المدونة, موضوعات متنوعة

العمى الأحمر.. قصة بعنوان: لقد كنت حلماً لفؤاد الملفوف بقامة الموت

وصفة مرق البامية مشترکة في أفغانستان وإيران، لكن مذاق الواحدة منهما يختلف عن مذاق الأخرى. كنت ضيفة عمي في مدینة هرات عندما أكلت مرق البامية الأفغانية، وقلت لنفسي ربما تختلف البامية الأفغانية عن الإيرانية. حاولت أن أتذكر طعم ما أكلته سابقاً، لكنني لم أستطع. بالنسبة إلى شخص لا يعرف من الطبخ شيئاً، يشبه تذكّر الطعم الجرف في البحر مستعيناً بالملعقة!

ربما كان مذاقه حامضاً أكثر مما اعتدته، أو قوياً أو، على حد علمي، أكثر ملوحةً. مهما كان فلم يكن طعمه يشبه مرق البامية الإيرانية. أخبرت زوجة عمي بذلك، وقلت: «يبدو طعمه مختلفاً». قالت: «إن شاء الله في أثناء إقامتكِ هنا ترتبي لنا الوصفة الخاصة بكم حتى نتعلم!».

هکذا الحال عندما تفتح فمك من دون حكمة، ولم يكن كلامك في محله. في الواقع لم أكن أعرف الطبخ على الإطلاق! كنت دائماً مستهلكة للطعام وليس صانعة له. في ثقافتنا من المستبعد جداً أن تجد امرأة لا تعرف الطبخ! الأمر كما لو كانت تقول إنني لست امرأة! کل هذا كان كفيلاً، بالنسبة إلى زوجة عمي -وهي امرأة تقليدية من عائلة باراكزاي البشتونية الأفغانية، كما أنها لم تحببني أبداً- وسبباً آخر لتعتقد أنني لا أناسب ولدها، وكلّ هذا لعبة أطفال فحسب!

كنت في التاسعة من عمري، أضع كرسياً بطول 20 سنتيمتراً تحت قدمي حتى أتمكن من رؤية داخل القِدر، وكانت والدتي تمسك المغرفة،وتقف أمام الموقد، وتلقي خطاباً مفاده أنَّ للأرز سبعة حزم؛ وعندما تفتح الحزمة الخامسة علينا أن نسكبه في المشخل للضيف، وعندما يصل إلى الحزمة السادسة لن يكون صالحاً للضيافة،لكنه ينفعنا نحن. كان هناك الكثير من الضیوف الذين یتردّدون إلى منزلنا، وكان هناك طهاة يمكنهم صنع الأرز بصورةٍ تليق بالضيوف حتى لا نشقي أنفسنا كثيراً؛ لكن والدتي كانت امرأة لطیفة تحب الكمال، وكانت تعلّمنا هذا الكمال. كنت أفكر؛ كيف يمكنني وضع رأسي في الإناء الساخن کي أرى حبات الأرز؛ حبة، حبة، وأعدّ الحزم السبع تلك. حدقت والدتي في وجهي كما لو كانت تنظر إلى ضفدع ناطق، وقالت: «عليك أن تنظري إليه بشكل كلي».

وقتها كان عليّ أن أدرك أنني لن أتعلم الطبخ أبداً. بالنسبة إلى أمي كان القدر والمكونات،التي في داخله، شيئاً عاماً يمكن رؤيته في لمحة بصر، وبالنسبة إلي كانت دائرة تحتوي من مئة إلى مئتي أو ثلاثمئة حبة أرز. في بداية تدريب الكمال كنت قد سكبت الأرز في المشخل عدة مرات، وقالت والدتي وهي تنظر بصورة عابرة: «الضيف يأكله، نحن نأكله، الكلب لا يأكله!»؛على الرغم من أنَّها لم تعطِ مما أطبخه أياً من الكلاب أو القطط أو حتى الخراف لتأكل أو لا تأكل. «هذه مخلوقات الله أيضاً، فما الذنب الذي فعلته؟»، فتتنهد بحسرة وعمق شديد،وتقول: «يا شجرتي غير المثمرة…!».

أكدت زوجة عمي مراراً وتكراراً أنني دون ثمر يذكر؛ إنما لا تعرف لماذا يجب أن يقع ابنها في حبّ مثل هذه الفتاة الدلوعة، وماذا سيحدث لنا؟! وقد تؤيد والدتي ذلك الكلام بصدق عندما تسمعه، وهو: نعم إنَّها دلوعة وشرسة.

لقد تغلّب الحبُّ عليَّ، أول مرة، عندما كنت مراهقةً، بلا رحمة وعناد، ولم أكن أعرف ماهيته جيداً إلى درجة أنني كنت أقضي كل وقتي في المشاجرة وسوء المزاج! كنت أرغب في ذلك، ولم أكن أرغب فيه، واستطعت أن أرى، من كلّ قلبي، القوةَ تغمرني وتشدّنی بشكل لا إرادي خلفها! بالنسبة إلي، أنا التي تسكن في إيران، وحبيبي في أفغانستان، يرتبط الحب بكلمات خاصة: إدارة الهجرة، الحدود، بطاقة المرور، الطالب الأجنبي، بطاقة الهوية، المذهب… أيّ شيء يمكنه أن يقلل أو يطيل المسافة بيني وبين ابن عمي.

كانت زوجة عمي قد غسلت البامية، التي مثل البامية الإيرانية، ونشرتها في صحيفة، ثم سألتني: «حسناً، وماذا أنتم تفعلون؟!».

قلت: «أوه. إذاً أنتم تجففونه بعد غسله. لا، نحن نسکبه بعد الغسل مباشرة في القِدِر».

إنَّ العثور على غطاء لعدم المعرفة یکون أكثر تعقيداً من الاعتراف بعدم المعرفة نفسها. وكلما انخفض الادعاء أصبح الأمر غير مقبول. زوجة عمي، التي رأت عنادي مرات عديدة، اكتفت بابتسامة ناتجة عن السخرية.

في تلك السنوات، من أجل سعادة أمي وزوجة عمي؛ كنت أسعى لأن أثمر؛ أن أفعل شيئاً تعتقدان أنَّني أستحق به أن أكون امرأة. في الواقع أستحق أن أكون امرأة لفؤاد.

لقد بدأت بكتاب الطبخ الذي كُتِب فيه: مئة جرام من الزبدة، مئتان وخمسون جراماً من شرائح لحم العجل… لكن المذاق ما زال ليس جيداً! تقول أمي: «في بعض الأحيان الأمر عائد إليك». لم أستطع فعل أيّ شيء يُذكر سوى ما ورد في ذلك الكتاب؛ حتى وإن حدث وخبزت كعكة الليمون من الكتاب نفسه، ونجح الأمر؛ إنَّه لاكتشاف مهم في أيام امتحان قبول دخول الجامعة في سنّ السابعة عشرة. يختلف الطهي عن خبز الكعك والمقبلات؛ لا يمكن خبز الحلويات الاستعانة بالعينين. يجب أن يكون حجم المواد ودرجة حرارة الفرن دقيقين.

قلت لزوجة عمي: «موقدك من طراز روسي قديم، ولأنَّ الطقس في روسيا أكثر برودة سيكون اللهیب في هذه المواقد أعلی بكثير. من الجيد شراء موقد جديد من إيران». الأمر كان أسخف من قول إنَّ رأس شعب الطاجيك أكبر من رأس شعب الأفغان؛ لذلك إنَّ نشل القبعات لا ينفع.

قالت زوجة عمي، وهي التي لم تكن امرأة بسيطة: «لكنّ الموقد الروسي أفضل بكثير من الموقد الإيراني».

أنا لست خبيرة في المواقد، لكن كان عليَّ الدفاع عن فكرتي البسيطة، فقلت: «لكن البامية سَتُسحق بسرعة لو غلت كثيراً منذ البداية».

قالت: «حسناً يا فتاة. إذاً سنقلل اللهيب كي لا تغلي بسرعة».

قلت: «لا يمكن ذلك؛ لأنَّ موقدك من صنع الروس».

لقد أصبت الهدف. جاء صوت عمي من الجهة الأخرى: «لقد صنعوا كلّ شيء لنا، وأخذوا كلّ شيء منا. اسمعي الكلام يا صفية».

مع تصاعد نقاشهما، أدركت أنَّهما لن يبقيا في هرات. اليوم، أو غداً، سيذهبان إلی دوشنبه. إذاً، لماذا دوشنبه؟

لقد أشغلت نفسي بأدوات المطبخ الخاصة بهم. كان لدى زوجة عمي رف للبهارات، وكانت قد ألصقت اسم كلٍّ منها علی الزجاجة الخاصة به. شيءٌ مثل الكمون مكتوب على الزجاج الخاص به: «قدم الفتاة»، وشيء مثل الكركم اللامع قليلاً: «روح ليلي»، وأعواد تشبه أعواد القرفة، لكنها حمراء: «نكاره». قفزت في منتصف جدل عمي وزوجته، وقلت: «کم هو جمیل. لكلٍّ من النكهات هنا اسم امرأة. تذهب النساء هنا داخل الطعام ليجعلنَه لذيذاً».

رد عمي: «نعم طعمها کطعم سمّ الحیة…».ووضعت زوجة عمي سلّة بامية أمامي.

لم تكن لدي طريقة أخرى للهروب، فقلت: «علینا فصل خمس وثلاثين حبة بامية من الطول والحجم نفسيهما».

نطقتُ بعدد الخمس والثلاثين هكذا بصورة عفوية وبدافع اليأس. عندما كنت في السابعة عشرة من عمري، كنت أزن حبات حلوی الحمص بعناية، وكنت أعد كلّ خمسٍ وثلاثين حبة، ثم أقوم بتعبئتها في أكياس بلاستيكية معقّمة. وترسل والدتي عبوات الحلوى إلى جميع الأقارب، ثمّ تنقل الأخبار إلى أفغانستان عبر الهاتف. بطبيعة الحال، لم يكن يهمّ فؤاد إطلاقاً ما إذا كنت أخبز الحلوى أو لا، كانت رسائله مليئة بالشوق والحماسة لقراءة الأدب، وبحلمه بتحرير أفغانستان. تبدأ رسائله على هذا النحو:

«لقلبي الوحيد.

الاستبداد لن يدوم طويلاً، وستكون حياته لا حول لها ولا قوة وخجولة أمام ظهور الناس…».

وبعد هاتين الجملتين، یكتب لي وصفاً لِمَا كان يمرّ به ويفعله؛ لكنّني كنت أحاول أن أكون امرأة. بعد عام لن يصنع أحد الحلويات في منزلنا، إلا إذا قام باستشارتي، أو أذهب أنا إلى الفرن وأدواته كي أضبط درجة الحرارة والحجم. كان هذا النجاح نتيجة اهتمامي بالتفاصيل، وحاولت أن أقدّمها بشكل جيد، كما بدت والدتي مقتنعة بأنَّ ابنتها المراهقة، رغم نفاد صبرها وشوقها، تريد أن تكون امرأة، وأن يكون لها زوج.

قلت لزوجة عمّي: «الماء الذي نصبّه في الإناء يجب أن يزن خمساً وثلاثين حبة بامية. تحتاج إلى نصف لتر من الماء».

قالت: «حسناً، كيف لنا أن نزن الماء الآن؟!».

قلت: «باستخدام زجاجة مياه معدنية».

صببت زجاجة مياه معدنية وخمساً وثلاثين حبة بامية في القِدر.

صاح عمي من مسافة بعيدة: «لقد دمّرنا الروس كثيراً، فكيف لهم أن يرسلوا لنا الماء والخبز الآن؟! يا لكم من ملاعين. ما هذا العمل يا تری؟ أين كنتم عندما كنا في النعيم؟!».

عمي مثله مثل جميع رجال الأفغان؛ كان متورطاً في الضغوط الاقتصادية والسياسية، والآن، بعد عشرين عاماً من الوجود السوفييتي، أصبح مؤيداً ومريداً لأحمد شاه مسعود، وكان يصفه بأنَّه بطل قومي، ويخبرنا أنَّ شاه مسعود يأكل خبز الشعير حتى لا يلوث الخبز الأبيض للروس فمه. إنَّه لأمر غريب أن يصدر مثل هذا الاستحسان من عمي، وهو من جذور عائلة إقطاعية! لكن هل تترك الحرب أيّشيء كما هو؟! بدا لي أنَّ الروس كانوا موجودين في سلال الخبز والأواني، وفي مطبخ صفية والعم، والطعام له مذاق كمذاق الحرب! عندما قلت هذا، أجاب عمي: «أنا لا أفهم ما تقولين! لكنني أعلم أنَّ الروس لو استطاعوا لوضعوا البطاطا الروسية فی هذا الطعام حتى تحرق حناجرنا».

عندما تورّم وريد رقبة عمي، كانت البامية الأفغانية تغلي مع صلصة الطماطم الإيرانية في القِدر، ونسيتُ كم جراماً من الملح يجب أن… قلت لزوجة عمي: «كيف تضيفين الملح؟».

رمقتني بنظرة، مع علمها بأنني لا أقصد كيفية التقاط غطاء الإناء ووضع الملح فيه، فقالت: «هنا علينا أن نستعين بالعينين». طريقة أمّي ذاتها! وهو ما لم أكن أعرفه أبداً.

عندما مددنا مائدة الطعام، بدا أنَّ البامية الأفغانية في الصحن الزجاجي قد هُرست وتلاشت. لم أرشّ الملح، ولم تفعل زوجة عمي ذلك أيضاً، فقلت: «عمّاه، هل عرفت أنَّ حجم قارورة المياه المعدنية الروسية لم يبلغ خمسمئة ميللتر، وحجم هذه جميعها سبعمئة ميللتر؟ انظر كيف انهرس طعامي…».

وكأنَّ مائدة الطعام غدت ساحة لكل تاريخ أفغانستان النضالي، دفع عمي الصحن بغضب، وقال: «تباً لهم. انظري أيّ لعبة يلعبونها معنا! إلى متى سيستمر هذا البؤس؟!».

فسكتنا جميعاً، وتناولنا طعاماً مهروساً غير مملّح.

فدائماً ثمّة طريق للهرب؛ إحداها أن تسلط الضوء على أهم الأشياء حتى تقلّل فداحة عدم معرفتك. ومن المؤكد أنَّ الحرب في أفغانستان كانت أكثر أهمية بالنسبة إلى عمّي من مذاق البامية التي أعددتها أنا وزوجة عمي. وبطبيعة الحال، كان عمي أكثر ما يعنيني من بين جميع أولئك الذين كانوا يجلسون حول مائدة الطعام تلك. لم أكن أعرف‌ أيتعيّن أن أكون ممتنةً الآن لشاه مسعود أم للمياه المعدنية الروسية! لكنني وجدت ضالتي، وقررتُ أن أفعل ما أتقنه؛سأقصدُ صباح الغد سوق هرات، وأبتاع عدداً من قوالب المعجنات، وأطحن السميد وأصنع كعكة لذيذة، لذيذة جداً إلى درجة ألا أضطر إلى تبرير ما لا أعرفه منتهزةً تعب الآخرين.

ذهبت وتجولت في السوق الذي مزقته الحرب، وكان ذلك قد حدث عام 2011 م؛ إذ كانت طالبان قد رحلت، وفي الوقت ذاته لم ترحل!وباعتقادي، كان ثمة ثمانية من بين كلّ عشرة رجال يناصرون طالبان. لم أعرف ما إذا كنتُ قد تعرّفت بشكل صحيح أو ما زلت في حالة صدمة من ذلك الطعام! فقد رأيت رجلاً يعتمر قبعة تشبه قبعة شاه مسعود، ويلف إزاراً طالبانياً حول خصره، ورأيت امرأة وشمت ذقنها بأربع نقاط رافعة برقعها، وقد ظهر شقّ صدرها، ورأيتُ طفلاً كان بائعاً في متجر أسلحة وطيور، يلحسُ البوظة… كانت ثمة صور كثيرة متناقضة، لم تدعني أعرف حقاً ما هذا المكان، ولماذا ليس شبيهاً بهرات؟! استمعت إلى كلام أشخاص يتبادلون أطراف الحديث، وبدا الأمر كأنني في مقاطعة ذاتية الحكم في باكستان. باكستان، السعودية، مدن إيران الحدودية… وبدا سوق هرات كأنَّه حالة اختلاط من كلّ شيء يمكن نسبته إلى مدينة مزقتها الحرب في الشرق الأوسط. كانت سُفرة مرقة البامية الخبيصة والقذرة التي أعددتها قد مُدت في السوق، وكنت أبحث عن طريقةٍ لإثبات شرعیتي المفقودة!ابتعتُ الدقيق والبيض من رجل يتكلم لغة البشتو. ولم يكن الميزان الرقمي الألماني معي، ولم يكن أمراً مستبعداً ألا يسعني إنجاز هذا العمل؛ لكنني فكرت في أنَّ البحث عن الميزان هنا، وفي هذه الحالة، ربما سيكون أغبى شيء يمكن القيام به.

رأيت عدداً من الرجال المسلحين في أماكن عدة من المدينة، وبدا زيهم كأنَّ آخر الزمان قد حان، وهمست امرأة في أذني: «قوات الناتو»، كأنَّه لا ينبغي نطق كلمة الناتو بصوت عال! «لا تحدقي فيهم. عندما يشعرون بالخوف يطلقون النار».

كنت أنا والآخرون مثلي نثير الرعب في قلوب هؤلاء المسلحين الذين يرتدون سترات واقية للرصاص. ولم أعرف، بعد أن انتهت الحرب، من بات عدوَّ مَن الآن؟!

لم يكن في هرات شيء يشبه سابقه على الإطلاق؛ سوى العم وبيته. وعندما عدت رأيت عمي جالساً بجانب بساط الأفيون منكباً على تدخينه، فصاح من أعلى المصطبة بفرح: «مرحى مرحى، لقد وصلت طاووس عمها».

اقتربت، فعانقني قائلاً: «لماذا لم أحضنك من قبل؟! لماذا نحلت، وأصبحت تبدين مثل حيوان السمور؟!».

فوضعت كيس التسوق بجانبي، وقلت: «يا عمي، ما هذا بحق الجحيم؟! يبدو أنَّ رائحة طالبان ما تزال تفوح من المدينة برمتها! كان الناس يحتفظون بملامحهم، فكيف أصبحوا يشبهون الباكستانيين؟! إذ كانوا قبل هذا كالإيرانيين!».

فتابع عمي بفرح: «أي نوع من الأزواج لديك؟ الماعز أثقل منك وزناً. لو كنتِ عروسي…».

أسررنا أحدنا للآخر بأمور عدة، وانكب عمي ثانيةً على غليونه، وانحنى على نار بقايا جذور القطن المشرفة على الخمود. وبدا الأمر كما لو كان قبل عشرين عاماً من الآن؛ إذ قفزت في الغرفة، وقلت باكيةً: «عمي. ابنك يقول: لا أريدكِ». كان عمي قد استخدم اسم حيوان كعادته، وقال: لأنَّه بغل! لكنْ، بدلاً من ذلك، أنت كالنمر البنغالي بالنسبة إلي».

فتركته. كان هذا التذكر خارجاً عن طاقتنا جمعياً. وبدأت يداي ترتجفان مرة أخرى. بعد كل هذه السنوات لم آتِ لأسمع كلام ابن عمي!

كان صيف عام 1999… كنت في الثمانية عشرة من عمري، وكان ابن عمي في العشرين من عمره. وكان قد كتب في رسالته عن شولوخوف، قائلاً: «إنَّهم يجمعون، خلال هذه الأيام، الروايات من مكتبة جامعة كابل»، فكتبت إليه رداً: «الفوضى تعم طهران، والأوضاع متأججة. لقد طردونا جميعاً من السكن الجامعي، وقالوا لنا اذهبوا إلى بلادكم حتى إشعار آخر».

ثم انقطعت أخبارنا عن بعض. لم يردّ أحد على اتصالاتي. كنت قد كتبت ثلاث رسائل ولم أتلقَّ رداً عليها! كان امتحان الطلاب الأجانب يقترب، وكان يتعين على ابن عمي المجيء إلى إيران؛ كنا نحب بعضنا مثل طفلين على جانبي حدود رسمها الآخرون، فاعتقدت، عندما يأتي، أنَّعمي أو أبي سيأخذان لنا منزلاً، ونتزوج، وتنتهي الحكاية؛ لكن بقي هذا الأمر مجرد أحلام تراود عمر الثمانية عشرة. وفي أغسطس من العام نفسه، اتصل أحدهم، وأطلعنا على خبر مقتل ابن عمي! قالوا إنَّ هجوماً قد شُن، فكُسرت عنقه، وتلقى طعنة في صدره، وفُتِح وريده. لقد قُطعت أوصال حبيبي النحيف الأبيض بهيّ الطلعة! كنت ناضجة إلى درجة تكفي لأقع في الحب؛ لكنني كنت أصغر حيال إدراك حقيقة الموت. كانت ذروة هجوم طالبان وصراعهم مع المجاهدين؛ فلم أستطع الوصول إلى أفغانستان. كانت طالبان قد هجمت، وكان حلفاء فؤاد من المجاهدين اليساريين قد كشفوا عن اسمه، وأفشوا كل عمليات اليساريين؛ لكن لم يتضح من الذي قتله. وهل ثمة فرق في ذلك؟!

مكثت في إيران، وكنتُ أنظر إلى الحدود من الجبال. أمسك التراب بقبضة يدي، وأضرب الأرض بها، وأبكي على جسد حبيبي الشاب. كنت قد أصبحت هرمة بسبب المعاناة، كهلة للغاية… وبدأ ارتعاش يدي منذ ذلك الوقت.

لم يعرف أصدقائي في طهران أيّ شيء عن ألمٍ في سن الثامنة عشرة، لم يعرفوا شيئاً عني على الإطلاق! إذ كنت واحدة منهم ببطاقة هويتي والبطاقة الوطنية الإيرانية، ولم أخض في مغامرات الحرم الجامعي والحركة الطلابية. لم أذهب إلى طهران، ولم يسعني الذهاب إلى منزل عمي. انهار تمثال بوذا في باميان، وبثّت التلفزيونات الإيرانية والعالمية صوراً مرات عدة؛لكني كنتُ أستمتع بصورة واحدة فحسب.

كان ثمة شخص بحجم حبة الحمص أمام تمثالي باميان قد قُتِلَ قبل سقوطه. تباً لباميان! تباً لتراث الأرض! ولم يرَ أحد معاناتي! كان التلفزيون يبث مشهداً لدخان يتصاعد من تمثالي بوذا. كنتُ قد تقوضتُ قبل بوذا، كنت عروساً حزينة لم يكتمل زفافها، ولم يسعني البوح لأحد بهذه المعاناة.

لا ينبغي لعمي أن يتحدث عن آلامنا المشتركة! كانت قد مرت سنوات، وتزوجت، ورُزقت بطفل، وها أنا أمارس لعبة الطعام والحلويات. كان ثمة شيء يمسك خناقي؛ تذكرتُ والدي عندما جمع صور ابن عمي وأضرم النيران فيها. هل أتذكر الطبيب النفسي الذي سألني: هل قبلته؟ هل رأيتِ جثمانه؟ أتذكر المعلم الذي كان يقول: هذه هي الحرب وتداعياتها. وحينما صرخت بشكل لا إرادي في الصف، ولم أخبر زملائي عن ألمي؛ذكرني عمي بأنّني كنت عروساً لم يكتمل زفافها، ثم عاد وانكب ثانيةً على أدوات تدخين الأفيون.

نهضت وذهبت إلى المطبخ أحمل أكياس التسوق. كان ظهر صفية محنياً تغسل الأطباق، منكمشة كما لو كانت تعاني آلام الظهر.

قلت: «لم أحسن طبخ البامية. أريد أن أصنع كعكة».

فالتفتت نحوي، وكانت نظراتها مفعمة بالألم، كما لو أنَّها كانت تبكي؛ فخلتها بالتأكيد قد سمعت حديث العم، فقلت: «هل أنت بخير ‌يا زوجة عمي؟».

فأجابت: «ماذا تحتاجين حتى أحضره لكِ؟».

فهمت أنَّها لا تريد أن تتحدث، فقلت: «الفرن الخاص بالكعك فقط».

فنکست رأسها، وتابعت غسل الأطباق، وكأنَّها لم تسمعني. لم تكن على ما يرام، وكنتُ -أنا التي تتفوه بالترهات- مدينةً لها بشدة! فاقتربت منها، وأخذت الطبق من يدها، وقلت: «لا بأس يا زوجة عمي. بصراحة أنا لا أجيد الطبخ على الإطلاق. لقد قلت هذا يوم أمس لأجعل عمي سعيداً فحسب».

فجأة، أفلتت صفية الطبق، وصفعتني على وجهي بيدها المبللة… أبرد صفعة في العالم!

لا أعلم كم سنةً يلزمني حتى يسعني نسيان صوت الصفعة! لا أعرف لماذا صُفعت، وخجلت جراء تلك الصفعة أيضاً.

وقالت: «بعد مرور عام تأتين من إيران كي تجدّدي حزننا، وتطبخي لنا؟».

وعدت مجدداً إلى وقت موت ابن عمي، وصوت عمي الذي كان يصيح في الهاتف: «حمامة كابل الدامية…».

تكررت جملة عمي في رأسي، وصفعة صفية التي أدارت رأسي بالكامل. لا، ليس ثمة مذاق يمكنه أن ينقذ عائلتنا المدمرة. كنتُ أشعر بوجود مذاق كالسم، وذلك حينما مات حبيبي، وأطرقتُ رأسي، ونزلت إلى الطابق السفلي لأطبخ مرة أخرى، كي أكون محطّ قبول أولئك الذين عملت بجد لأظفر باستحسانهم. والآن أصبحت عاجزة من حبٍّ يرقد حبيبه في المقبرة!

قالت صفية: «سنذهب إلی مدینة دوشنبه حتى يأخذ عمك بثأر ابنه. جنسكم مصنوع من الحقد.جئت به من كابل إلى هرات كي ينسی، لكنه لم يفعل. يقول أنا من قتلت ولدي».

وجلست على أرضية المطبخ، وشرعت بالنحيب.

لم أكن أعرف كيف سينتقم عمي المدمن على الأفيون والضعيف، وممّن سينتقم؟! إذ لم يُعثر على قاتل ابن عمي إطلاقاً، وكانوا قد حملوا إحدى يديه من جثته الممثَّل بها كعلامة على الحقد، اليد نفسها التي كانت تكتب لي كل تلك الرسائل الغرامية، اليد التي أمسكت بيدي، ووعدتني بألا تتركني أبداً.

تعالى صوت عمي المنتشي والملازم لسفرة تدخين الأفيون، وهو يغنّي أغنية لأحمد ظاهر، وأخذت صفية، التي كانت تجلس على أرضية المطبخ، تمسح وجهها براحتي يدها الملطختين برغوة الصابون. مرت خمسة عشر عاماً، ومازلتُ أتألم كأنني أنا المذنبة!

يمكن لمثل هذه المعاناة أن تجعل الإنسان بائساً، وبدا الأمر كما لو أنّني من حركة طالبان، أو شيوعية، أو من المجاهدين. كنتُ قاتلة؛ لأنني أنا الضحية، وبقيت على قيد الحياة. ربما لم تكرهني صفية من صميم قلبها، لكني نكأت جراحهم مجدداً بحضوري وإصراري على إظهار ما حدث كأنَّه أمر طبيعي! استحققتُ تلك الصفعة؛ حيث أردت أن أقول إننا ما زلنا سعداء. تزوجتُ من رجل آخر، وسقطت طالبان، وها هم يرممون تمثالي بوذا من جديد… كان من الجيد لو يهدأ عقلي قليلاً. إذاً، لمَ يعيدون بناء معاناتنا؟! هل يمكن إعادة بناء يديّ فؤاد وجسده أيضاً؟!

مددتُ يدي نحوها: «انهضي يا زوجة عمي».

فدفعتني، فأمسكت بكتفها بإلحاح، لكنها صرخت، وأخذت تئنّ بصوتٍ عالٍ من الألم! فسحبتُ يدي برعب، وانزاحت ياقتها المفتوحة. كانت مؤخرة عنقها مجروحةً، وبدت لي الجروح في أماكن عدة قديمة، وفي أخرى جديدة وملتهبة. كان اللحم قد برز من تحت الجلد مثل القروح… فتمتمت: «أخخ..»، ثم أبعدتُ يدي.

كان مكان الحرق ناجماً عن سفود المنقل، ولم يغفر عمي لصفية إرسال ابنها إلى كابل للدراسة؛ ابنها الذي عاد جثماناً هامداً. وفي كل مرة كان يعتريه الحزن جراء ألم التذكر. كانت صفية، المكلومة والمحروقة والحزينة جراء الألم الذي كانت بريئة منه، تُعذَّب. لم لا تصفعني بالقدر ذاته الذي كنت أبدي فيه فرحاً مصطنعاً وكاذباً؟!

لم تنتهِ الحرب؛ لكنني لم أرَ عمي إلى حين موته! إذ كنت أبحث بروحٍ مكلومة عن يدٍ تمنّعت المقبرة عن استقبالها، يدٍ أرادت أن تكون كاتبة، وخرجت الآن من كمي. لم أكن أنا نفسي منذ الثامنة عشرة من عمري، بل كنت حلم فؤاد الملفوف بقامة الموت!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *