المدونة

اثنان الرواية التي تُضمِرُ الكثير من الحب، والكثير من العنف، والكثير من السخرية

قد لا تكون رواية «اثنان»، للكاتبة الفرنسيّة من أصلٍ روسيّ إيرين نميروفسكي، أهمّ روايةٍ لها؛ فابنة كييف المولودة عام 1903 عرفت شهرتها الحقيقيّة من خلال روايتها «دافيد غولديه»، التي صدرت عام 1929، وما بين «دافيد غولديه» و«اثنان»، عرفت الكاتبة تقلّباًفي المستوى نتجَ عنه تقلّبٌ في تلقي أعمالها المنشورة في تلك الفترة، وذلك إلى حين صدور هذه الرواية التي بين أيدينا، والتي ربّما يمكن القول إنّها الرواية التي، مع النجاح الكبير الذي حقّقته،حمت كاتبتها من النسيان المطلق عقب وفاتها؛ فهي آخر روايةٍ نشرتها وهي على قيد الحياة قبل ترحيلها إلى معسكر أوشفيتس النازي ووفاتها هناك عام 1942.

في هذه الرواية، الصادرة بطبعتها الفرنسيّة الأولى على شكلِ فصولٍ عام 1938، في مجلّة Gringoire (وعلى شكل كتابٍ عن Albin Michel عام 1939)، يستطيع القارئ القول إنّ نميروفسكي انقلبت على مسارها الأدبي الذي دأبت عليه طوال فترة حياتها، واتّجهت نحو ثيمةٍ جديدةٍ ترسمُ واقع الشباب الفرنسيّ في السنوات العشرين ما بين الحربين العالميّتين، وذلك على الصعيد العاطفي؛ وهي ثيمةٌ لم يسبق لها أن اشتغلت عليها، ولن يُقدّر لها تكرارها، وهو ما يعطي هذه الرواية تفرّداً خاصّاً في تجربة نميروفسكي الأدبيّة، القصيرة نسبيّاً والخالدة.

يعطينا عنوان الرواية «اثنان» فكرةً شاملة عن الأساس الذي تقوم عليه الرواية: العلاقات الثنائية؛ وفيها نجد علاقةً ثنائيّة أساسية تتمحورُ من حولها علاقاتٌ ثنائيّة فرعيّة سيكون لها الدور في رسم حبكة النص الروائي. هذه العلاقة جمعت بين كلّ من ماريان سيغريه، ابنة الرسام المعروف والعائلة الأرستقراطيّة الغنيّة،التي لا ترغب في شيءٍ في هذا العالم سوى الاستمتاع، وأنطوان كارمونتِل، ابن العائلة البرجوازيّة وأحد الذين شاركوا في الحرب، الذي يتمتّع بقدرة كبيرةٍ على سحر الفتيات وإغوائهن… وينتهي بهما الأمر إلى الزواج من بعضهما. هذه العلاقة الثنائيّة، التي جمعت بين شخصين متشابهين ومتناقضين في آنٍ واحد، ستعيش التقلّبات والتحوّلات كافّة التي ستلاقي من خلالها بقيّة شخوص الرواية (الحب، الخيانة، الألم، الخلافات الأسريّة، الموت، الخوف، المرض…) من خلال تكوين ثنائيّاتٍ مختلفة (أنطوان ونيكول، أنطوان وإيفلين، ماريان ودومينيك، دومينيك وصولانج، صولانج وجيلبير…) لن تلبث أن تنهار أو تتلاشى أمام صلابة زواجهما الخارجيّة، هذا الزواج الذي قُدِّر له الاستمرار رغم الهشاشة الداخليّة التي سادت علاقتهما.

رغم أنّ الفئة المستهدفَ الحديثُ عنها في الرواية هي فئةُ الشباب، نلحظُ حضوراً مهمّاً للآباء والأبناء أيضاً في النص؛ حيث جمعت ماريان وأنطوان مع آبائهما علاقةٌ مضطربة ومتوتّرة وغير صحيّة؛تحديداً أنطوان مع والدته، هي العلاقة التي من الواضح أنّها على وشك التكرار، ولكن مع فرانسوا وجيزيل؛ ولدي الزوجين، وهو ما يعطي إشارة إلى إعادة التاريخ نفسه مع مختلف الأجيال العائليّة.

هذا ولم توفّر إيرين نميروفسكي عنصراً من العناصر المشكّلة لبيئة هذين الشخصين، بدءاً بالأماكن التي تدور فيها الأحداث (شقّة جزيرة سان لوي، منزل ماريان العائلي، منزلا والدي أنطوان في سان إلم وشارع مالُزِرب، المطاعم والحانات التي يلتقيان فيها أو يلتقي كلّ واحدٍ منهما بأصدقائه…)، مروراً بالأزياء السائدة في تلك الفترة، التي كرّست نبرة الإغواء والفتنة بين الشبّان، وصولاً إلى ديكورات الأمكنة التي تفنّنت الكاتبة في رسمها… غير أنّ ما نلحظه من قاسمٍ مشتركٍ بين كلّ هذا هو اللون الأحمر، هذا اللون الذي استخدمته ماريان بتدرّجاته ودلالاته كافّة؛ فهو لون النار، لون فستان ماريان، لون الورود، لون الإضاءة الخافتة في ليالي العشّاق… بيد أنّها لا تكتفي بذلك، بل تدفعه أيضاً، باجتهادٍ خاصٍّ منها، لتجعله بتدرّجاته كاملةً ذاك اللون الذي يجمع المتناقضات كلّها، كلون بديلٍ للون الرمادي الدالّ على الفتور والبرودة؛ فما يجري بمختلف أحداث الرواية يكتنز من السخونة والعنف العاطفيين ما يكفي لإثارة عصب القارئ ودفعه لتخيّل حال الشباب الفرنسيّ في تلك المرحلة التي، ربّما، تكون غير واقعيّةٍ له.

باختصار: نحنُ أمام روايةٍ إنسانيّة عظيمة، رواية لا تتردّد في سبر أغوار الحال الذي وصل إليه الفرد الشاب في تلك المرحلة الزمنيّة العصيبة. لعلّ معظم النقّاد يتّفقون على أنّ نبرة نميروفسكي في صلب النصّ هي تلك النبرة الساخرة، نبرة الهجاء الاجتماعيّ التي تحلّل العاطفة بصرامةٍ، وتشرّحُ العلاقات الزوجيّة في فئةٍ مجتمعيّةٍ توقّف عندها الزمن عند اندلاع الحرب، فوجدوا أنفسهم ما زالوا في فترة المراهقة إلى حدٍّ ما؛ غير أنّ هذه السخريّة لا تخلو من الشفقة التي أبدتها صاحبة «الكلاب والذئاب» تجاه هذه الفئة، شفقة كاتبةٍ يسبقُ وعيها عمرها، ليصحّ القول إنّ هذه الرواية تُضمِرُ «الكثير من الحب، والكثير من العنف، والكثير من السخرية».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *