سلام التميمي
الرواية في عصرنا
كتب الناقد والمؤرخ الأدبي جورج سانتسبري في عام 1926، وهو زمن ليس بعيداً في التاريخ، قائلاً أنهُ لايجد مُدعاةً لكل ذلك الأهتمام بالتكنيك الذي عاصرهُ، ففي الفن كما قال ” يكون التكنيك ذا منفعة لا تُذكر بالنسبة لك وهو في الوقت ليس أمراً قليل الخطورة “، وأستخدام التكنيك كان يعني في نظره كتابة صاحبها شديد الشعور بذاته وشخصيات تولد ميته، فالروائي لا يُمكن أن يتعلم التكنيك فهو أما أن يكون قادراً على الإمساك بحكايته من أطرافها وخلق شخصيات مُلائمة لها، وأما أنهُ لا يستطيع أن يفعل ذلك _ أي هو أما أن يكون قادراً على أن يصبح روائياً وأما أنهُ لا يستطيع ذلك _ ، وليس لنا أن نستنتج من ذلك أن الرواية في أعتقاد سانتسبري لم تكُن تزيد على أن تكون حكاية فيها شخصيات تبعث على الأهتمام كما يكون فيها أحداث مُثيرة، وكما يبدو فأن سانتسبري لم يكُن يعتقد بأن أشكال المعرفة أو وجهات النظر للواقع التي يكون الروائيون قد حازوها وطرحها القرن الذي يعيشون به تلزم الروائي على إيجاد أشكال تكون مُلائمة أفضل التلاؤم مع التعبير عن تلك المعرفة والوجهات .
ومما يدهشنا أن سانتسبري تعرف على أعمال هنري جيمس و جوزيف كونراد، إن لم نقل على أعمال غيرهم، لم تجعل من البَيِن الذي لا لَبسَ فيه لدى سانتسبري قيمة أنواع معينة من التكنيك مثل قيام هنري جيمس بأداء الرواية بدلاً من القيام بالأخبار عن أحداثها، وكذلك وضع جوزيف كونراد لراوي الرواية داخل الحكاية إبتغاء عكس صورتها وإيضاحها، لقد دعا فورد مادوكس هنري جيمس و جوزيف كونراد بأنهما ” سحابة غريبة ” كانت في أثناء عبورها فوق الأرض التي تحيا عليها الرواية الأنكليزية قد تركت وراءها شعوراً بأن الحكاية البسيطة قد أنتهت، ومن ذلك الوقت أصبح للروائي إحساس أعظم بذاته، وكان من المُحتمل إذا أستخدمنا تعبير جوزيف وارن بيتش أن ينتج الروائي ” رواية مصنوعة صناعة جيدة “، ومنذ عام 1885 كما أستطرد وارن بيتش في القول أصبح هناك أهتمام مُتعاظم على الدوام بالشكل كما بُذِلَ مجهود من أجل جعل الرواية تختلف قدر الأمكان عن المقالة الفلسفية والسجل التاريخي للأحداث وهما الأمران اللذان كانت الرواية في البداية مُتصلة بهما أقرب الأتصال .
على أنهُ من الناحية الأخرى جرى النظر إلى ” الرواية المصنوعة صناعة جيدة ” على أن فيها محدودياتها، ومن تلك المحدوديات أن مادة الرواية قد حددت تحديداً مُتشدداً وأنها قد أشبعت بالدقة الشكلية وأن فيهـا لطافة مشعوراً بها، كما أنها تخلو من الفيضان العاطفي والفكري، وكانت ردود الفعل كثيرة، ومن بينها الطلاق الذي حدث مع اللطافة والعذوبة كما نجد ذلك في واقعية سنكلير لويس وتيودور درایزر، وكذلك محاولة إصطياد المشاعر التي تقرب من وتندمج مع اللاوعي وتيار الشعور الذي يجرى بين الشخصيات كما فعل د. هـ . لورنس، ثم هناك محاولة التركيز على التشابك تنوع للأفكار والمشاعر والتأثرات في دواخل العقول الفردية كما فعل جيمس جويس وفيرجينيا وولف، ونضيف إلى هذا ذلك الأهتمام وضع وجهات نظر مُتعددة جنباً الى جنب كما فعل كل من أندريه جيد والدوس هكسلي، وكل من هؤلاء الروائيين قد حاول أن يجد شكلاً يستطيع معهُ أن يموضع فهمه لعصرنا، أن يصوغه صياغة درامية .
كل هؤلاء سواء أردنا ذلك أم لم نردهُ، ينتمون الى زماننا ونحن إليه وليس إلى غيره لأنهُ قام بتشكيل كياننا، وإذ عشنا فيه فأننا لن نستطيع أن نكون مرتاحين في أي زمان غيره، وعندما نستجيب إلى معرفة عصرنا وتعابيرهُ فإن حساسياتنا تكون إلى حدٍ ما مخلوقة لنا خَلقاً، إن فن كل الفترات فيه تماثلات غير إن فن كل فترة يكون فيه، اضافة الى التماثل طابعاً خاصاً بها، والأمر لا ينطوى على تقلب المزاج في كون الأشكال الأدبية تتخذ من عصر إلى عصر صِيَغاً مُختلفة أو أنها تُهجر وتُلغى، فهُناك بالتأكيد التقليعة أو الموضة يكُمن وراء هذه التبدلات في الشكل، شيء أكثر من مُحاكاة الطليعة الفنية مُحاكاة فردية وهي المُحاكاة التي تهوى التغيير من أجل التغيير فحسب، ذلك أن روح هذه الأشكال الفنية وأنواع المعرفة المنطوية عليها تتغير وبذلك تجعل من الضروري خلق أشكال جديدة، فالقارئ المُعاصر يستطيع أن يَلْتذَّ بأقصوصة طويلة أو بدراما بطولية ولكنهُ لا يقدر أن يستذوق أياً منهما إذا ما كتبهُما كاتب قصـة أو درامي ينتميان إلى القرن العشرين، ومن أجل أن يكون الأنسان وفياً لفنه لابد أن يكون وفياً لعصره، إذ ينبغي عليه أستخدام المواد الأولية التي يقدمها إليـه ذلك العصر .
لقد أشيد بكل من هنري جيمس وجوزيف كونراد، حسب طريقة كل منهُما، لأنهُما يمتلكان سيطرة على النبرة، أي أنهُما قادران خلق وحدة من الشعور والمزاج النفسي بواسطة الأبقاء طويلاً على الذبذبات الأنفعالية، بدرجات مُلائمة من الحدة خلال كل واحدة من رواياتهم، وأن هذا الأنشغال ضروري للروائي الذي يعطينا أما الشعور بموقف معين أو بنبرة مُجتَمَعِهِ، فالثيمة والموضوع يتم السيطرة عليهُما لا على أساس من التجريد أو على أساس أنهما أحداث تقع على السطح بل تتم السيطرة عليها بما فيهما من شعور أنفعالي وأصداء صوتية خافية، ولدى التحليل يجد المرء مراراً وتكراراً أن الذبذبات والشعور تسببهما رمزية مركزية أو هما يخلقان بفعل مجموعة من المجازات مُتصلة فيما بينها .
وعلى ذلك فالروائيون الذين إنشغلوا أشد الأنشغال بمشكلات التكنيك إنما كانوا يحاولون الكشف عن وسائل يستطيعون معها أن يجعلوا المواقف المُتعددة مصاغةً أفضل صياغة درامية لنا، وعلى سبيل المثال فأن الناقد ” ألين تيت ” في تحليله لرواية مدام بوفاري يُركز إهتمامه على حادثة واحدة وهي أزيز مخرطة المعادن والخشب وهذا التركيز يساعدنا على أن نتعرف على ما يجرى في عقل إيما بوفاري، ففلوبير مؤلف هذه الرواية يستخدم تكنيكاً كان إليوت سيدعوه بالمعادل الموضوعي، ويقول ” ألين تيت ” أنه من خلال هذا التكنيك وما يشابهه ” لحقت الرواية في النهاية بالشعر” .
ويُنظر للتكنيك أيضاً على أنهُ مُعالجة لمادة الرواية وموضوعها وذلك من أجل أن تُثار في داخليتها حيويةٌ تتوافق مع نوعها الفريد الخاص بها وذلك فيما يتعلق بالأسلوب، ولقد أظهر لنا ” روبرت بین وارين ” المُلاءمة الخاصـة للأسلوب المشدود المُنطوي على عبارات ذات مقطع صوتي واحد في كتابات همنغواي الأولى الذي كان يعتقد بالنادا _ اللاشيء باللغة الاسبانية كما جاء ذكر هذه الكلمة في قصته القصيرة ” مكان نظيف حسن الاضاءة ” _ أما ” مارك شورر ” فيُلاحظ أن مما يزيد فهمنا كيف أن مثل هذا الأسلوب ينهار ويصبح غير مُلائم، يصبح موضـوع همنغواي مُتغيراً بتحوله نحو التوكيد الاجتماعي، لقد كان أسلوب همنغواي الأول متوافق مع مجموعة من المواقف التي نجمت بعد الحرب العالمية الأولى، ويقول ” مارك شورر ” أن على المرء أن يُصحح ما قالهُ الكاتب الفرنسي بوفون : ” وهو أن الأسلوب هو الرجل “، أو نقول ” أن الاسلوب هو الموضوع ” لكي تصبح المقولة مُلائمة، أو ربما وَجَبَ علينا أن نقول أن الأسلوب حين يكون أجود ما يكون إنما قيمتهُ وحساسيته تُعبر عن نفسها في صيغة مُلائمة لموضوع مُعين وأن الأسلوب حينما يكون مُلائماً فهو جزء من المعنى، والأسلوب أيضاً تعبير عن روح مُحركة نحو غاية ما وعلى هذا فهو تعبير عن حقبة ما أو ثقافة معينة .