” الأدب الذي نحيا به ” يتناول قراءة في أدب جيمس جويس ومارك توين وجان بول سارتر وخورخي لويس بورخيس. هذا الكتاب هو كتابي الاول والذي يتضمن قراءات في أدب أربعة أدباء عالمين، الأدباء الذين لديهم باعٌ طويل في الكتابة والتجربة الادبية، الموضوع الذي تكلمت عنه في الكتاب هو موضوع أدبي بحت، أدبي في يخص أدباء وتجربتهم في الكتابة الأدبية الذين أغرقت أساميهم بقاع العالم، إنّ مجتمعاً بلا أدب، أو مجتمعاً يرمي بالأدب كخطيئة خَفيّة إلى حدود الحياة الشخصية والاجتماعية، هو مُجتمع هَمجي الروح، بل يُخاطر بحريته، لولا الأدب لقتلنا المنطق، ولولا الموسيقا لدفنتنا الواقعية، وقُصّت أجنحة العاطفة، الأدب مكانٌ يبنيه الكُتاب والقُراء؛ إنهُ مكانٌ هشّ شيئاً ما، لكنه عصيٌّ على التدمير، حين يتصدع نرمّمه لأننا بحاجة إلى مأوى. وكما يقول الكاتب والروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا «الأدب هو أفضل ما تم اختراعهُ للوقاية من التعاسة». الأدب كما يعرف جميعُنا جيداً لا يُقدم حلولاً، بل يطرح أحجية، وهو قادر، في رواية ما أو قصة معينة، على الجهر بتعقيدات لا نهائية لمسألة أخلاقية، ويمنحُنا شعوراً باكتسابنا حداً معيناً من الإدراك الذي نفهم به العالم بشكل أفضل، يُغريني القول إن كُل كتاب ينشغل القارئ به يطرح سؤالاً أخلاقياً، أو بالأحرى حين يكون القارئ قادراً على الحفر تحت سطح النص يُمكنهُ أن يستخرج من عمقه سؤالاً أخلاقياً، حتى لو لم يكن هذا السؤال مطروحاً من قبل الكاتب بكلماتٍ كثيرة، عبر هذه الخيمياء يغدو كلّ نصّ أدبي نوعاً ما مجازياً.
حين أقابل شخصاً للمرة الأولى، وأخبره أنني ألفتُ كتاباً أدبياً يتحدّث عن أربعة أدباء عالميين لديهم باعٌ طويل في الأدب والكتابة الأدبية، يكون سؤاله عادةً: لماذا وَقعَ اختيارُك على هؤلاء؟ ومع مرور السنين استطعتُ أن أصوغ إجابة جاهزة أقولها للجميع: «لقد كانوا رائعين ومُذهلين إلى حدٍّ لا يوصف، وإنهُ لشرفٌ عظيم للمرء أن يعرِفَهم». صرفتُ من العمر مع الكتب زمناً أطول بكثير من ذاك الذي صرفته مع الناس، والسبب ربما أنني وجدتُ في الكتاب نوعاً من السلوى لم أجدها عند معظمهم، فَقلَّ بذلك الأصدقاء وازداد عدد الكتب التي صادقتها، وقضيتُ عمري كلهُ وأنا أتحدث إلى أناسٍ لم أرهم أبداً، مع أناسٍ لم ألتقِ بهم أبداَ، وأتمنى أن أبقى كذلك إلى ما لا نهاية؛ حيث إنها الوظيفة الوحيدة التي أحببتها في حياتي.
تقدم بي العمر، وترسخت عزلتي، وأضحى عالمي الحقيقي هو عالم القراءة والكتابة، وَوَجدتُ أن القارئ الذي يمضي جُلَّ حياته في القراءة والبحث والتعليم والكتابة يكون، في الغالب، على هامش الحياة العامة والأحداث الجِسام، فإذا كان ثمة من فائدة تُرجى من تجارب حياةٍ مُنعزلة كهذه فهي تكمن في استعراض ما مَرِرتُ به من الكتب والنظريات التي شغلتني عبر السنين. وأعظم من وَصَفَ العزلة هو الروائي الإسباني كارلوس زافون، حين قال: «لم يُحببنا العالم ولم يسُعنا، وَوَسعتنا أرفُفُ مكتباتنا، وحيز غُرفنا الضَيّقة». وأنا في عُزلتي أقرأ، ثم أقرأ ثم أقرأ، وأشك في أن يتمكن المرء من أن يصبح كاتباً بارعاً من دون أن يكون قارئاً جيداً. وكما تقول الكاتبة والروائية الكويتية بثينة العيسى: «الكتابة بعين المُستكشف الفضولي أمتعُ من الكتابة بعين الخبير المُلمّ بكل شيء». وثبتَ لي بذلك أن الأدب هو القيمة الأسمى على الإطلاق، وأومن بأنّ الكتّاب يتوصلون إلى الكتابة عبر القراءة، وعبر عمليات التراكم والنضج، وعبر الأصداء وتكرارها، التي تُشكّل ذخيرةً تسمح لهم بالكتابة. ألوذ بالأدب عندما أكون مهموم البال؛ حيث ينقذني دائماً من اليأس. كنتُ أنا الحالة الشاذة في العائلة، الوحيد الذي تعاطى الأدب، وأتعاطاه كما لو أنهُ أفيون، وأشير إلى كاتبهِ على أنه طبيب للعقل، وأرى في ذلك أنّ الكاتب ليس في خدمة أولئك الذي يصنعون التاريخ، بل هو في خدمة أولئك الذين يتحملون أوزاره. وللأدب أهمية سواء في ذلك الفرد أم المجتمع، وبمقدوره أن يكون مُهماً، بل عليه أن يصبح كذلك، وقراءته هي الطريقة الوحيدة لفهم حقيقة هذا المُجتمع. في الأدب ندخل إلى قلوب الناس وأرواحهم بطرائق لا يسمح بها أيّ شكل فنيّ آخر. ومازال بحر الأدب يشهد الكثير من الأحداث والأحاديث، وما زلنا إلى الآن نكتشف جوانب الرقي والتحضّر التي أتى بها هذا الأدب. وقد قمتُ بمحاولة البحث والاكتشاف عبر السنوات الماضية، وَوَجدتُ أنّ هُناك قضية مهمة وخطيرة وطارئة على موضوع الأدب هي ما يسميه بعض الكتّاب، ومنهم سارتر، الأدب الرديء، فإنّ هذا الأدب طغى في بعض المناطق، ومنها مناطق الوطن العربي. ونحنُ، في هذا الصدد هنا، وفي هذا الكتاب، نقدّم مُحاولة قراءة لبعض الأعمال الأدبية الرصينة، أو ما يسمى الأدب الجيد؛ حيثُ هنا أغوص بقراءة ودراسة وتعريف هذا الجزء من الأدب بشكل واسع ومُستفيض، وذلك من أجل أن نتمكن من وضع النقاط على الحروف، وتفعيل السمة الجمالية والاستفادة منها. وقد بدأتُ الكتابة عَرضاً، مُثقلاً بالمعاناة، من دون أيّة خطة، بل مدفوعاً بالرغبة في كتابة المزيد فحسب. وفي كلّ الأحوال يبقى لدى الكاتب فكرة أن هناك من سيقرأه حينما لا يعود موجوداً، وهذا هو مستقبله، كم من الوقت يبقى مقروءاً؟ هذا رهنٌ بالكتاب، على كلّ حال. يُمكن أن تبقى مؤلفات سارتر خمسينَ عاماً، ويُمكن أن تبقى مؤلفات بورخيس مئة عام، ويمكن أن يبقى جويس مقروءاً إلى ما لانهاية. ليس المُهم أن يقرأ الناس قليلاً أو كثيراً، لكن مؤلفاتهم ستبقى كما بقيت مؤلفات أندريه جيد، وجان جيرودو، وروجيه غارودي، وسيمون دي بوفوار، وغيرهم. أما الذكريات الأخرى، فهي قد لا تهمّ سوى الأولاد والأحفاد وبعض الأصدقاء المُقربين، هذا إذا اهتموا بها أصلاً.