أنتوني ترولوب: كاتب أيرلندي مُشرِّف وجديرٌ بالاحترام
بقلم: جون مكُرت
ترجمة: زينب بني سعد
ثمة مقولة شهيرة للروائي ناثانيال هاوثورن يذكرفيها أنّ روايات أنتوني ترولوب الإنكليزية مكتوبةٌ، على نحوٍ مثاليّ، «بمتانة شريحة لحم بقري، ومن خلالإلهام بيرة المِزرْ…». وبالمثل، قال الناقد الأيرلندي ستيفن غوين إن ترولوب كان «إنكليزياً بقدر ما كان جون بُل».
بَيدَ أنهُ، على عكس العِظام من الكُتّاب الإنكليز الآخرين في العصر الفيكتوري، وصل ترولوب إلى ما هو عليهِ من خلال مغادرته وطنَه،وبدء حياته عبر البحر في أيرلندا؛ حيث حقق هناك نجاحاتهِ الأولى في مهنتهِ، بوصفه مفتشَ مكتب البريد، وحياته الأدبية على حدٍسواء. شعر ترولوب، في سن السادسة والعشرين، «بوصفه موظف بريد في لندن»، أنه منخرطٌ في عملٍ ليس هناك مجال للتقدم فيهِ، وبعد أنفشل في إنهاء رواية خيالية بالفعل، رأى أن ليس لديهِ ما يخسره في قبول وظيفة لا يرغب فيها شخص آخر في مقاطعة أوفاليالنائية في مدينة بانغر. وعلى مدى السنوات الخمس عشرة التالية تعرف على الجزيرة كلها، وعاش وعمل في كلونميل، وملوُ،وكورك، وبلفاست، ودبلن.
وبمجرد وصوله إلى أيرلندا، بات رجلاً ثانياً! فما إن نزل من على متن الباخرة، حتى بدأ عمله الدؤوب، والتقدُّم في عمله بمثابرةٍ مبهرةٍعلى حدٍ سواء. أقواله الخاصة عن أحد أبطاله السياسيين، اللورد بالمرستون، تنطبق على ترولوب ذاته تماماً منذ ذاك الحين:«كان العمل الشاق، في نظرهِ، الضرورةَ الأولى لوجوده».
وفي أيرلندا بدأت موهبته الأدبية الجبارة في الظهور أخيراً. حتى لو كانت أعظم رواياته إنكليزية، مكاناً وحبكةً، بشكلٍ لايمكن إنكاره، وتُهيمن عليها الشخصيات الإنكليزية، إنّباكورة أعمالهِ كانت أيرلندية، وهو يعود إلى الموضوعات الأيرلنديةمن حينٍ إلى آخر، وإن كان ذلك بنجاحات متفاوتة طوال حياتهِ المهنية الطويلة. تشكل كتاباته الأيرلندية مجموعةً حيوية ومتنوعة منالأعمال، وتضيف، بشكل كبير، إلى رؤيتنا الشاملة للكاتب، وتمثل مساهمة غنية –لكن مستهاناً بها– في المبادئ الأدبية للروايةالأيرلندية في فترة القرن التاسع عشر، ما يزيد من تعقيد المجموعات التعسفية، التي يتم رسمها بين التقاليد الإنكليزية والأيرلندية. شعر ترولوب أنه كان في وضع فريد بوصفه وسيطاً ثقافياً بين أيرلندا وإنكلترا، مع مزايا العيش لفترة طويلة في أيرلندا،والالتزامات الأخلاقية التي فرضتها عليه هذه الإقامة المؤقتة. ولهذا حاول على مرّ الزمن أن يمنح شكلاً سردياً عنالتعقيدات التي تعاني منها دولة لم يكن صوته مسموعاً فيها عن طيب خاطر في بريطانيا، صوتاً واهناً في منتصف القرنالذي هيمن عليه الجوع.
ولئن كان صحيحاً، كما ذكر الباحث جون سادلير في أوائل القرن العشرين، أنّ ترولوب في أيرلندا أصبح «سفيراً لإنكلترا،يعيش في وئام متنازع عليه مع واحدةمن أكثر الأمم وعياً بالعِرق في العالم»، فإنه أصبح أيضاً مبعوثاً لبلده الثاني، أيرلندا. وإلى جانب تقديرنا لترولوب روائياً إنكليزياً مشهوراً، يتعيّن علينا أن ننظر إلى ترولوب باعتباره كاتباً أيرلندياً جديراً بالاحترامذا إنجازات عظيمة، كاتباً لم يتهرب قط من القضايا الخطيرة والرهيبة أحياناً، مثل التحريض على مسألة الأراضي، والحكمالذاتي أو الداخلي لأيرلندا، والمجاعة والقحط، التي أثرت في البلد على جميع المستويات الاجتماعية أثناء إقامته الطويلة هناك،وبعد ذلك.
في الغالب، يظهر ترولوب، في رواياته الأيرلندية، أقلّ شهرة وغيرمعهود، شخصية متضاربة، وأحياناً يكاد يبدو متمرداًومحشوراً بين آرائه «الرسمية» و«غير الرسمية»، متردداً بين تأييد وجهات النظر الإنكليزية القياسية حول أيرلندا، وتقديم بدائلخاصة به، وأحياناً محرجة، وقراءات مضادة. فعن طريق المصادفة، بدلاً من التصميم، أصبح عابراً للحدود، وكان لزاماً عليه أنيتقبل حقيقة مفادها أنّه بعد بداية عمله موظفاً في مكتب البريد، وكاتباً ناجحاً في أيرلندا، سوف يظلّ دوماً بين الناس، وسوفيقع في شرك الولاء المتضارب للثقافتين في بعض الأحيان، وهذا من شأنه أن يضع ترولوب في حالة إنتاجية إبداعية حتى لوتمكن تدريجياً من كبح جماح تعاطفهِ مع وجهات النظر الأيرلندية، والتراجع إلى موقف «إنكليزي» أكثر دفاعاً!
لكن رحلته الأدبية الأيرلندية، التي لم ينصحه الناشرون بها، رحلةٌ حريٌّ بالقُرّاء أن يقتفوا أثرها اليوم، بدءاً من مأساوية(Macdermots of Ballycoran) (1847)، التي تعرض مناقشاتٍ ثاقبة لأسباب الاضطرابات في المناطق الريفيةالأيرلندية، والرحلة الأكثر تفاؤلاً وهزلاً في روايتهِ
(The Kellys and the O ‘Kellys) (1848)، التي تُعدُّ أُنموذجاً أوليّاً قيّماً لبعض روايات ترولوب اللاحقة (والأكثر أهمية) عن قصص الزواج. ومن الأعمال الجديرة بالاهتمام –وإن كانت معتقداته السياسية موضع شك في أحسن الأحوال–رواية عن المجاعة ألفها ترولوب، وكثيراً ما كانت مؤثرةً بشكلٍ عميق، هي رواية (Castle Richmond) (1860)،إلى جانب الروايتين الثانية والرابعة من سلسلة روايات (Palliser novels)، اللتين تحملان عنوان فينياس فين (Phineas Finn)، وتكملتها التي تحمل عنوان العضو الأيرلندي (1869) (The Irish member)، وفيناس ريدوكس (Phineas Redux) (1874).
بطلهما الأيرلندي فينياس فين، الذي يكافح من أجل شقّ طريقه في العالم السياسي الإنكليزي، وجد نفسه محاصراً بينتأثيرين مُتناقضين لزواجٍ مُحتمل في أيرلندا وإنكلترا. تتحدى السلسلة الأدبية، بأكملها، الصور النمطية الأيرلندية، وتدعو إلىالتأمل في اثنين من أكثر المفاهيم شيوعاً عن الأيرلندية أولهما عن أيرلنديوا المسارح، أو كما يُعرف بالصورة النمطية للشعبالأيرلندي، الذي كان شائعاً في المسرحيات. ويشير هذا المصطلح إلى تصوير مبالغ فيه، أو كاريكاتوري، للسمات الأيرلنديةالمفترضة في الكلام والسلوك؛ المفهوم الثاني هو أيرلندا بوصفها ضحية مؤنثة!
الروايتان الأيرلنديتان الأخيرتان (The admonitory An Eye for an Eye) (عام 1879)، و (The Landleaguers)، آخر رواياتهِ وأكثرها إثارةً للجدل، تستحقان أن تأخذا مكانتهما ضمن سلسلة المحاولات الشجاعة –وإن كانت معيبة– لاحتواء مشكلات أيرلندا في شكلٍ روائيّ وخدمتها في العقود الأخيرة الحالكة من القرن التاسع عشر، تحذيراً لقرائه الإنكليز من أن عدم أخذ المشكلات الأيرلندية على محمل الجد سيؤدي حتماً إلى عدم الاستقرار والفتنة والعنف الذي قديمتد عبر البحر الأيرلندي.
جون مكُرت: كاتب دبلني. أستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة ماشيرتا، وهو مؤلف كتابة الحدود: أنتوني ترولوب بين بريطانياوأيرلندا