العمى الأحمر.. قصة بعنوان: لقد كنت حلماً لفؤاد الملفوف بقامة الموت

وصفة مرق البامية مشترکة في أفغانستان وإيران، لكن مذاق الواحدة منهما يختلف عن مذاق الأخرى. كنت ضيفة عمي في مدینة هرات عندما أكلت مرق البامية الأفغانية، وقلت لنفسي ربما تختلف البامية الأفغانية عن الإيرانية. حاولت أن أتذكر طعم ما أكلته سابقاً، لكنني لم أستطع. بالنسبة إلى شخص لا يعرف من الطبخ شيئاً، يشبه تذكّر الطعم الجرف في البحر مستعيناً بالملعقة!

ربما كان مذاقه حامضاً أكثر مما اعتدته، أو قوياً أو، على حد علمي، أكثر ملوحةً. مهما كان فلم يكن طعمه يشبه مرق البامية الإيرانية. أخبرت زوجة عمي بذلك، وقلت: «يبدو طعمه مختلفاً». قالت: «إن شاء الله في أثناء إقامتكِ هنا ترتبي لنا الوصفة الخاصة بكم حتى نتعلم!».

هکذا الحال عندما تفتح فمك من دون حكمة، ولم يكن كلامك في محله. في الواقع لم أكن أعرف الطبخ على الإطلاق! كنت دائماً مستهلكة للطعام وليس صانعة له. في ثقافتنا من المستبعد جداً أن تجد امرأة لا تعرف الطبخ! الأمر كما لو كانت تقول إنني لست امرأة! کل هذا كان كفيلاً، بالنسبة إلى زوجة عمي -وهي امرأة تقليدية من عائلة باراكزاي البشتونية الأفغانية، كما أنها لم تحببني أبداً- وسبباً آخر لتعتقد أنني لا أناسب ولدها، وكلّ هذا لعبة أطفال فحسب!

كنت في التاسعة من عمري، أضع كرسياً بطول 20 سنتيمتراً تحت قدمي حتى أتمكن من رؤية داخل القِدر، وكانت والدتي تمسك المغرفة،وتقف أمام الموقد، وتلقي خطاباً مفاده أنَّ للأرز سبعة حزم؛ وعندما تفتح الحزمة الخامسة علينا أن نسكبه في المشخل للضيف، وعندما يصل إلى الحزمة السادسة لن يكون صالحاً للضيافة،لكنه ينفعنا نحن. كان هناك الكثير من الضیوف الذين یتردّدون إلى منزلنا، وكان هناك طهاة يمكنهم صنع الأرز بصورةٍ تليق بالضيوف حتى لا نشقي أنفسنا كثيراً؛ لكن والدتي كانت امرأة لطیفة تحب الكمال، وكانت تعلّمنا هذا الكمال. كنت أفكر؛ كيف يمكنني وضع رأسي في الإناء الساخن کي أرى حبات الأرز؛ حبة، حبة، وأعدّ الحزم السبع تلك. حدقت والدتي في وجهي كما لو كانت تنظر إلى ضفدع ناطق، وقالت: «عليك أن تنظري إليه بشكل كلي».

وقتها كان عليّ أن أدرك أنني لن أتعلم الطبخ أبداً. بالنسبة إلى أمي كان القدر والمكونات،التي في داخله، شيئاً عاماً يمكن رؤيته في لمحة بصر، وبالنسبة إلي كانت دائرة تحتوي من مئة إلى مئتي أو ثلاثمئة حبة أرز. في بداية تدريب الكمال كنت قد سكبت الأرز في المشخل عدة مرات، وقالت والدتي وهي تنظر بصورة عابرة: «الضيف يأكله، نحن نأكله، الكلب لا يأكله!»؛على الرغم من أنَّها لم تعطِ مما أطبخه أياً من الكلاب أو القطط أو حتى الخراف لتأكل أو لا تأكل. «هذه مخلوقات الله أيضاً، فما الذنب الذي فعلته؟»، فتتنهد بحسرة وعمق شديد،وتقول: «يا شجرتي غير المثمرة…!».

أكدت زوجة عمي مراراً وتكراراً أنني دون ثمر يذكر؛ إنما لا تعرف لماذا يجب أن يقع ابنها في حبّ مثل هذه الفتاة الدلوعة، وماذا سيحدث لنا؟! وقد تؤيد والدتي ذلك الكلام بصدق عندما تسمعه، وهو: نعم إنَّها دلوعة وشرسة.

لقد تغلّب الحبُّ عليَّ، أول مرة، عندما كنت مراهقةً، بلا رحمة وعناد، ولم أكن أعرف ماهيته جيداً إلى درجة أنني كنت أقضي كل وقتي في المشاجرة وسوء المزاج! كنت أرغب في ذلك، ولم أكن أرغب فيه، واستطعت أن أرى، من كلّ قلبي، القوةَ تغمرني وتشدّنی بشكل لا إرادي خلفها! بالنسبة إلي، أنا التي تسكن في إيران، وحبيبي في أفغانستان، يرتبط الحب بكلمات خاصة: إدارة الهجرة، الحدود، بطاقة المرور، الطالب الأجنبي، بطاقة الهوية، المذهب… أيّ شيء يمكنه أن يقلل أو يطيل المسافة بيني وبين ابن عمي.

كانت زوجة عمي قد غسلت البامية، التي مثل البامية الإيرانية، ونشرتها في صحيفة، ثم سألتني: «حسناً، وماذا أنتم تفعلون؟!».

قلت: «أوه. إذاً أنتم تجففونه بعد غسله. لا، نحن نسکبه بعد الغسل مباشرة في القِدِر».

إنَّ العثور على غطاء لعدم المعرفة یکون أكثر تعقيداً من الاعتراف بعدم المعرفة نفسها. وكلما انخفض الادعاء أصبح الأمر غير مقبول. زوجة عمي، التي رأت عنادي مرات عديدة، اكتفت بابتسامة ناتجة عن السخرية.

في تلك السنوات، من أجل سعادة أمي وزوجة عمي؛ كنت أسعى لأن أثمر؛ أن أفعل شيئاً تعتقدان أنَّني أستحق به أن أكون امرأة. في الواقع أستحق أن أكون امرأة لفؤاد.

لقد بدأت بكتاب الطبخ الذي كُتِب فيه: مئة جرام من الزبدة، مئتان وخمسون جراماً من شرائح لحم العجل… لكن المذاق ما زال ليس جيداً! تقول أمي: «في بعض الأحيان الأمر عائد إليك». لم أستطع فعل أيّ شيء يُذكر سوى ما ورد في ذلك الكتاب؛ حتى وإن حدث وخبزت كعكة الليمون من الكتاب نفسه، ونجح الأمر؛ إنَّه لاكتشاف مهم في أيام امتحان قبول دخول الجامعة في سنّ السابعة عشرة. يختلف الطهي عن خبز الكعك والمقبلات؛ لا يمكن خبز الحلويات الاستعانة بالعينين. يجب أن يكون حجم المواد ودرجة حرارة الفرن دقيقين.

قلت لزوجة عمي: «موقدك من طراز روسي قديم، ولأنَّ الطقس في روسيا أكثر برودة سيكون اللهیب في هذه المواقد أعلی بكثير. من الجيد شراء موقد جديد من إيران». الأمر كان أسخف من قول إنَّ رأس شعب الطاجيك أكبر من رأس شعب الأفغان؛ لذلك إنَّ نشل القبعات لا ينفع.

قالت زوجة عمي، وهي التي لم تكن امرأة بسيطة: «لكنّ الموقد الروسي أفضل بكثير من الموقد الإيراني».

أنا لست خبيرة في المواقد، لكن كان عليَّ الدفاع عن فكرتي البسيطة، فقلت: «لكن البامية سَتُسحق بسرعة لو غلت كثيراً منذ البداية».

قالت: «حسناً يا فتاة. إذاً سنقلل اللهيب كي لا تغلي بسرعة».

قلت: «لا يمكن ذلك؛ لأنَّ موقدك من صنع الروس».

لقد أصبت الهدف. جاء صوت عمي من الجهة الأخرى: «لقد صنعوا كلّ شيء لنا، وأخذوا كلّ شيء منا. اسمعي الكلام يا صفية».

مع تصاعد نقاشهما، أدركت أنَّهما لن يبقيا في هرات. اليوم، أو غداً، سيذهبان إلی دوشنبه. إذاً، لماذا دوشنبه؟

لقد أشغلت نفسي بأدوات المطبخ الخاصة بهم. كان لدى زوجة عمي رف للبهارات، وكانت قد ألصقت اسم كلٍّ منها علی الزجاجة الخاصة به. شيءٌ مثل الكمون مكتوب على الزجاج الخاص به: «قدم الفتاة»، وشيء مثل الكركم اللامع قليلاً: «روح ليلي»، وأعواد تشبه أعواد القرفة، لكنها حمراء: «نكاره». قفزت في منتصف جدل عمي وزوجته، وقلت: «کم هو جمیل. لكلٍّ من النكهات هنا اسم امرأة. تذهب النساء هنا داخل الطعام ليجعلنَه لذيذاً».

رد عمي: «نعم طعمها کطعم سمّ الحیة…».ووضعت زوجة عمي سلّة بامية أمامي.

لم تكن لدي طريقة أخرى للهروب، فقلت: «علینا فصل خمس وثلاثين حبة بامية من الطول والحجم نفسيهما».

نطقتُ بعدد الخمس والثلاثين هكذا بصورة عفوية وبدافع اليأس. عندما كنت في السابعة عشرة من عمري، كنت أزن حبات حلوی الحمص بعناية، وكنت أعد كلّ خمسٍ وثلاثين حبة، ثم أقوم بتعبئتها في أكياس بلاستيكية معقّمة. وترسل والدتي عبوات الحلوى إلى جميع الأقارب، ثمّ تنقل الأخبار إلى أفغانستان عبر الهاتف. بطبيعة الحال، لم يكن يهمّ فؤاد إطلاقاً ما إذا كنت أخبز الحلوى أو لا، كانت رسائله مليئة بالشوق والحماسة لقراءة الأدب، وبحلمه بتحرير أفغانستان. تبدأ رسائله على هذا النحو:

«لقلبي الوحيد.

الاستبداد لن يدوم طويلاً، وستكون حياته لا حول لها ولا قوة وخجولة أمام ظهور الناس…».

وبعد هاتين الجملتين، یكتب لي وصفاً لِمَا كان يمرّ به ويفعله؛ لكنّني كنت أحاول أن أكون امرأة. بعد عام لن يصنع أحد الحلويات في منزلنا، إلا إذا قام باستشارتي، أو أذهب أنا إلى الفرن وأدواته كي أضبط درجة الحرارة والحجم. كان هذا النجاح نتيجة اهتمامي بالتفاصيل، وحاولت أن أقدّمها بشكل جيد، كما بدت والدتي مقتنعة بأنَّ ابنتها المراهقة، رغم نفاد صبرها وشوقها، تريد أن تكون امرأة، وأن يكون لها زوج.

قلت لزوجة عمّي: «الماء الذي نصبّه في الإناء يجب أن يزن خمساً وثلاثين حبة بامية. تحتاج إلى نصف لتر من الماء».

قالت: «حسناً، كيف لنا أن نزن الماء الآن؟!».

قلت: «باستخدام زجاجة مياه معدنية».

صببت زجاجة مياه معدنية وخمساً وثلاثين حبة بامية في القِدر.

صاح عمي من مسافة بعيدة: «لقد دمّرنا الروس كثيراً، فكيف لهم أن يرسلوا لنا الماء والخبز الآن؟! يا لكم من ملاعين. ما هذا العمل يا تری؟ أين كنتم عندما كنا في النعيم؟!».

عمي مثله مثل جميع رجال الأفغان؛ كان متورطاً في الضغوط الاقتصادية والسياسية، والآن، بعد عشرين عاماً من الوجود السوفييتي، أصبح مؤيداً ومريداً لأحمد شاه مسعود، وكان يصفه بأنَّه بطل قومي، ويخبرنا أنَّ شاه مسعود يأكل خبز الشعير حتى لا يلوث الخبز الأبيض للروس فمه. إنَّه لأمر غريب أن يصدر مثل هذا الاستحسان من عمي، وهو من جذور عائلة إقطاعية! لكن هل تترك الحرب أيّشيء كما هو؟! بدا لي أنَّ الروس كانوا موجودين في سلال الخبز والأواني، وفي مطبخ صفية والعم، والطعام له مذاق كمذاق الحرب! عندما قلت هذا، أجاب عمي: «أنا لا أفهم ما تقولين! لكنني أعلم أنَّ الروس لو استطاعوا لوضعوا البطاطا الروسية فی هذا الطعام حتى تحرق حناجرنا».

عندما تورّم وريد رقبة عمي، كانت البامية الأفغانية تغلي مع صلصة الطماطم الإيرانية في القِدر، ونسيتُ كم جراماً من الملح يجب أن… قلت لزوجة عمي: «كيف تضيفين الملح؟».

رمقتني بنظرة، مع علمها بأنني لا أقصد كيفية التقاط غطاء الإناء ووضع الملح فيه، فقالت: «هنا علينا أن نستعين بالعينين». طريقة أمّي ذاتها! وهو ما لم أكن أعرفه أبداً.

عندما مددنا مائدة الطعام، بدا أنَّ البامية الأفغانية في الصحن الزجاجي قد هُرست وتلاشت. لم أرشّ الملح، ولم تفعل زوجة عمي ذلك أيضاً، فقلت: «عمّاه، هل عرفت أنَّ حجم قارورة المياه المعدنية الروسية لم يبلغ خمسمئة ميللتر، وحجم هذه جميعها سبعمئة ميللتر؟ انظر كيف انهرس طعامي…».

وكأنَّ مائدة الطعام غدت ساحة لكل تاريخ أفغانستان النضالي، دفع عمي الصحن بغضب، وقال: «تباً لهم. انظري أيّ لعبة يلعبونها معنا! إلى متى سيستمر هذا البؤس؟!».

فسكتنا جميعاً، وتناولنا طعاماً مهروساً غير مملّح.

فدائماً ثمّة طريق للهرب؛ إحداها أن تسلط الضوء على أهم الأشياء حتى تقلّل فداحة عدم معرفتك. ومن المؤكد أنَّ الحرب في أفغانستان كانت أكثر أهمية بالنسبة إلى عمّي من مذاق البامية التي أعددتها أنا وزوجة عمي. وبطبيعة الحال، كان عمي أكثر ما يعنيني من بين جميع أولئك الذين كانوا يجلسون حول مائدة الطعام تلك. لم أكن أعرف‌ أيتعيّن أن أكون ممتنةً الآن لشاه مسعود أم للمياه المعدنية الروسية! لكنني وجدت ضالتي، وقررتُ أن أفعل ما أتقنه؛سأقصدُ صباح الغد سوق هرات، وأبتاع عدداً من قوالب المعجنات، وأطحن السميد وأصنع كعكة لذيذة، لذيذة جداً إلى درجة ألا أضطر إلى تبرير ما لا أعرفه منتهزةً تعب الآخرين.

ذهبت وتجولت في السوق الذي مزقته الحرب، وكان ذلك قد حدث عام 2011 م؛ إذ كانت طالبان قد رحلت، وفي الوقت ذاته لم ترحل!وباعتقادي، كان ثمة ثمانية من بين كلّ عشرة رجال يناصرون طالبان. لم أعرف ما إذا كنتُ قد تعرّفت بشكل صحيح أو ما زلت في حالة صدمة من ذلك الطعام! فقد رأيت رجلاً يعتمر قبعة تشبه قبعة شاه مسعود، ويلف إزاراً طالبانياً حول خصره، ورأيت امرأة وشمت ذقنها بأربع نقاط رافعة برقعها، وقد ظهر شقّ صدرها، ورأيتُ طفلاً كان بائعاً في متجر أسلحة وطيور، يلحسُ البوظة… كانت ثمة صور كثيرة متناقضة، لم تدعني أعرف حقاً ما هذا المكان، ولماذا ليس شبيهاً بهرات؟! استمعت إلى كلام أشخاص يتبادلون أطراف الحديث، وبدا الأمر كأنني في مقاطعة ذاتية الحكم في باكستان. باكستان، السعودية، مدن إيران الحدودية… وبدا سوق هرات كأنَّه حالة اختلاط من كلّ شيء يمكن نسبته إلى مدينة مزقتها الحرب في الشرق الأوسط. كانت سُفرة مرقة البامية الخبيصة والقذرة التي أعددتها قد مُدت في السوق، وكنت أبحث عن طريقةٍ لإثبات شرعیتي المفقودة!ابتعتُ الدقيق والبيض من رجل يتكلم لغة البشتو. ولم يكن الميزان الرقمي الألماني معي، ولم يكن أمراً مستبعداً ألا يسعني إنجاز هذا العمل؛ لكنني فكرت في أنَّ البحث عن الميزان هنا، وفي هذه الحالة، ربما سيكون أغبى شيء يمكن القيام به.

رأيت عدداً من الرجال المسلحين في أماكن عدة من المدينة، وبدا زيهم كأنَّ آخر الزمان قد حان، وهمست امرأة في أذني: «قوات الناتو»، كأنَّه لا ينبغي نطق كلمة الناتو بصوت عال! «لا تحدقي فيهم. عندما يشعرون بالخوف يطلقون النار».

كنت أنا والآخرون مثلي نثير الرعب في قلوب هؤلاء المسلحين الذين يرتدون سترات واقية للرصاص. ولم أعرف، بعد أن انتهت الحرب، من بات عدوَّ مَن الآن؟!

لم يكن في هرات شيء يشبه سابقه على الإطلاق؛ سوى العم وبيته. وعندما عدت رأيت عمي جالساً بجانب بساط الأفيون منكباً على تدخينه، فصاح من أعلى المصطبة بفرح: «مرحى مرحى، لقد وصلت طاووس عمها».

اقتربت، فعانقني قائلاً: «لماذا لم أحضنك من قبل؟! لماذا نحلت، وأصبحت تبدين مثل حيوان السمور؟!».

فوضعت كيس التسوق بجانبي، وقلت: «يا عمي، ما هذا بحق الجحيم؟! يبدو أنَّ رائحة طالبان ما تزال تفوح من المدينة برمتها! كان الناس يحتفظون بملامحهم، فكيف أصبحوا يشبهون الباكستانيين؟! إذ كانوا قبل هذا كالإيرانيين!».

فتابع عمي بفرح: «أي نوع من الأزواج لديك؟ الماعز أثقل منك وزناً. لو كنتِ عروسي…».

أسررنا أحدنا للآخر بأمور عدة، وانكب عمي ثانيةً على غليونه، وانحنى على نار بقايا جذور القطن المشرفة على الخمود. وبدا الأمر كما لو كان قبل عشرين عاماً من الآن؛ إذ قفزت في الغرفة، وقلت باكيةً: «عمي. ابنك يقول: لا أريدكِ». كان عمي قد استخدم اسم حيوان كعادته، وقال: لأنَّه بغل! لكنْ، بدلاً من ذلك، أنت كالنمر البنغالي بالنسبة إلي».

فتركته. كان هذا التذكر خارجاً عن طاقتنا جمعياً. وبدأت يداي ترتجفان مرة أخرى. بعد كل هذه السنوات لم آتِ لأسمع كلام ابن عمي!

كان صيف عام 1999… كنت في الثمانية عشرة من عمري، وكان ابن عمي في العشرين من عمره. وكان قد كتب في رسالته عن شولوخوف، قائلاً: «إنَّهم يجمعون، خلال هذه الأيام، الروايات من مكتبة جامعة كابل»، فكتبت إليه رداً: «الفوضى تعم طهران، والأوضاع متأججة. لقد طردونا جميعاً من السكن الجامعي، وقالوا لنا اذهبوا إلى بلادكم حتى إشعار آخر».

ثم انقطعت أخبارنا عن بعض. لم يردّ أحد على اتصالاتي. كنت قد كتبت ثلاث رسائل ولم أتلقَّ رداً عليها! كان امتحان الطلاب الأجانب يقترب، وكان يتعين على ابن عمي المجيء إلى إيران؛ كنا نحب بعضنا مثل طفلين على جانبي حدود رسمها الآخرون، فاعتقدت، عندما يأتي، أنَّعمي أو أبي سيأخذان لنا منزلاً، ونتزوج، وتنتهي الحكاية؛ لكن بقي هذا الأمر مجرد أحلام تراود عمر الثمانية عشرة. وفي أغسطس من العام نفسه، اتصل أحدهم، وأطلعنا على خبر مقتل ابن عمي! قالوا إنَّ هجوماً قد شُن، فكُسرت عنقه، وتلقى طعنة في صدره، وفُتِح وريده. لقد قُطعت أوصال حبيبي النحيف الأبيض بهيّ الطلعة! كنت ناضجة إلى درجة تكفي لأقع في الحب؛ لكنني كنت أصغر حيال إدراك حقيقة الموت. كانت ذروة هجوم طالبان وصراعهم مع المجاهدين؛ فلم أستطع الوصول إلى أفغانستان. كانت طالبان قد هجمت، وكان حلفاء فؤاد من المجاهدين اليساريين قد كشفوا عن اسمه، وأفشوا كل عمليات اليساريين؛ لكن لم يتضح من الذي قتله. وهل ثمة فرق في ذلك؟!

مكثت في إيران، وكنتُ أنظر إلى الحدود من الجبال. أمسك التراب بقبضة يدي، وأضرب الأرض بها، وأبكي على جسد حبيبي الشاب. كنت قد أصبحت هرمة بسبب المعاناة، كهلة للغاية… وبدأ ارتعاش يدي منذ ذلك الوقت.

لم يعرف أصدقائي في طهران أيّ شيء عن ألمٍ في سن الثامنة عشرة، لم يعرفوا شيئاً عني على الإطلاق! إذ كنت واحدة منهم ببطاقة هويتي والبطاقة الوطنية الإيرانية، ولم أخض في مغامرات الحرم الجامعي والحركة الطلابية. لم أذهب إلى طهران، ولم يسعني الذهاب إلى منزل عمي. انهار تمثال بوذا في باميان، وبثّت التلفزيونات الإيرانية والعالمية صوراً مرات عدة؛لكني كنتُ أستمتع بصورة واحدة فحسب.

كان ثمة شخص بحجم حبة الحمص أمام تمثالي باميان قد قُتِلَ قبل سقوطه. تباً لباميان! تباً لتراث الأرض! ولم يرَ أحد معاناتي! كان التلفزيون يبث مشهداً لدخان يتصاعد من تمثالي بوذا. كنتُ قد تقوضتُ قبل بوذا، كنت عروساً حزينة لم يكتمل زفافها، ولم يسعني البوح لأحد بهذه المعاناة.

لا ينبغي لعمي أن يتحدث عن آلامنا المشتركة! كانت قد مرت سنوات، وتزوجت، ورُزقت بطفل، وها أنا أمارس لعبة الطعام والحلويات. كان ثمة شيء يمسك خناقي؛ تذكرتُ والدي عندما جمع صور ابن عمي وأضرم النيران فيها. هل أتذكر الطبيب النفسي الذي سألني: هل قبلته؟ هل رأيتِ جثمانه؟ أتذكر المعلم الذي كان يقول: هذه هي الحرب وتداعياتها. وحينما صرخت بشكل لا إرادي في الصف، ولم أخبر زملائي عن ألمي؛ذكرني عمي بأنّني كنت عروساً لم يكتمل زفافها، ثم عاد وانكب ثانيةً على أدوات تدخين الأفيون.

نهضت وذهبت إلى المطبخ أحمل أكياس التسوق. كان ظهر صفية محنياً تغسل الأطباق، منكمشة كما لو كانت تعاني آلام الظهر.

قلت: «لم أحسن طبخ البامية. أريد أن أصنع كعكة».

فالتفتت نحوي، وكانت نظراتها مفعمة بالألم، كما لو أنَّها كانت تبكي؛ فخلتها بالتأكيد قد سمعت حديث العم، فقلت: «هل أنت بخير ‌يا زوجة عمي؟».

فأجابت: «ماذا تحتاجين حتى أحضره لكِ؟».

فهمت أنَّها لا تريد أن تتحدث، فقلت: «الفرن الخاص بالكعك فقط».

فنکست رأسها، وتابعت غسل الأطباق، وكأنَّها لم تسمعني. لم تكن على ما يرام، وكنتُ -أنا التي تتفوه بالترهات- مدينةً لها بشدة! فاقتربت منها، وأخذت الطبق من يدها، وقلت: «لا بأس يا زوجة عمي. بصراحة أنا لا أجيد الطبخ على الإطلاق. لقد قلت هذا يوم أمس لأجعل عمي سعيداً فحسب».

فجأة، أفلتت صفية الطبق، وصفعتني على وجهي بيدها المبللة… أبرد صفعة في العالم!

لا أعلم كم سنةً يلزمني حتى يسعني نسيان صوت الصفعة! لا أعرف لماذا صُفعت، وخجلت جراء تلك الصفعة أيضاً.

وقالت: «بعد مرور عام تأتين من إيران كي تجدّدي حزننا، وتطبخي لنا؟».

وعدت مجدداً إلى وقت موت ابن عمي، وصوت عمي الذي كان يصيح في الهاتف: «حمامة كابل الدامية…».

تكررت جملة عمي في رأسي، وصفعة صفية التي أدارت رأسي بالكامل. لا، ليس ثمة مذاق يمكنه أن ينقذ عائلتنا المدمرة. كنتُ أشعر بوجود مذاق كالسم، وذلك حينما مات حبيبي، وأطرقتُ رأسي، ونزلت إلى الطابق السفلي لأطبخ مرة أخرى، كي أكون محطّ قبول أولئك الذين عملت بجد لأظفر باستحسانهم. والآن أصبحت عاجزة من حبٍّ يرقد حبيبه في المقبرة!

قالت صفية: «سنذهب إلی مدینة دوشنبه حتى يأخذ عمك بثأر ابنه. جنسكم مصنوع من الحقد.جئت به من كابل إلى هرات كي ينسی، لكنه لم يفعل. يقول أنا من قتلت ولدي».

وجلست على أرضية المطبخ، وشرعت بالنحيب.

لم أكن أعرف كيف سينتقم عمي المدمن على الأفيون والضعيف، وممّن سينتقم؟! إذ لم يُعثر على قاتل ابن عمي إطلاقاً، وكانوا قد حملوا إحدى يديه من جثته الممثَّل بها كعلامة على الحقد، اليد نفسها التي كانت تكتب لي كل تلك الرسائل الغرامية، اليد التي أمسكت بيدي، ووعدتني بألا تتركني أبداً.

تعالى صوت عمي المنتشي والملازم لسفرة تدخين الأفيون، وهو يغنّي أغنية لأحمد ظاهر، وأخذت صفية، التي كانت تجلس على أرضية المطبخ، تمسح وجهها براحتي يدها الملطختين برغوة الصابون. مرت خمسة عشر عاماً، ومازلتُ أتألم كأنني أنا المذنبة!

يمكن لمثل هذه المعاناة أن تجعل الإنسان بائساً، وبدا الأمر كما لو أنّني من حركة طالبان، أو شيوعية، أو من المجاهدين. كنتُ قاتلة؛ لأنني أنا الضحية، وبقيت على قيد الحياة. ربما لم تكرهني صفية من صميم قلبها، لكني نكأت جراحهم مجدداً بحضوري وإصراري على إظهار ما حدث كأنَّه أمر طبيعي! استحققتُ تلك الصفعة؛ حيث أردت أن أقول إننا ما زلنا سعداء. تزوجتُ من رجل آخر، وسقطت طالبان، وها هم يرممون تمثالي بوذا من جديد… كان من الجيد لو يهدأ عقلي قليلاً. إذاً، لمَ يعيدون بناء معاناتنا؟! هل يمكن إعادة بناء يديّ فؤاد وجسده أيضاً؟!

مددتُ يدي نحوها: «انهضي يا زوجة عمي».

فدفعتني، فأمسكت بكتفها بإلحاح، لكنها صرخت، وأخذت تئنّ بصوتٍ عالٍ من الألم! فسحبتُ يدي برعب، وانزاحت ياقتها المفتوحة. كانت مؤخرة عنقها مجروحةً، وبدت لي الجروح في أماكن عدة قديمة، وفي أخرى جديدة وملتهبة. كان اللحم قد برز من تحت الجلد مثل القروح… فتمتمت: «أخخ..»، ثم أبعدتُ يدي.

كان مكان الحرق ناجماً عن سفود المنقل، ولم يغفر عمي لصفية إرسال ابنها إلى كابل للدراسة؛ ابنها الذي عاد جثماناً هامداً. وفي كل مرة كان يعتريه الحزن جراء ألم التذكر. كانت صفية، المكلومة والمحروقة والحزينة جراء الألم الذي كانت بريئة منه، تُعذَّب. لم لا تصفعني بالقدر ذاته الذي كنت أبدي فيه فرحاً مصطنعاً وكاذباً؟!

لم تنتهِ الحرب؛ لكنني لم أرَ عمي إلى حين موته! إذ كنت أبحث بروحٍ مكلومة عن يدٍ تمنّعت المقبرة عن استقبالها، يدٍ أرادت أن تكون كاتبة، وخرجت الآن من كمي. لم أكن أنا نفسي منذ الثامنة عشرة من عمري، بل كنت حلم فؤاد الملفوف بقامة الموت!

ما بعد الظلم والكبت هل يمكننا تحليل الرأسمالية نفسياً؟

ما بعد الظلم والكبت التحليل النفسي للرأسمالية

هل يمكننا تحليل الرأسمالية نفسياً؟

ربما لو طُرح هذا السؤال على فرويد في حدّ ذاته لعبّر عن شكوكه في إيجاد إجابة عنه؛ لأنّه تساءل في خاتمة كتابه؛ الذي عنونه الحضارة وسخطها، عمّا إذا كان بإمكان المرء إجراء تحليل نفسي للمجتمع بأسره، وخَلصَ إلى أنّه لا يستطيع القيام بذلك. والمشكلة، حسب رأيه، ليست معضلة عملية؛ لكن على الرغم من أنّه لا يمكن للمرء أن يعرض مجتمعاً بأكمله، أو نظاماً اقتصادياً بأسره، لسلسلة من جلسات التحليل النفسي، فإنّ كلّ نظام اجتماعي وكلّنظام اقتصادي يعبّر عن نفسه من خلال المفاصل التي تخون أصداءه النفسية. ويمكننا تحليل هذه المفاصل من منظور النظرية التحليلية النفسية؛ فالعائق، الذي يقف عقبة أمام إنجاز أيّ تحليل نفسي للمجتمع، بالنسبة إلى فرويد،هو عائق نظري؛ إذ لا يستطيع المحلّل النفسي إدانة مجتمع بأكمله على أنّه عصابي، على سبيل المثال؛ لأنّ هذا التشخيص يعتمد على مستوى الحياة الطبيعية السليمة للمجتمعات، التي يمكن من خلالها تمييز المجتمع العصابي،لكنّ المفارقة التي تكمن في هذا الاستنتاج، وما يثير السخرية فيه، هما كونها واردة في كتاب يقوم بالتحليل النفسي للنظام الاجتماعي على هذا النحو، ولا بدّ أنّ هذه النقطة قد فاتت فرويد. إنّه قادر على أداء هذا العمل لأنّه لا يوجد نظام اجتماعي متكامل ومتطابق تماماً؛ فبدلاً من الاكتفاء الذاتي، ومن ثَمَّ عدم التعرّض للتحليل النقدي، يفتح كل مجتمع مساحة خارج نفسه يمكن للمرء، من خلالها، تحليله وإصدار حكم عليه. وينطبق الشيء نفسه على الرأسمالية باعتبارها بنية اجتماعية واقتصادية؛ إذ يوجد فضاء يسمح بالقيام بالتحليل النفسي للرأسمالية في خضم عدم اكتمال النظام الرأسمالي.

وإذا قبلنا الحكم بأنّه لا يمكننا القيام بالتحليل النفسي للرأسمالية بوصفها نظاماً اجتماعياًاقتصادياً؛ فإنّنا سنوافق ضمنياً على الحجج التي يتبناها المدافعون عن الرأسمالية؛ حيث يدّعي المدافعون عن هذا النظام أنّ الرأسمالية هي وظيفة للطبيعة البشرية، وأنّ هناك تداخلاًمثالياً بين الرأسمالية والطبيعة البشرية. ومن ثَمَّلا يوجد مكان يمكن للمرء من خلاله أن ينتقدها.

ومن هذا المنظور؛ إنّ أي نقد تأسيسي سيكون بطبيعته خيالياً وطوباوياً، لكنّ اشتغال الرأسمالية يعتمد بالضرورة؛ أكثر بكثير من الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية الأخرى، على عدم اكتمالها وعلى انفتاحها على الخارج. ويمكن للمرء القيام بتحليل نفسي للرأسمالية؛على الرغم من وجود تلك الفجوات التي ينتجها هذا النظام في حدّ ذاته وما يعتمده لتجاوز تلك الفجوات، إلا أنّ ممارسة التحليل النفسي لم تكن دائماً مساوية لهذه المهمّة.

يربط العديد من منتقدي الرأسمالية التحليل النفسي بالرأسمالية؛ إنّه يعمل، وفقاً لهذا النقد،كأحد الخَدَمِ الأيديولوجية للرأسمالية، وله تأثير يدعم المنشقّين المحتملين، ويحوّل الذواتالمتمرّدة إلى ذوات أكثر سكوناً. وهذا الفهم المتحامل للتحليل النفسي ليس غير مبرّر تماماً؛فأثناء ممارسته (خاصة في مناطق العالم الأكثر التزاماً بالرأسمالية مثل الولايات المتّحدةالأمريكية) أدى التحليل النفسي بالتأكيد دوراًفي تعزيز طاعة مرضاه وتدجينهم بدلاً من إلغاء شغفهم الثوري؛ لكنّ الحكم على ممارسة التحليل النفسي هو أمر متقلّب بالتأكيد.

لقد أدت نظرية التحليل النفسي دوراً رئيساً في نقد النظام الرأسمالي؛ على الرغم من أنّها لم تؤدِّ أبداً الدور الحاسم فيه.

ومعظم محاولات فهم كيفية اشتغال الرأسمالية ركّزت اهتمامها على بنيتها الاقتصادية أو على الآثار الاجتماعية التي تنتجها؛ لكن على الرغم من أهمّية هذه المقاربات، تغفل بالضرورة التركيز على المصدر الأساسي لقوّة بقاء الرأسمالية. وتنبع مرونة الرأسمالية، بوصفها شكلاً اقتصادياً أو اجتماعياً، من علاقتها بالجانب النفساني وكيفية ارتباط الأشخاص برضاهم النفسي. وهذا هو السبب الذي يجعل التحليل النفسي ضرورياً لفهم جاذبية الرأسمالية وإغراءاتها.

إنّ التحليل النفسي يبحث في مسألة رضا الأشخاص، ويحاول أن يفهم السبب الذي يجعل هذا الرضا يتّخذ الأشكال التي يتمظهر عليها،وهو بذلك لا يحوّل عدم الرضا إلى رضا، لكنّه يحلّل السبب الذي يجعل بعض الهياكل توفّر الرضا على الرغم من المظاهر السطحية. وبهذا المعنى؛ إنّه يمثّل طريقة جديدة لمقاربة الرأسمالية وفهم قوّتها الدائمة.

وأن نقوم بتحليل نظام ما نفسياً يستدعي بالطبيعة انتقاده؛ لكنّ الجهود السابقة في ترتيب تحليل نفسي معدٍّ لنقد الرأسمالية كانت باستمرار تضع التحليل النفسي في مكانة ثانوية، وكان النقد هو من يحتلّ مكانة أساسية، وعمل النقّاد على توظيف التحليل النفسي لخدمة النقد.

إنّ ما سأقوم به في ثنايا الفصول القادمة من هذا الكتاب هو العكس تماماً؛ حيث سيبقى التحليل النفسي للرأسمالية المحرّك الرئيس للتحليل، وإذا طفا على السطح أيّ نقد للرأسمالية، انطلاقاً من هذا التحليل النفسي؛فلن يكون أبداً القوّة الدافعة لهذا التحليل. وبطبيعة الحال، لا أحد بوسعه أن يكون محلّلاً محايداً للرأسمالية؛ لكنّني أزعم أنّ انغماس المرء داخل هيكلها وضمن إغوائها النفسي لا بد أن يكون بمنزلة التمهيد لأي نقد أو دفاع فعّال عن هذا النظام.

‎لغز البيت الأحمر.. ‎جريمة قتل، إطلاق نار، جثة، ومشتبه مفقود.. فهل تعتقد أنك ستكتشف القاتل قبلهم..

لغز البيت الأحمر رواية خفيفة، ساحرة، وذكية، سيتمكن القارئ إلى حد كبيرمن فك غموضها مبكرًا، من الواضح من إيقاع الرواية أن ميلن استمتع كثيرًاأثناء كتابتها. الإهداء في بدايتها موجّه إلى والده، الذي كان من محبي رواياتالغموض.

البيت الأحمر الذي تدور فيه أحداث الغموض يخص مارك أبلت، رجل مستقلماديًا، كان في السابق يكتب للصحف، ولكنه ومنذ أن ورث ثروة مناسبة منراعية عانس، بات يكتب ما يشاء دون أجر. يستضيف أصدقاءه باستمرار فيمنزله، ويُبقي سيطرته على سير الأمور من خلال تنظيم الأنشطة وتوجيهضيوفه إلى كيفية قضاء وقتهم.

يعيش معه ابن عمه ماثيو كايلي، ويعمل كسكرتير له. في طفولته، تكفّل ماركبتعليمه، ثم وظّفه لاحقًا للاهتمام بشؤونه المالية والإدارية.

أثناء وقوع الجريمة، كان مارك يستضيف ضيوفًا متنوعين: ضابطًا متقاعدًا، ممثلة، أرملة وابنتها، وشابًا من الطبقة الراقية يُدعى بيل بيفرلي، الذي كتبإلى صديق له كان يمر صدفة بالمنطقة، ودعاه لزيارته في البيت الأحمرتمامًا عند بدء الغموض.

توني غيلينغهام هو رجل لا يلتزم بمهنة واحدة لفترة طويلة، لكنه دائمًا يخرجسالمًا. عند وصوله إلى البيت الأحمر، كان يفكر في ماهية وظيفته القادمة. يلتقي بكايلي وهو يطرق بجنون على أحد الأبواب داخل المنزل، فيتدخل تونيعلى الفور.

قبل هذا المشهد بقليل، عاد الأخ الأكبر لمارك، روبرت أبلت، من أستراليا للقاءشقيقه. يعرف عنه من لم يسبق لهم رؤيته أنه شخصية غير موثوقة، دائمًا فيمشاكل مالية، وقد أُرسل إلى أستراليا لأسباب غامضة.

عندما يتمكن كايلي وغيلينغهام من دخول الغرفة، يعثران على جثة رجل، مصاببرصاصة في جبهته، ويؤكد كايلي أن القتيل هو روبرت أبلت. لا أثر لمارك. عندها، يقرر غيلينغهام أن يتقمص دور المحقق الهاوي، ويصبح بيفرلي هوواتسونلمحققناهولمز”.

وبين التقلبات والمنعطفات غير المتوقعة، تتكشف حقيقة ما حدث داخل المنزل. كلالعناصر موجودة: رجل مجهول يدّعي أنه الأخ العائد، شجار مسموع، طلقة، اختفاء مارك، وتواجد كايلي في لحظات محورية. ومع ذلك، هناك شعور بأنميلن كان يؤلف القصة بحرية أثناء سيرها، ويعكس هذا مرونة أسلوبه وجاذبيةشخصيتي غيلينغهام وبيفرلي.

بيفرلي بالتحديد يبدو مزيجًا بين بيرتي ووستر وجون واتسون. حماسيّ ومندفعلخوض غمار الغموض، لكنه بين الحين والآخر يتذكر أن الشخص المتورط قديكون صديقًا. أما غيلينغهام، الأكبر سنًا والأكثر خبرة، فهو الشخصيةالمهيمنة، ويظهر بيفرلي حرصه على نيل إعجابه.

عندما يُكشف الستار عن الحقيقة، تبدو الحبكة متكلفة إلى حد ما، كما أنالشرطة أغفلت مسارات تحقيق واضحة، مفضّلة القفز مباشرة إلى استنتاجسريع. لكن لغز البيت الأحمر تندرج ضمن أسلوبالعصر الذهبي للجريمة”، لذا يُتوقع منها شيء من اللامعقول.

النهاية توحي بأن ميلن ربما كان ينوي كتابة مغامرات أخرى لغيلينغهاموبيفرلي كمحققين هاويين. لكن بدلًا من ذلك، كتب رواية مستوحاة من زواجه(Two People، 1931)، ثم رواية جريمة كوميدية (Four Days’ Wonder، 1933)، ثم كوميديا اجتماعية (Chloe Marr، 1946).

البرج المقلوب: تفكيك النموذج المعرفي الكلاسيكي في زمن الرقمنة

البرج المقلوب: تفكيك النموذج المعرفي الكلاسيكي في زمن الرقمنة

بقلم: مريم بن عياش

يذهب عنوان الكتاب «البرج المقلوب» للكاتب العراقي كه يلان محمد إلى مخاتلة القارئ؛ إذ تنفتح لديه جملة من التأويلات الممكنة لما يحمله وما يحاول تجاوزه، فالبرج هو بناء دال على الارتفاع إلى أعلى مستويات الفكر، كما يدل كذلك على التراكم المعرفي والمنهجي، الذي يفرض استقرارا في الفكر. والمقلوب/الانقلاب دعوة صريحة للتشكيك في بنية المعرفة، والإقرار بأن ما يُعتبر ثابتا قد يكون متغيرا، ويحتاج إلى إعادة نظر وتفكير فلسفي. فالبرج المقلوب هو انقلاب للنظام المعرفي المتعارف عليه، باعتبار أن البرج هو الثبات، وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى أن الكاتب يذهب إلى تصوير الاضطراب الحاصل في المعرفة فيعكس اللا تناظر واللا ثبات فيها.

المسكوت عنه في الخطاب الفلسفي:

يحاول الكاتب الحديث عن المسكوت عنه في الخطاب الفلسفي؛ فإشكاليته تكمن في تغييبه تزامنا مع الفضاء الرقمي المفتوح والمؤثر بشكل أو بآخر على المعرفة ونظامها. يقف بنا عند سؤال جوهري عن دور الفلسفة في العالم اليوم، ونحن نعلم أننا نعيش رقمنتنا فيقول: هل تكون الفلسفة آلية لفهم، أو احتواء المتناقضات التي يشعر بها الفرد؟ هل يمكن للفلسفة أن تعزي الإنسان في واقع لا عزاء فيه؟ في الغالب يمكن أن نجيب عن هذا الطرح بقولنا، إن التكنولوجيا لا يمكنها الإجابة عن الأسئلة المُتشبّعة بالحياة، فهي تعالج الحلول العملية والظاهرة، دون الخوض في البنى العميقة التي هي من مهام الفلسفة.

استهلاك المعرفة/ صناعة الثقافة:

يحيلنا الكاتب إلى التكلف الذي أغرق فيه تجار الأفكار؛ وذلك من أجل تسليع المعارف، فقاموا باصطياد جمهور يستسيغ وجباتهم الغامضة، فالماديات حسب الكاتب تغوّلت وازدادت شراهة الاستهلاك، بتوالي الإصدارات الفلسفية التي تتناول محاذير الانسياق وراء الرغبات غير المنظمة، وتفضح عملية تضخيم الأوهام المبرمجة عن مفهوم السعادة، فقد فضحت من قبل مدرسة فرانكفورت الأمر، وسلطت الضوء على تأثير الوعي الرأسمالي في تأسيس خطابات معرفية مُغايرة، وفصل ثيودور أدورنو في هذه المسألة بداية من مؤَلفه المشترك مع ماكسهور كهايمر بحديثه عن تصنيع النخبوي لصالح الجماهيري. ما جعل صناع الفلسفة يقفون على خلفية العصر الجديد بميكانيزمات هشة، فأدّت عبثية الاستهلاك المعرفي إلى قلة طرح الأسئلة والخوض في عمقها، وتنظيمها بشكل فعال.

القطيعة مع أساطين الفكر الفلسفي/ من اللغة المقعّرة إلى اللغة الأليفة:

إن التشدّق اليوم بلغة أليفة قريبة من الجمهور، دون مراعاة لحساسية الأفكار المطروحة.. أو لتمرد الفلسفة ومشكلاتها المتشعبة، أدى إلى زعزعة القيم واختناق الأفكار؛ لأن الفلسفة لم تعد بإمكانها الإجابة عن هذه المطالب. إنّ فلاسفة الألفيّة الجديدة مخلصون، صادقون، قريبون إلى فكرنا، وكما يقول آلان دي بوتون «قليل من علاج القلق أفضل من التفكير فيه»، إذ يرى أنّ الفلسفة لا تستحق ساعة عناء إذا لم تساعدنا على العيش حياة أفضل.

ثنائية (الفلسفة.. السعادة) السعادة الماكرة:

يشير كه يلان إلى وجود علاقة خفية بين هذه الثنائية (الفلسفة/السعادة) وهي في حقيقة الأمر علاقة مفخخة، وبين (السعادة/المكر) من جهة ثانية، فالسعادة تتزايد مع تزايد عملية الإنتاج والاستهلاك، وتأجيج القنوات الإعلاميّة للرغبة الشرائية التي توهم بتوفير الهدوء النفسي، وهي «في الواقع لا تحقق شيئا سوى دعم ماكينة السوق وتضخيم السلع». حيث يذهب الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر إلى أن السعادة ليست شيئا يمكن السعي وراءه بشكل مباشر، بل هي حالة تتحقق من خلال العيش الأصلي والتفاعل العميق مع الوجود؛ إذ أنها ليست غاية، بل حالة تظهر نتيجة للعيش بوعي عميق. تختلف الرؤى حول مفهوم السعادة بناءً على الأفكار المتبناة، فقد يراها البعض مكافأة لعيش حياة قائمة على الفضيلة والواجب، بينما يراها آخرون نتيجة لعدم التعلق بالأشياء المادية، أو قبول العبثية والوجود.

استقلالية الخطاب الفلسفي:

الفلسفة قادرة على التعبير عن نفسها بشكل مستقل، دون تدخل أي سلطة، أو أي تأثيرات خارجية، دينية كانت، أو سياسية، أو ثقافية؛ إذ يُعتبر الخطاب الفلسفي مجالا حر الأفكار، ما يعزز قدرته على طرح الأسئلة الكبرى حول الإنسان والوجود والمجتمع. فقد رفض سقراط الخضوع لأوامر الحكام في أثينا، واعتبر أنه يجب على الفلسفة أن تكون مستقلة، وتبحث عن الحقيقة بغض النظر عن الضغط الاجتماعي أو السياسي. أما ديكارت في «تأملات في الفلسفة الأولى» فقد وضع قاعدة منهجيّة تقوم على الشك، وأكد ضرورة الاستقلالية الفكرية للوصول إلى الحقيقة. وكان كانط هو الآخر يرى أن الفلسفة مستقلة عن الديانات والمعتقدات التقليدية، في عمله «نقد العقل المحض»، وسعى إلى إنشاء نظام فلسفي يعتمد على العقل ولا يتأثر بالمعتقدات الدينية أو السياسية.

ويمكن القول أخيرا أنّ الفلسفة تهذيب للوقاحة، وترتيب للأفكار ولملمة لتشظيات الحياة اليومية، ودعوة إلى اكتشاف متعة التفكير انطلاقا من الواقع الموجود لا المُفترض أو المحتمل، بل هي خاضعة للممكن. يتناولُ المؤلف في سياق فصول الكتاب العلاقة بين المؤسسة الأكاديمية والفلسفة، مشيراً إلى أنَّ أفق التفكير الفلسفي أوسع من أن ينكفئ على حدود التنظير المُصطلحاتي لأنَّ الحياة بمتناقضاتها المُستفحلة هي قاعدة لانطلاقات الفلسفة وتجديد آلياتها. ويذكّرُ محمد بالتوتر السائد في الفضاءات التي يحاولُ فيها الخطاب الديني مصادرة ملعب الفلسفة وسحب الأوراق من العقل المسكون بالأسئلة الحيوية.

المصدر: جريدة القدس

ترف الحرب وتشظي التشرد في رواية عمى الذاكرة بقلم: الغربي عمران

الحس الإنساني اللافت الذي يمتلكه الرقيمي من خلال روايته عمى الذاكرة؛ فإصداره الأول، والذي ركز فيه على مناجاة الأم، كان مفعمًا بالمشاعر الجياشة، فحين كتب الرقيمي كتابًا كاملًا عن الأم، أبرزها رمزًا للعطاء العاطفي والمادي، وبكتابته ذاك يشير إلى قلوبنا، ويتحدث إليها، فلا كائن بشري إلا وأحس بلغته الجزلى، التي يشعر من قرأها بأنها قد عبّرت عمّا يحمله قلبه تجاه أمه.

بين يدينا اليوم إصداره الجديد عمى الذاكرة، عنوان لافت يفتح على قارئه عشرات النوافذ التأويلية والترميزية. ثم لوحة الغلاف التي مثلت عملًا فنيًّا معبرًا وقائمًا بحد ذاته: عين نظارة وحيدة، مشروخ زجاجها ومتماسك في نفس الوقت، وبوسط إطار إلا من فتحة صغيرة في السنتر.

اللغة، كما أشاد بها الروائي أحمد قاسم العريقي، هي أول ما تستقبل قارئ هذا العمل، إذ تمتاز بجزالة وسلاسة التعبير، ما يدل على قدرة الكاتب على الحكي الغزير، والتعبير الممزوج بالعاطفة، وهو ما تفتقر إليه نفوسنا الظمأى. ولذلك، تحملنا تلك اللغة إلى عوالم حسية وروحية باذخة الجمال.

الكاتب يرصد مجتمعًا تحت أوضاع الحرب، وما قرّب الإحساس بما يحدث استخدامُه لضمير المتكلم؛ فالسارد هو الشخصية المحورية يحكي أسرته المكونة من أمه وجده وزوج أمه الذي يصفه بأبي سالم، واصفًا أثر الحرب على أفراد المجتمع من خلال أسرة السارد، بعد أن عادتهم من مدينة لم تذكر إلى قريتهم نتيجة للحرب.

لم يكن الكاتب قاسيًا مع سالم الأب، ولا محبًا لأمه لأنها أمه:
“هذه أمي نادرة، غيمة وقعت على دربي بأمر الله، ولم أجدها إلا ماطرة بالحب والحنان والعطف، تغتسل روحها كلما رأتني مقبلًا عليها، وتهجع نفسها مع كل خطوة أسير لها مع جدي خارج البيت. إنني أحبها كثيرًا.”
ولا لجده الذي يصفه بصفات إنسانية عظيمة؛ بل أثّر الحرب على الأفراد، فسالم ضحية، وما غيابه وتجاهله لأسرته إلا من أثر الحرب عليه وعلى أوضاعه النفسية والمالية. هكذا يقدّم الكاتب سالم تارة بقسوة:
“وأبي هو الآخر جاء من زاوية قذرة لم تكن على صلة بالإنسانية.”
وأخرى في صور باهتة. وكذلك الأم، وقد زاد خوفها بشكل كبير على ابنها في ظل أوضاع مدمرة؛ فمشاعر الأم لن تظهر كذلك النقاء والعطاء في أوضاع مستقرة، وكذلك الجد الذي قدمه في شكل خيالي وكأن تلك الشخصية قدت من أسطورة يونانية قديمة بشكلها وجوهرها وقدراتها، وذلك الجدل الذاتي لها:
“جدي من السماء وقع في منزلنا وكأنه تعويض سماوي عن حرمان مستبد طالنا جميعًا.”

وإذا ما تجاوزنا حياة القرية وانتقال الراوي إلى صنعاء بعد الثانوية، هنا نقف عند نقطة؛ إذ قدم الكاتب هذه الأم التي تناست ذاتها لتعطي ابنها كل ما لديها من الحلي، ناسية ذاتها في حياة الوحدة بعد اختفاء الزوج وموت الجد ورحيل الابن، وهو الشاب الذي أكمل الثانوية في مجتمع ذكوري لا يعيبه أي وضع، بينما أمه الأنثى الوحيدة في قرية نائية تنسى أن تبقي لها شيئًا من حليها.

ليصل صنعاء وهناك يبحث عن عمل، إلا أن “عبده حمادي” البائع الجائل ينصحه بمواصلة تعليمه، ويتكفل بإدارة ماله – قيمة ذهب أمه – كشريك فيما يبيع ويشتري جائلًا:
“عليك أن تثق بي، أريد لك الخير، لا أعرفك أو تعرفني، لكنها أقدار الله تقود إلى حيث نجد أنفسنا، وهذا لا يحدث مرتين. دعني أساعدك في رسم خريطة أخرى تكون عليها لامعًا وناجحًا، أو بالأحرى أنا من يطلب منك أن تساعدني. امنحني فرصة واحدة لأغادر هذه الحياة وقد تركت خلفي رجلًا يشار إليه …”

حمادي قدمه الكاتب شخصية واعية وذات قيم أكبر من أن تنتج عن فرد يعاني الشقاء وحياة أقرب إلى التشرد، ليجد القارئ نفسه متعاطفًا مع حمادي وقد أصبح بمقام السند والناصح للراوي مواصلًا رعايته، خاصة بعد أن أقنعه بالالتحاق بالجامعة، وأفضى وجوده على مقاعد الدرس إلى علاقته بإحدى زميلاته علاقة محبة “يافا”، إذ ظل ناصحًا وراعيًا ومشجعًا له:
“تملك قلبك يا ولدي، تملك نفسك التي لن تستطيع أية قوة في العالم أن تسلبك إياها. هذه ثروتك التي لن تصلها أيادي الناس حتى لو تجمهرت على رأسك. امنح حبك وقل ما يجول في قلبك…”

وحين انفجرت حرب العاصمة:
“كانت المرارة الأشد في ذلك اليوم الذي صحوت فيه وأنا على سرير المستشفى. لم تكن في موت أبي أو أمي، ولا قذيفة الذاكرة التي سقطت في المرة الأولى وعادت مرة أخرى لتأخذ عبده حمادي.”
ليغادر الراوي صنعاء هاربًا من هول الحرب الذي أخذت منه كل من أحبوه، باتجاه عدن ومنها إلى القاهرة، ثم جنوبًا باتجاه الخرطوم، ومنها عبر الصحراء إلى ليبيا، ومن ليبيا عبر المتوسط ضمن مجموعة على قارب الموت ليصل إلى إيطاليا وحيدًا بعد موت من كانوا رفقاءه في الهروب.

وبالعودة إلى خطوات الراوي، نجد أن الكاتب قدمه كشخصية مركبة؛ إذ إن القارئ لا يجد إلا أن يتعاطف معه طفلًا صغيرًا مات والديه في ظروف غامضة، ثم عاش مع سالم الذي ظل ينظر إليه كأب، يموت جده ذلك الإنسان الذي منحه كل شيء، يغادر بعد حصوله على الثانوية باتجاه صنعاء، لكنها الحرب تلاحقه ليهرب حتى وصوله إلى إيطاليا. نجده كائنًا مركبًا؛ فظاهره العطاء، وباطنه النقيض؛ فهو يترك أمه الأخرى على أمل العمل والعودة لرعايتها، خاصة بعد أن أصبحت وحيدة، وهو شاب في مقتبل العمر، لكنه بدل العودة باتجاهها يذهب بعيدًا:
“وبقيت وحدي أراقب المشهد من بعيد، لا أقول شيئًا، كنت أخاف الفوضى التي قد تسلبني عبده حمادي، وتحرمني من يافا وتعيدني للقرية التي خرجت منها هاربًا.”
هنا أجاد الكاتب في تقديم الشخصية المركبة والمتمثلة بالراوي، مقابل الشخصية السطحية في حمادي، ويافا، والجد، الذين انتهوا بنفس السجايا وبنفس الطبائع التي جبلوا عليها من البداية وحتى انتهاء أدوارهم، لا يختلف باطنهم عن ظاهرهم.

سلط الكاتب الضوء في روايته على عدة ثيمات، خلافًا لموضوعها المحوري “الحرب”. ومن تلك الثيمات: الفقد، الترحال والضياع، المحبة، الإرادة…

ونعود لمحور الرواية “الحرب” التي كان لها الأثر الحاسم على كافة الشخصيات، سواء داخل اليمن أو أثناء الهروب، حيث قدم الكاتب عدة أوجه منها: الدمار النفسي والذاتي ودمار منشآت البلد وبنيانه الحياتي. المحور الذي تشظت منه بقية الثيمات:

الفقد: الذي تجلّى بفقد الأب والجد والأم والأصدقاء والأحبة، ثم موت رفاق رحلة التهريب، بداية ممن فقدوا في الصحراء الليبية، ثم من ابتلعتهم أسماك المتوسط.
التشرد: بداية من المدينة إلى القرية، ثم من القرية إلى صنعاء، ثم إلى عدن، ومنها خارج الوطن. تشرد من نجوا من الحرب في رحلة طويلة محفوفة بالموت عبر عدة وسائل؛ من سير على الأقدام إلى سيارات وطائرات، ومن عبور الصحراء ثم عبور البحر.
العاطفة: التي تجلّت بين أفراد الأسرة من الأم والجد والابن، ثم علاقة الرعاية من قبل حمادي، وانتهاء بيافا. ولا أعني هنا بالعاطفة الجنسية، بل العاطفة الإنسانية، وتلك العلاقة المتميزة التي حظي بها الراوي من رعاية دائمة.

عمى الذاكرة أعجبتُ بهذا العمل من أول صفحاته، الزاخر بالمشاعر الإنسانية، والتي تشير إلى امتلاك الكاتب قدرات الحكي الشيق والسلس، بثراء مكاني وقيمي لافت، وهو ما ينبئ بقدوم أديب يلتقط من تفاصيل حياته، وتفاصيل حيوات من حوله، وما يسمعه، ملتقطًا أفكارًا ليصيغها في قوالب ممتعة.

كلمات قليلة في جهد رائع، بمثابة تحية لكاتب مبشر، ما يجعلنا نتشوق لجديده.

لو كان نيتشه كركدن البحر: تأملات في عبء الذكاء وسقوط الأخلاق البشرية

كتب فريدريش نيتشه في عام 1887 بمرح ساخر: “الإنسانية هيأخوةالموت’”. فالبشر، على الأرجح بشكل فريد بين جميع الكائنات الحية، يدركونحقيقة أن كل كائن حي لابد أن يموت يومًا ما. نحن قادرون على أن نتخيلالمستقبل ونتصور نتائج أفعالنا، وهي قدرة تُعرف بـالاستبصار الحُلقي” (episodic foresight). لكن، وبسبب شذوذ تطوري يُسمىقِصر النظرالتنبؤي” (prognostic myopiaلا يمكننا التفاعل العاطفي فعليًا مع مايتجاوز بقائنا المباشر.

وبفضل ذكائنا المتطور للغاية، نحن البشر نقوم بقتل أنفسنا، والكائناتالأخرى، وكوكبنا. نحن نفهم العواقب، لكن لا نهتم بما يكفي لنوقف ما يحدث. لاعجب أن نيتشه كان بائسًا. والعجيب حقًا أن أيًا منا يستطيع النهوض منالسرير في الصباح.

في مقدمة كتابلو كان نيتشه كركدن البحروهو كتاب غير كئيب بشكلمدهش يوضح جستن غريغ، خبير في تواصل الدلافين ومحاضر في سلوكالحيوان، أفكاره. فيكتب: “إذا نظرنا إلى الذكاء من منظور تطوري، فهناك كلالأسباب التي تدفعنا للاعتقاد بأن التفكير المعقد، بجميع أشكاله في مملكةالحيوان، هو غالبًا عبء.”

يريد غريغ منا أن نتأمل فيما إذا كان الذكاء البشري المتفوق ظاهريًا أفضلفعلاً من الأفكار البسيطة لبقرة، أو حلزون، أو حتى كركدن البحر (نوع منالحيتان ذي القرن الطويل).

ومنذ البداية، يبدو أن الإجابة هيلا” — إذ يصعب تخيل كركدن البحريحاول تبرير إبادة جماعية أو يمر بأزمة وجودية. ولكن لاستكشاف الموضوعبشكل دقيق، من الضروري تفكيك بعض المفاهيم المعقدة. بادئ ذي بدء: ماذانعني بـالذكاء”؟ وماذا نعني بـالأفضل”؟

البشر بارعون في الخداع. قدرتنا على الكذب، مقترنة بغريزتنا لتصديق مانُقال لنا، “تجعلنا خطرًا على أنفسنا”.

يغوص الكتاب في قضايا علمية، وفلسفية، بل وحتى متعلقة بالإخراج الحيوي، أثناء استكشافه لأفكار لم تُحسم بعد رغم آلاف السنين من التأمل البشري. يقول غريغ: “لن يكون هناك، ولم يكن قط، أي اتفاق حول ما هو الذكاء.” لكنإذا اعتبرنا أن الذكاء هو الوعي — “ما يحدث عندما يُولّد الدماغ إحساسًا، أو شعورًا، أو إدراكًا، أو فكرة من أي نوع تدركها” — فإن الحيوانات تمتلكهذا الوعي. أما عن العواطف، فإن معظم الثدييات تظهر سبعة أنواع أساسيةمنها: البحث، الشهوة، الرعاية، اللعب، الغضب، الخوف، والذعر.

حتىنظرية العقل” — أي إدراك أن للآخرين أفكارًا تختلف عن أفكارناليست حكرًا على البشر. وهي ما تتيح للحيوانات خداع بعضها. فمثلاً، التظاهر بالموت هو مثال بسيط على خداع الحيوانات. لكن المثال الأدهى هوالحبار الذي يخدع الذكر المنافس على يساره بإظهار سلوك أنثوي، بينمايُظهر ألوانه الحقيقية للأنثى التي على يمينه.

لكن البشر، بشبكاتهم الاجتماعية المعقدة ولغتهم، هم أسياد الخداع. فهذهالقدرة على الكذب، مقترنة بميلنا الطبيعي للتصديق، “تجعلنا خطرًا علىأنفسنا”.

في كل فصل، يصف غريغ جوانب مختلفة من الذكاء، موضحًا أي الحيواناتتشاركنا فيها، ولماذا تُعتبر قدرات البشر أفضلوبالتالي، أسوأ. فعندمايخزن شمبانزي في حديقة الحيوان بهدوء الحجارة أو فضلاته استعدادًا لرميهالاحقًا على السياح من منطلق غضب متوقع، فإنه يُظهر استبصارًا حُلقيًا. أما البشر، فعندما يفكرون في وقت ما بعد موتهم، يخلقون الفن والثقافةوكذلك الحروب الدينية.

وعندما يخرق قرد المكاك القواعد الاجتماعية، قد يتلقى ضربة ومن ثم عناق. أماقدرة البشر على خلق أنظمة أخلاقية معقدة، فتنشئ القانون والمجتمعولكنأيضًا التعصب والعنف. ولهذا، يقول غريغ: “فالأخلاق البشريةسيئة نوعًاما.”

اللغة العامية التي يستخدمها غريغ (“بالنسبة لفيلسوف وجوديكانت تلكضربة محبطة”) وقفزاته العرضية إلى استنتاجات قابلة للنقاش (مثل قوله إننيتشه كانفوضى عارمة، المثال المثالي على كيف يمكن للعمق المفرط أنيحطم عقلك حرفيًا”) قد تجذب بعض القراء وتزعج آخرين. ومن الجدير بالذكرأيضًا أن الكتاب يحتوي على القليل بشكل مخيب عن حريش البحر.

ومع ذلك، فإن فهم غريغ للإدراك البشري والحيواني يوفر رؤى حقيقية عن كيفيةتفكيرنا، ولماذا تطورت أدمغتنا بهذه الطريقة، وما الذي يمكننا فعله حيال ذلكإذ ربما، على نحو فريد كنوع، نحن الوحيدون القادرون على فعل ذلك.

من المحزن أن نعترف أن الحياة على الأرض ربما كانت لتكون أفضل للجميع لوكنا حيتانًا أو بكتيريا أو دجاجًا. ما نحتفي به في البشرية هو في الوقت نفسهالحمل الثقيل الملقى على أعناقنا. ومع ذلك، لو كان غريغ كركدن البحر، لما كانبإمكانه كتابة هذا الكتاب. إذًا فهناك جانب إيجابي لكل شيء، حتى لو كان هوحتمية الموت.

نبرات … قصة بعنوان: وصمة صوت

وصمة صوت

وأنا أتخيل الكلمة، وهي قابلة للتردد، ومهيأة لتكون شائعة، وتخدش اهتزاز نفس سئمت أن تكون هشة بعدما تأملت أنه قد تتجاوز المفردة مناطق أفواه الآخرين، ولن يقولوها أو يتلاعبون بدلالتها، ومن أعينهم الوقحة لن تنساب،  وأنا أتجشم خوف الاستماع لصوت.. مجرد صوت،فأتخيل مقدرته أن يُذبل شيئاً في روحي المتشككة، وهي تود أن تبتلع كل الأصوات، و تتمنى لو أن الحياة خرساء.

آلمتها بيدي وعاندت رغبتها بالبكاء وهي تستنجد بي أن أتوقف، وأنا أخرس فمها المتساقط من الصفعات، ووالدتي تجر كتفي لكي أبتعد عنها، وكادت رأفة تأخذني لها، فلم أترك لنفسي فرصة للتراجع، ولجأت لكل المناطق التي أَعتمت رؤيتي المحاصرة على جرأتها وعدم إخباري بالذي قامت به، وخانتني أيام مودة لأخت تصغرني بثلاث سنوات بعد يتم أب سعى قلبها لي واحتويته، فتلاشى هذا أمامي الآن، ونار أسئلة والدتي أُحاول أن أطفئها وهي تعاود شدَّ يدٍ تُمزّق وجه ابنتها الصغير:”قل لي ماذا فعلت؟ أنا سأضربها بدلاً عنك، لكن أخبرني ماذا فعلت؟”.وبشرود امتزج برعونة صَوبت تأرجح قدمي على خاصرتها وسؤال والدتي الذي طمست إجابته وفي داخلي السحيق حَمّلتها جزءاً من ذنبها، فعادت بعد تجاهلي لها وهي تسأل “سعاد” تحاول فصلها عني، فبدأت بالصراخ على والدتي بأن تتركها لي: “أرجوك يا ولدي ستموت أختك بين يديك، سعاد ماذا أخذت منه؟ ماذا سرقت؟”. وبعينين امتلأتا برعب لم تتفهمه وغرقتا بالدموع طغى على ملامحها الهلع وهي تلوذ بقشة خلف ظهر والدتي، التي غرقت في موقف غير قادرة على انتشال ابنتها منه:”لم آخذ شيئاً.. لم أسرق شيئاً، ولم أفعل شيئاً يستحق كل ذلك؟”.ويدي التي صدئت قليلاً وهي تستلها من جديد من خلف ذعر خلقته لهم وأقربها لترهل سؤال استكملت فيه سَرَفي في الامتهان بسبب الذي فعلتهُ دون أن تعلم أبعاده في داخلي: “أرجوك يا ولدي هذه أختك”.. فانطفأت عيناي وأنا أغمضهما بحرق ممتلئ وأقول: “لن أفعل لها شيئاً”. ونسيت الكلمات المتبقية وهي تنزوي بوجهها أسفل مني، ولاحظت تورم عينها اليمنى، وتجاهلت جلدها المنتفخ وأنا أهمس لدمِ أنفها الذي سال من ضربة عشوائية بيدي حتى اقتربت من السقوط وهي تجيب “الجزائر” بعدما سألتها: “كنتِ في أي دولة؟”.

مضيتُ بالوقوف على تلك الهاوية التي لم أعلم عنها. أن تُسقط في ميزان أعين وأنت لا تشعر ولا يسمح لك أن تعرف أو أن تقول لماذا؟ امتداد تاريخي يُقيدك واحتفظت به الأيام لك على شكل مهانة يحاصرك ويتطور ضيقها ويخنقك ويحطم حلم وجود طبيعي تحاول أن تفرضه فتقول للآخرين أنا.. ما أنا عليه فقط، وتَكفر بكل التصنيفات المتشعبة والكلمات التي تختبئ تحت سِنّ يُصر بِصكه على إعادة ترتيب درجتك وإن لم تقبل بها، أو حتى توجد علامة واحدة تدل على رهان الاقتناع المسموح بهِ فتتشتت بين أمزجة مختلفة صَدِئة تتكسر أمام كل اختبارات التجربة،لكن قد تقضي عليك أحياناً، وتستسلم لصوت عارٍ لا يُدرك براءة فعل قديم لم تشهده ولا تعرف أحداً حضره، ولا يد شاهد ترتفع لتقر به، مجرد رياح قديمة امتدت وامتدت وأتت به أمامك الآن لتدفع ثمن دم يسري في عروقك ويربطك بالبعيد الذي تقربه نبرات أصوات مخادعة وتفاصيل وجه حقير يتغير إلى الكآبة الصامتة كلما رآك، وهمساتهم المتأخرة تتناثر لقدومك، فيحل الصمتُ الذي لا تعرف معناه لكن تُحِسه يخدش شيئاً في داخلك والمكان ينطفئ فجأة، وسؤال تتمنى أنت أن يوجه لك وأيضاًتسمعه أمامك ولا يسلك طرقاً جانبية منحدرة الوقوع للهمزات “أليس هذا هو؟” نعم هو . هو ابن الضريبة المتأخرة التي صَنفتهُ بشكل مختلف عن الجميع، وهو من أولئك الذين أذعنهم التقسيم لكل أجزائهم ووصموا بالذي يستحقون ، لكن الدنيا كلها لا تخجل منه سوى تخمة التمييز الذي أكلت الناس أو جزءاً من الناس الذين هم فقط يعملون بأيديهم فأهانوا صوت الأيادي  وأنا لا أعلم.

لم يغيرني الابتعاد عنها وقطع خطوة توقفت فوق عتبة باب ما زالت أماني الانتماء له لم تخفت وهج حنينه، وحتى الألم الذي أحيا به الآن ليس بمقدور أي ذاكرة أن تزيل أدفأ اللحظات معها، وأنا أخبئ لها شوقاًينتظر رؤيتها كأول مرة من تلك النافذة، فأنثره عليها كله، ولن أبقي شيئاً في داخلي طويته عنها في صميم النفس وحملتهُ على نظرة أخيها وهو يكشفه بموقف أخير أعاد ترتيب الاتجاهات، فلم تتصوب ناحيتها لي بل تجاوزتني رغم كل الود الذي جمعني فيه “عبدالرحمن”، لكني استسلمت لمحصلة الفكرة النهائية وهي تتكون في علاقة تمسكت أنا بها واشتد هو بساعده لي وأفضى كل ذلك إلى اللا شيء وهو يتحطم أمام الرغبة التي سمحت بصوت الجرأة، وأنا أقولها له مستغلاً خلو مجلس الرجال في بيته ومغادرة أبيه وضيوف لا ينفك وجودهم من ملازمة مجلسهم دائماً، والذي يعمر بواجبات الضيافة وعلى شكل عَصَبِ العائلة التقليدية المتمسك بنهج متأصل لجميع جوانب حياتهم حتى تفردهم بلهجة أبوا أن تزول من شفاههم وأن تُحَرّك قواعد بُنيتها الأيام كميراث أعطى صورة تذهب لخصوصية عادات اجتماعهم العائلي واللحمة الحاضرة لكل مناسبة، والتي ترفض أي عذر لغياب أحدهم عن مجلس “والد عبدالرحمن”، والذي يرونه شمساً تنير معنى تقاربهم وضوءاً لافتاًلطريق يصطفون له واقفين، ويدعو أيضاً بنوع مختلف من الفخر الذي أدى اقتحامي على مضض منهم لحياة عبدالرحمن كزميل عمل للتو ابتدأ منذ عام، وسور بيت جيرة لم يتهدم أمام يتم أب مازال والده يرعى غياب جاره الدائم، فَعظُمت محبتي لهم، ورباط اجتماعي يَثْبت في توهّم مخيلتي وأنا أقضي بعض ليال وأيام في بيتهم ولا آبه لكل ضيف يتجدد وجوده من أقاربهم وهو يتداعى لهمس الأسئلة وهي تخنقني في البدايات: “من هذا؟”، لوالد عبدالرحمن، وبصوت يشبه المرور السريع:”هذا أسعد ابن جاري محمود رحمه الله وصديق ابني عبدالرحمن وهو مثل ابني”، فأصبحت الأمثال التي أُشَبّه بها “مثل ابني” حماية لنفسه التي ترتبك، وكلما سمعوا مثل هذا الحديث استنكرت ملامحهم مضامينه،ويبدأ سيل جارف لاستغراب صامت، وأحاول صده بما توفر لي من استطاعة حتى أحولهُ للقعر الذي في داخلي، ثم أزيله بقربي على ظن التعمق برابط يجمعني بعبدالرحمن، وهيأت نفسي حقيقة كأخ من دمه صانعاً إطاراً لوجودي المستمر لتقبل صورة انتماء تربطني به، وإن جازفَ أي شي لتشويه ملامحها، لكني أعيد تزيينها كلما وسع ذلك،وانصهرت جدران بيتهم مع طبائعي الشخصية قبل اندماجي معأصحاب هذا البيت، حتى نافذة الغرفة اليمنى في الطابق الأول والتي تطل على فناء فسيح جداً قبل مجلس الرجال، ودوران هذه الأرض يتوقف للحظة لم ترد أن تثبت شيئاً سوى الجمال في عينيها، وهي تشرق علي أثناء توجهي لعبدالرحمن هناك، فوقفت للدهشة فجأة أمامها حفز ذلك ابتسامة لم تزلها من وجهها، وأرادت أن أعلم أنها لي ولم تجنح لعبور الهواء، واستراح ظل يدي لجرأته وأنا أرفعه لها، دلالة لصوت السلام الذي يلف روحي وينزع عني الأيام وكدرها فجأة وعيون ما زالت تبتسم ويدناعمة تلّوح قبل أن تضم  مزلاج النافذة وهي تغلقه بهدوء تاركةً لي رجفات خطواتي تتغير وأنا أعود لانتظار عبدالرحمن وضيوف أبيه الدائمين، واستنزاف اللحظة التي مرت على ماء وجه مرتبك يقتحم أنفاس رجال جالسين، وعمق عينيها يعود في مداهمة لي وأنا أتحسس أجزاء ذاكرتي داعياً لحفظ تفاصيلها التي أتت بخفة متناهية لقلبي المتراخي،فاصفرت ملامحي التي أرهبت قلق عبدالرحمن، ولم يمنعه اختلاسي لمكان بجانبه أن يحرك تمعنه بي وأنا أحاول أن أسند ظهري لمشقة غريبة تلف جسمي بسؤاله الخافت: “هل أنت بخير؟”. والمفارقة تأخذ بتكوينها لشعور مختلف ينشأ تجاه “عبدالرحمن”، واستند على تلك اللحظة الفارقة بانتماء له قد يتطور بوجهة مغايرة وقرب ملاصقته في ناظري يزداد،فضغطت على كتفه وابتسامة على وجهي تجد مكانها، وعيناه باستغراب تتسعان لي: “ليس بي شيء”، وعلى يدي اتكأت للتأمل الذي يحيطني وتنهيدة داخلية أعيدها لنفسي، ويقين ينشأ وأنا أحدد مصدر السكينة التي أحس بها وخيالي معلق هناك على يد رفعت لي هي أشد حناناً من تلفت عنق قلق عبدالرحمن علي الآن.

وجودي.. لطالما شعرت بالخوف من عدم معرفتي بمداه الحقيقي إلى أي مرحلة يصل! لكني أحسست به جيداً، وذلك بمقاومتي الدائمة لنظرات الآخرين وهم يقومون بتصنيف كل حضور لي مستنزف بالنسبة لهم،جاعلين آلة التحرك تعمل والأدوار تنقلب، فجأة أجد نفسي تغير مكانها دون أن أشعر لأحكام تطلق بصمت رافضين مناقشة لمز متطرف تداعى لهم مع عدم الاستطاعة على أن أبتعد عن توقعات لم أفرضها لهم،وأحاول الخروج عن إطار صورهم المتكررة وهم يحددون أبعادها المتناهية، وفي لحظة، خشيت أن أكونها، وأنا لا أعرفها، ولا يسمحون بصوت أدافع به عن خسارة سباق اجتماعي لم أُدْعَ له أصلاً، فقاومت كل أشكال الهزيمة الغائبة في نظري لكن لا أنكر أحياناً سقوطاً متداعياً في استنساخ شعور الانتماء الذي أتقمصه بنسخة متكررة اقتربت منها للتشوّه بإيماءات رأسي لحديث تافه أرهقني خوضه، وتوافق تام لرأي أجهل تفاصيل حُجَجٍ لم أنصت لها منذ البداية، ولرفضي أن أكون بهذا الشكل الذي أتقزز من ذاتي إذا استدعيتها لأراها فقد تراكم ثقل حضوري لمجلس والد عبدالرحمن وجيوش روادهم يتوالى، والذي لا يتوقف ولا يريد أن يحقق هدوءاً للمكان، ورغبة جامحة تدفعني لشبه انقطاع عنهم، لكن رؤيتي لنافذة تُوقد لي جَذوة دفء من عيون “ليلى” أعادت لي معنى التجاوز بابتسامة على أثرها، اخترت مكاني وهي تحدده عنواناًللحقيقة الوحيدة التي تشعرني بنفسي هنا، والذي شهد بذلك نافذة أغلقت على وداد لحظات يقف تحت نسائم روحها، واستطاعت أن تَفتح نافذة أخرى، ولطريق مهدته للذهاب إليها، وطوق رسائلها ترميه لأنجو بمشاعرها، وهي توسع هذا العالم الضيق وذراعاه تفتحان لي بموجات الحنين، تبعثها على يد أختي، وبأمل صغير تضعه في درب عودتي للبيت، وأنا ألاحظ ضحكات سعاد المسروقة لليل تأخر وقت نوم أقلقه تلاعبها بالكلمات: “زرت بيت جيراننا اليوم.. صديقك عبدالرحمن”، وغطاء السرير وهي تأخذه لمحاولات استفزاز بريئة آمنة من عدم غضب لم تعهده مني بل تشكلت بالحنان الذي أسكبه عليها وعلى والدتي حتى أصبحت لهم أباً يسعون له بشيء يشبه رد الجميل الذي أرفض حضوره بشدة في طرق تعاملهم لكسب رضاي، وأنا أغلق لحظات العمر عليهم: “لم تتوقف ليلى أخت عبدالرحمن في الحديث عنك وعن خلقك وتهذيبك ومدى محبة والدها وعبدالرحمن لك”، وغمزة من عينها وهي تتوقف عند لفظ محبتهم أربكتني، وبابتسامة المتجاهل لحديث سمعته جيداً طلبت منها أن تطفئ الضوء قبل أن آمرها بالخروج: “إن كنت تريد أن تنام فلا بأس سأتركك تنام”، وعلى سؤال أعادته للتأكد من رغبتي في النوم وذهابها عني، وأن لا تكمل حديثها، واستسلمت للمغادرة وهي تدس ورقة صغيرة تم طويها بمشبك صغير تحت وسادتي: “هذه رسالة من الآنسة ليلى”،وأغلقت الباب على رقيق الكلمات التي انسلت منها تلك الورقة التي رقصت بين يدي:

رأيت ابتسامتك..

الأماني كلها محصورة بين عينيك.

ليلى

ملحوظة: لا تخشَ من معرفة سعاد لمشاعري فهي صديقتي أيضاً.

وانتمت لي كلمة “أيضاً” لمكان يوضح المسافة التي تلاشت بيننا،والإيجاز الذي وقعتُ فيه وهو ينطق بكل أماني نفسها، وتحديد مسار خطوات سآتي إليها وأنا متيقن من أني لن أخطئه، ولن أتأخر في رد ينتظر إجابة، وأهزم هذا العالم بصوت رسالة أشرق عليها صباح زهري،وأنا أسلمها ليد سعاد، وفرح يتراقص من عينيها لي لا أعرف مصدره،لكني أتخيل كيف هو شعورها بعدما أوصيتها بسر مدركاً أن ثقتي لن تخيب في قلب أخت ستحفظه: “لا تخش يا أسعد.. ليلى إنسانة جميلة وتستحقك أيضاً”.

ابتسامتي.. صدىً لروحي..

أنتِ أجمل أماني القلب التي أريدها.

أسعد.

ملحوظة: خطّك جميل.

لم يعد ذلك التجاهل يُريحني لحديث أجد صعوبة في مشاركته وهو ينتقل بين أصوات المتحدثين في مجلس والد عبدالرحمن، والذي يكتظ كعادته أمام عدم اهتمامي حتى وإن ترقبت فسحة من خلاله أتسرب لهم على شكل إضافة قد تثري المعاني التي يتم تداولها بينهم، لكنه حاجز صعوبة غريب رفضها، وتوارت أسبابها. فقط الارتطام في كل محاولاتي هو الذي أحسست به، حتى شغف عبدالرحمن المتهالك أمام صمت يراه قد يطبق عليّ، فيؤذيني دون أن يشعر وهو يمهد لي مبادرة حديث أريدهُ ولا أريده بنفس الوقت: “حتى أسعد لديه علم واسع بهذا الأمر”، فترتبك كلماتي أمام باب أغلقه في لحظة أحدهم وهو يبتر حديثاً لم أكمله، ويمتد هو به بعدما رمى مفرداتي وخنق صوت لم تُسمَع نبرته جيداً، ويلتصق بي أسى أعجز عن وصفه، ليس بكبير ليقصم ظهري ولا هو يصغر في ناظري وأقدر على تجاوزه، فأهرب إلى شعور العمق الذي في داخلي.محاولات أبذلها الآن لتهدئته في فناء خارج مجلس لا تتسع بين جوانبه نفسي ومراقبة لنور قد يخرج من نافذة ضِقْتُ ذرعاً من إقفالها المحكم وإسدال ستائرها المستفز، وانتبهت للوهلة الأخيرة لعلم الكويت صغير عُلّق على عتبتهِ، واتكأت على سيجارة تشتعل في يدي وتحاول أن تخفف هزات شكوك قلب وشروداً يتبع دخاناً أبيض أنفثه، وتنازلت اللحظة الميتة عن إصرارها، وصوت يعيد لروحي لونه ويعانقه : “أسعد”؛ نبرة لها القدرة أن تلمس قلبي وتغنيني عن قلوب الأرض، فعَدوت لملامح أخذت كل انتباهاتي، وعيناي تطيلان في تمعّن تُريدانه، وأثره يحيطني حتى وصلت للشرود التام بها، فخشيتْ ارتباك التحديق بها يخرجني عنها،وبتلويحة من يدها لعلم الكويت ظلّت تُكرّرها حتى أفيق من إغمائي الواقف تحت عينيها، فابتسمت لها وهي تُودع هذا الشعور بإغلاق بعدما مَنحت الأشياء بريقها، ولا يشبهه إلا النوافذ في هذا الوقت، وهي تتزين بأعلام الكويت المتهيئة لاستثناء الأشهر “فبراير”، والذي يتفرد هذه السنة أيضاً بمرور ربع قرن على استقلال الكويت، واعتلت أسطح المنازل التي تعد خالية إلا في هذا الشهر، فترتفع رايات وصور حكام الكويت حتى في الطرق، وإنارات الشوارع تتشكل بالألوان الأربعة لعلم الكويت.كل شيء يزهو ويتجدد في هذا الوقت ذي البرودة المعتدلة، حتى كراسات الطلاب تأخذ واجهتها صور وطنية، والمرافق الحكومية تتزين في مداخلها للناس، وتروى حكاية هذا الوطن في كل مكان ولا يتوقف التلفاز في 25فبراير، تبدأ الأغاني والأوبريت الوطني يقدم عروضه المنتظرة من طلاب وطالبات وزارة التربية، وأخذت أعيد نظراتي لتلك النوافذ وأعتلي بعينيّللأسطح التي تجاورنا ونافذة “ليلى”، وعلم صغيرلا زال يتدلى منها،فيتضاعف معنى آخر حقيقي للانتماء، ويمتد الشعور ليشمل كل شيء، حتى عيون ليلى وطن ألجأ له، ويداي تلوذان بها، لا يشبه ليلى سوى البلاد.

ما الذي يشغل بالك؟

أمل قلبي يتسع لك.

ليلى.

ملحوظة: لم أتخيلك إنساناً مدخناً.

***

أريد أن أكون بجانبك هذا ما يشغلني!

سيمتلئ قلبي بكِ.

أسعد.

ملحوظة: لن أدخن أبداً بعد الآن.

لم تكن في صالحي الخطوات التي أصبحت ثقيلة بالندم لكل اللحظات التي يجرني إليها طريق مشيت فيه هناك على وجس خاطئ لا يريحني،وكشفته في إحدى المرات لعبدالرحمن بعد أنَفة لم تمنعني من البوح له على مضض: “هناك أشخاص من الذين يتوافدون عليكم باستمرار أشعر يا عبد الرحمن بكرههم لي”. عَزّ عليّ صوت الهوان الذي أحسسته بعد عبارتي له، ولم تُسعف تأكيداتهُ على تطمين شكوكي، وأرغمت نفسي على مجاراة مصادقة انتهيت منهاـ وكمية مخزون في الذاكرة يحمل أسى مواقف عديدة يناقضهاـ ويقفز أمامي: “أبداً هذا غير صحيح، أنت واحد منا أسعد”. واحد منكم! لو تعلم كم في القلب من أمانٍ لتحقيق هذه الكلمة الغائبة، ودعوتها لكي تحضر، وأتخيل في خاطري كم مقدار الثمن الذي أنا مستعد أن أدفعه، وتصورتُ حتى الأشياء التي أتجهز لأرغم نفسي عليها من أجل أن أشعر بصدق محتواها، وأنها ليست عابرة فقط.. آه لو استطعت أن أبوح بكل هذا لك الآن يا عبدالرحمن! فانتبهت لقيامه السريع ليقطع خيطاً من الشرود وحفاوة استثناء لزائر أغاظني.. صوت تهاليل وجه والد عبدالرحمن لقدومه وهو يطلق عبارات ترحيب اكتظت في المكان، ووقوف الحاضرين استعداداً للسلام عليه، والتوقف للحظات على كل يد تصافحه بعد تبادل حديث سريع لكل شخص على حدة، ثم ينتقل للشخص الآخر، ويكرر تفاعله حتى وصل ليدي الباردة، ليتنازل عن حرارة ضمها، واكتفاء فقط بملامسة خاطفة، دون أن ألفت انتباه عينيه، وملامح وجهه تَتَصّوب لهفة لعبدالرحمن الذي يقف بجانبي، واعتلى المكان صوت اللقاء الذي جمعهم به، وانطفاء يلمس كل ذرات جسمي، وأنا أستمع لتصدر صوت الضيف “علي” ابن عمهم الدارس في بريطانيا، والذي يستغل إجازة العيد الوطني بقدومه للكويت، وكل شيء يدار إلى الصمت ما عدا حديثه الذي تترقبه أعناق الحاضرين الملتفتة إليه بانتباه، والذي فاتتني كل محطاته، ولم أتوقف في أي موضع منها، واستكنتُ للتفاهة التي ألغتني، وذبل فيها وجودي الذي اخترته بيدي، واستوحشته حتى وصل التغاضي بمغادرة المكان مع فكرة توقفت عندها للحظات؛ أن أستأذن وحديث ضيفهم مازال يُسمع، فتمسكت بالخروج والجميع بمنأى عني، وشعور بضآلة نفس تذهب ولا يشعر بي أحد لغربة مكان لا يبالي بخلو حيزي فيه، وبانسحاب ذاتي المنهكة على سؤال أردده في طريق عودتي للبيت وأنا أفكر فيه: “لماذا أشعر بأقل مما استحق من اهتمام؟”.وسحبت أداة الإجابات الحادة حتى لا أجرح نفسي، وتجاوزت خوف ظنون من فرطها ستقضي عليّ لولا يد سعاد وهي تتوسط غرفتها، وبابها مازال مفتوحاً، وتعلم بقرب خطواتي منها، ومن دون لفت انتباه والدتي في صالة البيت ظلّت تُلوح بصمت برسالة تحملها، أنستني كل الذي شعرت به هناك، لكن لم تعلم عند لهفتها وهي تحمل رسائل ليلى الكثيرة أن هذه ستكون الأخيرة، وتعود على سعاد بالألم الذي لم تتوقعه، والكتف الذي ظلت سنوات تستند عليه مالَ وهو يقترب من حتفها، لتسقط عليها النهاية الصامتة، وجفاف وضوحها يحيط بيدي وهي تُسيل دماً سيبقى أثره على وجه سعاد كلما رأيته.

اشتقت لك

حاول أن تقترب.. لا تخف.

ليلى.

ملحوظة: أخبرتني سعاد بمشاركتها في حفل العيد الوطني والذي تم تصويره بتلفزيون الكويت وهي خائفة أن تخبرك.أرجوك لا تغضب منها.

ودون أسف لحروف رسالتها، وهي ممتلئة بالأشواق القادمة في وقت لم يكفِ ليبرر ردة فعل مجنونة تلبّستني لمواجهة تغافل أحدثتهُ سعاد بهذه المشاركة دون علمي، وتجاهل لغضب قد يكون، وأصبّه كله عليها وأنا أجرها لغرفتي في غياب حضور والدتي التي انتصف الوقت والألم وأنا ألحقه بضربات على وجهها، بعدما تراكم غضبي وتضاعف، وهي تخبرني بأن التلفاز سيبث الأوبريت هذا المساء، واشمئزاز لتبريرها لم يوقف غضبي، وتوهمت وهي تحاول إيقاف قطرات دم سالت من أنفها،أني فقدت كل طاقتي في الاستماع: “لم يكن في هذا الحفل ما يسيءلنا يا أخي.. فقط أغانٍ وطنية ودخولي كان عابراً، لم يتجاوز الدقيقة الواحدة، مجموعة من الفتيات تحمل أسماء الدول العربية، وأنا من ضمنهنّ”.

وتنامى حرصها التي ظلت تتمسك به لعدم إيذائها بسبب فهمي الخاطئ عن الذي حدث، وزادت من رجائها المتكرر بأن أحاول أن أرى الموضوع بشكل واضح، واقتطعت نهاية عبارتها بالتفاتة سريعة وهي تنزوي خلف ظهر والدتي وهي تقتحم موقفاً لم أرد أن تكون فيه: “ما الذي يحدث؟”،وإسراف لصراخ أعليتُ دويه محاولة مني بتعميق أسى ظهور أختي على التلفاز وأنها سيشاهدها الجميع، وخشيت من تسطيح والدتي كعادتها، أو أن تكون هي تعلم بمشاركتها، ففزعتُ لارتفاع صوتي ليُؤخذ هذا الموقف على محمل الجد: “ابنتك تشارك في حفل ممتلئ بالرقص والأغاني، والتلفاز قام بتصويره، وسيشاهده جميع الناس.. يا الله! ماذا سيقول الجيران؟ ماذا سيقول بيت عبدالرحمن وأهله؟”. وانتزعتْ كل دفاعاتي التي أردت أن أقنعها بها لأسباب ثورة بدأت تتفحص آثارها على وجه سعاد: “أختك ما زالت صغيرة يا ولدي، والناس هؤلاء الذين ذكرتهم كيف سيعرفون بالأمر؟ من سينتبه لها؟ وهي كما تقول لم تظهر كثيراً”. ذبتُ في التفاصيل التي بدأت أتخيلها؛ لو علم الناس بهذا وبعدم اكتراث والدتي ونظراتها العابرة التي ترى سعاد ذات 17 سنة صغيرة، وبدأ غضبي بمواساة الظن يستسلم لها، وقد بدأ يرحل ويكف يديه عن موقف رأيت أنه وقع وانتهى الأمر، ولن يخفف حدة ارتطامه إذا علم الجميع، فقد يكون فعلاً مرورها في الحفل عابراً ولن ينتبه له، ورغبة جامحة سيطرت علي لمشاهدته والتأكد بنفسي.

البلاد التي تطلب الأماني تزينت برقم 25 بدلالة ربع قرن مضى على استقلال الكويت في صدر مسرح رتبت صفوف الطلاب والطالبات،وامتلأت مساحة المكان بالكورال والمؤدين، حتى جُعِل العازفون أمام الجمهور مباشرة، وجاء التناسق المكثف للوحات العرض يواسي الألم الذي أشعر به، وتسمرت أمام التلفاز للتخفيف من شدة وطء مشاركة سعاد، والأماني كبيرة بأن يكون حضورها غير لافت لأحد قد يراها ويتعرف عليها، وظل قلبي فارغاً واللوحة الأولى في العرض تبدأ، وفي انتظار أن تظهر سعاد وتخرج من شاشة لم أتخيل في يوم من الأيام أني سأراها هنا فيها، لكن لحظات تَمَعّني انتهت لشعاع أنوار الأهازيج وهو يتخلل صداه لمنطقة معتمة في داخلي، واستعذبت تلك المعاني، وبدأت أنتفض انتماء لصوت مئات الطلاب وهم يفتحون عيون القلب لحب لم أتخيل أن مكانه فيّ سيتحرك هكذا، ويأخذني لبلاد حب، ويتمثل وجودها عمري كله الذي عشته، وخطوة أخيرة تستحق النهاية، وراحة بدأت بالمسير لي لعذوبة دخول الطلاب والطالبات بأسماء الدول العربية،مؤكدين انتماء الكويت العروبي، ومضى القلق بي وأنا أتخيل سعاد ستظهر الآن، وأتساءل: بأي شكل سأراها؟ لحظة مرت ولاقت لي خطوات سعاد البريئة وهي تحمل إشارة باسم “الجزائر” تقود طابوراً من طالبات تزيّنّ بلباس شعب الجزائر عليهن، وحنقي الذي أظهرته لها قبل قليل لم يقف بيني وبين عيونها التي ترقص لتقدمها أمام مسرح وصوت الأهازيج تجذب أيادي الحاضرين، وهي تصفق لها على مرور لم يطل حقيقة، لكن صورتها قريبة للشاشة، وباستطاعة المدقق بعلم مسبق أن يعرفها، وانتهت اللوحة ولم تنته رغبة في نفسي بأنني لا أريد أحداً أن يعلم بمشاركتها رغم الذي رأيته وأسعدني قليلاً.

طالَ أنين الغياب واستعصت بعده يد سعاد على كل تلويحة تحمل رسالة من ليلى، ولم يخطر ببالي أن حبل الوصل الذي ربطته ليلى من أجلي قطعته بيدي التي امتدت على أختي، وتوقفت بعدها نظراتها لي، ولم تعد تراني، وخذلني الضوء وأنا أضيئه وهو يتسلل معي لأيام، وأنا أفتح باب غرفتها، وظهرها تديره بتصنّع النوم بعدما شعرت بقدومي المتكرر، آلمت نفسي قبل أن أؤلمها، إحساس بالذنب تجاه قطرات دمها التي سالتيُمزقني بعدما خَفّت كل موجات الحنق، وقاومت مخاوفي من أن يعلم أحد، ويتلاشى كل ذلك باطمئنان للتأكيدات التي أحالتها لي نفسي بعد رؤيتي لمرورها السريع والأشياء الآيلة للعبور لن تنتبه لها عين، وما أكثرها حتى مروري تحت نافذة كَذبت كل ظنون المصادفات التي أهيئلنفسي لأن أرى ليلى خلفها، فأطلتُ اللحظات وهي تمر من تحتها مختبئاً وراء ظل النافذة لعل ملامح وجهها تستفيق لخيوط الشمس الضاربة، وخوف من أن يكشف انتظاري انتباه أحد مع كثرة خطوات الوافدين هناك، فيفسد علي اللحظة التي قررت تكوينها في داخلي بإصرار مثقل بالأمل الذي آمنت به، وقلبها سيسعني بكل جوانبه.. فتراجعت لاتخاذ الخطوة القادمة، وتنهيدة اللحظات العجاف جفت في جوف امتلأ هذا المساء الذي أخذت فيه كل انتباهات عبدالرحمن في بداية ليل صادف حضوراً قليلاً لمجلسهم، ووالده منشغل بهم عنّا،واختيار الصفحة الأولى لحديث هامس : “عبدالرحمن.. هل تعرفني جيداً؟”، وانطلقت الدلائل التي يَسردها بعمق بعدما أدرك جدية سؤالي دون أن تُفزعه توقعات لما خَلفه من أشياء مفاجئة له، وصوت استرساله أزهر بساتين روحي، وهو يلتقط من صفات يراها أجمل ورودها، ولم يكن في خاطر مخيلتي جماليات نظرته لي بهذا الشكل، واستعادته لذكريات أيام صدق جمعتني به، والتي أذابت جليد حروف استعصى عليه قولها:”أريدك أن تساعدني بأمر مهم.. أريد أن أخطب ليلى من والدك هذا المساء.. ما رأيك؟”. ألقى عليّ تردد ملامحه وجهه المتراجع والذي غمرته وحشة لم تستغرق كثيراً لتظهر على نظراته حتى وإن كانت بمقدار ضئيل، لكنها مؤلمة بهذا السكوت المتطرف الذي اجتاحه، وعيناه تتصوبان تجاه والده الجالس هناك، ويعيدها لي متكاسلة، وشعور بأنه انفصلَ عنّي فجأة، وانفلات عبارة أشاح في منتصفها بوجهه لريبة لم أستطع أن أحدد أسبابها، لكني أنصتُّ جيداً لصمته الذي طال بعدها:”هذا الموضوع يا أسعد ليس لي به أي رأي، هذا أمر أوله وآخره عند أبي”. لم أتوقع مع حياديته التي أحسست بها بطول المسافة التي امتدتبيننا الآن، وجعلني أرتبك لقرار الذي اتخذته، ولا فرصة أيضاً لتراجع لا أريده، ونتائج ابتعادي عن “ليلى” ستقضي علي، فجاهدت إرغام نفسي على تجاهل شعور حنق صغير لعدم تحمسه الذي غاظني به، وتساؤلات تجتاح تفكيري عن برود صوته في هذا الموقف وهو يوارب باباً يستطيع أن يفتحه وإن كان من أجل تصنّع للمجاملة لكنه تسلل للبعد الذي أشعر به الآن على الرغم من أنه يجلس بجانبي.

تناسيتُ نفسي عندما أحلت تشكيلها لكم، وأياديكم تعبث بحق أن أكون ما أريده من باب الاختيار الذي أقفلتم بابه غير سامحين بحدس يتراءى لي بمعني طبيعي للتشابه، وأن لي حق الاقتراب، فأتوَهّم أني أقترب.. وأقترب وأدس كلمة “مثل أبي” في منتصف حديثي، وتلقاها والد عبدالرحمن بعينين امتلأتا حناناً، وتناظرت مع ارتجاف أنفاس عبدالرحمن قبل سماعه لحديث هو يعرف إطلالته، وأفرط بسكوت خشيةعواقب توقعها، ولم يخبرني عنها، تاركاً لي النهاية التي لن يفوتني الندم على أحداثها، وقطرُ بدايتها يَهُلّ عليّ، فامتلأت بماء ذكرى جميع اللمزات التي خجلت من الظهور من قبل، ولم يكن أوضح من لسعة تُلهب قدمي والد عبدالرحمن ونار تحرق ساقيه، ووقوفهُ فجأة. تابعتهُ أنا أيضاً بقيامي له وفراغ يحيطني أمام “لا.. طبعاً”. بدت “لا” متسمة بالوضوح لكن “طبعاً” لم تكن لها الرغبة بأن أراها جيداً، وغشاوة فصلتني عن صوته العميق، فاقداً توازن ملامحي لانتهاك مفردة مكان تمنيتُ فقط الاقتراب منه والتطابق معه، والذي انقشع وكتف والد عبدالرحمن يغادر بينما احتجت لجهد كبير، وقلب آخر يتحمل وجع أذاه الذي أبى إلا أن يضاعفه لكن بشكل مختلف وهو يوجهه لي “لقد نسيت نفسك”.

إلى ما قبل النسيان ليتني أعود وأغتال فكرة الأمل قبل أن يداس بأقدامهالتي غادرت قبل قليل لمكان امتلأ بالخدعة المغشوشة التي أسرفت في تزيينها لنفسي، ولم أكن لهم سوى ظن شَوّهَ معالم وجهٍ يرونه، وتداعيتُ من أجله لقلق البحث عن حيز وسط اتساعات لم تكن لي. والآن صوت عبدالرحمن المتبعثر لطرائق يريد من خلالها أن يسلك مساراً يُخفف من خلاله ألماً لا يليق بأن أخرج بهِ من بيته وأنا أحمله، لكن نفسي أبت إلا أن تختلف الآن، وبدأت رغبة حقيقية باستعادتها بأن أضع حاجزاً استغربت من قدرتي على إيجاده، فعزلتُ عني صوت عبدالرحمن،واستنكرت خطواتي وأنا أغادر لوضوحه الذي أتى متأخراً وأشعرني به ،وامتنان أيضا يحيط بي لكومة الشكوك التي أزيلت من أمام عيني،وإغلاق نافذة لم يَلتفت لها عنقي حتى لو خلفها قمر، واقتربت من باب الخروج وهو يَتبعني، واتسعت الدائرة التي جعلت عبدالرحمن خارجها تاركاً عنده مشاعره المزيفة لي وتصنّعي الساذج بفرصة انتماء لهم، لكن نسخة من الحقيقة أردت أن يعرفها، وأن تلمسها يده التي يضعها على كتفي يحاول تهدئتي قبل أن أزيحها عني وعن كلماته التي لا أريد مشاركتي له بها حتى بالاستماع، فأوقفت حديثه المترهل، وبمنحى آخر لا أعلم كيف سَلكته وأخذتُ عبدالرحمن له: “حفل وزارة التربية للعيد الوطني.. شاركت به أختي سعاد”. لاحظت شرود عينيه، وحسبته يظن أني فقدت عقلي بعد رفض أبيه لي، وملامحه ترسم صوراً جَلية للاستفهام: “الحفل الذي تم بثه قبل أيام، ألم تشاهده؟ سعاد أختي كانت في إحدى لوحات الأوبريت الوطني”. فزاد فرط سكوت على سؤال وحيد امتلأ بالقلق: “أسعد ما بك؟”. وغَزت روحه المخاوف عليّ، ويده تحاول مسك كتفي من جديد، لكن تراجعت عن محاولة اقترابه مني: “احتفالات بمرور خمسة وعشرين عاماً على استقلال الكويت شاركت بها أختي..”،ولم يسمح لي باستمرار حديث مجهول بالنسبة له لم يفهمه، فأراد أن أصل إلى نقطة النهاية:

– “أسعد أرجوك أن لا تعيد هذه الكلمات.. الحفل الوطني شاركت به أختك سعاد فهمت كل ذلك.. لكن ما شأني أنا؟!”.

– “لا شأن لك”.

منزل البروفيسور نُشرت في عالم أدبي ما بعد يوليسيس وهو عالم لم تعد كاثر تشعر أنها تنتمي إليه.

في مقدمة كتاب Not Under Forty، وهو مجموعة مقالات نشرتها ويلا كاثر عام 1936، كتبت (عن عمد أو غير عمد) عبارتها الشهيرة: “لقد انكسر العالم إلى نصفين في عام 1922 أو ما يقاربه”، وهي وجهة نظر أدت، في أقل تقدير، إلى فصلها عن صفوف الفنانين والكتّاب الذين يُطلق عليهم عادة “الحداثيون”.

ومع ذلك، يبدو هذا الحكم متسرعًا للغاية. فقد انشغل الباحثون بتتبع جذور الحداثة إلى أوائل القرن التاسع عشر، ولا يزال المعنى المقصود من “ما بعد” في مصطلح “ما بعد الحداثة” محل جدل. وكل محاولة جديدة لتحديد ملامح الحداثة لا تؤدي إلا إلى تعميق ضبابية حدودها، كما أن موقع كاثر ضمن هذا التيار يبقى — وربما عن قصد — غير واضح.

رواية منزل البروفيسور لـ كاثر نُشرت لأول مرة عام 1925، في عالم أدبي ما بعد يوليسيس (رواية جيمس جويس)، وهو عالم لم تعد كاثر تشعر أنها تنتمي إليه. وتتمحور الرواية إلى حد كبير حول شخصية جودفري سانت بيتر، مالك المنزل المذكور في العنوان، والذي يجد نفسه في مرحلة يصبح فيها عمله وزواجه وعائلته، بل وحتى بيتيه، في حالة من التغير المستمر. ويلجأ إلى الذكريات، وخصوصًا ما يتعلق منها بأحب طلابه، توم أوتلاند، كوسيلة للتأقلم، وهي الذكريات التي تشكل جزءًا أساسيًا من حركة الرواية.

في كتابه كل ما هو صلب يذوب في الهواء، يكتب مارشال بيرمان أن الحداثة هي “وحدة متناقضة، وحدة التفكك: إنها تصبنا جميعًا في دوامة من التحلل والتجدد المستمر، من الصراع والتناقض، من الغموض والعذاب. أن تكون حداثيًا، يعني أن تكون جزءًا من كون، كما قال ماركس، ‘يذوب فيه كل ما هو صلب في الهواء’”.

وتشارك رواية ويلا كاثر، مثلها مثل أي عمل آخر على جانبي “الانقسام” الذي يفترض أنها أحدثته، في هذا الغموض، وفي استكشاف تجربة ثقافية تتسم بالوحدة من خلال الانقسام — بانكسار شامل. وعلى الرغم من تصريح كاثر بأنها “عادت إلى الوراء سبعة آلاف سنة”، إلا أن رواية منزل البروفيسور تحمل سمات عصرها، وتحكي قصة رجل محطم بأسلوب يعكس انكسار الزمن نفسه. وتنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام غير متساوية: “العائلة”، “قصة توم أوتلاند”، و” البروفيسور”، ويعكس هذا البناء التوترات التي وصفها بيرمان باعتبارها جوهر الحداثة، والأسلوب الذي يُنسب كثيرًا إلى الأدب الحداثي.

يشعر الأفراد بعدم يقين الحداثة بشكل مكثف على المستوى الشخصي، إذ كان من أبرز ضحايا تفكك الحداثة ـ وربما أكثرها حزنًا ـ تلاشي مفهوم الهوية المتماسكة. وتتناول كاثر هذه المسائل بحساسية ودقة طوال الرواية، مستخدمة البروفيسور كشخصية تأملية لتُظهر استحالة الإحاطة الكاملة بأي فرد، حتى الذات.

تُعد إحدى تأملات سانت بيتر في أوتلاند مثالًًا جيدًا على تقنية الرواية: ففي ذكرى محددة، وبعد أن تناول توم الغداء مع الأستاذ وزوجته، التقى لأول مرة بابنتيه، إحداهن ستصبح لاحقًا خطيبته. وقدم لهما حجرين خام من الفيروز كهدية عفوية وسخية. حاولت الأم منعه من تقديم هدية ثمينة، لكن صوته “كان حزينًا وجذابًا لدرجة أنه لم يكن هناك ما يُقال”.

بعد أن حُسمت المسألة، يتفحص سانت بيتر كلًا من الأحجار وتوم نفسه، ويتذكر: للأسفل، ليس إلى الفيروز، بل إلى اليد التي تمسك بها: راحة اليد القوية المليئة بالخطوط، الأصابع الطويلة القوية ذات الأطراف الناعمة، الخنصر المستقيم، والإبهام المرن ذو الشكل الجميل الذي ينحني مبتعدًا عن بقية اليد كأنه سيد نفسه. هذا المقطع مثال كلاسيكي على أسلوب “الرؤية المزدوجة” في الأدب الحداثي: فكما يرى البروفيسور، يرى القارئ، وتُنقل ملاحظاته مباشرة إلى القارئ، لتسهيل إصدار حكم مشترك حول يد صاحبها. فاليد مثيرة للإعجاب من الناحية الشكلية: تبدأ براحة قوية، ثم أصابع طويلة ذات أطراف ناعمة — ما ينقذها من القسوة أو الفظاظة. الخنصر مستقيم — ما يشير إلى النمو السليم وربما النزاهة أو العقلانية. لكن الإبهام هو المثير حقًا، ليس فقط بسبب مرونته، بل بسبب وصفه بأنه “جميل الشكل”، ثم يتطور الوصف ليُشخَّص — يصبح كأنه كائن مستقل، سيد لنفسه، رمزًا لنبالة روحية.

ينتهي المشهد بصيحة من سانت بيتر: “يا لها من يد!” ويخزن الصورة في ذاكرته كواحدة من أعمق ذكرياته عن توم أوتلاند. “ما زال يراها، مع الحجارة الزرقاء تستقر فيها”. وهكذا، يصبح الجزء رمزًا للكل؛ ذاكرة اليد تختزل الرجل كله.

لكن هذه الرؤية النقية التي ينقلها الأستاذ للقارئ ليست إلا وهمًا. فالانقسام المألوف بين الواقع والنفسية يظهر هنا بوضوح: فالمعطيات تتعلق بتوم، لكن التفاعل النفسي ينتمي إلى الأستاذ. وكما يوضح مايكل ليفنسون في Genealogy of Modernism: “في المعارضة بين الحقيقة وعلم النفس، فإن الاهتمام الأعمق يكون بالجانب النفسي”.

سكوت ماكغريغور، الطالب السابق للأستاذ وزميل توم، يقول: “لم يعد توم واقعيًا بالنسبة لي. أحيانًا أشعر وكأنه مجرد… فكرة براقة”. لا يرد البروفيسور حينها، لكن التأمل في اليد يُظهر أنه هو الآخر بدأ يرى توم على هذا النحو — سلسلة من الأفكار اللامعة التي تُجسد الحدث والشخصية في آن.

وكما يشير جيمس ماكسفيلد، فإن صورة توم المفضلة لدى البروفيسور هي صورة الفرد الحر الوحيد في الهضبة، لا ذلك الملتزم اجتماعيًا. وفي الفصول الأخيرة، يحاول سانت بيتر أن يُسقط هذه الصورة المثالية على نفسه.

لكن الوصف المثالي لليد يكشف بدوره عن تحريف للواقع: فقد نشأ توم فقيرًا، عمل في المزارع، وعانى على الأرجح من قسوة الحياة اليدوية. ومع ذلك، فإن يديه في وصف الأستاذ خاليتان من الندوب، خاليتان من الخشونة أو الانتفاخ — بأطراف ناعمة، كما لو أنه لم يعمل يومًا.

وبذلك، تصبح اليد رمزًا لـ”وحدة التفكك” — تذوب الحدود بين توم والأستاذ، ويصبح الفرق بينهما شبه معدوم. ورغم أن كاثر قبلت بإقصائها من معسكر الحداثيين — أو ربما تأكيدًا على ذلك — فإن منزل الأستاذ تتعامل مع نفس القضايا التي شغلت الحداثيين “الرسميين”، وبأساليب مشابهة، ما يذكرنا بأن الحداثة ليست تصنيفًا يقينيًا ولا ثابتًا كما يُعتقد غالبًا.

يبقى انقسام كاثر مهمًا لبعض الباحثين، لكن رواياتها المتأخرة تشير إلى أن الانقسام الحقيقي — بين ما نسميه الحداثة وما سبقها — وقع قبل عام 1922، وأن جميع من يعيش على هذا الجانب من الخط، سواء اعتُبر “حداثيًا” أم لا، يحمل آثار هذا التمزق وأعباءه.

أدب الأنا وإرنستو ساباتو

أدب الأنا

بناء على استرداد الفرد، وتجربته المُحددة التي لا تقبل التحول، كان من المنطقي أن يلجأ ممثلو التمرد المعاصر إلى الأدب للتعبير عن أنفسهم؛ لأن هذا الواقع المعاش يُمكن أن يظهر في الرواية والدراما فحسب؛ لكن الأمر هنا لا يرتبط بذلك الأدب الذي يتسلى بوصف المشهد الخارجي أو العادات البرجوازية، وإنما بأدب الأمور الفريدة والشخصية.

يجزم فلاديمير فيدلي، في بحثه البارز «مقال عن المصير الحالي للآداب والفنون» بأننا نشهد أفول الرواية والدراما؛ لأن فنان اليوم «يعجز عن تسليم نفسه تماماً إلى الخيال الإبداعي»، بسبب هوسه بأناه الذاتية. لا يَقدر كُتَّاب القرن العشرين على تخطي هذه الأنا؛ لأن مصائبهم واضطراباتهم الشخصية تُنومهم مغناطيسيّاً، فيتحاورون إلى الأبد مع ذواتهم داخل عالم الأشباح، على عكس روائيين عظماء من القرن التاسع عشر؛ على عكس كتاب كانوا يخلقون عالماً ويُظهرون كائناتُه الحيّة من الخارج مثل بلزاك؛ أو على عكس روائيين مثل تولستوي، الذين طالما أعطوا انطباعاً بأنهم الرب نفسه.

يؤكد نقاد كثيرون أن القرن التاسع عشر هو القرن العظيم لفن الرواية. من ناحيتي، أنا مستعد لقبول أن القرن التاسع عشر هو القرن العظيم لفن روايةِ.. القرنِ التاسع عشر.

تُمثل كلمة رواية اليوم شيئاً مختلفاً جدّاً عما مثلته في القرن الماضي. لا يرتبط الأمر بأن الكاتب يعجز عن تخطي أناه الشخصية كي يقدم وصفاً موضوعيّاً للواقع، وإنما بأنه لم يعد يهتم بالأمر أصلاً، أو أنه على الأقل لم يكن يهتم به حتى وقت قريب جدّاً إلى أن بدأت تنبثق توليفة جديدة بين الذاتية والموضوعية وهي سلف التوليفة الروحانية الشاسعة، التي سنشهدها كأحد أشكال تخطي الأزمة المعاصرة (لو سمحت القوى المادية الرهيبة التي تدير اللعبة لنا بهذا الأمر بطبيعة الحال).

يُخبرنا البطل في رسائل من تحت الأرض(): «ما الذي قد يتحدث عنه رجل شريف بأقصى درجات المتعة؟ الإجابة: عن نفسه. إذاً، سأتحدث عن نفسي»، وفي كل أعمال دوستويفسكي سيتحدث عن نفسه، سواء تنكر في صورة سافروجين أم إيفان أم ديميتري كارامازوف أم راسكولنيكوف، أو حتى جنرالة أو حاكمة.

يظهر هذا الانتقال نحو الذات في كل الأدب المعاصر العظيم، فأعمال مارسيل بروست عبارة عن ممارسة شاسعة للذاتية. فيرجينيا وولف، وفرانتس كافكا، وجويس، بحواراتهم الداخلية، أو حتى ويليام فوكنر.. إن كل هؤلاء لديهم ميل إلى إظهار الواقع بداية من الذات. تقول إحدى شخصيات جوليان غرين: «إن كتابة الرواية في حد ذاتها رواية، مؤلفها هو البطل. يحكي قصته الشخصية، وإذا جسد بنفسه مهزلة الموضوعية، فهو إما مبتدئ، وإما أحمق، لأننا لا ننجح أبداً في الخروج من ذواتنا».

يبدو هذا الخلاف مع العالم الخارجي ملحوظاً في أعمال دوستويفسكي، التي تُعد من أوجه كثيرة بوابة إلى الأدب الحالي، فنحن لا نعرف أبداً إذا ما كانت شخصياته المنغمسة في ذواتها تحيا داخل قصر جميل أم مكان حقير. يُخبرنا في مرات قليلة إذا ما كانت تمطر أو إذا ما كان الجو مشمساً؛ أو أننا نعرف الأمر بمشقة عبر جملة أو اثنتين، أو لأن هذه الأمطار أو هذه الشمس تشكل -ويا للطريقة التي تُشكل بها!- جزءاً من الهم أو المشاعر التي تغرق فيها الشخصية في تلك اللحظة، فيصبح المشهد الخارجي حالة روحانية.

طالما كانت مهمة تصنيف الإنتاج الأدبي في صورة أنواع مسعى مآله إلى الفشل. فيما يتعلق بالرواية، عانت من كل الانتهاكات أو، كما قال فاليري مشمئزّاً: «كل الانحرافات تخصها»()، أو شيء من هذا القبيل. صار عصرنا تبجيلاً جديداً للأنا. ثمة رواية لفوكنر اسمها «بينما أرقد محتضرة». ثمة واحدة أخرى اسمها «الصخب والعنف»؛ لأنه لم يعد ضروريّاً ولا حتى ملائماً أن يُحكى العالم بوساطة راوٍ عليم وقادر كليّاً. ربما الرواية، كما يقول شكسبير عن الحياة:

قصة

يحكيها أحمق

ملآن بالصخب والعنف.

للعلاقات تاريخ انتهاء | قصة بعنوان: ذو شأن عظيم

ستمر به لحظة يُسَائل فيها نفسه، ويقرر بعدها أن يكون شخصًا غير الذي اعتاده، سيضاعف من مجهوده في السنة الأخيرة له في الثانوية، ثم سيتخرج بمعدل عالٍ، سيحتفي به من في المدرسة، سيعلّق اسمه في لوحة الطلاب الأوائل والمتفوقين، وسيشيد به أحد المعلمين أمام والده حين يلتقيه، سيخبره أنه أب لطالب متفوّق، الجميع هنا يحبه، وأنه سيكون ذا شأن عظيم مستقبلًا.

  سيفرح والده، سيعود دون أن يعطيه هدية نجاح أو تخرج كما سيحصل عليها أقرانه، ولكيلا يلعب هو دور الضحية، سيردد أنه ليس الوحيد الذي لم يحصل على تقدير كافٍ من والديه، بل إن غيره لم يحتف به.

  سيتجَاهله الجميع في اليوم التالي من انتهاء العام الدراسي، لكن والدته ستظل تردد لأشهر قصة تفوقه أمام صديقاتها، وستحجب الأمر عن قريباتها اللواتي تخشى حسدهن، ستمر الإجازة سريعًا، وسيذهب إلى الجامعة في غير تخصصه الذي يريده، لن يعرف أحد من عائلته التخصص الذي يرغب فيه، وسيشكك بعدها فيما إن كان هو يعرف بدوره، سيفاضل بين هذا التخصص أو ذاك، وسيتظاهر أنه يرغب في التخصص الذي قُبل فيه، لربما يكون هو التخصص الذي سيقوده لأن يكون ذلك الشخص، ذا الشأن العظيم.

  سيقضي سنوات في التفكير في شأنه العظيم، وسوف يتساءل: عظيم في ماذا؟ وإن كان قد قال له ذاك المعلم، إلا أنه لم يحدد في أي مجال سيكون ذا شأن عظيم، أي طريق عليه أن يسلكه ليصل إليه، ما هو ذاك الشأن على أي حال!

   وحين يسترجع طفولته لا يعثر على أية أمارات تَدلّه على ذلك، كان الأكثر تفوقًا، لكنه كان الأقل حظًا، الأقل فرحًا، الأقل صداقة، والأقل تلقيًا للحب، لكن حين يعود الأمر بينه وبين إخوته، فهم جميعًا، لا ينالون إلا ذلك القدر الشحيح من الحب، يقتسمونه فيمَا بينهم، فلا يكاد يبدو أنه تم تقديمه.

  ثلاثة إخوة كانوا، هو ثاني الأبناء ترتيبًا بعد أخيه الأكبر، ثم يأتي أخوهم الأصغر الذي تأخر أعوام قبل مجيئه.

  كانوا إخوة لبعضهم أكثر مما هو مفترض، يلعب كل واحد منهم دور أحد والديه للآخر؛ يعطي كل منهم ما يملكه لأخيه، ويطلب هذا من والديه ما يريده ذاك، ويبرر الأول تصرف الأخير، ويقفون جميعًا صامتين، ليغطوا على الفعل الخاطئ لواحد منهم.

  حين يفكر في الأمر أكثر مما ينبغي له، يبقى مرتبكًا، تُرى هل سيقوده التفوق لذلك الشأن؟ سيفقد ثقته في ذلك، فما إن يبدأ سنواته الجامعية حتى يبدأ بالتعثر، سيتعثر في مادتين في السنة الأولى، ثم في أربع في السنة الثانية، ستزيد وستنقص في السنوات القادمة، وحين يتخرج بعد ست سنوات في تخصص كان من المفترض أن ينهيه في أربع، سيعرف أن الجميع قد مضى بحياته، لن يعرف والديه أنه قد تجاوز المقرر منه بعامين، ولكن كلمته ستكون كافية لهم لتصديقه، أو كافية على الأقل ليشعروا أنهم قد سألوا، وبإجابته هذه، تجنبوا هم التفكير فيما يمر به، وفيما يجب عليهم تقديمه له، لكن إن لم يكن هناك ما يقدمونه له في سنوات دراسته الماضية، فماذا يمكنهم تقديمه له في السنوات الجامعية؟ سنوات دراسية أدرك بنهايتها أن التفوق لم يعد طريقًا يقوده نحو ذاك الشأن العظيم.

  ستمضي الفترة التي سيقضيها بعد الجامعة في البحث عمّا يميزه، سيفكر كيف يفتتح مشروعًا يقوده نحو الثراء السريع، مشروعًا يبدأه صغيرًا ثم يقوده ليكون عظيمًا، وبمال المكافأة الذي كان يجمعه، سيفتتح محلًا يبيع فيه أغلفة واكسسوارات للهواتف المحمولة، لن يستطيع الاستمرار فيه طويلًا، سيكتشف أنه لم يكن ذلك العمل هو طريقه نحو الثراء، بالكاد كان يستطيع تغطية تكاليف إيجار المحل الذي قام باستئجاره، وفي نهاية العام، سيبدأ بجَرد لكل ما في المحل، ثم سيأخذ كل ما تبقى معه للبيت ليعرضه لاحقًا للبيع في أحد المواقع بثمن زهيد.

  سيقرر في الأخير أنه يجب عليه أن يجد مشروعًا يقوم به من البيت، دون دفع إيجارات تجعله يسعى طوال الشهر لتأمينها لا لكي يربح من مشروعه، وقد وجد الفكرة، وجدها من شيء كان يفعله لمن حوله بالمجان، خدمات إلكترونية! لطالما كان يقوم بالتسجيل لهذا أو ذاك في موقع ما، ولطالما فتح حسابات للكثيرين في جهات أو قدم لهم فيها، وأصلح لمرات عديدة هواتف من حوله، سيكون الأمر سهلًا عليه، والعمل الذي لم يمر عليه قبل ذلك سيتعلمه مع مرور الوقت.

  سيبدأ بإنشاء التصاميم التي سيعرض فيها خدماته، سيرسلها لكل من يَعرف، سيشاهدها أقاربه ومعارفه وأصدقاؤهم ممن يحفظون رقمه لطلب خدماته.

  سيتجاهلها الجميع، وسيتوقفون عن طلب خدماته، ستبقى إعلاناته ورقم الأعمال مهجورًا إلى أن ينقطع الخط لعدم استخدامه، سيعرف أن بعضًا منهم أصبح يذهب إلى مكاتب الخدمات لينجزوا ما كانوا يطلبونه منه، وآخرين قد استقروا على مقدم خدمات غيره، سيعرف أنهم يفضلون أن يدفعوا لغيره على أن يدفعوا له نصف ما يدفعونه هناك، سيتفاقم شعوره بالحنق تجاههم، وسَيُقنع نفسه أنه على الأقل قد ارتاح من عناء العمل دون تقدير منهم.

  ستمضي ثلاث سنوات بعد انتهاء مرحلته الجامعية، ستختلط عليه الأيام فلا يعرف أن السبت هو الأربعاء، سيتلقى الكثير من رسائل إعلانات الوظائف من أصدقائه الموظفين، وممن يعرف من أقاربه أنه ما زال عاطلًا عن العمل، سيقدم هنا وهناك، سيلاحظ أن الكثير منهم أصبح يعيد إرسال كل ما يصادفه له، وسيلومونه على تقصيره وعدم سعيه للبحث عن وظيفة، سيظن البعض الآخر منهم أنه تروق له جلسة البيت دون عمل، لن يقول لهم: إن تلك الإعلانات الوظيفية التي يرسلونها له تتطلب تخصصات غير تخصصه، أو خبرة لا يمتلكها، أو أن هذه العروض الوظيفية قد فات موعد التقديم عليها.

  سيستمر في التقديم في كل ما يجده، ستنخفض درجة تَطلبه، سيدرك أنه لا يمتلك رفاهية اختيار الوظيفة التي يرغب بها، ولكثرة ما أصبح يقدم عليه من الوظائف، سيجهل أي وظيفة هي التي قدّم عليها وجاءته منها طلب للمقابلة، سيسافر لمدينة ثانية ليجري المقابلة، ستصله رسالة الرفض ما أن ينزل من رحلة العودة، سيصاب بخيبة لإدراكه أنه خسر الكثير من المال دون جدوى، وسيبقى محبطًا لوقت طويل قبل أن تصله مقابلة وظيفية أخرى، وبتثاقل وتردد سوف يسافر لإجرائها هذه المرة أيضًا، ولكن هذه المرة سيُقبل فيها، وسيعود من جديد للتعجل في الحياة التي شعر أنها فاتته حين كان الكثيرون قد سبقوه إليها، الحياة التي تجعله يتطلّع إلى الأمام باحثًا عمن تجاوزه في حياتهم دون النظر للخلف ليرى من كان معه.

   سينتقل لمدينة أخرى لأجل الوظيفة، سيقضي شهرين عند أحد أقاربه، ثم سيبحث عن شقة يستأجرها، سينتقل لها ثم سيعود للبحث عن الشأن العظيم، وحين تقترح عليه والدته أن يتزوج ليجد من تُؤنس وحدته سيوافق مباشرة، فلربما كان معها الشأن العظيم، أليس وراء كل رجل عظيم امرأة؟

  سيختار له والداه إحدى قريباتهم، سيوافق عليها، وسيقرر أن يستخرج قرضًا للزواج، وسيصرف كل ما يملكه ليتم الزواج في مدينته، سيتزوج بعدها وسيسافر ليقضي شهر العسل في المدن التي حوله، سيكون غارقًا في سعادته كما هو غارقٌ في ديونه، وستكون حياته الزوجية رغم بعض الأمور التي سيتجاهلها حياة مثالية في العام الأول، وجيدة في العامين التي تليها، وستبدأ بعدها زوجته بمطالبته بالخروج للتنزه أو التسوق عوضًا عن بقائها وحيدة في البيت، بينما يذهب هو للعمل، سيخبرها أنه يذهب ليعمل لا للتنزه، وأنه بالكاد ينتظر وقت انتهائه من العمل ليعود للبيت لكي يرتاح، لا لأن يخرج من جديد، سيحتَدّ النقاش بينهما، سيتنازل حين يدرك أنها لا ترى أحدًا هنا ولا تعرف غيره، سيتحامل على تعبه في البداية، ثم سيشعر أنها لا تقَدّر تنازلاته ومجهوده الذي يقوم به كفاية، ستتفاقم المشاكل، ستعود إلى عائلتها، وستصلح العائلتان فيما بينهما، ثم سيعود الاثنان لبعضهما معتذرًا كل واحد عن تصرفه، وبعد أن يجرب كل واحد منهما الحياة دون الآخر، ستعود العلاقة كما كانت في بدايتها.

   ستمدد رقعة الرتابة لتحاوط أيامه، لتعود من جديد لاعتياديتها، سيتجاهل الاثنان تقصيرهما تجاه الآخر، سيخونان بعضهما، سيخونها بالجسد وستخونه بالفكرة، وسيعود الاثنان لبعضهما دون أن يعرف أحد عما فعله الآخر، لكنهما حينها سيقدّرَان قيمة بعضهما، متأخرين.

   وفي إجازة يسافر فيها مع زوجته سيحاول سدَّ الفجوة التي اتسعت بينهما، وحين يعود من السفر قبل انتهاء الإجازة بثلاثة أسابيع، سيكون البيت هو المكان الذي يقضي فيه جلّ وقته، ستعود معها النزاعات بينهما من جديد، وسيقرران الانفصال في النهاية.

  ستعرف زوجته بعد قرار الانفصال بشهر أنها تحمل جنينًا في بطنها، وسيعودان للعيش معًا، ستنجب الطفل الأول، وستصبح كل الخلافات مركونة في زاوية يتجاهلان النظر إليها، سيتغاضيان عن أي مشكلة تَعقب ذلك لأجل الطفل، وستصبح حياتهم روتينية تمامًا، هي تنشغل برعاية الطفل وهو ينشغل بالعمل، سيدرك حينها أن لا شأن عظيم سيأتي من هذه الحياة التي تتكرر كل يوم دون حَدث فارق فيها، لكنه سيقبل بها، سيقبل بالحال الذي أصبح عليه، ممنيًا نفسه، أن كثيرًا من العظماء لم يصبحوا ذوي شأن إلا في نهاية حياتهم.

  سيتجاهل بعدها جملة المعلم التي كانت ملحّة في سنواته الماضية، سيتظاهر أنه قد بدأ في تناسيها، سيكبر وتكبر زوجته، ويكبر أبناؤه، سيحاول أن ينمي أي هواية أو موهبة يرى بذورها في أبنائه، سيسعى ليمرر رغباته التي لم يستطع تحقيقها فيهم دون أن يدرك، محاولًا أن يكون أحد أبنائه هو من يقوده للشأن العظيم، سيتخلى أحد أبنائه عن تلك الهواية في مرحلة مبكرة من عمره، وسيتخلى الآخر عنها في مرحلة متأخرة يتحسر فيها والده على الوقت الذي قضاه في تنميتها، ستبدأ اهتماماتهم بالتغير، سيحاول، مرة أخيرة، في تنمية الاهتمامات التي طرأت عليهم فجأة، ثم سيتوقف عن المحاولة، ستتحطم آماله في الأول، وسيمضي الثاني حياته دون حدث يُذكر.

  وحين تنتهي سنوات عمله، سيتقاعد ويبقى في البيت دون شيء يشغله، سيعرف أن زملاءه ما هم إلا محض زملاء لا أصدقاء، وسيختفي تواصله معهم تدريجيًا.

  سينقص راتبه بعد التقاعد، وسيقلص من التزاماته، سيتخلى عن فكرة المزرعة التي كان قد قرر شرائها بعد التقاعد، وسيشعر حينها بعدم حاجته للكثير من الأشياء التي كان يرى أنها ضرورية.

   سيبحث عن شيء ما يملأ فراغ وقته الذي خلا فجأة من كل شيء، ولن يجد، سيحاول أن يعود للعمل، سيخبرونه أنهم لم يعودوا بحاجة لخدماته، سيكتفي حينها بالجلوس في البيت، وسيكثر بعدها من زيارة أقاربه.

  سيموت والداه وأحد إخوته، سيبدأ بعدها بالتلفت إلى الماضي أكثر مما كان معتادًا، سيعتب في كل مرة على أبنائه لعدم زيارتهم له، سيزورهم هو وزوجته، وستنزعج عائلاتهم لكثرة زياراتهم، سيتوقف بعدها مكتفيًا بزياراتهم حين يرغبون، سيُرزَق ابنُه الأكبر بحفيده الأول، ثم بعد عام بحفيده الثاني، سيحاول أن يعيد فيهم أبنائه، سيغدق عليهم بكل الحب الذي لم يعد يطلبه منه أحد، سيشعر حينها بفارق السنوات الكبير بينهم، وبين اهتماماته واهتماماتهم، وسيجهل الكثير مما يعرفونه، سيحاول مجاراتهم في البداية، ثم سيتوقف عن محاولاته، سيرضى بما بقي له من حياته، وسيترك كل شيء يسعى إليه دون أن يسعى له.

   سيرى الجميع يبتعد حين لا يبادر إليهم، سيدرك أنه قد كَبر على كل شيء إلا الموت حين يرى الذين يعرفهم يموتون تباعًا عامًا تلو الآخر، سيمضي في عزاءاتهم فاقدًا لكل شيء، مسترجعًا كل ما مضى من حياته، وسيبقى منتظرًا دوره، ستموت زوجته قبله بعامين، وسيبقى حينها بمفرده، سيعيش مع نفسه لأول مرة منذ زمن طويل، وحينها ستعاوده تلك الفكرَة الملحة، سيحاول فيما تبقى من عمره أن يفعل شيئًا يجعله ذا شأن عظيم، وإن كان ذلك في سنواته الأخيرة، لكن كل شيء سيكون قد شَاخ معه، سيبدأ في التقاط أفكار زارته متأخرة، سيبدأ في محاولات إتمام هذه أو إنجاز تلك، سيموت في أثناء محاولاته، وسيدفن في المقبرة التي دفنت فيها زوجته ومن مات من أقاربه، وسيضيع قبره بين قبور متشابهة لن يفرّق بينها أحد.