قد لا يكون أنتوني ترولوب، بشكل عام، جزءاً أساسياً من فهم الناس للأدب الفيكتوري؛ فهو لم يحقق النجاح الذي حقّقه آخرون أمثال ديكنز أو إليوت، ولكن لمّا كان بلغ مؤخراً ٢٠٠ سنة من عمرهِ، فقد ترونه على أختامكم البريدية على موائد الإفطار عمّا قريب. يبدو أنَّهُ الوقت المناسب لتشجيعكم على قراءته.
كتبَ ترولوب ونشرَ بلا كلل. كان يسيطر على المشهد الأدبي طالما أنّهُ يلاقي اهتماماً من الطبقات الوسطى المُنعّمة بالرفاهية، في أكثر أعمالهِ شعبيةً خلال ستينيات القرن التاسع عشر. تخيّل القراء شخصياته، وكتبوا عنهم كما لو كانوا أشخاصاً حقيقيين. وقد كان ترولوب صورة لحياة أرباب المهن الحرة وأصحاب الأراضي ممن يعترف الناس بهم ويثقون. كان ديكنز يبيع المزيد من نُسخ أعمالهِ باستمرار –وهذه حقيقةً– وكان لديه العديد من القُرّاء من الأُسَر الأقل ثراءً. وقد يُقال: إن كل من قرأ لترولوب قرأ لديكنز كذلك، ولكنليس كل قُرَّاء ديكنز كانوا من معجبي ترولوب.
تخصص ترولوب في الكتابة عن حياة الطبقات الوسطى والعليا، وجهود الأفراد للتصرف بأخلاقية في عالمٍ يتغير سريعاً؛ حيث يحقق الناس ثروات ويخسرونها، وتتم الزيجات مقابل المال أكثر منها لأجل الحب. لقد تم تحديث عالم جين أوستن إلى عالم السكك الحديد، والباخرات، والتلغرافات، وإصلاح النظام الانتخابي، والجدالات من أجل حقوق المرأة، والتمثيل السياسي للطبقة العاملة.
كانت الحياة حافلةً أكثر، وكانت القطارات تنقل الناس من أبعد المناطق الريفية إلى لندن كلّ يوم، جالبين معهم أزياء لندن، وأموال لندن، وجرائم لندن، وأفكار لندن إلى الريف. حتى في كنيسة إنكلترا، بدأت الأفكار الجديدة والطموح الاجتماعي والسياسي والسعي وراء الثروة تزداد وضوحاً بصورةٍ يومية.
روايات ترولوب مسلية ومُشوَّقةً للغاية ومؤثرة في أحيانٍ كثيرة، ولكن،في جوهرها، ثمة مشكلةٌ أزليةٌ حول كيفية عيش حياةٍ هانئة في عالمٍ خطِر وشرير رُبما. تتساءل شخصياته باستمرار في حال كان بإرادتهم القيام بأفضل ما يمكنهم لأجل أنفسهم، فباستطاعتهم أيضاً فِعلُ أشياء جيدة لعائلاتهم وللإنسانية برمّتها.
نساء ترولوب:
يتوق الشبّان والشابات إلى زواجٍ يُلّبي الرغبات المناقضة للعلاقات الغرامية، والإشباع الجنسي، والثراء، والاحترام الاجتماعي؛فالفكتوريون مُتهمون، غالباً، بتجاهل جنسانية الشخصيات، ورغمذلك، ابتكر ترولوب شخصية شابة أرستقراطية تقول إنها تودّ أن «تظفر» بشاب وسيم من أعضاء البرلمان. وشخصية ابنة مراهقة لعائلة محترمة تقول: إن الزواج، بالنسبة إلى الرجال، مثل شراء الجُبْن: يرغبون في تذوق العديد من القِطع قبل أن يشتروها.
ينبغي أن تُقرأ روايات ترولوب بتبصُّر، وهذهِ عقبةٌ أمام شُهرتهِ اليوم؛ فرواياته طويلة، وتتطلب منا الاهتمام بكلّ درجات الفكر والمشاعر المحيطة بأفراد أُسَر الطبقة الوسطى أو العليا في الفترة ما بين 1850-1882. ولكن، إذا نظرنا إلى ما بعد تفاصيل هذه الفترة نجد أنّ ترولوب هو الروائي الذكر الذي يمنح شخصياته النسائية أكثر الأفكار والطموحات قوةً.
إذ إنّ نساءه، على وجه العموم، ذكيات وذوات معرفة واسعة، في كثير من الأحيان، مثل رجاله. لا يمكنك قول هذا عن شخصيات نساء ديكنز، وثاكري، وميريديث، أو كولينز. ولكن، بطبيعة الحال، إنّ روايات ترولوب مكتوبة لتكون مقبولةً اجتماعياً كما يقول الفيكتوريين؛ حيث يمكن للأم أن تسمح لابنتها بقراءتها. وقبل كلّشيء، إنّ رواياته ممتعة. اقرأوا كلمة الأميرة الملكية، التي كتبت إلى والدتها، الملكة فيكتوريا، في عام 1858، قائلةً:
«أعجبتني رواية (صروح بارچستر) كثيراً؛ إنها تجعل المرء يضحك حدَّ البكاء؛ إنها حقيقيةٌ للغاية؛ لكنّي أظنها ماكرة ومثيرة إلى حدٍّ ما».
ويُقال إن الكاردينال نيومان (شاعر ولاهوتي وفيلسوف وكاهنأنجيليكانيّ) استيقظ في الليل ضاحكاً على ما قد قرأه لترولوب.
من أين نبدأ القراءة لأنتوني ترولوب؟
رواية صروح بارچستر (1857) ممتازة للقارئ بوصفها بدايةً؛إنها عمل ترولوب المبكر. قد لا تكون مهتماً بسياسة حرم الكاتدرائية، لكن لا يزال هناك الكثير فيها لتستمتع به. رواية الدكتور ثورن(1858) ممتعة وسهلة القراءة على حدّ سواء. ورواية جواهر ثمينة هي الرواية المفضلة لظرافتها وإبداعها، وهي، بالمناسبة، الرواية التي ينتظر الرجل العجوز الأعمى في قصيدة تي.إس.إليوت «جيرونشن» –المقتبسة جزئياً من الشاعر إدوارد فيتزجيرالد– أن يقرأها «ولده» له.
تُشكِّل العديد من رواياته استفزازاً أكبر مثل رواية الطريقة التي نحيا بها اليوم (1874-1875)، وتُعدّ بمنزلة هجماتٍ متواصلة على مجتمع يسيطر عليه المال والمضاربات التجارية؛ إذ يمارس الأثرياء سلطة سياسية غير متكافئة. أما رواية رئيس الوزراء(1875-1876) فهي من الأعمال التي أُسيء فهمها إلى حدٍّ كبير، وهي حول التخلي عن السلطة من قبل سياسي أرستقراطي ثريّ يحب القيم القديمة، التي نشأ معها، لكنه، مثل مؤلفه، يريد للقوى السياسية والرفاهية أن ينتشرا على نطاق واسع بما يمليه عليه ضميره.
لقد استصعب ترولوب أن يعيش حياةً هنيئةً حقيقية في عالم معطوب. من الصعب أن نعرف لماذا يعتقد الناس أن ترولوب رضخ للأمر، بشكلٍ مطلق؛ لأنه فهم عصره وضحك عليه. والحقيقة أنه تحول، بوساطة منتقديه، إلى شخص مُمتثل للأعراف والعادات ومنغلق، وذلك لأن العديد من منتقديه كانوا، شخصياً، مُمتثلين للأعراف والتقاليد، ومُنغلقين على مرّ السنين.
اقرؤوا ترولوب بذهنٍ منفتح، وتحلّوا بالصبر على الأسلوب الكتابيّ لعصر يعيش معظم أُناسه حياة مرفهة.اتبع الراوي فحسب، وسوف تجد طريقك عَبْرَ هذا العالم الثري جداً لهذا الروائي العظيم الذي عاش في منتصف الحقبة الفيكتورية.
بقلم: ديفيد سكلتون
ترجمة: زينب بني سعد