المدونة, موضوعات متنوعة

إرنستو ساباتو يتساءل: هل هي أزمة الفن أم فن الأزمة؟

هل هي أزمة الفن أم فن الأزمة؟

تحدث في هذه اللحظة الفارقة من التاريخ ظاهرة شديدة الغرابة: يُتهم الفن بأنّه يعاني من أزمة، وبأنه تجرد من إنسانيته، وبأنه نسف كل الجسور التي تربطه بعالم الإنسان. في حين أن الأمر على عكس ذلك تماماً، فإن ما يعدّ فناً في أزمة هو، بعبارة أكثر دقة، فن الأزمة، ولكن ما حدث أنّ الأمر نشأ نتيجة مغالطة. يرى أورتيجا، على سبيل المثال، أن تجريد الفن من إنسانيته مثبت كنتيجة الانفصال القائم بين الفنان وجمهوره. من دون أن يدرك أن الأمر قد يكون عكس ذلك تماماً؛ أن الجمهور وليس الفنان هو من تجرّد من إنسانيته. من الواضح أن الإنسانية شيء والجماهير العريضة شيء آخر مختلف تماماً؛ تلك المجموعة من الكائنات التي تخلت عن كونها بشراً لكي تتحول إلى أشياء مصنوعة بصورة متكررة، مقولبة وفقاً لتعليم نمطي، معلبة داخل مصانع ومكاتب، يُرجُّون يومياً على الإيقاع الموحد للأخبار التي تبثها محطات إلكترونية منحرفة ومكبلة بوساطة صناعة القصص المصورة والمسلسلات الإذاعية وعناوين الصحف والتماثيل التذكارية في البازارات. في حين أنّ الفنان هو الوحيد بامتياز، الذي استطاع للمفارقة الاحتفاظ بأروع خصال الجنس البشري، بفضل عدم مقدرته على التكيف، وبفضل تمرده، وجنونه. ما أهمية أن يبالغ أحياناً، ويقطع إحدى أذنيه؟ سيظل مع ذلك أكثر قرباً للإنسان الحقيقي من كاتب رصين في أرشيف وزارة. صحيح أن الفنان، المحاصر واليائس، ينتهي به الأمر بالفرار إلى أفريقيا، إلى فراديس الكحول أو المورفين، وإلى الموت ذاته؛ فهل كلّ هذا يدل على أنه هو الذي تجرد من إنسانيته؟

“إذا اعتلت حياتنا أحياناً (كتب جوجان إلى ستريندبرغ) فإن فننا يجب أن يكون كذلك أيضاً؛ وبوسعنا استعادة عافيته بالبدء من جديد، سواء كأبرياء أمكمتوحشين… تكمن علتكم في حضارتكم”.

ليس الفن سبب الأزمة بل المفهوم البرجوازي المتداعي “للواقع”، الاعتقاد الساذج في الواقع الخارجي. يُعدّ ضرباً من العبث الحكم على لوحة لفان جوخ وفقاً لذلك المنظور. في حين أنه بالرغم من حدوث ذلك (وبصورة متكررة!) لا يمكن استنتاج سوى ما يستنتج: أنّ اللوحات تصوّر نوعاً من اللاواقعية، وشخصيات وأشياء تنتمي إلى بقعة شبحية، نتاج مخيلة شخص ذهبت المعاناة والعزلة بعقله.

يقدم فنّ كلّ عصر رؤية للعالم، ومفهوم تلك الحقبة للواقع الحقيقي، ويستند ذلك المفهوم، وتلك الرؤية، إلى ميتافيزيقا وروح خاصة بها. بالنسبة إلى المصريين، على سبيل المثال، الذين اهتموا بحياة الخلود، لم يكن من الممكن أن يمثل هذا العالم الفاني ما هو حقيقي فعلياً؛ ومن هنا جاءت قداسة تماثيلهم الضخمة، وهندسيتها التي تعد دليلاً على الخلود، مع التجرد لأقصى مدى من العناصر الطبيعانية والفانية؛ هندسية تخضع لمفهوم عميق، وليست كما اعتقد البعض بصورة سطحية تنم عن قصور تشكيلي، لأنهم كانوا طبيعانيين بمنتهى الدقة حين نحتوا أو رسموا عبيداً بلا قيمة. عندما ننتقل إلى حضارة دنيوية مثل حضارة بركليس اليونانية، تقدم الفنون أعمالاً طبيعية، إلى درجة أنّ الآلهة ذاتها تصوّرعلى هيئة “واقعية”، ومن ثم، فإنه بالنسبة إلى هذا النمط من الثقافة الفانية، المعنية بصورة أساسية بالحياة الدنيا، الواقعُ الأساسي والواقعُ”الحقيقي” هو العالم الأرضي. يظهر من جديد مصاحباً للمسيحية، وللأسباب نفسها، فنٌّ مقدس مغاير للفضاء الذي يحتوينا والزمن الذي نحياه. ومع اقتحام الحضارة البرجوازية، ومع طبقة من المنتفعين، لا تعتقد إلا في هذا العالم وقيمه المادية فحسب، يعود الفن للطبيعانية من جديد. ونشهد الآن مع أفولها ردّ فعل الفنانين العنيف ضد الحضارة البرجوازية ورؤيتها المثالية للعالم. تكشف بتعصب وعدم اتساق، في كثير من الأحيان، أنّ ذلك المفهوم عن الواقع وصل إلى نهايته، ولم يعد يعبّر عن الهواجس العميقة لدى الجنس البشري.

كانت الموضوعية والطبيعانية في الرواية سمات إضافية (ومتناقضة في حالة الرواية) لتلك الروح البرجوازية. بلغت تلك النزعة الجمالية وتلك الفلسفة السردية ذروتها مع فلوبير وبلزاك وزولا بصفة خاصة، إلى درجة أنّه بفضلها بلغنا مكانة تتيح لنا معرفة أفكار ورذائل العصر، وحتى نوع المفروشات المعتاد استخدامه أيضاً. وصل الحال مع زولا، الذي تمادى مع هذا التقليد إلى حدّالعبث، إلى إعداد مذكرات عن شخصياته دوّن بها من لون عيونهم إلى أسلوبهم في ارتداء الثياب حسب فصول العام. كما أهدر جوركي، إلى حد ما، مواهبه الرائعة كروائي بامتثاله لتلك النزعة الجمالية البرجوازية (التي أعتقد أنها بروليتارية)، وطالما أكد أنه لوصف حارس أحد المخازن يجب دراسة مئةلانتقاء الملامح المشتركة بينهم، منهج في العلوم، يتيح الحصول على السمات العالمية بإزالة السمات الفردية؛ وهو السبيل إلى الجوهر، وليس إلى الوجود.وإذا كان جوركي قد نجا بصورة شبه مستديمة من كارثة تصوير شخصيات نموذجية مجردة بدلاً من نماذج حية، فكان ذلك رغماً عن جمالياته، وليس من أجلها؛ بدافع من غريزته الروائية، وليس من منطلق فلسفته الحمقاء.

قبل عقود من استسلام جوركي لهذا المفهوم، كان ديستويفسكي قد حطمه وفتح بوابات الأدب المعاصر كلها في “رسائل من تحت الأرض”؛ فلم يتمرد فحسب على سطحية الواقع الموضوعي لدى البرجوازي، بل عندما توغل في الأغوار السحيقة المظلمة للذات، وجد أن حميمية الإنسان لا علاقة لها بالعقل، أو المنطق، أو بالعلم، أو بالتقنية البليغة.

سيشمل هذا التحول نحو الذات العميقة كل الأعمال الأدبية الكبرى اللاحقة: سواء في رحابة أعمال مارسيل بروست أم الأعمال الموضوعية ظاهرياً عند فرانز كافكا.

ومع ذلك، أكد فلاديمير وايدلي في مقاله المعروف أننا نشهد عصر أفول الرواية؛لأن فنان اليوم “عاجز تماماً عن الامتثال للمخيلة الإبداعية”، مهووس كعهده بذاته الشخصية؛ وفيما يختص بكبار الروائيين في القرن التاسع عشر، يقول:”أولئك الكتاب، أمثال بلزاك، صنعوا عالماً، وقدموا مخلوقات حية من الخارج، أما أولئك الروائيون، مثل تولستوي، فقد أعطوا انطباعاً بأنهم الرب ذاته، أما كتّاب القرن العشرين فإنهم عاجزون عن إبراز ذاتهم، واقعون تحت تأثير التنويم المغناطيسي لمآسيهم ومخاوفهم، ومستوحدون للأبد في عالم من الأشباح”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *