Blog
إرنستو ساباتو: التعليم وأزمات الإنسان

التعليم وأزمات الإنسان
العالم يعاني بشدة من عدم الإيمان بالتزامن مع دوغمائيّة شرسة. أما نظامنا التعليميّ فلا يُستثنى من هذه المعاناة؛ لأنه يعدّ أصل العلّة وتبعاتها في جدلية مؤسفة؛ لأنها لا تظهر فقط في المدارس والجامعات، بل في الشوارع والمصانع والملاعب وداخل كل منزل أيضًا، عبر تلك الشاشات شبه المُشعة التي تبهر وتفتن أرواح الأطفال في الظلام وتخلّ توازنها. ومن ثمّ، لا يمكن للتعليم أن يكون غريبًا على الدراما الكليّة لهذه الحضارة، ولا يمكنه التنصل من الإخفاقات الجوهرية التي تهزّ الروح الكونية لعصرنا وتهدد بانهياره.
حتى في أكثر البلدان تحضرًا، تحوّل الاختطاف والجريمة السياسية إلى أدوات حلّت محل الحوار والعدالة. لا يتوانى فيها المتعصبون والديماغوجيون، الذين كانوا أو ما يزالون على رأس السلطة، عن إجبار المعلمين والأساتذة على استبدال السعي إلى الحقيقة بحقن أيديولوجياتهم الخاصة، وتتويج العقيدة في المكان الذي كان قد ساد فيه التسامح في أزمنة أكثر رخاءً وسعادة. وكما لو أن ذلك كله لم يكن كافيًا؛ إن ظهور التلفزيون ـ أكثر الوسائل التي اختُرعت لتشكيل وتشويه الضمائر شرًّاـ يُسهّل ويُحرّفوسائل للاعتداء والاختطاف والتعذيب. كذلك هي الحال في بلادنا، بوصفها حصيلة مشؤومة لأزمة تحوير الجنس البشري العامة.
ومن ثمّ يُرتكب خطأ فادح لدى محاولة إصلاح التعليم كما لو كان مشكلة تقنيّة بحتة، وليس بوصفه نتيجة متأتيّة من رؤية الإنسان التي تشكل أساساً للفرضيّات المسبقة التي يكرّسها المجتمع لواقعه ومصيره والتي -بشكل أو بآخر- تحدد كيفيّة الحياة والموت، والموقف تجاه السعادة والبؤس. فرضيات ساهم في وضعها الفلاسفة وعلماء اللاهوت، وتلك المعاهد التي تعمّقت من خلال الفن في الحالة الإنسانية، وحرّضت وعالجت بواطنها الأكثر غموضًا. ومن ثمّ، التعليم لا يمارس تجريديًّا، وليس صالحًا لجميع الأزمنة أو الحضارات، إنما يتم على نحو موجّه ومحدد، ويُنفّذ انطلاقًا من مشروع يشمل الإنسان والمجتمع: وعليه إن إسبرطة لا يمكنها اعتماد نظام تعليميّ مماثل لذاك الذي في أثينا، ولا نظام التعليم في البلدان الديمقراطية هو ذاته في تلك الشمولية. وقبل كلّ شيء، تمثل هذه الافتراضات دلالة على ما يُراد من شعب ما ولأيّ غرض يتم تعليمهم؛ إن كان بهدف تنشئة محاربين أو إنسانيين، أو بغرض تخريج جلادين أو بشر يحظون باحترام أقرانهم.كما أنّ أمتنا صاغت بدورها فرضياتها الخاصة فقد أسّسها مفكرون بحجم ألبيردي وسارمينتو بنهج واضح على أسس روحية وسياسية. على أنه لا ينبغي لومهم على الطائفيّة التي دمّرت تعاليمنا في فترة من الفترات. لقد سال نهر من الدماء حول العالم منذ ذلك الحين، ووصلت إلينا أيضًا المذاهب التي حوّلت في يوم من الأيام روسيا وألمانيا إلى جحيم، واقتلعت -مثل موجة المدّ العاتية- كل الخير الذي حققناه. لا، لم تكن المعطيات التي حكمت حياتنا في العقود الماضية -التي تخللتها فترات تسامحٍ قصيرة- هي ذاتها التي تقدّم بها هؤلاء المُؤسّسون، وإنّما -مع الأسف- كانت أخرى ومختلفة تمامًا.
أنا لست بيداغوجيًّا (عالمًا في أصول التدريس) ولا مُتخصّصًا في المجال التعليمي؛ غير أنني، في هذه المرحلة من حياتي، أعدّ نفسي مُتخصّصًا في الآمال واليأس؛ لأنني تَعلّمت شيئًا من الضربات التي تلقيتها، ومن الأخطاء التي ارتكبتها، من تبدّدِ الأوهام؛ أنا جاهل بأشياء لا تحصى، ومساحات شاسعة من التاريخ والجغرافيا مجهولة بالنسبة إلي؛ على أني أعرف وأشعر بأرضي جيدًا، ومصير أطفالي وأحفادي يُؤرقني، ومصير أبناء بلدي، وقبل كل شيء مصير الصغار؛ الذين لا ذنب لهم بأي شيء على الإطلاق، ولا نملك الحق في أن نورّثهم كونًا سوداويًّا. لقد تأملت كثيرًا في كل هذا، ومن خلال بعض التّخيلات غير المكتملة حاولت أن أكتشف شيئًا عن نفسي؛ أي عن أي رجل، لأن قلب الرجل هو قلوب جميع الرجال. لماذا إذاً لا يحق لي أن أدلي ببضع كلمات عن تلك العملية التي تصوغ أرواح الرجال؛ منذ مناغاة الطفولة حتى تلعثم الكِبر؟ آمل أن يساعدني المزيد من الأشخاص الأكْفَاء في إجلاء الشكوك التي تقضّ مضجعي، وتشوش مخيّلتي وأفكاري. هنا -في الوقت الراهن- أعرض مسودّات عن أوجه لشكوكي هذه.