المدونة, موضوعات متنوعة

ما بعد الظلم والكبت هل يمكننا تحليل الرأسمالية نفسياً؟

ما بعد الظلم والكبت التحليل النفسي للرأسمالية

هل يمكننا تحليل الرأسمالية نفسياً؟

ربما لو طُرح هذا السؤال على فرويد في حدّ ذاته لعبّر عن شكوكه في إيجاد إجابة عنه؛ لأنّه تساءل في خاتمة كتابه؛ الذي عنونه الحضارة وسخطها، عمّا إذا كان بإمكان المرء إجراء تحليل نفسي للمجتمع بأسره، وخَلصَ إلى أنّه لا يستطيع القيام بذلك. والمشكلة، حسب رأيه، ليست معضلة عملية؛ لكن على الرغم من أنّه لا يمكن للمرء أن يعرض مجتمعاً بأكمله، أو نظاماً اقتصادياً بأسره، لسلسلة من جلسات التحليل النفسي، فإنّ كلّ نظام اجتماعي وكلّنظام اقتصادي يعبّر عن نفسه من خلال المفاصل التي تخون أصداءه النفسية. ويمكننا تحليل هذه المفاصل من منظور النظرية التحليلية النفسية؛ فالعائق، الذي يقف عقبة أمام إنجاز أيّ تحليل نفسي للمجتمع، بالنسبة إلى فرويد،هو عائق نظري؛ إذ لا يستطيع المحلّل النفسي إدانة مجتمع بأكمله على أنّه عصابي، على سبيل المثال؛ لأنّ هذا التشخيص يعتمد على مستوى الحياة الطبيعية السليمة للمجتمعات، التي يمكن من خلالها تمييز المجتمع العصابي،لكنّ المفارقة التي تكمن في هذا الاستنتاج، وما يثير السخرية فيه، هما كونها واردة في كتاب يقوم بالتحليل النفسي للنظام الاجتماعي على هذا النحو، ولا بدّ أنّ هذه النقطة قد فاتت فرويد. إنّه قادر على أداء هذا العمل لأنّه لا يوجد نظام اجتماعي متكامل ومتطابق تماماً؛ فبدلاً من الاكتفاء الذاتي، ومن ثَمَّ عدم التعرّض للتحليل النقدي، يفتح كل مجتمع مساحة خارج نفسه يمكن للمرء، من خلالها، تحليله وإصدار حكم عليه. وينطبق الشيء نفسه على الرأسمالية باعتبارها بنية اجتماعية واقتصادية؛ إذ يوجد فضاء يسمح بالقيام بالتحليل النفسي للرأسمالية في خضم عدم اكتمال النظام الرأسمالي.

وإذا قبلنا الحكم بأنّه لا يمكننا القيام بالتحليل النفسي للرأسمالية بوصفها نظاماً اجتماعياًاقتصادياً؛ فإنّنا سنوافق ضمنياً على الحجج التي يتبناها المدافعون عن الرأسمالية؛ حيث يدّعي المدافعون عن هذا النظام أنّ الرأسمالية هي وظيفة للطبيعة البشرية، وأنّ هناك تداخلاًمثالياً بين الرأسمالية والطبيعة البشرية. ومن ثَمَّلا يوجد مكان يمكن للمرء من خلاله أن ينتقدها.

ومن هذا المنظور؛ إنّ أي نقد تأسيسي سيكون بطبيعته خيالياً وطوباوياً، لكنّ اشتغال الرأسمالية يعتمد بالضرورة؛ أكثر بكثير من الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية الأخرى، على عدم اكتمالها وعلى انفتاحها على الخارج. ويمكن للمرء القيام بتحليل نفسي للرأسمالية؛على الرغم من وجود تلك الفجوات التي ينتجها هذا النظام في حدّ ذاته وما يعتمده لتجاوز تلك الفجوات، إلا أنّ ممارسة التحليل النفسي لم تكن دائماً مساوية لهذه المهمّة.

يربط العديد من منتقدي الرأسمالية التحليل النفسي بالرأسمالية؛ إنّه يعمل، وفقاً لهذا النقد،كأحد الخَدَمِ الأيديولوجية للرأسمالية، وله تأثير يدعم المنشقّين المحتملين، ويحوّل الذواتالمتمرّدة إلى ذوات أكثر سكوناً. وهذا الفهم المتحامل للتحليل النفسي ليس غير مبرّر تماماً؛فأثناء ممارسته (خاصة في مناطق العالم الأكثر التزاماً بالرأسمالية مثل الولايات المتّحدةالأمريكية) أدى التحليل النفسي بالتأكيد دوراًفي تعزيز طاعة مرضاه وتدجينهم بدلاً من إلغاء شغفهم الثوري؛ لكنّ الحكم على ممارسة التحليل النفسي هو أمر متقلّب بالتأكيد.

لقد أدت نظرية التحليل النفسي دوراً رئيساً في نقد النظام الرأسمالي؛ على الرغم من أنّها لم تؤدِّ أبداً الدور الحاسم فيه.

ومعظم محاولات فهم كيفية اشتغال الرأسمالية ركّزت اهتمامها على بنيتها الاقتصادية أو على الآثار الاجتماعية التي تنتجها؛ لكن على الرغم من أهمّية هذه المقاربات، تغفل بالضرورة التركيز على المصدر الأساسي لقوّة بقاء الرأسمالية. وتنبع مرونة الرأسمالية، بوصفها شكلاً اقتصادياً أو اجتماعياً، من علاقتها بالجانب النفساني وكيفية ارتباط الأشخاص برضاهم النفسي. وهذا هو السبب الذي يجعل التحليل النفسي ضرورياً لفهم جاذبية الرأسمالية وإغراءاتها.

إنّ التحليل النفسي يبحث في مسألة رضا الأشخاص، ويحاول أن يفهم السبب الذي يجعل هذا الرضا يتّخذ الأشكال التي يتمظهر عليها،وهو بذلك لا يحوّل عدم الرضا إلى رضا، لكنّه يحلّل السبب الذي يجعل بعض الهياكل توفّر الرضا على الرغم من المظاهر السطحية. وبهذا المعنى؛ إنّه يمثّل طريقة جديدة لمقاربة الرأسمالية وفهم قوّتها الدائمة.

وأن نقوم بتحليل نظام ما نفسياً يستدعي بالطبيعة انتقاده؛ لكنّ الجهود السابقة في ترتيب تحليل نفسي معدٍّ لنقد الرأسمالية كانت باستمرار تضع التحليل النفسي في مكانة ثانوية، وكان النقد هو من يحتلّ مكانة أساسية، وعمل النقّاد على توظيف التحليل النفسي لخدمة النقد.

إنّ ما سأقوم به في ثنايا الفصول القادمة من هذا الكتاب هو العكس تماماً؛ حيث سيبقى التحليل النفسي للرأسمالية المحرّك الرئيس للتحليل، وإذا طفا على السطح أيّ نقد للرأسمالية، انطلاقاً من هذا التحليل النفسي؛فلن يكون أبداً القوّة الدافعة لهذا التحليل. وبطبيعة الحال، لا أحد بوسعه أن يكون محلّلاً محايداً للرأسمالية؛ لكنّني أزعم أنّ انغماس المرء داخل هيكلها وضمن إغوائها النفسي لا بد أن يكون بمنزلة التمهيد لأي نقد أو دفاع فعّال عن هذا النظام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *