المدونة

فلسفة البيت في «عمر مستأجَر» للشاعرالسوري ياسر الأطرش

فلسفة البيت في «عمر مستأجَر» للشاعرالسوري ياسر الأطرش

 

بقلم: د. سعاد العنزي

 

 

 

تمتلك فلسفة البيت مكاناً مركزياً بالنسبة للمنفيين والمهاجرين، بسبب الحروب والمآسي الإنسانية المتكررة في العصر الحديث. حتى إن كان تاريخ الفلسفة – حسب البعض- لم يشتغل على موضوعة البيت، لأن الفلاسفة اهتموا بالفضاء العام والمدن الفاضلةِ والمقاهي والمتاحفِ، وكل الأماكن الخارجية على حساب فكرة البيت. أما في الفلسفة المعاصرة، فقد التفت إلى البيت، على نحو مغاير، فلاسفة مثل الفيلسوف والناقد الفرنسي غاستون باشلار في كتابه المعنون «جماليات المكان»، إذ يعطي البيتَ -بيت الطفولة تحديداً- أولوية مهمة في عرضه لأحلام اليقظة وتجلياتها في الأدب والشعر تحديداً، ويصل إلى أن البيت يجسد هوية الإنسان، وأن اتحاد البشر مع بيوتهم الأولى هو اتحاد مع ذواتهم وذكرياتهم الأصيلة. يقول باشلار:

«البيت جسد وروح، وهو عالم الإنسان الأول». (غاستون باشلار 1984). أما الفيلسوف الإيطالي إيمانويل كوتشيا الذي ألف كتاباً عنوانه «فلسفة البيت» فإنه يتخذ من تجربته الشخصية وتنقله بين منازل كثيرة – تصل إلى ثلاثين بيتاً في باريس – منطلقاً لتحليل فكرة البيت، وعلاقة الإنسان الحميمية بينه وبين الأشياء في البيت، والوقوف أمام فكرة التشظي وعدم الإمساك بمعنى ثابت للبيت. إن كان اهتمام الفلاسفة بالبيت متأخراً نسبياً، فإن للشعر والأدب علاقة حميمية خاصة منذ القدم مع البيت، ولاسيما في أدب ما بعد الاستعمار، حيث تبنى كثير من الشعراء فكرة البيت، ولمحمود درويش كثير من القصائد التي تلتقط صوراً كثيرة للبيوت التي فقدت أصحابها، وللبيوت التي تحمل ذاكرة شخوصها، وتسجل تفاصيلها على جدرانها. يقول درويش:

مدينته لا تنام، وأسماؤها لا تدوم. بيوت تغيَر

سكانها. والنجوم حصى.

وخمسُ نوافذ أخرى، وعشر نوافذ أُخرى تغادر

حائط

من خلال التركيز على التفاصيل اليومية في البيت والمدينة أثناء الحرب، انتقل درويش، كما يشرح شكري الماضي، من أيديولوجية السياسة إلى أيديولوجية الشعر، من خلال تبني قضايا إنسانية مختلفة بدلاً من اختيار التركيز ببساطة على أجندة معينة مثل القضية الفلسطينية. (الماضي، 2013). تتضح أيديولوجية الشعر هذه أيضاً في قصائد الشاعر ياسر الأطرش، الذي قرر أن يتبنى قضاياه وقضايا شعبه المهجر شعرياً ومن خلال منهجه الإنسانوي الذي يلتقط تفاصيل المنفى بعمق وبتحليل فلسفي عميق في مجموعته الشعرية «عمر مستأجر».

 

من البيت إلى المنفى

تمثل تجربة المنفى عند الشاعر السوري ياسر الأطرش واحدة من التجارب الإنسانية اللافتة، إذ تتحول الحياة كلها بكل تفاصيلها إلى «عمر مستأجر»، عنوان المجموعة الشعرية. إن المنفى والاغتراب عند ياسر الأطرش يشكلان أبعاداً متعددة، وليس لهما شكل واحد ثابت. ولعل أول صور هذا المنفى هي صورة قديمة جداً ترتبط باغتراب المثقف المستنير عن مجتمعه، المثقف الإصلاحي، الذي يبحث عن تغيير مجتمعه نحو الأفضل، وهذا ما يطرحه في أحد حواراته عندما سُئل عن تجربة المنفى قائلاً: «قديم جداً، منفاي كان وما زال في داخلي.. غريباً كنتُ في أهلي ومجتمعي وبلدي، إنها غربة المثالي الذي يقاتل طواحين الهواء، يريد الأنقى والأصلح، وهذا هو المستحيل الاجتماعي.. وعلى غربتي تلك؛ كنت ابن أهلي البار، وابن مجتمعي، لم أتعالَ ولم أعتزل ولم أخاطب الناس من علٍ، حتى بعد نضج تجربتي ونيلي قسطاً من الشهرة.. ولعل في البيت الشعري الآتي ثمة حل لهذه المعادلة:

فأنا ابن أهلي، وفاءً/ وأنا ابن منفاي، انتماءً».

إن الحديث عن المنفى والاغتراب والشتات عند الشاعر يستدعي بالضرورة الحديث عن البديل الآمن، وهو البيت الدائم، بدلاً من البيت المستأجر، وهذا الذي تحاول مجموعة الشاعر السوري المعارض للنظام السوري السابق أن تقوله بعد الدخول في تجربة المنفى.

تنطلق مجموعة ياسر الأطرش «عمر مستأجر» من البيت والحميمية والروابط الأسرية المتينة، وتدرج تجربته في المنافي، المنفى تلو الآخر حتى تفقد كل شيء ويتحول الشخص ذاته إلى إنسان آخر. يسرد الشاعر سيرة الاغتراب هذه في المجموعة في نص بعنوان «ياسر الغريب»:

كنت مثلكم تماما

قبل أن يقطع الحطاب حياتي إلى نصفين

ياسر العادي.. الذي مات

وياسر الذي ينطقون اسمه بصعوبة

في بلاد لا تعرف أهله.. (المجموعة الشعرية)

ولأن البيت كما يقول باشلار: «هو ركننا في العالم. إنه كما قيل مرارا، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى» (باشلار). تبرز الثيمة الأساسية في المجموعة الشعرية، في صورة البيت الذي فُقد، وقرار الشاعر أن يرمم جراح فقده بالشعر، ويستعيد مأساة الفقد من البدايات حتى الوصول إلى الذوبان والتلاشي في المنافي.

نجد ياسر الأطرش، وبعد الثورة السورية تحديداً، يأخذ المنفى عنده شكلاً آخر، يأخذ معنى الابتعاد عن الوطن الأم، والابتعاد عن الأم والحنين إليها، والابتعاد عن البئر الأولى للشاعر قبل أن يتحول إلى شيء آخر. إن الأرض والبيت والهوية لها دلالات خاصة في أدب ما بعد الاستعمار، والحروب والإزاحة والشتات كلها مفاهيم تركز على الرموز الدالة على العلاقة الوثيقة بين البحث عن الهوية والبيت، وهذا ما يفككه الشاعر في نصوصه الشعرية. يكشف الشاعر أوجاع المنفى والاغتراب والفقد والحنين إلى الوطن، والبيت، والأم، والانتماء بنصوص شعرية تجمع بين الشكلين العمودي، والشعر الحر، بين التقليدية والحداثة، وكأنه يقول أنا هنا وهناك، شكلاً ومضموناً. تبدأ رحلة الشاعر مع المنفى من خلال فقد الحضن الأول وهو الأم والأسرة، فيبدأ بقصيدته يعرض مفهوم البيت عندما يقول: «البيت أمي همهمات أبي ولمة أسرتي». إن تكرارَ ذكر الأم في المجموعة الشعرية، واتحاد صورة الأم مع البيت هما محاولة لاسترداد الزمن الضائع، وترميم جراح الروح بعد الفقد، وهذا ما يقف عنده باشلار في دراسته سابقة الذكر، إذ يفسر ارتباط صورة البيت بالأم قائلاً: «حين نحلم بالبيت الذي ولدنا فيه، وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط في ذلك الدفء الأصلي، في تلك المادة لفردوسنا المادي. هذا هو المناخ الذي يعيش الإنسان المحمي في داخله. سوف نعود إلى الملامح الأمومية للبيت. وأود هنا، عابرا، أن أؤكد امتلاء وجود البيت. أحلام يقظتنا تقودنا إليه. أن الشاعر يعرف جيدا أن البيت يحمل الطفولة ساكنة بين ذراعيه» (باشلار).

لكن الشاعر الذي يفلح أحياناً في استعادة التفاصيل السعيدة مع الأم، يفشل أحياناً أخرى في استعادة صورة البيت الآمن، لأن بيتاً من دون أم لا يعادله شيء سوى الوحدة والنفي والاغتراب. ويعلن الشاعر لاحقاً عدم قدرته على العودة للبيت، لأنه فقد رائحة الأم، ويؤكد غربته وضياع خريطة الطريق. يقول الشاعر:

رائحة أمي:

يا أمي

لماذا تركت ابنك وحيدا؟

يا أمي أنا غريب

ولا أعرف طريق العودة إلى البيت

مذ فقدت أثر رائحتك!

إن فقد الشاعر للرائحة، رائحة الأم، يعني انقطاع الحبل السري الذي يربطه بالبيت والأرض والوطن، ويعني انفصاله عن البيت، والاغتراب في المنافي الشاسعة، بخلاف شعراء يتذكرون أوطانهم وتربطهم الرائحة بأوطانهم. في استكشافها لقوة الرائحة، في كتابها «التاريخ الطبيعي للحواس» Natural History of the Senses تناقش ديان أكرمان Diane Ackerman أنه بين جميع الحواس، فإن هذه هي الأكثر ارتباطاً بالذاكرة البشرية: «ليس ثمة أمر لا يُنسى أكثر من الرائحة. تنفجر الروائح بهدوء في ذاكرتنا مثل الألغام الأرضية المؤثرة المخبأة تحت كتلة من السنوات نمت عليها الأعشاب الضارة. اصطدم بسلك تعثر من الرائحة فتنفجر الذكريات جميعها مرة واحدة. رؤية معقدة تقفز من الشجيرات».

إن الرائحة هنا هي رائحة الحب والاهتمام والمودة والترابط، والبيت لا يعني شيئاً من دون وجود الأم. وهنا الشاعر يفقد أهم الروابط التي تعيده إلى البيت، وهي رائحة الأم. بعد ذلك تتحول ثيمة فقد الأم إلى شيء آخر يرتبط بالخزي والعار، وتتحول صورة الأم إلى صورة الوطن والشرف وقيم الرجولة المفقودة في نص «خزي». يعبر هذا العنوان عن صورة المرأة الوطن، وأن أي خسارة للوطن هي فقدان للشرف والرجولة والكرامة:

يا أماه

لا تبتئسي إن فجر الظلام عليك

وإن أبناؤك بلعوا الخزي وخافوا حتى قولة: آه..

يا أماه

حق حليبك لا يحفظه إلا الله..

يقف الشاعر في قصيدة «البيت»، وهو عندَه الوطنُ الأصغر للإنسان، حيث يرسم صورة البيت ويشيد حوله كل دلالات البيت العاطفية والنفسية والاجتماعية، ما إن يفقده الإنسان حتى يفقد جزءاً أصيلاً من روحه، فيقول في مطلع القصيدة:

البيت حين يغادر السكان

يبكي

لم يعد سكنا ولا في قلبه «أهلا وسهلا»

يشير النص السابق إلى تعطل الزمن، وتوقف تفاصيل الحياة، لأن استمرارية الحياة والسكن في المنزل قد تعطلت. وهذا ما يبينه باشلار قائلا: «المكان هنا هو كل شيء حيث يعجز الزمن عن تسريع الذاكرة. الذاكرة -أي أداة غريبة هي – لا تسجل استمرارية واقعية، بالمعنى البيرجسوني. إننا عاجزون عن معايشة الاستمرارية التي تحطمت» (باشلار). يقوم الشاعر هنا بأنسنة الجماد، والإشارة إلى حزن وبكاء البيت على سكانه، وتحوله من شيء ذي قيمة رمزية إلى لا شيء، فيفقد معناه. إن هذا النص المكثف يحيل إلى محاولة فهم السبب الذي يجعل السكان يغادرون، وهل كل مغادرة هي مغادرة حزينة مؤلمة تجعل البيت يبكي؟ من الواضح أن البيت يُهجر، ويصبح خاليا من البشر بسبب مغادرة السكان القسرية من الوطن بإشارة للإزاحة والشتات كنتيجة من نتائج الحروب، التي تفرق شمل الأسر، وتقودهم إلى المنافي والخيام كما يوضح الشاعر:

وقد كنت عند الشام طفلا مدللا

أقيل بنعماها وأجني وصالها

إلى أن رمتني بالرحيل أظافر

من السم والأحقاد شدت نصالها

فضقت بوسع الأرض ما جئت قرية

وجدت بها أهلي ونفسي وآلها

على لغتي العمياء ألقي مواجعي

أكلم نفسي كي أصون جلالها

يمثل البيت في حالته الطبيعية كل صور السعادة والبهجة: (ضجة الأطفال/سهد العاشقين/ جزالة الآباء/ حرص الأمهات على الأثاث) وإن من يفقد بيته، وطنه ومأواه، فإنه يفقد أي ديمومة واستقرار، وستكبر المنافي في داخل المنفيين الواحد تلو الآخر:

البيت هو الدائم / المقهى هو الشيء العابر (البيت ضرته المقاهي)

البيت مأوى السر

نسكن فيه نحن ومن نريد وما نريد من الهواجس

والخيالات الغريبة والرؤى والخوف

تتشكل هنا صورة البيت متمثلة بالأمن والأمان، والارتباط بالمكان، الذي يعكس أرواح البشر، وأسرارهم، وانكساراتهم. البيت، المكان الذي نكون فيه حقيقيين وعفويين وصادقين مع أنفسنا. البيت، هو المرفأ الآمن للهوية والروح مثلما يحلل كتاب الفيلسوف كوتشيا، سابق الذكر، الذي «يقدم تحليلات حول النحو الذي نتملك من خلاله أماكنَ سكنها أشخاصٌ غيرنا قبلنا، والطريقة التي نحول فيها سطوح الجدران والأرض، والمساحة الخاصة بشكل عام، إلى ما يشبه المرآة التي تعكس شخصياتنا وأهواءنا وهوياتنا» (العربي الجديد). وفي نص «يا رب بيتا» تبرز صورة البيت أيضاً مرتبطة بالأم، فمن يفقد أمه، يفقد البيت والحضن والأمان، ويكرر بكاءه:

يا رب لا أم ألوذ بحضنها

فمن الذي يحنو عليّ إذا بكيت؟

يا رب بيتا أنت تعلمه

فما في الأرض بيت..

يبين النص السابق فقد الشاعر فكرة الثبات والاستقرار في فقد السكن بسبب عدم وجود محطة أساسية يستقر فيها، فما إن فقد البيتَ الأول والأمَ، يصبح العالم كله منفى كبيراً. وهنا لا بد من التفريق بين السفر والمنفى، كما يقول إيان تشامبرز Ian Chambers ببلاغة: «إن السفر يعني التنقل بين المواقع الثابتة، موقع المغادرة، نقطة الوصول، معرفة خط سير الرحلة. كما أنه يشير إلى عودة نهائية، عودة محتملة إلى الوطن. إن الهجرة، على العكس من ذلك، تنطوي على حركة لا تكون فيها نقاط المغادرة، ولا نقاط الوصول ثابتة أو مؤكدة».

إن الشاعر بعد هذه المنافي المتعددة، والغربة، وكل تجاربها المريرة التي تُفقد الإنسان إنسانيته، وبهجته، وطمأنينته، يقرر أنه لن يعود إليه بعنوان القصيدة الصريح «لن نعود أبدا» كما كان، بسبب كل العوامل والتحديات التي حولته إلى صورة آخَر. في النص:

نذهب إلى نهايتنا واثقين

نحصي «اليوروهات» التي سوف نمنحها

وكم سنة نحتاج لنجمع ثمن بيت في الوطن الذي هربنا منه!

وعندما نشتري ذلك البيت

لا نعود إليه أبدا

بل يعود الشخص الغريب الذي صرناه..

إن الهوية الإنسانية تتشكل وتتلون في المنفى، ولا يستطيع المرء أن يحافظ على معنى واحد للهوية، بل تكتسب الهوية معنى ملتبساً ومختلطاً. يشير إدوارد سعيد في كتابه «الثقافة، الإمبريالية» إلى الهوية غير الثابتة والمتعددة وغير المستقرة. (Said, Culture and Imperialism, p. 470.) مثلما يقول Karkaba «إن الهوية، لديه، في حالة دائمة من التقدم، تتذبذب بين الاختلافات، تتحول إلى ما يتجاوز الفكر المانوي، وتخضع لعملية تحد لا نهائية. (Ch. Karkaba, p. 92.) «إن الهوية قابلة للتغيير، وليست بمنزلة أمر مُعطى في أي وقت من الأوقات» (J. Stratton and V. Devadas, 2010). من خلال الرؤى السابقة يتضح أن صورة البيت، بعد تجربة المنفى، تتغير وتتحول، كما تتحول هوية الشاعر نفسه وتصوراته للحياة والبيت، فالشاعر ياسر الأطرش بدءاً من البيت الأول، البيت الذي تشكل وتكون فيه الشاعر، الحضن الأول المرتبط بالأم ارتباطاً وثيقاً، وكل نداء للأم هو نداء للعالم، للطفولة المفقودة. من هنا نجد باشلار يربط بين صورتي البيت والأم: «في دراستي للأمومة أوردت البيتين الرائعين التاليين لميلوز حيث تتحد صورة الأم بصورة البيت:

أنادي يا أمي. وأفكاري منصرفة إليك أيها البيت.

بيت فصول الصيف المظلمة الحلوة، بيت طفولتي» (باشلار)

وفي الجزء الأخير من المجموعة، يقدم الشاعر فكرة العُمر المستأجَر الذي يحمل عنوان المجموعة «عمر مستأجر»، مشيراً إلى أنه بعد البيت الأول والحضن الأول تتحول تفاصيل الحياة إلى عمر مستأجر مؤقت في المنافي:

في البلاد التي تكره الغرباء

لا تثق بجدران بيتك المستأجر..

لا تعر أحلامك.. ولا ذنوبك!

تتحول صورة البيت عنده، بسبب الغربة والابتعاد عن الارتباط الأول من بيت الذكريات ومأوى الأسرار إلى بيت لا تثق بجدرانه لأنك غريب في بلاد تكره الغرباء، لن تجد فيها من تشاركه الأحلام ولا الآثام. والعمر المستأجر يشير إلى الحياة المهددة بالمخاطر في كل حين، وكأن المرء يستأجر عمره من قاتلي الأحلام، وتجار الحروب وسماسرتها، ويفقد أي معنى ثابتاً للوطن، والبيت، والشرفات. وها هو يقول في نص «أغاني الشرفات»، وتغدو كل تفاصيل الحياة عابرة ومستأجرة:

أجلس على الشرفة فجرا

هذي الشرفات كلها مستعارة وعمياء

فهي لا تطل على وطني..

ختاما، يمثل المنفى ثيمة تضرب أوتادها بعمق في تجربة الشعراء العرب الذين عايشوا أنواعاً من النفي في بلدانهم. وبالطبع لم ينظروا للمنفى نظرة نمطية ثابتة، بحيث قدم الشعراء العرب تصوراً مغايراً للمنفى التقليدي عند شعراء العربية في بدايات النهضة العربية أمثال أحمد شوقي والبارودي والجواهري، الذين لم يتعاملوا مع المنفى بمرونة، بل برفض شديد وانتماء وحنين دائم للوطن. أما شعراء العرب اليوم، وبعد المرور بمناف كثيرة فرضتها الحروب والثورات، فقد قدموا رؤية مختلفة للمنفى ترتبط بأفكار مجموعة من الفلاسفة ما بعد الحداثيين مثل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الذي يركز على تفكيك الحدود الفاصلة بين الأضداد: المرأة والرجل، المنفى والمنزل، الانقسام والوحدة. لا توجد فكرة ثابتة لأي صورة، الأمر الذي يجعلنا نقرأ صورة البيت والوطن عند الشعراء العرب وتحولاته من شيء ثابت صلب إلى فكرة صعبة بعيدة المنال.

المصدر: جريدة القدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *