المدونة, موضوعات متنوعة

ترف الحرب وتشظي التشرد في رواية عمى الذاكرة بقلم: الغربي عمران

الحس الإنساني اللافت الذي يمتلكه الرقيمي من خلال روايته عمى الذاكرة؛ فإصداره الأول، والذي ركز فيه على مناجاة الأم، كان مفعمًا بالمشاعر الجياشة، فحين كتب الرقيمي كتابًا كاملًا عن الأم، أبرزها رمزًا للعطاء العاطفي والمادي، وبكتابته ذاك يشير إلى قلوبنا، ويتحدث إليها، فلا كائن بشري إلا وأحس بلغته الجزلى، التي يشعر من قرأها بأنها قد عبّرت عمّا يحمله قلبه تجاه أمه.

بين يدينا اليوم إصداره الجديد عمى الذاكرة، عنوان لافت يفتح على قارئه عشرات النوافذ التأويلية والترميزية. ثم لوحة الغلاف التي مثلت عملًا فنيًّا معبرًا وقائمًا بحد ذاته: عين نظارة وحيدة، مشروخ زجاجها ومتماسك في نفس الوقت، وبوسط إطار إلا من فتحة صغيرة في السنتر.

اللغة، كما أشاد بها الروائي أحمد قاسم العريقي، هي أول ما تستقبل قارئ هذا العمل، إذ تمتاز بجزالة وسلاسة التعبير، ما يدل على قدرة الكاتب على الحكي الغزير، والتعبير الممزوج بالعاطفة، وهو ما تفتقر إليه نفوسنا الظمأى. ولذلك، تحملنا تلك اللغة إلى عوالم حسية وروحية باذخة الجمال.

الكاتب يرصد مجتمعًا تحت أوضاع الحرب، وما قرّب الإحساس بما يحدث استخدامُه لضمير المتكلم؛ فالسارد هو الشخصية المحورية يحكي أسرته المكونة من أمه وجده وزوج أمه الذي يصفه بأبي سالم، واصفًا أثر الحرب على أفراد المجتمع من خلال أسرة السارد، بعد أن عادتهم من مدينة لم تذكر إلى قريتهم نتيجة للحرب.

لم يكن الكاتب قاسيًا مع سالم الأب، ولا محبًا لأمه لأنها أمه:
“هذه أمي نادرة، غيمة وقعت على دربي بأمر الله، ولم أجدها إلا ماطرة بالحب والحنان والعطف، تغتسل روحها كلما رأتني مقبلًا عليها، وتهجع نفسها مع كل خطوة أسير لها مع جدي خارج البيت. إنني أحبها كثيرًا.”
ولا لجده الذي يصفه بصفات إنسانية عظيمة؛ بل أثّر الحرب على الأفراد، فسالم ضحية، وما غيابه وتجاهله لأسرته إلا من أثر الحرب عليه وعلى أوضاعه النفسية والمالية. هكذا يقدّم الكاتب سالم تارة بقسوة:
“وأبي هو الآخر جاء من زاوية قذرة لم تكن على صلة بالإنسانية.”
وأخرى في صور باهتة. وكذلك الأم، وقد زاد خوفها بشكل كبير على ابنها في ظل أوضاع مدمرة؛ فمشاعر الأم لن تظهر كذلك النقاء والعطاء في أوضاع مستقرة، وكذلك الجد الذي قدمه في شكل خيالي وكأن تلك الشخصية قدت من أسطورة يونانية قديمة بشكلها وجوهرها وقدراتها، وذلك الجدل الذاتي لها:
“جدي من السماء وقع في منزلنا وكأنه تعويض سماوي عن حرمان مستبد طالنا جميعًا.”

وإذا ما تجاوزنا حياة القرية وانتقال الراوي إلى صنعاء بعد الثانوية، هنا نقف عند نقطة؛ إذ قدم الكاتب هذه الأم التي تناست ذاتها لتعطي ابنها كل ما لديها من الحلي، ناسية ذاتها في حياة الوحدة بعد اختفاء الزوج وموت الجد ورحيل الابن، وهو الشاب الذي أكمل الثانوية في مجتمع ذكوري لا يعيبه أي وضع، بينما أمه الأنثى الوحيدة في قرية نائية تنسى أن تبقي لها شيئًا من حليها.

ليصل صنعاء وهناك يبحث عن عمل، إلا أن “عبده حمادي” البائع الجائل ينصحه بمواصلة تعليمه، ويتكفل بإدارة ماله – قيمة ذهب أمه – كشريك فيما يبيع ويشتري جائلًا:
“عليك أن تثق بي، أريد لك الخير، لا أعرفك أو تعرفني، لكنها أقدار الله تقود إلى حيث نجد أنفسنا، وهذا لا يحدث مرتين. دعني أساعدك في رسم خريطة أخرى تكون عليها لامعًا وناجحًا، أو بالأحرى أنا من يطلب منك أن تساعدني. امنحني فرصة واحدة لأغادر هذه الحياة وقد تركت خلفي رجلًا يشار إليه …”

حمادي قدمه الكاتب شخصية واعية وذات قيم أكبر من أن تنتج عن فرد يعاني الشقاء وحياة أقرب إلى التشرد، ليجد القارئ نفسه متعاطفًا مع حمادي وقد أصبح بمقام السند والناصح للراوي مواصلًا رعايته، خاصة بعد أن أقنعه بالالتحاق بالجامعة، وأفضى وجوده على مقاعد الدرس إلى علاقته بإحدى زميلاته علاقة محبة “يافا”، إذ ظل ناصحًا وراعيًا ومشجعًا له:
“تملك قلبك يا ولدي، تملك نفسك التي لن تستطيع أية قوة في العالم أن تسلبك إياها. هذه ثروتك التي لن تصلها أيادي الناس حتى لو تجمهرت على رأسك. امنح حبك وقل ما يجول في قلبك…”

وحين انفجرت حرب العاصمة:
“كانت المرارة الأشد في ذلك اليوم الذي صحوت فيه وأنا على سرير المستشفى. لم تكن في موت أبي أو أمي، ولا قذيفة الذاكرة التي سقطت في المرة الأولى وعادت مرة أخرى لتأخذ عبده حمادي.”
ليغادر الراوي صنعاء هاربًا من هول الحرب الذي أخذت منه كل من أحبوه، باتجاه عدن ومنها إلى القاهرة، ثم جنوبًا باتجاه الخرطوم، ومنها عبر الصحراء إلى ليبيا، ومن ليبيا عبر المتوسط ضمن مجموعة على قارب الموت ليصل إلى إيطاليا وحيدًا بعد موت من كانوا رفقاءه في الهروب.

وبالعودة إلى خطوات الراوي، نجد أن الكاتب قدمه كشخصية مركبة؛ إذ إن القارئ لا يجد إلا أن يتعاطف معه طفلًا صغيرًا مات والديه في ظروف غامضة، ثم عاش مع سالم الذي ظل ينظر إليه كأب، يموت جده ذلك الإنسان الذي منحه كل شيء، يغادر بعد حصوله على الثانوية باتجاه صنعاء، لكنها الحرب تلاحقه ليهرب حتى وصوله إلى إيطاليا. نجده كائنًا مركبًا؛ فظاهره العطاء، وباطنه النقيض؛ فهو يترك أمه الأخرى على أمل العمل والعودة لرعايتها، خاصة بعد أن أصبحت وحيدة، وهو شاب في مقتبل العمر، لكنه بدل العودة باتجاهها يذهب بعيدًا:
“وبقيت وحدي أراقب المشهد من بعيد، لا أقول شيئًا، كنت أخاف الفوضى التي قد تسلبني عبده حمادي، وتحرمني من يافا وتعيدني للقرية التي خرجت منها هاربًا.”
هنا أجاد الكاتب في تقديم الشخصية المركبة والمتمثلة بالراوي، مقابل الشخصية السطحية في حمادي، ويافا، والجد، الذين انتهوا بنفس السجايا وبنفس الطبائع التي جبلوا عليها من البداية وحتى انتهاء أدوارهم، لا يختلف باطنهم عن ظاهرهم.

سلط الكاتب الضوء في روايته على عدة ثيمات، خلافًا لموضوعها المحوري “الحرب”. ومن تلك الثيمات: الفقد، الترحال والضياع، المحبة، الإرادة…

ونعود لمحور الرواية “الحرب” التي كان لها الأثر الحاسم على كافة الشخصيات، سواء داخل اليمن أو أثناء الهروب، حيث قدم الكاتب عدة أوجه منها: الدمار النفسي والذاتي ودمار منشآت البلد وبنيانه الحياتي. المحور الذي تشظت منه بقية الثيمات:

الفقد: الذي تجلّى بفقد الأب والجد والأم والأصدقاء والأحبة، ثم موت رفاق رحلة التهريب، بداية ممن فقدوا في الصحراء الليبية، ثم من ابتلعتهم أسماك المتوسط.
التشرد: بداية من المدينة إلى القرية، ثم من القرية إلى صنعاء، ثم إلى عدن، ومنها خارج الوطن. تشرد من نجوا من الحرب في رحلة طويلة محفوفة بالموت عبر عدة وسائل؛ من سير على الأقدام إلى سيارات وطائرات، ومن عبور الصحراء ثم عبور البحر.
العاطفة: التي تجلّت بين أفراد الأسرة من الأم والجد والابن، ثم علاقة الرعاية من قبل حمادي، وانتهاء بيافا. ولا أعني هنا بالعاطفة الجنسية، بل العاطفة الإنسانية، وتلك العلاقة المتميزة التي حظي بها الراوي من رعاية دائمة.

عمى الذاكرة أعجبتُ بهذا العمل من أول صفحاته، الزاخر بالمشاعر الإنسانية، والتي تشير إلى امتلاك الكاتب قدرات الحكي الشيق والسلس، بثراء مكاني وقيمي لافت، وهو ما ينبئ بقدوم أديب يلتقط من تفاصيل حياته، وتفاصيل حيوات من حوله، وما يسمعه، ملتقطًا أفكارًا ليصيغها في قوالب ممتعة.

كلمات قليلة في جهد رائع، بمثابة تحية لكاتب مبشر، ما يجعلنا نتشوق لجديده.

1 thoughts on “ترف الحرب وتشظي التشرد في رواية عمى الذاكرة بقلم: الغربي عمران

  1. يقول الغربي عمران:

    شكرا لجمال فضاءكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *