المدونة, موضوعات متنوعة

الحقيقة المستحيلة: قراءة في التحقيق لخوان خوسيه ساير

 

الحقيقة المستحيلة: قراءة في التحقيق لخوان خوسيه ساير

بقلم: م. كاندلاريا دي أولموس فيليز

“من يعبث بالكلمات لن يمتلك سوى الكلمات…”

تزفيتان تودوروف، العمر الصعب، في أجناس الخطاب

1. حبكة

التحقيق

لم تحظَ رواية التحقيق (1994) بالكثير من الاهتمام النقدي، وهي نص غير مألوف في مجمل أعمال ساير. فالإيقاع السردي الوصفي البطيء الذي اعتاد عليه قرّاؤه يفسح هنا المجال أمام متطلبات الرواية البوليسية، وهو جنس لم يتعامل معه الكاتب كثيرًا. حتى لو لم تصل الرواية إلى مستوى إدراجها ضمن “الأمثلة الكلاسيكية” للرواية البوليسية، فإنها على الأقل تستعير عدداً من تقاليدها لتنظيم مادتها السردية.

الفصل الأول يعرض قضية غريبة شغلت باريس لتسعة أشهر: سلسلة جرائم قتل استهدفت نساءً مسنّات يعشن بمفردهن. رغم جهود الشرطة، لم يتمكن مورفان ولا زميله لوتريه من كشف القاتل. في الوقت نفسه، يواجه القارئ مشكلة مماثلة: حتى الفصل الثاني، لا يعرف من يتحدث ومن يروي. هذه الاستراتيجية تجعل القارئ بدوره “محققًا”، يبحث ليس فقط عن القاتل، بل أيضًا عن هوية الراوي ولمن يوجه خطابه.

يتضح في الفصل الثاني أن الراوي هو بيشون، الذي يعود إلى الأرجنتين بعد عشرين عامًا في المنفى، ويقضي مساءً مع أصدقائه توماطيس وسولدي. خلال زيارتهم لابنة الكاتب واشنطن نورييغا، يعثرون على دَكتيلوغرام لرواية مجهولة العنوان في الخيام اليونانية. يبدأ الأصدقاء بالبحث عن هوية مؤلفها وزمن كتابتها.

أما الفصل الثالث فيعود فيه صوت بيشون لاستكمال الحكاية البوليسية: القاتل – وفق روايته – ليس سوى مورفان نفسه. غير أن توماطيس يعيد بناء الأحداث بطريقة مختلفة، تُدين لوتريه. وهكذا ينتهي القارئ أمام حلّين متعارضين، أي بلا حلّ.

باختصار، الرواية ليست سوى محادثة طويلة بين ثلاثة أصدقاء على العشاء، يتنقلون بين لغز الجرائم في باريس ولغز المخطوطة المجهولة. وكلاهما يتعلق بسؤال الهوية: من كتب الرواية؟ من ارتكب الجرائم؟ النتيجة النهائية: الحقيقة تظل احتمالية، مجرّد “نسخ” أو “إصدارات” سردية.

2. شهادة بيشون غاراي

يحاول بيشون أن يثبت أنه “شاهد”، فيصرّح:

لكن “شهادته” تتجاوز موقع الشاهد المحايد، إذ يروي تفاصيل عن أفكار ومشاعر مورفان لا يمكن لشاهد خارجي معرفتها. شهادته ليست نقلاً مباشراً بل مزيجاً من الصحافة والراديو والسينما والأدب. وهكذا، يفشل السرد “التوثيقي” ويذوب في تعدد الروايات. كل “نسخة” تولد أخرى، بحيث يصبح السرد عملية مفتوحة لا تصل إلى حقيقة واحدة.

3. نسخة بيشون: مورفان ولوتريه

يقدم بيشون صورة متناقضة عن الشرطيين:

  • مورفان: شرطي مثالي، حياته الخاصة تعيسة، لكنه عقلاني ومهووس بالحقيقة.
  • لوتريه: أقرب إلى الشرطي الخشن في الرواية البوليسية السوداء، يعتمد على العنف أكثر من المنطق.

كلاهما يمثل نموذجاً من تقاليد الرواية البوليسية (الإنجليزية الكلاسيكية مقابل الأمريكية السوداء). لكنهما في الوقت ذاته وجهان لعملة واحدة، وكل واحد منهما “نسخة” من الآخر.مع ذلك، سرعان ما ينقلب السرد: ربما القاتل هو مورفان نفسه. وربما لوتريه. وفي النهاية، لا أحد يعرف. الحقيقة الشخصية مثل الحقيقة الجنائية: عصية على القبض.

4. انقلاب توماطيس: التلاعب بالنوع البوليسي

يتدخل توماطيس ليقترح رواية أخرى: مورفان لم يكن القاتل، بل لوتريه هو المذنب. هذه “اللا-شهادة” تقوّض الرواية البوليسية التقليدية التي تعد قراءها بحلّ نهائي يعيد النظام للعالم. عند ساير، كل نهاية ليست سوى بداية “نسخة” أخرى. النتيجة: الرواية البوليسية تتفكك من الداخل، وتتحول إلى تأمل في معنى “الخيال” نفسه.

5. الشهادة المستحيلة للجندي العجوز

أما في المخطوطة المجهولة (في الخيام اليونانية)، فنجد ثنائية أخرى:

  • الجندي العجوز: حاضر في الأحداث لكنه لا يعرف شيئًا عنها.
  • الجندي الشاب: لم يشارك لكنه يعرف “الروايات” المتداولة في اليونان.

الأول يملك “تجربة بلا معرفة”، والثاني “معرفة بلا تجربة”. كلاهما يبرز استحالة تقديم شهادة كاملة عن الحقيقة. وما يبقى في النهاية هو الروايات، النسخ المتعددة، أي “الخيال” باعتباره الشكل الوحيد الممكن للمعرفة.

6. الاستنتاجات

تطرح التحقيق بوضوح موضوعًا محوريًا في أعمال ساير: الصراع بين الحقيقة والخيال. الرواية تستخدم “النسخة” (version) بثلاثة مستويات:

  • كتصنيف أدبي (الرواية البوليسية).
  • كأداة بنائية (تعدد الأصوات والحلول).
  • كتصور فلسفي عن الذات والحقيقة.

النتيجة أن البحث عن الحقيقة يظهر كمسعى مستحيل، لكن هذا الاستحالة بالذات هي ما يجعل السرد ممكناً. فـ”الخيال” عند ساير ليس خداعاً بل نوعًا من “الأنثروبولوجيا التأملية”، وسيلة لفهم الإنسان عبر الاحتمالات والفرضيات، لا عبر “الحقيقة المطلقة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *