأنَّ ابنتها المراهقة، رغم نفاد صبرها وشوقها، تريد أن تكون امرأة، وأن يكون لها زوج.

قلت لزوجة عمّي: «الماء الذي نصبّه في الإناء يجب أن يزن خمساً وثلاثين حبة بامية. تحتاج إلى نصف لتر من الماء».

قالت: «حسناً، كيف لنا أن نزن الماء الآن؟!».

قلت: «باستخدام زجاجة مياه معدنية».

صببت زجاجة مياه معدنية وخمساً وثلاثين حبة بامية في القِدر.

صاح عمي من مسافة بعيدة: «لقد دمّرنا الروس كثيراً، فكيف لهم أن يرسلوا لنا الماء والخبز الآن؟! يا لكم من ملاعين. ما هذا العمل يا تری؟ أين كنتم عندما كنا في النعيم؟!».

عمي مثله مثل جميع رجال الأفغان؛ كان متورطاً في الضغوط الاقتصادية والسياسية، والآن، بعد عشرين عاماً من الوجود السوفييتي، أصبح مؤيداً ومريداً لأحمد شاه مسعود، وكان يصفه بأنَّه بطل قومي، ويخبرنا أنَّ شاه مسعود يأكل خبز الشعير حتى لا يلوث الخبز الأبيض للروس فمه. إنَّه لأمر غريب أن يصدر مثل هذا الاستحسان من عمي، وهو من جذور عائلة إقطاعية! لكن هل تترك الحرب أيّشيء كما هو؟! بدا لي أنَّ الروس كانوا موجودين في سلال الخبز والأواني، وفي مطبخ صفية والعم، والطعام له مذاق كمذاق الحرب! عندما قلت هذا، أجاب عمي: «أنا لا أفهم ما تقولين! لكنني أعلم أنَّ الروس لو استطاعوا لوضعوا البطاطا الروسية فی هذا الطعام حتى تحرق حناجرنا».

عندما تورّم وريد رقبة عمي، كانت البامية الأفغانية تغلي مع صلصة الطماطم الإيرانية في القِدر، ونسيتُ كم جراماً من الملح يجب أن… قلت لزوجة عمي: «كيف تضيفين الملح؟».

رمقتني بنظرة، مع علمها بأنني لا أقصد كيفية التقاط غطاء الإناء ووضع الملح فيه، فقالت: «هنا علينا أن نستعين بالعينين». طريقة أمّي ذاتها! وهو ما لم أكن أعرفه أبداً.

عندما مددنا مائدة الطعام، بدا أنَّ البامية الأفغانية في الصحن الزجاجي قد هُرست وتلاشت. لم أرشّ الملح، ولم تفعل زوجة عمي ذلك أيضاً، فقلت: «عمّاه، هل عرفت أنَّ حجم قارورة المياه المعدنية الروسية لم يبلغ خمسمئة ميللتر، وحجم هذه جميعها سبعمئة ميللتر؟ انظر كيف انهرس طعامي…».

وكأنَّ مائدة الطعام غدت ساحة لكل تاريخ أفغانستان النضالي، دفع عمي الصحن بغضب، وقال: «تباً لهم. انظري أيّ لعبة يلعبونها معنا! إلى متى سيستمر هذا البؤس؟!».

فسكتنا جميعاً، وتناولنا طعاماً مهروساً غير مملّح.

فدائماً ثمّة طريق للهرب؛ إحداها أن تسلط الضوء على أهم الأشياء حتى تقلّل فداحة عدم معرفتك. ومن المؤكد أنَّ الحرب في أفغانستان كانت أكثر أهمية بالنسبة إلى عمّي من مذاق البامية التي أعددتها أنا وزوجة عمي. وبطبيعة الحال، كان عمي أكثر ما يعنيني من بين جميع أولئك الذين كانوا يجلسون حول مائدة الطعام تلك. لم أكن أعرف‌ أيتعيّن أن أكون ممتنةً الآن لشاه مسعود أم للمياه المعدنية الروسية! لكنني وجدت ضالتي، وقررتُ أن أفعل ما أتقنه؛سأقصدُ صباح الغد سوق هرات، وأبتاع عدداً من قوالب المعجنات، وأطحن السميد وأصنع كعكة لذيذة، لذيذة جداً إلى درجة ألا أضطر إلى تبرير ما لا أعرفه منتهزةً تعب الآخرين.

ذهبت وتجولت في السوق الذي مزقته الحرب، وكان ذلك قد حدث عام 2011 م؛ إذ كانت طالبان قد رحلت، وفي الوقت ذاته لم ترحل!وباعتقادي، كان ثمة ثمانية من بين كلّ عشرة رجال يناصرون طالبان. لم أعرف ما إذا كنتُ قد تعرّفت بشكل صحيح أو ما زلت في حالة صدمة من ذلك الطعام! فقد رأيت رجلاً يعتمر قبعة تشبه قبعة شاه مسعود، ويلف إزاراً طالبانياً حول خصره، ورأيت امرأة وشمت ذقنها بأربع نقاط رافعة برقعها، وقد ظهر شقّ صدرها، ورأيتُ طفلاً كان بائعاً في متجر أسلحة وطيور، يلحسُ البوظة… كانت ثمة صور كثيرة متناقضة، لم تدعني أعرف حقاً ما هذا المكان، ولماذا ليس شبيهاً بهرات؟! استمعت إلى كلام أشخاص يتبادلون أطراف الحديث، وبدا الأمر كأنني في مقاطعة ذاتية الحكم في باكستان. باكستان، السعودية، مدن إيران الحدودية… وبدا سوق هرات كأنَّه حالة اختلاط من كلّ شيء يمكن نسبته إلى مدينة مزقتها الحرب في الشرق الأوسط. كانت سُفرة مرقة البامية الخبيصة والقذرة التي أعددتها قد مُدت في السوق، وكنت أبحث عن طريقةٍ لإثبات شرعیتي المفقودة!ابتعتُ الدقيق والبيض من رجل يتكلم لغة البشتو. ولم يكن الميزان الرقمي الألماني معي، ولم يكن أمراً مستبعداً ألا يسعني إنجاز هذا العمل؛ لكنني فكرت في أنَّ البحث عن الميزان هنا، وفي هذه الحالة، ربما سيكون أغبى شيء يمكن القيام به.

رأيت عدداً من الرجال المسلحين في أماكن عدة من المدينة، وبدا زيهم كأنَّ آخر الزمان قد حان، وهمست امرأة في أذني: «قوات الناتو»، كأنَّه لا ينبغي نطق كلمة الناتو بصوت عال! «لا تحدقي فيهم. عندما يشعرون بالخوف يطلقون النار».

كنت أنا والآخرون مثلي نثير الرعب في قلوب هؤلاء المسلحين الذين يرتدون سترات واقية للرصاص. ولم أعرف، بعد أن انتهت الحرب، من بات عدوَّ مَن الآن؟!

لم يكن في هرات شيء يشبه سابقه على الإطلاق؛ سوى العم وبيته. وعندما عدت رأيت عمي جالساً بجانب بساط الأفيون منكباً على تدخينه، فصاح من أعلى المصطبة بفرح: «مرحى مرحى، لقد وصلت طاووس عمها».

اقتربت، فعانقني قائلاً: «لماذا لم أحضنك من قبل؟! لماذا نحلت، وأصبحت تبدين مثل حيوان السمور؟!».

فوضعت كيس التسوق بجانبي، وقلت: «يا عمي، ما هذا بحق الجحيم؟! يبدو أنَّ رائحة طالبان ما تزال تفوح من المدينة برمتها! كان الناس يحتفظون بملامحهم، فكيف أصبحوا يشبهون الباكستانيين؟! إذ كانوا قبل هذا كالإيرانيين!».

فتابع عمي بفرح: «أي نوع من الأزواج لديك؟ الماعز أثقل منك وزناً. لو كنتِ عروسي…».

أسررنا أحدنا للآخر بأمور عدة، وانكب عمي ثانيةً على غليونه، وانحنى على نار بقايا جذور القطن المشرفة على الخمود. وبدا الأمر كما لو كان قبل عشرين عاماً من الآن؛ إذ قفزت في الغرفة، وقلت باكيةً: «عمي. ابنك يقول: لا أريدكِ». كان عمي قد استخدم اسم حيوان كعادته، وقال: لأنَّه بغل! لكنْ، بدلاً من ذلك، أنت كالنمر البنغالي بالنسبة إلي».

فتركته. كان هذا التذكر خارجاً عن طاقتنا جمعياً. وبدأت يداي ترتجفان مرة أخرى. بعد كل هذه السنوات لم آتِ لأسمع كلام ابن عمي!

كان صيف عام 1999… كنت في الثمانية عشرة من عمري، وكان ابن عمي في العشرين من عمره. وكان قد كتب في رسالته عن شولوخوف، قائلاً: «إنَّهم يجمعون، خلال هذه الأيام، الروايات من مكتبة جامعة كابل»، فكتبت إليه رداً: «الفوضى تعم طهران، والأوضاع متأججة. لقد طردونا جميعاً من السكن الجامعي، وقالوا لنا اذهبوا إلى بلادكم حتى إشعار آخر».

ثم انقطعت أخبارنا عن بعض. لم يردّ أحد على اتصالاتي. كنت قد كتبت ثلاث رسائل ولم أتلقَّ رداً عليها! كان امتحان الطلاب الأجانب يقترب، وكان يتعين على ابن عمي المجيء إلى إيران؛ كنا نحب بعضنا مثل طفلين على جانبي حدود رسمها الآخرون، فاعتقدت، عندما يأتي، أنَّعمي أو أبي سيأخذان لنا منزلاً، ونتزوج، وتنتهي الحكاية؛ لكن بقي هذا الأمر مجرد أحلام تراود عمر الثمانية عشرة. وفي أغسطس من العام نفسه، اتصل أحدهم، وأطلعنا على خبر مقتل ابن عمي! قالوا إنَّ هجوماً قد شُن، فكُسرت عنقه، وتلقى طعنة في صدره، وفُتِح وريده. لقد قُطعت أوصال حبيبي النحيف الأبيض بهيّ الطلعة! كنت ناضجة إلى درجة تكفي لأقع في الحب؛ لكنني كنت أصغر حيال إدراك حقيقة الموت. كانت ذروة هجوم طالبان وصراعهم مع المجاهدين؛ فلم أستطع الوصول إلى أفغانستان. كانت طالبان قد هجمت، وكان حلفاء فؤاد من المجاهدين اليساريين قد كشفوا عن اسمه، وأفشوا كل عمليات اليساريين؛ لكن لم يتضح من الذي قتله. وهل ثمة فرق في ذلك؟!

مكثت في إيران، وكنتُ أنظر إلى الحدود من الجبال. أمسك التراب بقبضة يدي، وأضرب الأرض بها، وأبكي على جسد حبيبي الشاب. كنت قد أصبحت هرمة بسبب المعاناة، كهلة للغاية… وبدأ ارتعاش يدي منذ ذلك الوقت.

لم يعرف أصدقائي في طهران أيّ شيء عن ألمٍ في سن الثامنة عشرة، لم يعرفوا شيئاً عني على الإطلاق! إذ كنت واحدة منهم ببطاقة هويتي والبطاقة الوطنية الإيرانية، ولم أخض في مغامرات الحرم الجامعي والحركة الطلابية. لم أذهب إلى طهران، ولم يسعني الذهاب إلى منزل عمي. انهار تمثال بوذا في باميان، وبثّت التلفزيونات الإيرانية والعالمية صوراً مرات عدة؛لكني كنتُ أستمتع بصورة واحدة فحسب.

كان ثمة شخص بحجم حبة الحمص أمام تمثالي باميان قد قُتِلَ قبل سقوطه. تباً لباميان! تباً لتراث الأرض! ولم يرَ أحد معاناتي! كان التلفزيون يبث مشهداً لدخان يتصاعد من تمثالي بوذا. كنتُ قد تقوضتُ قبل بوذا، كنت عروساً حزينة لم يكتمل زفافها، ولم يسعني البوح لأحد بهذه المعاناة.

لا ينبغي لعمي أن يتحدث عن آلامنا المشتركة! كانت قد مرت سنوات، وتزوجت، ورُزقت بطفل، وها أنا أمارس لعبة الطعام والحلويات. كان ثمة شيء يمسك خناقي؛ تذكرتُ والدي عندما جمع صور ابن عمي وأضرم النيران فيها. هل أتذكر الطبيب النفسي الذي سألني: هل قبلته؟ هل رأيتِ جثمانه؟ أتذكر المعلم الذي كان يقول: هذه هي الحرب وتداعياتها. وحينما صرخت بشكل لا إرادي في الصف، ولم أخبر زملائي عن ألمي؛ذكرني عمي بأنّني كنت عروساً لم يكتمل زفافها، ثم عاد وانكب ثانيةً على أدوات تدخين الأفيون.

نهضت وذهبت إلى المطبخ أحمل أكياس التسوق. كان ظهر صفية محنياً تغسل الأطباق، منكمشة كما لو كانت تعاني آلام الظهر.

قلت: «لم أحسن طبخ البامية. أريد أن أصنع كعكة».

فالتفتت نحوي، وكانت نظراتها مفعمة بالألم، كما لو أنَّها كانت تبكي؛ فخلتها بالتأكيد قد سمعت حديث العم، فقلت: «هل أنت بخير ‌يا زوجة عمي؟».

فأجابت: «ماذا تحتاجين حتى أحضره لكِ؟».

فهمت أنَّها لا تريد أن تتحدث، فقلت: «الفرن الخاص بالكعك فقط».

فنکست رأسها، وتابعت غسل الأطباق، وكأنَّها لم تسمعني. لم تكن على ما يرام، وكنتُ -أنا التي تتفوه بالترهات- مدينةً لها بشدة! فاقتربت منها، وأخذت الطبق من يدها، وقلت: «لا بأس يا زوجة عمي. بصراحة أنا لا أجيد الطبخ على الإطلاق. لقد قلت هذا يوم أمس لأجعل عمي سعيداً فحسب».

فجأة، أفلتت صفية الطبق، وصفعتني على وجهي بيدها المبللة… أبرد صفعة في العالم!

لا أعلم كم سنةً يلزمني حتى يسعني نسيان صوت الصفعة! لا أعرف لماذا صُفعت، وخجلت جراء تلك الصفعة أيضاً.

وقالت: «بعد مرور عام تأتين من إيران كي تجدّدي حزننا، وتطبخي لنا؟».

وعدت مجدداً إلى وقت موت ابن عمي، وصوت عمي الذي كان يصيح في الهاتف: «حمامة كابل الدامية…».

تكررت جملة عمي في رأسي، وصفعة صفية التي أدارت رأسي بالكامل. لا، ليس ثمة مذاق يمكنه أن ينقذ عائلتنا المدمرة. كنتُ أشعر بوجود مذاق كالسم، وذلك حينما مات حبيبي، وأطرقتُ رأسي، ونزلت إلى الطابق السفلي لأطبخ مرة أخرى، كي أكون محطّ قبول أولئك الذين عملت بجد لأظفر باستحسانهم. والآن أصبحت عاجزة من حبٍّ يرقد حبيبه في المقبرة!

قالت صفية: «سنذهب إلی مدینة دوشنبه حتى يأخذ عمك بثأر ابنه. جنسكم مصنوع من الحقد.جئت به من كابل إلى هرات كي ينسی، لكنه لم يفعل. يقول أنا من قتلت ولدي».

وجلست على أرضية المطبخ، وشرعت بالنحيب.

لم أكن أعرف كيف سينتقم عمي المدمن على الأفيون والضعيف، وممّن سينتقم؟! إذ لم يُعثر على قاتل ابن عمي إطلاقاً، وكانوا قد حملوا إحدى يديه من جثته الممثَّل بها كعلامة على الحقد، اليد نفسها التي كانت تكتب لي كل تلك الرسائل الغرامية، اليد التي أمسكت بيدي، ووعدتني بألا تتركني أبداً.

تعالى صوت عمي المنتشي والملازم لسفرة تدخين الأفيون، وهو يغنّي أغنية لأحمد ظاهر، وأخذت صفية، التي كانت تجلس على أرضية المطبخ، تمسح وجهها براحتي يدها الملطختين برغوة الصابون. مرت خمسة عشر عاماً، ومازلتُ أتألم كأنني أنا المذنبة!

يمكن لمثل هذه المعاناة أن تجعل الإنسان بائساً، وبدا الأمر كما لو أنّني من حركة طالبان، أو شيوعية، أو من المجاهدين. كنتُ قاتلة؛ لأنني أنا الضحية، وبقيت على قيد الحياة. ربما لم تكرهني صفية من صميم قلبها، لكني نكأت جراحهم مجدداً بحضوري وإصراري على إظهار ما حدث كأنَّه أمر طبيعي! استحققتُ تلك الصفعة؛ حيث أردت أن أقول إننا ما زلنا سعداء. تزوجتُ من رجل آخر، وسقطت طالبان، وها هم يرممون تمثالي بوذا من جديد… كان من الجيد لو يهدأ عقلي قليلاً. إذاً، لمَ يعيدون بناء معاناتنا؟! هل يمكن إعادة بناء يديّ فؤاد وجسده أيضاً؟!

مددتُ يدي نحوها: «انهضي يا زوجة عمي».

فدفعتني، فأمسكت بكتفها بإلحاح، لكنها صرخت، وأخذت تئنّ بصوتٍ عالٍ من الألم! فسحبتُ يدي برعب، وانزاحت ياقتها المفتوحة. كانت مؤخرة عنقها مجروحةً، وبدت لي الجروح في أماكن عدة قديمة، وفي أخرى جديدة وملتهبة. كان اللحم قد برز من تحت الجلد مثل القروح… فتمتمت: «أخخ..»، ثم أبعدتُ يدي.

كان مكان الحرق ناجماً عن سفود المنقل، ولم يغفر عمي لصفية إرسال ابنها إلى كابل للدراسة؛ ابنها الذي عاد جثماناً هامداً. وفي كل مرة كان يعتريه الحزن جراء ألم التذكر. كانت صفية، المكلومة والمحروقة والحزينة جراء الألم الذي كانت بريئة منه، تُعذَّب. لم لا تصفعني بالقدر ذاته الذي كنت أبدي فيه فرحاً مصطنعاً وكاذباً؟!

لم تنتهِ الحرب؛ لكنني لم أرَ عمي إلى حين موته! إذ كنت أبحث بروحٍ مكلومة عن يدٍ تمنّعت المقبرة عن استقبالها، يدٍ أرادت أن تكون كاتبة، وخرجت الآن من كمي. لم أكن أنا نفسي منذ الثامنة عشرة من عمري، بل كنت حلم فؤاد الملفوف بقامة الموت!

ما بعد الظلم والكبت هل يمكننا تحليل الرأسمالية نفسياً؟

ما بعد الظلم والكبت التحليل النفسي للرأسمالية

هل يمكننا تحليل الرأسمالية نفسياً؟

ربما لو طُرح هذا السؤال على فرويد في حدّ ذاته لعبّر عن شكوكه في إيجاد إجابة عنه؛ لأنّه تساءل في خاتمة كتابه؛ الذي عنونه الحضارة وسخطها، عمّا إذا كان بإمكان المرء إجراء تحليل نفسي للمجتمع بأسره، وخَلصَ إلى أنّه لا يستطيع القيام بذلك. والمشكلة، حسب رأيه، ليست معضلة عملية؛ لكن على الرغم من أنّه لا يمكن للمرء أن يعرض مجتمعاً بأكمله، أو نظاماً اقتصادياً بأسره، لسلسلة من جلسات التحليل النفسي، فإنّ كلّ نظام اجتماعي وكلّنظام اقتصادي يعبّر عن نفسه من خلال المفاصل التي تخون أصداءه النفسية. ويمكننا تحليل هذه المفاصل من منظور النظرية التحليلية النفسية؛ فالعائق، الذي يقف عقبة أمام إنجاز أيّ تحليل نفسي للمجتمع، بالنسبة إلى فرويد،هو عائق نظري؛ إذ لا يستطيع المحلّل النفسي إدانة مجتمع بأكمله على أنّه عصابي، على سبيل المثال؛ لأنّ هذا التشخيص يعتمد على مستوى الحياة الطبيعية السليمة للمجتمعات، التي يمكن من خلالها تمييز المجتمع العصابي،لكنّ المفارقة التي تكمن في هذا الاستنتاج، وما يثير السخرية فيه، هما كونها واردة في كتاب يقوم بالتحليل النفسي للنظام الاجتماعي على هذا النحو، ولا بدّ أنّ هذه النقطة قد فاتت فرويد. إنّه قادر على أداء هذا العمل لأنّه لا يوجد نظام اجتماعي متكامل ومتطابق تماماً؛ فبدلاً من الاكتفاء الذاتي، ومن ثَمَّ عدم التعرّض للتحليل النقدي، يفتح كل مجتمع مساحة خارج نفسه يمكن للمرء، من خلالها، تحليله وإصدار حكم عليه. وينطبق الشيء نفسه على الرأسمالية باعتبارها بنية اجتماعية واقتصادية؛ إذ يوجد فضاء يسمح بالقيام بالتحليل النفسي للرأسمالية في خضم عدم اكتمال النظام الرأسمالي.

وإذا قبلنا الحكم بأنّه لا يمكننا القيام بالتحليل النفسي للرأسمالية بوصفها نظاماً اجتماعياًاقتصادياً؛ فإنّنا سنوافق ضمنياً على الحجج التي يتبناها المدافعون عن الرأسمالية؛ حيث يدّعي المدافعون عن هذا النظام أنّ الرأسمالية هي وظيفة للطبيعة البشرية، وأنّ هناك تداخلاًمثالياً بين الرأسمالية والطبيعة البشرية. ومن ثَمَّلا يوجد مكان يمكن للمرء من خلاله أن ينتقدها.

ومن هذا المنظور؛ إنّ أي نقد تأسيسي سيكون بطبيعته خيالياً وطوباوياً، لكنّ اشتغال الرأسمالية يعتمد بالضرورة؛ أكثر بكثير من الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية الأخرى، على عدم اكتمالها وعلى انفتاحها على الخارج. ويمكن للمرء القيام بتحليل نفسي للرأسمالية؛على الرغم من وجود تلك الفجوات التي ينتجها هذا النظام في حدّ ذاته وما يعتمده لتجاوز تلك الفجوات، إلا أنّ ممارسة التحليل النفسي لم تكن دائماً مساوية لهذه المهمّة.

يربط العديد من منتقدي الرأسمالية التحليل النفسي بالرأسمالية؛ إنّه يعمل، وفقاً لهذا النقد،كأحد الخَدَمِ الأيديولوجية للرأسمالية، وله تأثير يدعم المنشقّين المحتملين، ويحوّل الذواتالمتمرّدة إلى ذوات أكثر سكوناً. وهذا الفهم المتحامل للتحليل النفسي ليس غير مبرّر تماماً؛فأثناء ممارسته (خاصة في مناطق العالم الأكثر التزاماً بالرأسمالية مثل الولايات المتّحدةالأمريكية) أدى التحليل النفسي بالتأكيد دوراًفي تعزيز طاعة مرضاه وتدجينهم بدلاً من إلغاء شغفهم الثوري؛ لكنّ الحكم على ممارسة التحليل النفسي هو أمر متقلّب بالتأكيد.

لقد أدت نظرية التحليل النفسي دوراً رئيساً في نقد النظام الرأسمالي؛ على الرغم من أنّها لم تؤدِّ أبداً الدور الحاسم فيه.

ومعظم محاولات فهم كيفية اشتغال الرأسمالية ركّزت اهتمامها على بنيتها الاقتصادية أو على الآثار الاجتماعية التي تنتجها؛ لكن على الرغم من أهمّية هذه المقاربات، تغفل بالضرورة التركيز على المصدر الأساسي لقوّة بقاء الرأسمالية. وتنبع مرونة الرأسمالية، بوصفها شكلاً اقتصادياً أو اجتماعياً، من علاقتها بالجانب النفساني وكيفية ارتباط الأشخاص برضاهم النفسي. وهذا هو السبب الذي يجعل التحليل النفسي ضرورياً لفهم جاذبية الرأسمالية وإغراءاتها.

إنّ التحليل النفسي يبحث في مسألة رضا الأشخاص، ويحاول أن يفهم السبب الذي يجعل هذا الرضا يتّخذ الأشكال التي يتمظهر عليها،وهو بذلك لا يحوّل عدم الرضا إلى رضا، لكنّه يحلّل السبب الذي يجعل بعض الهياكل توفّر الرضا على الرغم من المظاهر السطحية. وبهذا المعنى؛ إنّه يمثّل طريقة جديدة لمقاربة الرأسمالية وفهم قوّتها الدائمة.

وأن نقوم بتحليل نظام ما نفسياً يستدعي بالطبيعة انتقاده؛ لكنّ الجهود السابقة في ترتيب تحليل نفسي معدٍّ لنقد الرأسمالية كانت باستمرار تضع التحليل النفسي في مكانة ثانوية، وكان النقد هو من يحتلّ مكانة أساسية، وعمل النقّاد على توظيف التحليل النفسي لخدمة النقد.

إنّ ما سأقوم به في ثنايا الفصول القادمة من هذا الكتاب هو العكس تماماً؛ حيث سيبقى التحليل النفسي للرأسمالية المحرّك الرئيس للتحليل، وإذا طفا على السطح أيّ نقد للرأسمالية، انطلاقاً من هذا التحليل النفسي؛فلن يكون أبداً القوّة الدافعة لهذا التحليل. وبطبيعة الحال، لا أحد بوسعه أن يكون محلّلاً محايداً للرأسمالية؛ لكنّني أزعم أنّ انغماس المرء داخل هيكلها وضمن إغوائها النفسي لا بد أن يكون بمنزلة التمهيد لأي نقد أو دفاع فعّال عن هذا النظام.

‎لغز البيت الأحمر.. ‎جريمة قتل، إطلاق نار، جثة، ومشتبه مفقود.. فهل تعتقد أنك ستكتشف القاتل قبلهم..

لغز البيت الأحمر رواية خفيفة، ساحرة، وذكية، سيتمكن القارئ إلى حد كبيرمن فك غموضها مبكرًا، من الواضح من إيقاع الرواية أن ميلن استمتع كثيرًاأثناء كتابتها. الإهداء في بدايتها موجّه إلى والده، الذي كان من محبي رواياتالغموض.

البيت الأحمر الذي تدور فيه أحداث الغموض يخص مارك أبلت، رجل مستقلماديًا، كان في السابق يكتب للصحف، ولكنه ومنذ أن ورث ثروة مناسبة منراعية عانس، بات يكتب ما يشاء دون أجر. يستضيف أصدقاءه باستمرار فيمنزله، ويُبقي سيطرته على سير الأمور من خلال تنظيم الأنشطة وتوجيهضيوفه إلى كيفية قضاء وقتهم.

يعيش معه ابن عمه ماثيو كايلي، ويعمل كسكرتير له. في طفولته، تكفّل ماركبتعليمه، ثم وظّفه لاحقًا للاهتمام بشؤونه المالية والإدارية.

أثناء وقوع الجريمة، كان مارك يستضيف ضيوفًا متنوعين: ضابطًا متقاعدًا، ممثلة، أرملة وابنتها، وشابًا من الطبقة الراقية يُدعى بيل بيفرلي، الذي كتبإلى صديق له كان يمر صدفة بالمنطقة، ودعاه لزيارته في البيت الأحمرتمامًا عند بدء الغموض.

توني غيلينغهام هو رجل لا يلتزم بمهنة واحدة لفترة طويلة، لكنه دائمًا يخرجسالمًا. عند وصوله إلى البيت الأحمر، كان يفكر في ماهية وظيفته القادمة. يلتقي بكايلي وهو يطرق بجنون على أحد الأبواب داخل المنزل، فيتدخل تونيعلى الفور.

قبل هذا المشهد بقليل، عاد الأخ الأكبر لمارك، روبرت أبلت، من أستراليا للقاءشقيقه. يعرف عنه من لم يسبق لهم رؤيته أنه شخصية غير موثوقة، دائمًا فيمشاكل مالية، وقد أُرسل إلى أستراليا لأسباب غامضة.

عندما يتمكن كايلي وغيلينغهام من دخول الغرفة، يعثران على جثة رجل، مصاببرصاصة في جبهته، ويؤكد كايلي أن القتيل هو روبرت أبلت. لا أثر لمارك. عندها، يقرر غيلينغهام أن يتقمص دور المحقق الهاوي، ويصبح بيفرلي هوواتسونلمحققناهولمز”.

وبين التقلبات والمنعطفات غير المتوقعة، تتكشف حقيقة ما حدث داخل المنزل. كلالعناصر موجودة: رجل مجهول يدّعي أنه الأخ العائد، شجار مسموع، طلقة، اختفاء مارك، وتواجد كايلي في لحظات محورية. ومع ذلك، هناك شعور بأنميلن كان يؤلف القصة بحرية أثناء سيرها، ويعكس هذا مرونة أسلوبه وجاذبيةشخصيتي غيلينغهام وبيفرلي.

بيفرلي بالتحديد يبدو مزيجًا بين بيرتي ووستر وجون واتسون. حماسيّ ومندفعلخوض غمار الغموض، لكنه بين الحين والآخر يتذكر أن الشخص المتورط قديكون صديقًا. أما غيلينغهام، الأكبر سنًا والأكثر خبرة، فهو الشخصيةالمهيمنة، ويظهر بيفرلي حرصه على نيل إعجابه.

عندما يُكشف الستار عن الحقيقة، تبدو الحبكة متكلفة إلى حد ما، كما أنالشرطة أغفلت مسارات تحقيق واضحة، مفضّلة القفز مباشرة إلى استنتاجسريع. لكن لغز البيت الأحمر تندرج ضمن أسلوبالعصر الذهبي للجريمة”، لذا يُتوقع منها شيء من اللامعقول.

النهاية توحي بأن ميلن ربما كان ينوي كتابة مغامرات أخرى لغيلينغهاموبيفرلي كمحققين هاويين. لكن بدلًا من ذلك، كتب رواية مستوحاة من زواجه(Two People، 1931)، ثم رواية جريمة كوميدية (Four Days’ Wonder، 1933)، ثم كوميديا اجتماعية (Chloe Marr، 1946).