Blog
نبرات … قصة بعنوان: وصمة صوت

وصمة صوت
وأنا أتخيل الكلمة، وهي قابلة للتردد، ومهيأة لتكون شائعة، وتخدش اهتزاز نفس سئمت أن تكون هشة بعدما تأملت أنه قد تتجاوز المفردة مناطق أفواه الآخرين، ولن يقولوها أو يتلاعبون بدلالتها، ومن أعينهم الوقحة لن تنساب، وأنا أتجشم خوف الاستماع لصوت.. مجرد صوت،فأتخيل مقدرته أن يُذبل شيئاً في روحي المتشككة، وهي تود أن تبتلع كل الأصوات، و تتمنى لو أن الحياة خرساء.
آلمتها بيدي وعاندت رغبتها بالبكاء وهي تستنجد بي أن أتوقف، وأنا أخرس فمها المتساقط من الصفعات، ووالدتي تجر كتفي لكي أبتعد عنها، وكادت رأفة تأخذني لها، فلم أترك لنفسي فرصة للتراجع، ولجأت لكل المناطق التي أَعتمت رؤيتي المحاصرة على جرأتها وعدم إخباري بالذي قامت به، وخانتني أيام مودة لأخت تصغرني بثلاث سنوات بعد يتم أب سعى قلبها لي واحتويته، فتلاشى هذا أمامي الآن، ونار أسئلة والدتي أُحاول أن أطفئها وهي تعاود شدَّ يدٍ تُمزّق وجه ابنتها الصغير:”قل لي ماذا فعلت؟ أنا سأضربها بدلاً عنك، لكن أخبرني ماذا فعلت؟”.وبشرود امتزج برعونة صَوبت تأرجح قدمي على خاصرتها وسؤال والدتي الذي طمست إجابته وفي داخلي السحيق حَمّلتها جزءاً من ذنبها، فعادت بعد تجاهلي لها وهي تسأل “سعاد” تحاول فصلها عني، فبدأت بالصراخ على والدتي بأن تتركها لي: “أرجوك يا ولدي ستموت أختك بين يديك، سعاد ماذا أخذت منه؟ ماذا سرقت؟”. وبعينين امتلأتا برعب لم تتفهمه وغرقتا بالدموع طغى على ملامحها الهلع وهي تلوذ بقشة خلف ظهر والدتي، التي غرقت في موقف غير قادرة على انتشال ابنتها منه:”لم آخذ شيئاً.. لم أسرق شيئاً، ولم أفعل شيئاً يستحق كل ذلك؟”.ويدي التي صدئت قليلاً وهي تستلها من جديد من خلف ذعر خلقته لهم وأقربها لترهل سؤال استكملت فيه سَرَفي في الامتهان بسبب الذي فعلتهُ دون أن تعلم أبعاده في داخلي: “أرجوك يا ولدي هذه أختك”.. فانطفأت عيناي وأنا أغمضهما بحرق ممتلئ وأقول: “لن أفعل لها شيئاً”. ونسيت الكلمات المتبقية وهي تنزوي بوجهها أسفل مني، ولاحظت تورم عينها اليمنى، وتجاهلت جلدها المنتفخ وأنا أهمس لدمِ أنفها الذي سال من ضربة عشوائية بيدي حتى اقتربت من السقوط وهي تجيب “الجزائر” بعدما سألتها: “كنتِ في أي دولة؟”.
مضيتُ بالوقوف على تلك الهاوية التي لم أعلم عنها. أن تُسقط في ميزان أعين وأنت لا تشعر ولا يسمح لك أن تعرف أو أن تقول لماذا؟ امتداد تاريخي يُقيدك واحتفظت به الأيام لك على شكل مهانة يحاصرك ويتطور ضيقها ويخنقك ويحطم حلم وجود طبيعي تحاول أن تفرضه فتقول للآخرين أنا.. ما أنا عليه فقط، وتَكفر بكل التصنيفات المتشعبة والكلمات التي تختبئ تحت سِنّ يُصر بِصكه على إعادة ترتيب درجتك وإن لم تقبل بها، أو حتى توجد علامة واحدة تدل على رهان الاقتناع المسموح بهِ فتتشتت بين أمزجة مختلفة صَدِئة تتكسر أمام كل اختبارات التجربة،لكن قد تقضي عليك أحياناً، وتستسلم لصوت عارٍ لا يُدرك براءة فعل قديم لم تشهده ولا تعرف أحداً حضره، ولا يد شاهد ترتفع لتقر به، مجرد رياح قديمة امتدت وامتدت وأتت به أمامك الآن لتدفع ثمن دم يسري في عروقك ويربطك بالبعيد الذي تقربه نبرات أصوات مخادعة وتفاصيل وجه حقير يتغير إلى الكآبة الصامتة كلما رآك، وهمساتهم المتأخرة تتناثر لقدومك، فيحل الصمتُ الذي لا تعرف معناه لكن تُحِسه يخدش شيئاً في داخلك والمكان ينطفئ فجأة، وسؤال تتمنى أنت أن يوجه لك وأيضاًتسمعه أمامك ولا يسلك طرقاً جانبية منحدرة الوقوع للهمزات “أليس هذا هو؟” نعم هو . هو ابن الضريبة المتأخرة التي صَنفتهُ بشكل مختلف عن الجميع، وهو من أولئك الذين أذعنهم التقسيم لكل أجزائهم ووصموا بالذي يستحقون ، لكن الدنيا كلها لا تخجل منه سوى تخمة التمييز الذي أكلت الناس أو جزءاً من الناس الذين هم فقط يعملون بأيديهم فأهانوا صوت الأيادي وأنا لا أعلم.
لم يغيرني الابتعاد عنها وقطع خطوة توقفت فوق عتبة باب ما زالت أماني الانتماء له لم تخفت وهج حنينه، وحتى الألم الذي أحيا به الآن ليس بمقدور أي ذاكرة أن تزيل أدفأ اللحظات معها، وأنا أخبئ لها شوقاًينتظر رؤيتها كأول مرة من تلك النافذة، فأنثره عليها كله، ولن أبقي شيئاً في داخلي طويته عنها في صميم النفس وحملتهُ على نظرة أخيها وهو يكشفه بموقف أخير أعاد ترتيب الاتجاهات، فلم تتصوب ناحيتها لي بل تجاوزتني رغم كل الود الذي جمعني فيه “عبدالرحمن”، لكني استسلمت لمحصلة الفكرة النهائية وهي تتكون في علاقة تمسكت أنا بها واشتد هو بساعده لي وأفضى كل ذلك إلى اللا شيء وهو يتحطم أمام الرغبة التي سمحت بصوت الجرأة، وأنا أقولها له مستغلاً خلو مجلس الرجال في بيته ومغادرة أبيه وضيوف لا ينفك وجودهم من ملازمة مجلسهم دائماً، والذي يعمر بواجبات الضيافة وعلى شكل عَصَبِ العائلة التقليدية المتمسك بنهج متأصل لجميع جوانب حياتهم حتى تفردهم بلهجة أبوا أن تزول من شفاههم وأن تُحَرّك قواعد بُنيتها الأيام كميراث أعطى صورة تذهب لخصوصية عادات اجتماعهم العائلي واللحمة الحاضرة لكل مناسبة، والتي ترفض أي عذر لغياب أحدهم عن مجلس “والد عبدالرحمن”، والذي يرونه شمساً تنير معنى تقاربهم وضوءاً لافتاًلطريق يصطفون له واقفين، ويدعو أيضاً بنوع مختلف من الفخر الذي أدى اقتحامي على مضض منهم لحياة عبدالرحمن كزميل عمل للتو ابتدأ منذ عام، وسور بيت جيرة لم يتهدم أمام يتم أب مازال والده يرعى غياب جاره الدائم، فَعظُمت محبتي لهم، ورباط اجتماعي يَثْبت في توهّم مخيلتي وأنا أقضي بعض ليال وأيام في بيتهم ولا آبه لكل ضيف يتجدد وجوده من أقاربهم وهو يتداعى لهمس الأسئلة وهي تخنقني في البدايات: “من هذا؟”، لوالد عبدالرحمن، وبصوت يشبه المرور السريع:”هذا أسعد ابن جاري محمود رحمه الله وصديق ابني عبدالرحمن وهو مثل ابني”، فأصبحت الأمثال التي أُشَبّه بها “مثل ابني” حماية لنفسه التي ترتبك، وكلما سمعوا مثل هذا الحديث استنكرت ملامحهم مضامينه،ويبدأ سيل جارف لاستغراب صامت، وأحاول صده بما توفر لي من استطاعة حتى أحولهُ للقعر الذي في داخلي، ثم أزيله بقربي على ظن التعمق برابط يجمعني بعبدالرحمن، وهيأت نفسي حقيقة كأخ من دمه صانعاً إطاراً لوجودي المستمر لتقبل صورة انتماء تربطني به، وإن جازفَ أي شي لتشويه ملامحها، لكني أعيد تزيينها كلما وسع ذلك،وانصهرت جدران بيتهم مع طبائعي الشخصية قبل اندماجي معأصحاب هذا البيت، حتى نافذة الغرفة اليمنى في الطابق الأول والتي تطل على فناء فسيح جداً قبل مجلس الرجال، ودوران هذه الأرض يتوقف للحظة لم ترد أن تثبت شيئاً سوى الجمال في عينيها، وهي تشرق علي أثناء توجهي لعبدالرحمن هناك، فوقفت للدهشة فجأة أمامها حفز ذلك ابتسامة لم تزلها من وجهها، وأرادت أن أعلم أنها لي ولم تجنح لعبور الهواء، واستراح ظل يدي لجرأته وأنا أرفعه لها، دلالة لصوت السلام الذي يلف روحي وينزع عني الأيام وكدرها فجأة وعيون ما زالت تبتسم ويدناعمة تلّوح قبل أن تضم مزلاج النافذة وهي تغلقه بهدوء تاركةً لي رجفات خطواتي تتغير وأنا أعود لانتظار عبدالرحمن وضيوف أبيه الدائمين، واستنزاف اللحظة التي مرت على ماء وجه مرتبك يقتحم أنفاس رجال جالسين، وعمق عينيها يعود في مداهمة لي وأنا أتحسس أجزاء ذاكرتي داعياً لحفظ تفاصيلها التي أتت بخفة متناهية لقلبي المتراخي،فاصفرت ملامحي التي أرهبت قلق عبدالرحمن، ولم يمنعه اختلاسي لمكان بجانبه أن يحرك تمعنه بي وأنا أحاول أن أسند ظهري لمشقة غريبة تلف جسمي بسؤاله الخافت: “هل أنت بخير؟”. والمفارقة تأخذ بتكوينها لشعور مختلف ينشأ تجاه “عبدالرحمن”، واستند على تلك اللحظة الفارقة بانتماء له قد يتطور بوجهة مغايرة وقرب ملاصقته في ناظري يزداد،فضغطت على كتفه وابتسامة على وجهي تجد مكانها، وعيناه باستغراب تتسعان لي: “ليس بي شيء”، وعلى يدي اتكأت للتأمل الذي يحيطني وتنهيدة داخلية أعيدها لنفسي، ويقين ينشأ وأنا أحدد مصدر السكينة التي أحس بها وخيالي معلق هناك على يد رفعت لي هي أشد حناناً من تلفت عنق قلق عبدالرحمن علي الآن.
وجودي.. لطالما شعرت بالخوف من عدم معرفتي بمداه الحقيقي إلى أي مرحلة يصل! لكني أحسست به جيداً، وذلك بمقاومتي الدائمة لنظرات الآخرين وهم يقومون بتصنيف كل حضور لي مستنزف بالنسبة لهم،جاعلين آلة التحرك تعمل والأدوار تنقلب، فجأة أجد نفسي تغير مكانها دون أن أشعر لأحكام تطلق بصمت رافضين مناقشة لمز متطرف تداعى لهم مع عدم الاستطاعة على أن أبتعد عن توقعات لم أفرضها لهم،وأحاول الخروج عن إطار صورهم المتكررة وهم يحددون أبعادها المتناهية، وفي لحظة، خشيت أن أكونها، وأنا لا أعرفها، ولا يسمحون بصوت أدافع به عن خسارة سباق اجتماعي لم أُدْعَ له أصلاً، فقاومت كل أشكال الهزيمة الغائبة في نظري لكن لا أنكر أحياناً سقوطاً متداعياً في استنساخ شعور الانتماء الذي أتقمصه بنسخة متكررة اقتربت منها للتشوّه بإيماءات رأسي لحديث تافه أرهقني خوضه، وتوافق تام لرأي أجهل تفاصيل حُجَجٍ لم أنصت لها منذ البداية، ولرفضي أن أكون بهذا الشكل الذي أتقزز من ذاتي إذا استدعيتها لأراها فقد تراكم ثقل حضوري لمجلس والد عبدالرحمن وجيوش روادهم يتوالى، والذي لا يتوقف ولا يريد أن يحقق هدوءاً للمكان، ورغبة جامحة تدفعني لشبه انقطاع عنهم، لكن رؤيتي لنافذة تُوقد لي جَذوة دفء من عيون “ليلى” أعادت لي معنى التجاوز بابتسامة على أثرها، اخترت مكاني وهي تحدده عنواناًللحقيقة الوحيدة التي تشعرني بنفسي هنا، والذي شهد بذلك نافذة أغلقت على وداد لحظات يقف تحت نسائم روحها، واستطاعت أن تَفتح نافذة أخرى، ولطريق مهدته للذهاب إليها، وطوق رسائلها ترميه لأنجو بمشاعرها، وهي توسع هذا العالم الضيق وذراعاه تفتحان لي بموجات الحنين، تبعثها على يد أختي، وبأمل صغير تضعه في درب عودتي للبيت، وأنا ألاحظ ضحكات سعاد المسروقة لليل تأخر وقت نوم أقلقه تلاعبها بالكلمات: “زرت بيت جيراننا اليوم.. صديقك عبدالرحمن”، وغطاء السرير وهي تأخذه لمحاولات استفزاز بريئة آمنة من عدم غضب لم تعهده مني بل تشكلت بالحنان الذي أسكبه عليها وعلى والدتي حتى أصبحت لهم أباً يسعون له بشيء يشبه رد الجميل الذي أرفض حضوره بشدة في طرق تعاملهم لكسب رضاي، وأنا أغلق لحظات العمر عليهم: “لم تتوقف ليلى أخت عبدالرحمن في الحديث عنك وعن خلقك وتهذيبك ومدى محبة والدها وعبدالرحمن لك”، وغمزة من عينها وهي تتوقف عند لفظ محبتهم أربكتني، وبابتسامة المتجاهل لحديث سمعته جيداً طلبت منها أن تطفئ الضوء قبل أن آمرها بالخروج: “إن كنت تريد أن تنام فلا بأس سأتركك تنام”، وعلى سؤال أعادته للتأكد من رغبتي في النوم وذهابها عني، وأن لا تكمل حديثها، واستسلمت للمغادرة وهي تدس ورقة صغيرة تم طويها بمشبك صغير تحت وسادتي: “هذه رسالة من الآنسة ليلى”،وأغلقت الباب على رقيق الكلمات التي انسلت منها تلك الورقة التي رقصت بين يدي:
رأيت ابتسامتك..
الأماني كلها محصورة بين عينيك.
ليلى
ملحوظة: لا تخشَ من معرفة سعاد لمشاعري فهي صديقتي أيضاً.
وانتمت لي كلمة “أيضاً” لمكان يوضح المسافة التي تلاشت بيننا،والإيجاز الذي وقعتُ فيه وهو ينطق بكل أماني نفسها، وتحديد مسار خطوات سآتي إليها وأنا متيقن من أني لن أخطئه، ولن أتأخر في رد ينتظر إجابة، وأهزم هذا العالم بصوت رسالة أشرق عليها صباح زهري،وأنا أسلمها ليد سعاد، وفرح يتراقص من عينيها لي لا أعرف مصدره،لكني أتخيل كيف هو شعورها بعدما أوصيتها بسر مدركاً أن ثقتي لن تخيب في قلب أخت ستحفظه: “لا تخش يا أسعد.. ليلى إنسانة جميلة وتستحقك أيضاً”.
ابتسامتي.. صدىً لروحي..
أنتِ أجمل أماني القلب التي أريدها.
أسعد.
ملحوظة: خطّك جميل.
لم يعد ذلك التجاهل يُريحني لحديث أجد صعوبة في مشاركته وهو ينتقل بين أصوات المتحدثين في مجلس والد عبدالرحمن، والذي يكتظ كعادته أمام عدم اهتمامي حتى وإن ترقبت فسحة من خلاله أتسرب لهم على شكل إضافة قد تثري المعاني التي يتم تداولها بينهم، لكنه حاجز صعوبة غريب رفضها، وتوارت أسبابها. فقط الارتطام في كل محاولاتي هو الذي أحسست به، حتى شغف عبدالرحمن المتهالك أمام صمت يراه قد يطبق عليّ، فيؤذيني دون أن يشعر وهو يمهد لي مبادرة حديث أريدهُ ولا أريده بنفس الوقت: “حتى أسعد لديه علم واسع بهذا الأمر”، فترتبك كلماتي أمام باب أغلقه في لحظة أحدهم وهو يبتر حديثاً لم أكمله، ويمتد هو به بعدما رمى مفرداتي وخنق صوت لم تُسمَع نبرته جيداً، ويلتصق بي أسى أعجز عن وصفه، ليس بكبير ليقصم ظهري ولا هو يصغر في ناظري وأقدر على تجاوزه، فأهرب إلى شعور العمق الذي في داخلي.محاولات أبذلها الآن لتهدئته في فناء خارج مجلس لا تتسع بين جوانبه نفسي ومراقبة لنور قد يخرج من نافذة ضِقْتُ ذرعاً من إقفالها المحكم وإسدال ستائرها المستفز، وانتبهت للوهلة الأخيرة لعلم الكويت صغير عُلّق على عتبتهِ، واتكأت على سيجارة تشتعل في يدي وتحاول أن تخفف هزات شكوك قلب وشروداً يتبع دخاناً أبيض أنفثه، وتنازلت اللحظة الميتة عن إصرارها، وصوت يعيد لروحي لونه ويعانقه : “أسعد”؛ نبرة لها القدرة أن تلمس قلبي وتغنيني عن قلوب الأرض، فعَدوت لملامح أخذت كل انتباهاتي، وعيناي تطيلان في تمعّن تُريدانه، وأثره يحيطني حتى وصلت للشرود التام بها، فخشيتْ ارتباك التحديق بها يخرجني عنها،وبتلويحة من يدها لعلم الكويت ظلّت تُكرّرها حتى أفيق من إغمائي الواقف تحت عينيها، فابتسمت لها وهي تُودع هذا الشعور بإغلاق بعدما مَنحت الأشياء بريقها، ولا يشبهه إلا النوافذ في هذا الوقت، وهي تتزين بأعلام الكويت المتهيئة لاستثناء الأشهر “فبراير”، والذي يتفرد هذه السنة أيضاً بمرور ربع قرن على استقلال الكويت، واعتلت أسطح المنازل التي تعد خالية إلا في هذا الشهر، فترتفع رايات وصور حكام الكويت حتى في الطرق، وإنارات الشوارع تتشكل بالألوان الأربعة لعلم الكويت.كل شيء يزهو ويتجدد في هذا الوقت ذي البرودة المعتدلة، حتى كراسات الطلاب تأخذ واجهتها صور وطنية، والمرافق الحكومية تتزين في مداخلها للناس، وتروى حكاية هذا الوطن في كل مكان ولا يتوقف التلفاز في 25فبراير، تبدأ الأغاني والأوبريت الوطني يقدم عروضه المنتظرة من طلاب وطالبات وزارة التربية، وأخذت أعيد نظراتي لتلك النوافذ وأعتلي بعينيّللأسطح التي تجاورنا ونافذة “ليلى”، وعلم صغيرلا زال يتدلى منها،فيتضاعف معنى آخر حقيقي للانتماء، ويمتد الشعور ليشمل كل شيء، حتى عيون ليلى وطن ألجأ له، ويداي تلوذان بها، لا يشبه ليلى سوى البلاد.
ما الذي يشغل بالك؟
أمل قلبي يتسع لك.
ليلى.
ملحوظة: لم أتخيلك إنساناً مدخناً.
***
أريد أن أكون بجانبك هذا ما يشغلني!
سيمتلئ قلبي بكِ.
أسعد.
ملحوظة: لن أدخن أبداً بعد الآن.
لم تكن في صالحي الخطوات التي أصبحت ثقيلة بالندم لكل اللحظات التي يجرني إليها طريق مشيت فيه هناك على وجس خاطئ لا يريحني،وكشفته في إحدى المرات لعبدالرحمن بعد أنَفة لم تمنعني من البوح له على مضض: “هناك أشخاص من الذين يتوافدون عليكم باستمرار أشعر يا عبد الرحمن بكرههم لي”. عَزّ عليّ صوت الهوان الذي أحسسته بعد عبارتي له، ولم تُسعف تأكيداتهُ على تطمين شكوكي، وأرغمت نفسي على مجاراة مصادقة انتهيت منهاـ وكمية مخزون في الذاكرة يحمل أسى مواقف عديدة يناقضهاـ ويقفز أمامي: “أبداً هذا غير صحيح، أنت واحد منا أسعد”. واحد منكم! لو تعلم كم في القلب من أمانٍ لتحقيق هذه الكلمة الغائبة، ودعوتها لكي تحضر، وأتخيل في خاطري كم مقدار الثمن الذي أنا مستعد أن أدفعه، وتصورتُ حتى الأشياء التي أتجهز لأرغم نفسي عليها من أجل أن أشعر بصدق محتواها، وأنها ليست عابرة فقط.. آه لو استطعت أن أبوح بكل هذا لك الآن يا عبدالرحمن! فانتبهت لقيامه السريع ليقطع خيطاً من الشرود وحفاوة استثناء لزائر أغاظني.. صوت تهاليل وجه والد عبدالرحمن لقدومه وهو يطلق عبارات ترحيب اكتظت في المكان، ووقوف الحاضرين استعداداً للسلام عليه، والتوقف للحظات على كل يد تصافحه بعد تبادل حديث سريع لكل شخص على حدة، ثم ينتقل للشخص الآخر، ويكرر تفاعله حتى وصل ليدي الباردة، ليتنازل عن حرارة ضمها، واكتفاء فقط بملامسة خاطفة، دون أن ألفت انتباه عينيه، وملامح وجهه تَتَصّوب لهفة لعبدالرحمن الذي يقف بجانبي، واعتلى المكان صوت اللقاء الذي جمعهم به، وانطفاء يلمس كل ذرات جسمي، وأنا أستمع لتصدر صوت الضيف “علي” ابن عمهم الدارس في بريطانيا، والذي يستغل إجازة العيد الوطني بقدومه للكويت، وكل شيء يدار إلى الصمت ما عدا حديثه الذي تترقبه أعناق الحاضرين الملتفتة إليه بانتباه، والذي فاتتني كل محطاته، ولم أتوقف في أي موضع منها، واستكنتُ للتفاهة التي ألغتني، وذبل فيها وجودي الذي اخترته بيدي، واستوحشته حتى وصل التغاضي بمغادرة المكان مع فكرة توقفت عندها للحظات؛ أن أستأذن وحديث ضيفهم مازال يُسمع، فتمسكت بالخروج والجميع بمنأى عني، وشعور بضآلة نفس تذهب ولا يشعر بي أحد لغربة مكان لا يبالي بخلو حيزي فيه، وبانسحاب ذاتي المنهكة على سؤال أردده في طريق عودتي للبيت وأنا أفكر فيه: “لماذا أشعر بأقل مما استحق من اهتمام؟”.وسحبت أداة الإجابات الحادة حتى لا أجرح نفسي، وتجاوزت خوف ظنون من فرطها ستقضي عليّ لولا يد سعاد وهي تتوسط غرفتها، وبابها مازال مفتوحاً، وتعلم بقرب خطواتي منها، ومن دون لفت انتباه والدتي في صالة البيت ظلّت تُلوح بصمت برسالة تحملها، أنستني كل الذي شعرت به هناك، لكن لم تعلم عند لهفتها وهي تحمل رسائل ليلى الكثيرة أن هذه ستكون الأخيرة، وتعود على سعاد بالألم الذي لم تتوقعه، والكتف الذي ظلت سنوات تستند عليه مالَ وهو يقترب من حتفها، لتسقط عليها النهاية الصامتة، وجفاف وضوحها يحيط بيدي وهي تُسيل دماً سيبقى أثره على وجه سعاد كلما رأيته.
اشتقت لك
حاول أن تقترب.. لا تخف.
ليلى.
ملحوظة: أخبرتني سعاد بمشاركتها في حفل العيد الوطني والذي تم تصويره بتلفزيون الكويت وهي خائفة أن تخبرك.أرجوك لا تغضب منها.
ودون أسف لحروف رسالتها، وهي ممتلئة بالأشواق القادمة في وقت لم يكفِ ليبرر ردة فعل مجنونة تلبّستني لمواجهة تغافل أحدثتهُ سعاد بهذه المشاركة دون علمي، وتجاهل لغضب قد يكون، وأصبّه كله عليها وأنا أجرها لغرفتي في غياب حضور والدتي التي انتصف الوقت والألم وأنا ألحقه بضربات على وجهها، بعدما تراكم غضبي وتضاعف، وهي تخبرني بأن التلفاز سيبث الأوبريت هذا المساء، واشمئزاز لتبريرها لم يوقف غضبي، وتوهمت وهي تحاول إيقاف قطرات دم سالت من أنفها،أني فقدت كل طاقتي في الاستماع: “لم يكن في هذا الحفل ما يسيءلنا يا أخي.. فقط أغانٍ وطنية ودخولي كان عابراً، لم يتجاوز الدقيقة الواحدة، مجموعة من الفتيات تحمل أسماء الدول العربية، وأنا من ضمنهنّ”.
وتنامى حرصها التي ظلت تتمسك به لعدم إيذائها بسبب فهمي الخاطئ عن الذي حدث، وزادت من رجائها المتكرر بأن أحاول أن أرى الموضوع بشكل واضح، واقتطعت نهاية عبارتها بالتفاتة سريعة وهي تنزوي خلف ظهر والدتي وهي تقتحم موقفاً لم أرد أن تكون فيه: “ما الذي يحدث؟”،وإسراف لصراخ أعليتُ دويه محاولة مني بتعميق أسى ظهور أختي على التلفاز وأنها سيشاهدها الجميع، وخشيت من تسطيح والدتي كعادتها، أو أن تكون هي تعلم بمشاركتها، ففزعتُ لارتفاع صوتي ليُؤخذ هذا الموقف على محمل الجد: “ابنتك تشارك في حفل ممتلئ بالرقص والأغاني، والتلفاز قام بتصويره، وسيشاهده جميع الناس.. يا الله! ماذا سيقول الجيران؟ ماذا سيقول بيت عبدالرحمن وأهله؟”. وانتزعتْ كل دفاعاتي التي أردت أن أقنعها بها لأسباب ثورة بدأت تتفحص آثارها على وجه سعاد: “أختك ما زالت صغيرة يا ولدي، والناس هؤلاء الذين ذكرتهم كيف سيعرفون بالأمر؟ من سينتبه لها؟ وهي كما تقول لم تظهر كثيراً”. ذبتُ في التفاصيل التي بدأت أتخيلها؛ لو علم الناس بهذا وبعدم اكتراث والدتي ونظراتها العابرة التي ترى سعاد ذات 17 سنة صغيرة، وبدأ غضبي بمواساة الظن يستسلم لها، وقد بدأ يرحل ويكف يديه عن موقف رأيت أنه وقع وانتهى الأمر، ولن يخفف حدة ارتطامه إذا علم الجميع، فقد يكون فعلاً مرورها في الحفل عابراً ولن ينتبه له، ورغبة جامحة سيطرت علي لمشاهدته والتأكد بنفسي.
البلاد التي تطلب الأماني تزينت برقم 25 بدلالة ربع قرن مضى على استقلال الكويت في صدر مسرح رتبت صفوف الطلاب والطالبات،وامتلأت مساحة المكان بالكورال والمؤدين، حتى جُعِل العازفون أمام الجمهور مباشرة، وجاء التناسق المكثف للوحات العرض يواسي الألم الذي أشعر به، وتسمرت أمام التلفاز للتخفيف من شدة وطء مشاركة سعاد، والأماني كبيرة بأن يكون حضورها غير لافت لأحد قد يراها ويتعرف عليها، وظل قلبي فارغاً واللوحة الأولى في العرض تبدأ، وفي انتظار أن تظهر سعاد وتخرج من شاشة لم أتخيل في يوم من الأيام أني سأراها هنا فيها، لكن لحظات تَمَعّني انتهت لشعاع أنوار الأهازيج وهو يتخلل صداه لمنطقة معتمة في داخلي، واستعذبت تلك المعاني، وبدأت أنتفض انتماء لصوت مئات الطلاب وهم يفتحون عيون القلب لحب لم أتخيل أن مكانه فيّ سيتحرك هكذا، ويأخذني لبلاد حب، ويتمثل وجودها عمري كله الذي عشته، وخطوة أخيرة تستحق النهاية، وراحة بدأت بالمسير لي لعذوبة دخول الطلاب والطالبات بأسماء الدول العربية،مؤكدين انتماء الكويت العروبي، ومضى القلق بي وأنا أتخيل سعاد ستظهر الآن، وأتساءل: بأي شكل سأراها؟ لحظة مرت ولاقت لي خطوات سعاد البريئة وهي تحمل إشارة باسم “الجزائر” تقود طابوراً من طالبات تزيّنّ بلباس شعب الجزائر عليهن، وحنقي الذي أظهرته لها قبل قليل لم يقف بيني وبين عيونها التي ترقص لتقدمها أمام مسرح وصوت الأهازيج تجذب أيادي الحاضرين، وهي تصفق لها على مرور لم يطل حقيقة، لكن صورتها قريبة للشاشة، وباستطاعة المدقق بعلم مسبق أن يعرفها، وانتهت اللوحة ولم تنته رغبة في نفسي بأنني لا أريد أحداً أن يعلم بمشاركتها رغم الذي رأيته وأسعدني قليلاً.
طالَ أنين الغياب واستعصت بعده يد سعاد على كل تلويحة تحمل رسالة من ليلى، ولم يخطر ببالي أن حبل الوصل الذي ربطته ليلى من أجلي قطعته بيدي التي امتدت على أختي، وتوقفت بعدها نظراتها لي، ولم تعد تراني، وخذلني الضوء وأنا أضيئه وهو يتسلل معي لأيام، وأنا أفتح باب غرفتها، وظهرها تديره بتصنّع النوم بعدما شعرت بقدومي المتكرر، آلمت نفسي قبل أن أؤلمها، إحساس بالذنب تجاه قطرات دمها التي سالتيُمزقني بعدما خَفّت كل موجات الحنق، وقاومت مخاوفي من أن يعلم أحد، ويتلاشى كل ذلك باطمئنان للتأكيدات التي أحالتها لي نفسي بعد رؤيتي لمرورها السريع والأشياء الآيلة للعبور لن تنتبه لها عين، وما أكثرها حتى مروري تحت نافذة كَذبت كل ظنون المصادفات التي أهيئلنفسي لأن أرى ليلى خلفها، فأطلتُ اللحظات وهي تمر من تحتها مختبئاً وراء ظل النافذة لعل ملامح وجهها تستفيق لخيوط الشمس الضاربة، وخوف من أن يكشف انتظاري انتباه أحد مع كثرة خطوات الوافدين هناك، فيفسد علي اللحظة التي قررت تكوينها في داخلي بإصرار مثقل بالأمل الذي آمنت به، وقلبها سيسعني بكل جوانبه.. فتراجعت لاتخاذ الخطوة القادمة، وتنهيدة اللحظات العجاف جفت في جوف امتلأ هذا المساء الذي أخذت فيه كل انتباهات عبدالرحمن في بداية ليل صادف حضوراً قليلاً لمجلسهم، ووالده منشغل بهم عنّا،واختيار الصفحة الأولى لحديث هامس : “عبدالرحمن.. هل تعرفني جيداً؟”، وانطلقت الدلائل التي يَسردها بعمق بعدما أدرك جدية سؤالي دون أن تُفزعه توقعات لما خَلفه من أشياء مفاجئة له، وصوت استرساله أزهر بساتين روحي، وهو يلتقط من صفات يراها أجمل ورودها، ولم يكن في خاطر مخيلتي جماليات نظرته لي بهذا الشكل، واستعادته لذكريات أيام صدق جمعتني به، والتي أذابت جليد حروف استعصى عليه قولها:”أريدك أن تساعدني بأمر مهم.. أريد أن أخطب ليلى من والدك هذا المساء.. ما رأيك؟”. ألقى عليّ تردد ملامحه وجهه المتراجع والذي غمرته وحشة لم تستغرق كثيراً لتظهر على نظراته حتى وإن كانت بمقدار ضئيل، لكنها مؤلمة بهذا السكوت المتطرف الذي اجتاحه، وعيناه تتصوبان تجاه والده الجالس هناك، ويعيدها لي متكاسلة، وشعور بأنه انفصلَ عنّي فجأة، وانفلات عبارة أشاح في منتصفها بوجهه لريبة لم أستطع أن أحدد أسبابها، لكني أنصتُّ جيداً لصمته الذي طال بعدها:”هذا الموضوع يا أسعد ليس لي به أي رأي، هذا أمر أوله وآخره عند أبي”. لم أتوقع مع حياديته التي أحسست بها بطول المسافة التي امتدتبيننا الآن، وجعلني أرتبك لقرار الذي اتخذته، ولا فرصة أيضاً لتراجع لا أريده، ونتائج ابتعادي عن “ليلى” ستقضي علي، فجاهدت إرغام نفسي على تجاهل شعور حنق صغير لعدم تحمسه الذي غاظني به، وتساؤلات تجتاح تفكيري عن برود صوته في هذا الموقف وهو يوارب باباً يستطيع أن يفتحه وإن كان من أجل تصنّع للمجاملة لكنه تسلل للبعد الذي أشعر به الآن على الرغم من أنه يجلس بجانبي.
تناسيتُ نفسي عندما أحلت تشكيلها لكم، وأياديكم تعبث بحق أن أكون ما أريده من باب الاختيار الذي أقفلتم بابه غير سامحين بحدس يتراءى لي بمعني طبيعي للتشابه، وأن لي حق الاقتراب، فأتوَهّم أني أقترب.. وأقترب وأدس كلمة “مثل أبي” في منتصف حديثي، وتلقاها والد عبدالرحمن بعينين امتلأتا حناناً، وتناظرت مع ارتجاف أنفاس عبدالرحمن قبل سماعه لحديث هو يعرف إطلالته، وأفرط بسكوت خشيةعواقب توقعها، ولم يخبرني عنها، تاركاً لي النهاية التي لن يفوتني الندم على أحداثها، وقطرُ بدايتها يَهُلّ عليّ، فامتلأت بماء ذكرى جميع اللمزات التي خجلت من الظهور من قبل، ولم يكن أوضح من لسعة تُلهب قدمي والد عبدالرحمن ونار تحرق ساقيه، ووقوفهُ فجأة. تابعتهُ أنا أيضاً بقيامي له وفراغ يحيطني أمام “لا.. طبعاً”. بدت “لا” متسمة بالوضوح لكن “طبعاً” لم تكن لها الرغبة بأن أراها جيداً، وغشاوة فصلتني عن صوته العميق، فاقداً توازن ملامحي لانتهاك مفردة مكان تمنيتُ فقط الاقتراب منه والتطابق معه، والذي انقشع وكتف والد عبدالرحمن يغادر بينما احتجت لجهد كبير، وقلب آخر يتحمل وجع أذاه الذي أبى إلا أن يضاعفه لكن بشكل مختلف وهو يوجهه لي “لقد نسيت نفسك”.
إلى ما قبل النسيان ليتني أعود وأغتال فكرة الأمل قبل أن يداس بأقدامهالتي غادرت قبل قليل لمكان امتلأ بالخدعة المغشوشة التي أسرفت في تزيينها لنفسي، ولم أكن لهم سوى ظن شَوّهَ معالم وجهٍ يرونه، وتداعيتُ من أجله لقلق البحث عن حيز وسط اتساعات لم تكن لي. والآن صوت عبدالرحمن المتبعثر لطرائق يريد من خلالها أن يسلك مساراً يُخفف من خلاله ألماً لا يليق بأن أخرج بهِ من بيته وأنا أحمله، لكن نفسي أبت إلا أن تختلف الآن، وبدأت رغبة حقيقية باستعادتها بأن أضع حاجزاً استغربت من قدرتي على إيجاده، فعزلتُ عني صوت عبدالرحمن،واستنكرت خطواتي وأنا أغادر لوضوحه الذي أتى متأخراً وأشعرني به ،وامتنان أيضا يحيط بي لكومة الشكوك التي أزيلت من أمام عيني،وإغلاق نافذة لم يَلتفت لها عنقي حتى لو خلفها قمر، واقتربت من باب الخروج وهو يَتبعني، واتسعت الدائرة التي جعلت عبدالرحمن خارجها تاركاً عنده مشاعره المزيفة لي وتصنّعي الساذج بفرصة انتماء لهم، لكن نسخة من الحقيقة أردت أن يعرفها، وأن تلمسها يده التي يضعها على كتفي يحاول تهدئتي قبل أن أزيحها عني وعن كلماته التي لا أريد مشاركتي له بها حتى بالاستماع، فأوقفت حديثه المترهل، وبمنحى آخر لا أعلم كيف سَلكته وأخذتُ عبدالرحمن له: “حفل وزارة التربية للعيد الوطني.. شاركت به أختي سعاد”. لاحظت شرود عينيه، وحسبته يظن أني فقدت عقلي بعد رفض أبيه لي، وملامحه ترسم صوراً جَلية للاستفهام: “الحفل الذي تم بثه قبل أيام، ألم تشاهده؟ سعاد أختي كانت في إحدى لوحات الأوبريت الوطني”. فزاد فرط سكوت على سؤال وحيد امتلأ بالقلق: “أسعد ما بك؟”. وغَزت روحه المخاوف عليّ، ويده تحاول مسك كتفي من جديد، لكن تراجعت عن محاولة اقترابه مني: “احتفالات بمرور خمسة وعشرين عاماً على استقلال الكويت شاركت بها أختي..”،ولم يسمح لي باستمرار حديث مجهول بالنسبة له لم يفهمه، فأراد أن أصل إلى نقطة النهاية:
– “أسعد أرجوك أن لا تعيد هذه الكلمات.. الحفل الوطني شاركت به أختك سعاد فهمت كل ذلك.. لكن ما شأني أنا؟!”.
– “لا شأن لك”.