لماذا اعتبر لينين تولستوي «مرآة الثورة الروسية»

 

 

لماذا اعتبر لينين تولستوي «مرآة الثورة الروسية»



يعرف كل روسي هذه العبارة منذ الطفولة، لكن القليل منهم يفكر في ما تعنيه حقًا. هل عكست أفكار تولستوي حقًا أفكار الثورة ؟

«ليو تولستوي كمرآة للثورة الروسية» – هذه الكلمات، التي أصبحت شعارًا في الواقع، هي عنوان إحدى مقالات فلاديمير لينين. كتبها في عام 1908، بعد أن هاجر إلى جنيف. نشر المقال عن تولستوي في صحيفته الخاصة «بروليتاري».

كان هذا ما يقرب من 10 سنوات حتى ثورة 1917 عندما استولى البلاشفة على السلطة وكان لينين يشير إلى الثورة الأولى 1905-1907، وكذلك العملية الثورية في حد ذاتها، فكرة الثورة نفسها.

 

لماذا يكتب لينين عن تولستوي ؟

يبدو أن تولستوي ولينين كانا قطبين بينهما هاوية. الأول كان كونت، أدب كلاسيكي من القرن التاسع عشر، مسيحي متدين. الآخر، على الرغم من كونه مثقفًا، كان ملحدًا، ومناصرًا للثورة، ومؤيدًا للإطاحة بالنظام الملكي وجميع الطرق القديمة، ومقاتلًا لا يمكن التوفيق بينهما. من المؤكد أن لينين لم يكن بحاجة إلى موافقة كاتب مسن ؛ ومع ذلك، في أهدافه الدعائية، يستغل ببراعة شخصية تولستوي – نجم بلا منازع على نطاق وطني والمؤلف الأكثر نفوذاً.

كتب المقال زعيم البروليتاريا العالمية بمناسبة عيد ميلاد تولستوي الثمانين. في الوقت الذي كان، في رأيه، جميع الصحافة الروسية القانونية «غارقة في الغثيان في النفاق». بينما يتذكر الجميع أعمال الكلاسيكية وعظمتهم الفنية، ومذاهب حياته الفلسفية، أكد لينين على الآراء السياسية والاجتماعية لبطل اليوم.

مع ملاحظة عظمة تولستوي ككاتب، يدرس لينين نظرته للعالم بالتفصيل، وينتقده قليلاً.

من ناحية أخرى، كان تولستوي عبقريًا، أظهر «صورًا لا تضاهى للحياة الروسية»، واحتج بصدق على «الباطل والنفاق الاجتماعي»، وانتقد السلطة والاستبداد، وتزايد الثروة والفقر. من ناحية أخرى، كان «البوق الهستيري المتعثر المسمى المثقف الروسي»، ومالك الأرض، وفوق كل ذلك، واعظ «أحد أبشع الأشياء على وجه الأرض، وهو الدين».

كما شعر لينين بالاشمئزاز من المبدأ الرئيسي لتولستوي – «عدم مقاومة الشر بالعنف». كما هو معروف، اعتقد لينين نفسه أن الإرهاب جزء مهم لا يتجزأ من الثورة (بما في ذلك التخلص العنيف من القوة القيصرية). وأشار إلى أن الأفكار المسيحية مثل «إدارة الخد الآخر» كانت تقف في طريق الثورة فقط واعتبر عدم القدرة على النضال من أجل حقوق المرء ما هي إلا نقطة ضعف.

إذن ما الذي عكسه تولستوي ؟

ومع ذلك، لم يعتقد لينين أن كل هذه التناقضات كانت حادثًا، بل على العكس من ذلك: «التناقضات في آراء تولستوي <… > هي في الواقع مرآة لتلك الظروف المتناقضة التي كان على الفلاحين أن يلعبوا فيها دورهم التاريخي في ثورتنا». وكان يعتقد أنه من المنطقي أنه بمثل هذه الآراء «لا يمكن لتولستوي أن يفهم لا حركة الطبقة العاملة ودورها في النضال من أجل الاشتراكية أو الثورة الروسية».

علاوة على ذلك، رأى لينين تناقضات الثورة نفسها ضمن تناقضات تولستوي. كان من المهم بالنسبة له ملاحظتها وحلها. «عكس تولستوي الكراهية المكبوتة، والنضج الذي يسعى لتحقيق الكثير بشكل أفضل، والرغبة في التخلص من الماضي – وكذلك الحلم الفج، وقلة الخبرة السياسية، ورخاوة الثورة.

بالنسبة له، لم يمثل تولستوي البروليتاريا، بل القرية الروسية الأبوية. وهو موجود، وفقًا للينين، حيث يجب أن يولد الاحتجاج على الرأسمالية.

 

كيف شعر تولستوي تجاه الثورة ؟

كانت أفكار تولستوي ثورية حقًا. في عام 1905، في مقالة «إثم عظيم»، كتب: «الشعب الروسي <… > لا يزال أمة زراعية ويرغب في البقاء على هذا النحو». وأعظم الشرور هو حرمان الناس من حقهم الطبيعي في استخدام الأرض. دعا الكاتب إلى إلغاء الملكية الخاصة للأرض (حيث يكمن التشابه مع لينين) وإعطاء هذه الأرض للشعب والمزارعين.

كتب أن الشعب الروسي لا ينبغي أن «يصبح بروليتاريًا في تقليد شعوب أوروبا وأمريكا». رأى تولستوي طريقه الخاص للروس وكان عليهم، كما ادعى، أن يظهروا للدول الأخرى طريقة «حياة عقلانية وحرة وسعيدة، خارج الإكراه والعبودية الصناعية أو المصنعية أو الرأسمالية».

 

ترجمة: إقبال عبيد 

كتابة: الكسندرا جوزيفا

 

الأدب الذي نحيا به … إن مجتمعاً بلا أدب هو مجتمع همجي الروح …

” الأدب الذي نحيا به ” يتناول قراءة في أدب جيمس جويس ومارك توين وجان بول سارتر وخورخي لويس بورخيس. هذا الكتاب هو كتابي الاول والذي يتضمن قراءات في أدب أربعة أدباء عالمين، الأدباء الذين لديهم باعٌ طويل في الكتابة والتجربة الادبية، الموضوع الذي تكلمت عنه في الكتاب هو موضوع أدبي بحت، أدبي في يخص أدباء وتجربتهم في الكتابة الأدبية الذين أغرقت أساميهم بقاع العالم، إنّ مجتمعاً بلا أدب، أو مجتمعاً يرمي بالأدب كخطيئة خَفيّة إلى حدود الحياة الشخصية والاجتماعية، هو مُجتمع هَمجي الروح، بل يُخاطر بحريته، لولا الأدب لقتلنا المنطق، ولولا الموسيقا لدفنتنا الواقعية، وقُصّت أجنحة العاطفة، الأدب مكانٌ يبنيه الكُتاب والقُراء؛ إنهُ مكانٌ هشّ شيئاً ما، لكنه عصيٌّ على التدمير، حين يتصدع نرمّمه لأننا بحاجة إلى مأوى. وكما يقول الكاتب والروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا «الأدب هو أفضل ما تم اختراعهُ للوقاية من التعاسة». الأدب كما يعرف جميعُنا جيداً لا يُقدم حلولاً، بل يطرح أحجية، وهو قادر، في رواية ما أو قصة معينة، على الجهر بتعقيدات لا نهائية لمسألة أخلاقية، ويمنحُنا شعوراً باكتسابنا حداً معيناً من الإدراك الذي نفهم به العالم بشكل أفضل، يُغريني القول إن كُل كتاب ينشغل القارئ به يطرح سؤالاً أخلاقياً، أو بالأحرى حين يكون القارئ قادراً على الحفر تحت سطح النص يُمكنهُ أن يستخرج من عمقه سؤالاً أخلاقياً، حتى لو لم يكن هذا السؤال مطروحاً من قبل الكاتب بكلماتٍ كثيرة، عبر هذه الخيمياء يغدو كلّ نصّ أدبي نوعاً ما مجازياً.

حين أقابل شخصاً للمرة الأولى، وأخبره أنني ألفتُ كتاباً أدبياً يتحدّث عن أربعة أدباء عالميين لديهم باعٌ طويل في الأدب والكتابة الأدبية، يكون سؤاله عادةً: لماذا وَقعَ اختيارُك على هؤلاء؟ ومع مرور السنين استطعتُ أن أصوغ إجابة جاهزة أقولها للجميع: «لقد كانوا رائعين ومُذهلين إلى حدٍّ لا يوصف، وإنهُ لشرفٌ عظيم للمرء أن يعرِفَهم». صرفتُ من العمر مع الكتب زمناً أطول بكثير من ذاك الذي صرفته مع الناس، والسبب ربما أنني وجدتُ في الكتاب نوعاً من السلوى لم أجدها عند معظمهم، فَقلَّ بذلك الأصدقاء وازداد عدد الكتب التي صادقتها، وقضيتُ عمري كلهُ وأنا أتحدث إلى أناسٍ لم أرهم أبداً، مع أناسٍ لم ألتقِ بهم أبداَ، وأتمنى أن أبقى كذلك إلى ما لا نهاية؛ حيث إنها الوظيفة الوحيدة التي أحببتها في حياتي.

تقدم بي العمر، وترسخت عزلتي، وأضحى عالمي الحقيقي هو عالم القراءة والكتابة، وَوَجدتُ أن القارئ الذي يمضي جُلَّ حياته في القراءة والبحث والتعليم والكتابة يكون، في الغالب، على هامش الحياة العامة والأحداث الجِسام، فإذا كان ثمة من فائدة تُرجى من تجارب حياةٍ مُنعزلة كهذه فهي تكمن في استعراض ما مَرِرتُ به من الكتب والنظريات التي شغلتني عبر السنين. وأعظم من وَصَفَ العزلة هو الروائي الإسباني كارلوس زافون، حين قال: «لم يُحببنا العالم ولم يسُعنا، وَوَسعتنا أرفُفُ مكتباتنا، وحيز غُرفنا الضَيّقة». وأنا في عُزلتي أقرأ، ثم أقرأ ثم أقرأ، وأشك في أن يتمكن المرء من أن يصبح كاتباً بارعاً من دون أن يكون قارئاً جيداً. وكما تقول الكاتبة والروائية الكويتية بثينة العيسى: «الكتابة بعين المُستكشف الفضولي أمتعُ من الكتابة بعين الخبير المُلمّ بكل شيء». وثبتَ لي بذلك أن الأدب هو القيمة الأسمى على الإطلاق، وأومن بأنّ الكتّاب يتوصلون إلى الكتابة عبر القراءة، وعبر عمليات التراكم والنضج، وعبر الأصداء وتكرارها، التي تُشكّل ذخيرةً تسمح لهم بالكتابة. ألوذ بالأدب عندما أكون مهموم البال؛ حيث ينقذني دائماً من اليأس. كنتُ أنا الحالة الشاذة في العائلة، الوحيد الذي تعاطى الأدب، وأتعاطاه كما لو أنهُ أفيون، وأشير إلى كاتبهِ على أنه طبيب للعقل، وأرى في ذلك أنّ الكاتب ليس في خدمة أولئك الذي يصنعون التاريخ، بل هو في خدمة أولئك الذين يتحملون أوزاره. وللأدب أهمية سواء في ذلك الفرد أم المجتمع، وبمقدوره أن يكون مُهماً، بل عليه أن يصبح كذلك، وقراءته هي الطريقة الوحيدة لفهم حقيقة هذا المُجتمع. في الأدب ندخل إلى قلوب الناس وأرواحهم بطرائق لا يسمح بها أيّ شكل فنيّ آخر. ومازال بحر الأدب يشهد الكثير من الأحداث والأحاديث، وما زلنا إلى الآن نكتشف جوانب الرقي والتحضّر التي أتى بها هذا الأدب. وقد قمتُ بمحاولة البحث والاكتشاف عبر السنوات الماضية، وَوَجدتُ أنّ هُناك قضية مهمة وخطيرة وطارئة على موضوع الأدب هي ما يسميه بعض الكتّاب، ومنهم سارتر، الأدب الرديء، فإنّ هذا الأدب طغى في بعض المناطق، ومنها مناطق الوطن العربي. ونحنُ، في هذا الصدد هنا، وفي هذا الكتاب، نقدّم مُحاولة قراءة لبعض الأعمال الأدبية الرصينة، أو ما يسمى الأدب الجيد؛ حيثُ هنا أغوص بقراءة ودراسة وتعريف هذا الجزء من الأدب بشكل واسع ومُستفيض، وذلك من أجل أن نتمكن من وضع النقاط على الحروف، وتفعيل السمة الجمالية والاستفادة منها. وقد بدأتُ الكتابة عَرضاً، مُثقلاً بالمعاناة، من دون أيّة خطة، بل مدفوعاً بالرغبة في كتابة المزيد فحسب. وفي كلّ الأحوال يبقى لدى الكاتب فكرة أن هناك من سيقرأه حينما لا يعود موجوداً، وهذا هو مستقبله، كم من الوقت يبقى مقروءاً؟ هذا رهنٌ بالكتاب، على كلّ حال. يُمكن أن تبقى مؤلفات سارتر خمسينَ عاماً، ويُمكن أن تبقى مؤلفات بورخيس مئة عام، ويمكن أن يبقى جويس مقروءاً إلى ما لانهاية. ليس المُهم أن يقرأ الناس قليلاً أو كثيراً، لكن مؤلفاتهم ستبقى كما بقيت مؤلفات أندريه جيد، وجان جيرودو، وروجيه غارودي، وسيمون دي بوفوار، وغيرهم. أما الذكريات الأخرى، فهي قد لا تهمّ سوى الأولاد والأحفاد وبعض الأصدقاء المُقربين، هذا إذا اهتموا بها أصلاً.

 

 

ثوب أزرق بمقاس واحد « تُعالج اكتئاب ما بعد الولادة »

تتناول الرواية يوميات امرأة تعيش مرحلة اكتئاب بعد إنجاب طفلتها الأولى. ولأنها تعيش وسط جهل تام حول هذا الوجه المعتم للأمومة تتجرع مرارات الوحدة والخوف والشعور بفقدان القيمة وفقدان الأمل لتصل بها إلى مراحل متقدمة من الانفصال عن الواقع.

الرواية، المكتوبة بضمير المتكلم “الأنا”، تتخذ شكل المذكرات حيث تسرد فيها الرَّاوِيَة كيفية دخولها نفق الاكتئاب وكيفية تعاملها معه وصولاً إلى الطريق المسدود وخيارها إنهاء الصراع مرة واحدة وإلى الأبد. تدور أحداث الرواية بمجملها داخل منزل بطلة الرواية، لتكون رمزية الحبس داخل المنزل رديفاً لحبسها في عالمها الداخلي.

يقود الألم بطلة الرواية إلى أسئلة وجودية كثيرة حول صورة النساء والرجال، حول أهمية التواصل والتفاعل مع الآخرين وأخيراً حول ضرورة تفهّم النواح النفسية والتعامل بجدية مع عِلل النفس لتجاوزها بدل الهروب منها، وقد جاء في كلمة الغلاف: ” أفترضُ أن عالم الداخل هو استعاضة عن فقداننا للعالم الخارجيّ. القاعدة تنصّ على أن نعيش في الخارج وللخارج، أن نفكّر ونحن نسير، أن نتأمل ونحن نتحرك، أن نبني حياتنا ونحن نتفاعل مع أشيائها ببساطة، مع الحجر والشّجر والعشب والخشب والحديد، مع الأرصفة والأبنية والناس المختلفين. أمّا الاستثناء فهو أن نضطرّ لاستعاضة ما نُحرم منه في الخارج بالعالم الداخلي؛ عالم الجدران المغلقة والأفكار والخيالات والهُلام الممتد. ولذا يُسجن المذنبون. لو لم يكن الداخل حرمانًا لما عُوقب المذنبون والمجانين والمعتوهون والمشوهون به. كلّ ما نود دفعه إلى الخلف نحتجزه ونغلق عليه، وهكذا دُفعت النساء إلى الخلف على الدّوام. احتُجزن بدوافع كثيرة في الداخل، ثم وُصمن بالضيق والمحدودية.

ترتيبات العالم أسهل مما نعتقد: نحتجزك ونوسمك من ثمّ بالضّعف والهشاشة، بل نجعلك تهمة إن حلا لنا ذلك.”

 

 

المصدر: الرواية نت

 

https://alriwaya.net/post/news/thob-azrk-bmkas-oahd-taaalg-aktab-ma-baad-alolad

 

 

«آدم ينحت وجه العالم»… تحدّث وتحدّث وتحدّث ثمّ تجرّد وعُدْ نقياً..

ماذا لو قلت لك إن كثيراً من الأشياء التي تمتلكها هي أشياء زائدة مُلهية وليست ضرورية، إنّها تسرق وقتك، وعلاقاتك بالناس، وتقلل لديك من نشر الحب، ومن ثمّ تُراكِمُ وهماً يُضاف إلى بناء عالمٍ هو أساساً مثقلٌ وعلى حافة الهاوية… قد يكفيك بيت صغير يؤويك، وطعام جيد، والكثير من لقاء الناس، عندها لن تشعر بأنك بحاجة إلى شيء، حينها ستكون حراً لأنك لست مرهوناً بالعمل كثيراً لتحصل على أشياء كثيرةٍ أنت حقيقةً لست بحاجةٍ إليها.. أشياء أقل، موارد أقل، وقت أكثر، علاقات إنسانية أكبر… هذه الكلمات تُعنَى بالأشياء المادية الملموسة، لكن ماذا عن الأفكار؟ يولد الإنسان في نقائه الأول، بريئاً، صادقاً، عفوياً، صريحاً، كل ما يمكن قوله عنه إن هويته الجينية مشتقة ومدمجة من جينات والديه، من سمات بيئته، صحرائه، أو جبله، أو بحره، أو سهله، لكنه يبقى، فكرياً، نقياً في نسخته الأولى التي لم يمسسها أي تدخل خارجي، ثم يبدأ اكتساب الأفكار دينياً، وتعليمياً، وتربيةً أسريةً، ومجتمعياً، وبيئياً، ثم عالمياً… لكنّ كثيراً من هذه الأفكار هي مجرد أقنعة هزيلة تدمّر نقاء نسخته الأولى، وإن كانت تعيد تشكيله من جديد، تعيد نحنته إنساناً يبتعد أكثر فأكثر عن إنسانيّته…

في هذه الرواية آدم، برمزيته الصارخة، يواجه مخاض حضوره في هذا العالم، في سرديته من التيه والضياع إلى الصمت الأبدي… من سريره، حيث يرافقه في تيهه قلمٌ وورقةٌ وكاميرا صغيرة ووسادة أحلام، يبدأ يتحدث ويتحدث، ثم يكتب ويكتب، ثم يخرج ويتجاوز حدود الجغرافيا، ثم يصرخ ثم يصرخ، لكنه في النهاية يصمت… بعد أن كان يتألم في عزلته، يخرج ويمتلئ بكلّ العالم، بصور العالم، بأفكار العالم، بأقنعته الهزيلة، بثرثرته، بقسوته، ثم يتلاشى العالم من حوله، ويختصره في نقاء أمه «فرنسا»، ونقاء فتاته التي أحبته بنقاءٍ بعيداً عن أي مكتسبات، فتاته التي هي ليست قديسة لكنها طهّرت نفسها وعادت نقية، ونقاء نصّه الذي يؤمن به متجرداً من هوامشه وشروحاته وشروحات شروحاته، ثم يتجرد من كل شيء، ويصمت.. يصمت إلى الأبد، لكنه الصمت الصارخ الذي يعيد بناء كلّ شيء، ويعيد نحت وجه العالم في نقائه الأول.

لغةً ومكاناً، ترتحل بك الكلمات من ظلمة ما وراء ستائر غرفة آدم إلى صخب أضواء شوارع وأزقة وأحياء الكويت بما بعد حداثتها، ثم عودة إلى صحرائها في نقائها الأول، ثم تعبر الحدود إلى ريف فرنسا، ثم عودة إلى القاهرة بنصفيها القديم والحديث، بفيزيائيتها الممايزة بين المحروسة ومصر الجديدة، وقد ارتسم التاريخ على كل شيء فيها، شوارعها، أبنيتها، مقاهيها، مساجدها، إنسانها، ترتحل بك نثراً سردياً يلامسك، ويحاورك، ويستفز فيك الأسئلة الوجودية الكبرى، ثم يجردك من كل شيء، ويعود بك نقياً، إلا ممّا يتركه فيك من آثار تلك الأسئلة الموجعة، التي لن تتردّد، حتى لا تسقط في الهاوية، في الهرب من أجوبتها… فآدم يعلن منذ الكلمات المفتاحية للرواية أنه «سيكتب الحياة كما يراها هو وليس كما تراها أنت»، ترافقه، في سرديّته، ثيمة مركزية في عالمه الجديد «الحياة.. أن تكون حاضراً بعد أن تغادرها»، فهو في رحلة البحث عن الذات يحارب من أجل البقاء بحب وإن غادر، لكنه ينتهي إلى صمته «غائباً عن الحياة».

حركية الشخصيات، أيضاً، في رحلتها من الامتلاء بالوهم إلى التجرد والنقاء القسري حيناً والاختياري حيناً آخر، ستضفي على الآثار المتراكمة لديك، بعد مغادرة الرواية، رنيناً ملموساً، فهي ممتلئة بالحدث فساداً ونقاء، ومترفة بالكلمات التبريرية والخطابية الشعاراتية حيناً وبالكلمات العفوية الممتلئة بالحب والمجردة من كل لبس حيناً آخر، أما في بنيائيتها وسيرورتها فهي تخضع لهزات حياتية تشكل نقاط تحولٍ تغيّر مسارها، فـ«نور» المترفة بأنوثتها وكلماتها الكرنفالية تنتهي قاتلة، تقابلها «ضحى» –مع ملاحظة التناغم والتناظر بين النور والضحى- التي تبدأ بالإثم وتنتهي بالطهرية والنقاء، و«مطلق» منذ الهزة الأولى وتيهه في الصحراء وحواريته مع الذئب إلى تمرّده، ثم خطيئته الأخوية، ورغبته في الإنجاب، في مقابل «فرنسا»، المولودة في ريف فرنسا في الحرب العالمية الثانية، بنقائها وبراءتها وامتلائها بالحب، والتي شكلت وفاتها موت النقاء ومن ثم بدء الصمت لدى آدم. كما أنها شخصيات مثقلة بالأفكار المكتسبة المتراكمة والمثيرة للجدل، لكنها شخصيات تمثيلية، بمعنى أنّ كلاً منها يمثل فئة من البشر، وقد يمثل جغرافيا بعينها، أو زمناً بعينه، في عالم يحتضر، وقد أجرؤ على القول في عالمٍ يتجه دون تردّد إلى أن يدمر ذاته، وإذا أردت للتفاؤل أن يعبر طريقه إلى ذاكرتي فنحن في عالم يتوسل إلينا أن نعيد نحته من جديد، عالماً مجرداً من تفاهات الإنسان، وتدخلاته التي تغير قوانينه، عالماً يستعيد بالإنسان نقاءه الأول… ولأنك إنسان، تحدّث وتحدّث وتحدّث، ثم تجرد، وعُد إلى نقائك الأول.. إلى آدم الإنسان الأول، وآدم الكاتب في سرديّته وهو يعيد، بصراخه وبصمته الأبدي، نحت وجه العالم.

أنا أكره أنا موجود!

 

في كتاب الكراهية والسياسة والقانون في فصل من الكراهية إلى التضامن السياسي: فن المسؤولية تؤكد الباحثة ميشيلا ميهي على ثلاثة أبعاد مهمّة “لا يعنى الانشغال بخطاب الكراهية وجريمة الكراهية بها إلا جزئيًا: اللغوي، والعاطفي، والجسدي. فلا يكفي النظر إلى خطاب وجريمة الكراهية بوصفهما وقائع فردية ومشحونة عاطفيًا، وهي إذ تشكك في هذا السياق في الأفكار والعواطف والحوادث التي تتوجه إليها قوانين خطاب وجرائم الكراهية، تلفت الانتباه إلى ثلاثة أبعاد تراها مهمة “اللغة بوصفها مستودعًا لتصنيفات جائرة، وعواطف تؤسّس لعادات غير ديمقراطية، وإلى الجسد، بوصفه موضعًا للقمع ومتواطئًا في القيام به.”

 

في الحالات التي تتمخض فيها الكراهية عن جريمة جنائية، كما تقر ميشيلا، الجريمة محددة، الجناة فيها محددون والضحايا أيضا محددون، لكن في تركيزها على الخطاب تفضل النظر إليه كأفعال كلام، أو سلوك يستهدف التحريض على الكراهية أو من المرجح أن يفعل ذلك إذا لم يكن يستهدفه. الجريمة مفردنة ولديها جناة وضحايا يمكن تحديدهم بوضوح، حيث الضحايا يُستهدفون بسبب ملامح هوية بعينها: لون البشرة، أو العنصر، أو القومية، أو الإثنية، أو الدين، أو التوجّه الجنسي.” غير أن هذا التصور البديهي ـ كما ترى ــ يغفل “أن اللغة نفسها تعيد إنتاج رؤى هرمية في البشرية تعزّز خطاب الكراهية في التلميحات والاقتراحات، وفي الحجج والعروض، باختصار في التعبيرات الجزئية في الحياة اليومية… واللغة غامرة بالعنف لأنها في الوقت نفسه انعكاس لعالمنا المجحف وتسهم بشكل فاعل في إعادة إنتاجه… وتسهم البناءات اللغوية التي تصف الجماعات بأنها غريبة، وإجرامية، ولاأخلاقية، وإرهابية، ومفرطة في استخدام الجنس، وسفاحية، إلخ. في قمع النساء، والفقراء، وأقليات متنوعة بطرق أكثر انتشارًا وأقل وضوحًا من خطاب الكراهية.”.

 

أما فيما يخص العواطف تُفسر الكراهية المستهدفة من قِبل قوانين خطاب الكراهية وجريمة الكراهية على “أنها عاطفة خبيثة، ومفردَنة، وتسهل ملاحظتها ويمكن أن تؤدي إلى استخدام العنف ضد أعضاء جماعة ما بفضل خصائص بعينها، تشحن بشكل اعتباطي بدلالة خاصّة. وعاطفة الكراهية في خطاب الكراهية وجريمة الكراهية إنما تفهم على أنها منحرفة، واستثنائية، وغير معقولة، في حين أن الضرر كرب عاطفي ومادي، ويتمثل الكرب الأول في شعور بالدونية، وانعدام الثقة في النفس، وإحساس بعدم الجدارة بالانخراط في السياسة لدى المجموعات الخاضعة، ما يفضي إلى اعتقاد راسخ لدى ضحايا التمييز بأن السياسة ليست لأمثالهم، “والشعور عاطفيًا بالانزعاج – بالترهيب، والخوف، وبالخزي، وبأن المرء موضع اشمئزاز آخرين – من الجدال مع الآخرين الأكثر تعليمًا، وفصاحة، وسلطة يفسر – جزئيًا على الأقل – السبب الذي يجعل البعض ينسحبون من صناعة القرار السياسي. فضلًا عن هذا، غالبًا ما يجعل الظهور المفرط للنزوعات العنصرية والطبقية الملونين والفقراء يفضلون الخفاء سياسيًا.” أما البعد الجسدي الظاهر من داخل المنظور القانوني لخطاب وجريمة الكراهية، فتصبح بعض السمات الجسدية ظاهرة كعلامة على الدونية في عيون من يمارسون الكراهية خطابًا وعنفًا، حيث “لون البشرة، أو ملامح الوجه، أو التوجّه الجنسي، تُختار بوصفها عناصر اختلاف وتشحن بأهمية أخلاقية أو سياسية سلبية. وفي حالة جريمة الكراهية، الجسد هو هدف العنف، أحيانًا إلى حد تصفيته.”.

ومن جديد، ما يغفل عنه الخطاب المذكور هو أن الجسد مهم سياسيًا بطرق أكثر تركيبًا وخفاءً مما يرد في هذه القوانين “ذلك أن جسد المرء يكشف، بقدر ما تكشف كلماته، عمن يكون: ليس فقط لون بشرته، وجندره، وملامح وجهه، بل حتى ملابسه، وتبرجه، وهيئاته، وإيماءاته، ومشيته، ووقفته، ولكنته مهمّة سياسيًا. وموضع المرء في العالم الاجتماعي منقوش على جسده، غالبًا خارج نطاق قبضة الوعي، أو التصريح أو التحول المقصود. نحن “نرمّز” ونصنف” أخوتنا المواطنين –فالواحد منهم محترم، أو متنفذ، أو حكيم، أو جدير بالثقة، أو خطير، أو غبي، أو تافه، أو مثير للاشمئزاز، أو يستحق الاستياء، أو أهلٌ للكراهية، إلخ. – وقفًا على ملامح جسده. ويحدد هذا التصنيف علاقاتنا”. وفي الغالب يكون ضحايا هذا التصنيف القهري: الملونون، والنساء، والأقليات الجنسية، والمعاقون، ما يجعلهم موضع عنف لفظي أو مادي بطرق لا سبيل لاختزالها إلى خطاب الكراهية أو جريمتها. ونحن ـ كما تقر ميشيلا ـ “لا نلحظ أهمية الجسد السياسية حصرًا في حالات الهجوم المدفوعة بكراهية وفي الكيفية التي يرتبط بها رفاه المرء بشكل جوهري بالكيفية التي يجعله الآخرون يشعر في جلده: بالخوف، أو الخزي، أو الإحراج، أو عدم الارتياح. ويعاد الانزعاج من الجلد بتنويعة من المواقف والممارسات المجحفة التي يرجّح أن تستهدف أجسادًا بعينها أكثر من غيرها. ويؤثر الجسد الذي نقطن فيه سلطتنا، وجدارتنا بالاحترام، وتيسرنا، وفرصنا وقوتنا السياسية النسبية في العالم الاجتماعي.”.

 

 

في المقالة السابقة تطرقت لخطاب الكراهية الواسع الموجه ضد الأمة الروسية، مدججًا بشبكات إعلامية كبرى وسوشيال ميديا متمثلة في أهم شركاتها، وكيف أن هذا الخطاب لا يبقي ولا يذر على شيء يمكن التسامح معه، واللغة المستخدمة هي حصيلة ما أنتجه قاموس الحرب الباردة طيلة عقود، إضافة إلى تنميط الشخصية الروسية السلافية عبر الصورة والسينما التي قدمت هذه الملامح كشكل دال على الشر والعنف المتأصلين، مثلما فعلت السينما الموجّهَة مع الملامح الأسيوية الصفراء، والغاية كانت تثبيت كل القوى الواعدة في العالم كمرادف للشر، لتغدو المسألة وجودية وفق كوجيتو مقترح: أنا أكره أنا موجود. وبمجرد أن قامت روسيا بعمليتها العسكرية في أوكرانيا كان هذا القاموس جاهزاً ومعززاً بتقنيات عالية لفبركة المشاهد وتبديل الحقائق وكان رد مؤسسات روسيا التقنية والإعلامية غير قادر على مواجهة هذا السيل الكوني من التضليل التقني الحاض على كراهية جنس بشري برمته، أو كما قال محلل سياسي روسي: الأمر مثلما توضع فوقك أكداس من القمامة وعليك أن تلقطها جزيئًا جزيئًا وتحللها. انطلقت مداخلة ميشيلا من تفحص وهن الجماعات الهشة المعرضة للتمييز، لكن هذا بالتأكيد لا ينطبق على روسيا الكبرى بكل ما تملكه من قوة، غير أن مأتى هذه الحرب الكلامية الموجهة إليها هي رغبة قوة أمريكيا وأتباعها في أن تكون القطب الأوحد المهيمن على هذا العالم، ولا تريد لأي طموح آخر أن يعكر صفو هذه الهيمنة، وكون هذا القطب استطاع على مدى عقود أن يسيطر تقريبًا على كل ميديا العالم، فهذه الميديا المروضة تستجيب للأسف بشكل يدعو للتقزز.

 

وفي هذا السياق من طيف الكراهية الواسع، لابد لي أن أمر بالحالة الليبية، كمثال واضح على تفشي أبعاد الكراهية التي أشارت إليها ميشيلا، مع اختلافات تستحق التوقف عندها، حيث أهداف خطاب الكراهية المقصود لا تنطبق مظاهره بشكل مباشر على الحالة الليبية (لون البشرة، أو العنصر، أو القومية، أو الإثنية، أو الدين، أو التوجّه الجنسي.) وإن استُثمِر بعضها بشكل يخدم توجهات أوسع أيديولوجية ذات بعد عالمي أو جهوية محلية. ثمة خطاب كراهية جهوي يجب أن لا نغفله خصوصًا بين الغرب الليبي والشرق تفشى علانية في السنين الأخيرة مخدومًا بسيل القنوات الفضائية التي دخلت على الخط، وبمواقع التواصل التي تحولت إلى منصات ترويج لهذا الخطاب، الذي تمخض عنه أحيانًا عنف وجرائم. غير أن انتشار هذا الخطاب الجهوي كان في حقيقته توسيعًا عاطفيًا لخلافات سياسية، أيديولوجية أحيانًا، أو حتى قبلية، أو مصلحية متعلقة بالمركزية والتهميش التي استثمرت من قبل بعض الساسة أو التيارات في توسيع رقعة الكراهية لتصبح ذات مظهر إقليمي.

 

 

اللغة، والعواطف، والجسد، استخدمت كسمات تمييز في هذه المشاحنات المشحونة بالكراهية في الاتجاهين، من لهجة، أو أنواع طعام، أو ملابس، أو لون (كما حدث مع تاروغاء مثلاً)، أو مهنة (رعاة الأغنام)، أو مسبة تاريخية (القرامطة). غير أنه تتوجب الإشارة هنا إلى مثال مهم، أختاره، لأن القناة التي تبنته من المفترض أن تكون قناة محترمة ومحترفة ذات إمكانات تقنية وفنية مهمة، ومن جانب آخر هي قناة ارتبطت بثورة فبراير من بدايتها وواكبتها كما يجب في البداية، لكن سرعان ما سرقها تيار محدد وحوّلها إلى منصة كبرى لخطاب الكراهية، وهي قناة (ليبيا الأحرار)، وخصوصًا البرنامج الهزلي الذي كان يقدمه كل من نعمان بن عثمان وسليمان دوغة، برنامج مفتوح لا سقف زمني له مهمته أن يبث الكراهية تجاه إقليم ليبي، مستخدمًا لغة نابية حيال سكان هذا الإقليم ووصفهم بكلمات مقذعة، وهو نموذج بارز لكل ما أشارت إليه ميشيلا في دراستها المهمة، دون أن ننسى بقية القنوات التي لم أشر إليها لأنها ولدت أساسا في كنف الاستقطاب الحاد، أو ما أسميها قنوات الرغاطة المحلية ذات الهدف التعبوي، وإن أسهمت بقدر لا يستهان به في إنتاج خطاب الكراهية وحتى جرائمها، إلا أنها في الأساس قنوات هزيلة ولِدت من قلب هذا الخطاب نفسه، ولا يمكنها أن تكون خارجه، بعكس قناة ولِدت مع الحلم الليبي بالخلاص ومن أجل كل الليبيين.

 

المصدر:

كوجيتو الكاره – بقلم سالم العوكلي ..

http://alwasat.ly/news/opinions/357171?author=1

 

 

«ماذا علينا أن نفعل؟» ومن لا يعرف الحقيقة الأخلاقية.. إنها مشهورة جداً

يبدأ تولستوي الريفي زيارة إلى موسكو حيث ينتظره بعض الأعمال ولقاء الأصدقاء وبعض المعارف، وحيث هو في موسكو تروّعه الأحياء والأسواق والتجمعات السكنية الفقيرة، تلك التي تكتظ بالآلاف من المشردين والفقراء والمتسولين. يحاول المساعدة لكن حجم الظاهرة أكبر من أن يفعل شيئاً، يلجأ إلى الأصدقاء والأقارب فيتعرض للسخرية ويشعر بالخزي لزيفهم الشكلاني، يفكر ويبحث عن حلول، لكن السكين هي سكينٌ في حالة واحدة فحسب؛ عندما تكون حادةً، وعندما تقطع ما نحتاج إلى قطعه، لكن أيّ سكين هذه التي يريد أن يقطع بها تولستوي ظاهرة التسول في موسكو القرن التاسع عشر؟ أَقَطَعَها فعلاً أم بقيت كلماته مجرد كلمات يوتوبية؟

شكلانياً، على الأقل، نعيش متعة الألم مع تولستوي في تجواله في تلك الأحياء والأسواق والمساكن بلمساته التصويرية ذات الرنين الملموس والنغمة الساحرة، إنّه ينقل بكلمات دقيقة صور المشاهد كما لو أنك تشاهد فيلماً سينمائياً، فيرسم المكان الكلي للحدث في صورة من الأعلى، ثم يدخل في جزئيّات المكان، ثم يمنحك لمسةً لخصوصية الزمن، ثم يرسم لوحةً للشخصية، التي لا يتردّد بعدها في الدخول إلى عمقها النفسي والفكري والوجودي وأحياناً العبثي، والأكثرُ إثارةً أنه عندما يُسقِط قدراته العقلية على هذه الشخصيات لا يخجل من قول إن هذه الشخصيات، بتفكيرها الذي ظنه بسيطاً، أظهرت مدى سذاجته هو. كل ذلك نقرأه في المشاهد التصويرية في سوق خيتروف وملجأ لبينسكي، وبيوت رجانوف… لِمَ لا إنه تولستوي الذي اعتدناه روائياً؟..  لنقرأ هذه النغمة التراجيدية:

« لم تثيرا فيَّ أيّ شفقة، بل الاشمئزاز، لكنّني رأيت أنّ إنقاذ الطفلة ضروري، وعليّ أن أستثير عواطف النساء اللاتي يشعرنَ بالأسف على حال هذه المرأة وأمثالها من النساء الأخريات، وأرسلهنّ إلى هنا. لو تفكّرت في كلّ ماضي المرأة الطويل، وكيف أنها أنجبت الطفلة وأرضعتها، وربتها وأطعمتها، وهي في الحالة التي رأيتها، وربما بلا أدنى مساعدة من الناس، وبتضحيات كبيرة، ولو أنني فكرت أيضاً برؤية الحياة التي تشكّلت عند هذه المرأة؛ لأدركت أن قرارها لم يكن فيه أيّ جانب سيّئ أو غير أخلاقي، وأنّها فعلت كلّ ما تستطيعه؛ أي أنّها فعلت ما تعدّه الحل الأمثل بالنسبة إليها. يمكن أخذ الفتاة من أمها بالقوة، ولكن لا يمكن إقناع الأم بأنّها مذنبةٌ ومخطئةٌ لأنّها عرضت ابنتها للبيع».

لكن هذه الفلسفة الحياتية التي تعلّمَها تولستوي من هؤلاء الفقراء الممتلئين بالبؤس، والتي كان يعتقد أنه قد أتقن فنّها، لم تمنعه من توصيف فعله وفعل من هم مثله ممن يتناولون اللحم كل يوم، ويضعون السجاد والجوخ على أرضيات بيوتهم، وحتى فوق ظهور خيولهم، بأنه جريمة تُرتكب دائماً وباستمرار.

هل هذا هو الوجه الحقيقي للمدن، الذي لا يرى فيه القروي شيئاً لافتاً للنظر؟ هل كان الحال دائماً على هذا النحو، وسوف يبقى، ويجب أن يبقى؛ لأنّ هذا هو الشرط الأساسي للحضارة؟ يتساءل تولستوي.

«في دائرة خامونيفنيكا، عند سوق سمولينسكي، في زقاق بروتوشني، بين مفرق بيروغوفوي ونيكولسكي، تقع هناك البيوت التي تسمّى بيوت رجانوف أو قلعة رجانوف. أكبر مكان للفقر والفسوق.. هنا كل شيء وسخ، رائحة كريهة تنتشر في الأبنية والمداخل وعند الناس أيضاً. كان أغلبية الناس الذين رأيتهم هناك يرتدون ثياباً ممزقة، وأشبه بالعراة».

انتهت رحلة تولستوي في أبنية الفقر والبؤس، وانتهى معها عمله الخيري والإحصائي بعد أن شارك في حملة موسكو لإحصاء المشردين والمتسولين والفقراء، لكنّ عمله الفكري أُوقِدت فيه شرارةٌ لن تنطفئ؛ إنه كالطبيب الذي يشخص الحالة، ومن ثم يبحث لها عن العلاج، فذهب إلى الريف، وهو مستاء من الجميع، لكن أفكاره ومشاعره، بالإضافة إلى أنها استمرت في التدفق، تضاعفت معها قوته الداخلية، وأول ما قرره في وجدانه وفي عقله (وهو جوهر كتابه) أن رغبة الأغنياء تكمن في الوصول إلى ذلك الوضع الذي يعملون فيه أقل، ويستخدمون خدمات الآخرين بشكل أكبر. وتبدأ الأسئلة بالتدفق من جديد:

لماذا كسب لقمة العيش يتحدّد في المدينة؟ لماذا يذهب أهل الأرياف إلى المدينة والخيرات كلها في الريف؟ لأن احتياجاتهم تفرض عليهم أن يبيعوا ثرواتهم لتجار المدينة عدا الضرائب والريوع والجندية، التي تستهلك أهل الريف؛ فسبب هذا الفقر هو أننا أخذنا من أبناء الريف كلّ ما هو ضروري لحياتهم، ونقلناه إلى المدينة. السبب الثاني هو أننا هنا في المدينة، وبعد أن نستخدم كلّ ما جئنا به من الريف، برفاهيتنا الحمقاء، سنغري ونفسد كل أولئك القرويين الذين جاؤوا إلى المدينة خلفنا، لكي يسترجعوا، بأية طريقة، ما أخذناه منهم:

«نحن – الأغنياء- بنينا بثرواتنا جداراً عازلاً يفصلنا عن الفقراء، هو جدار النظافة والثقافة، ولكي نساعدهم علينا أولاً أن نهدم هذا الجدار».

ويبدأ في نقد الأسس العلمية للاقتصاد، ولا سيما أسس العملية الإنتاجية: الأرض ورأس المال والعمال، فيشير إلى أن هناك عوامل أخرى تم إغفالها كالشمس والماء والهواء والتعليم والمهارات واللغة، ولكن كيف امتلك البعض الأرض ورأس المال وأدوات العمل وجُرِّد منها آخرون؟ هنا يطرح ببساطة قصة شعب فيجي، فقد فرضت عليهم أمريكا ضريبة قالت إنها بسبب العنف ضد مواطنين أمريكيين، وبحجة عدم التسديد تم أخذ بعض الجزر الغنية رهينةً، وأقاموا عليها مزارع البن والقطن، واستعبدوا السكان المحليين باتفاقيات لم تنقذهم منها بدائيتهم، لجأ ملكهم إلى الإنكليز ووضعَ نفسَه تحت حمايتهم ثم أعلن التبعية لهم، تردد الإنكليز بحذر، فلجأ إلى شركة أسترالية عُرفت فيما بعد بالشركة البولينيزية، التي تحكمت في كل اقتصاد فيجي، فأصاب حكومتها الفقر، عندها قبلت بريطانيا بتبعية فيجي، ما أدى في النهاية إلى ضياع فيجي واستعباد شعبها… المجرم إذاً هو المال، الذي يُسكّ ويطبع ويوزع ثم يُفرض ضريبةً على الناس فيبيعون عملهم بهذه القيمة التي تحددها الدولة، وترفض في المقابل زيادة الأجور، إن اختراع المال هو آلية أخرى من آليات الاستعباد، ووسيلة من وسائل العنف.

إذاً، نحن أمام ثلاث وسائل للاستعباد استعباد السيف وهي وسيلة بدائية، ثم استعباد الجوع بسلب الأرض، ثم استعباد المال بالضريبة… قد يعتقد البعض أن العبودية انتهت الآن، لكن تولستوي يقرر أنّ العبودية الشخصية لم تختفِ من مجتمعاتنا المتحضرة، بل يمكن القول إنّ قوّتها ازدادت مع التزامات عسكرية كبيرة لبقائها في الآونة الأخيرة، فماذا عن الجيش أليس الجنود فيه مستعبدين؟ وماذا عن الدولة، ألا يعاني أفراد الشعب من عبودية للدولة، التي تستطيع، وفق إرادتها، أن تجعلهم مفلسين، بعد أن تأخذ منهم كلّ ما ينتجونه، وتصرفهم من عملهم، وبعد أن تسوقهم إلى العبودية العسكرية؟ لكن علم القانون الاقتصادي ينفي، وعلم القانون المالي ينفي، وعلم القانون الحكومي (نظرية الدولة) ينفي، فيقرر تولستوي من جديد أن هذا العلم له هدف محدد، وهو يبلغه؛ هذا الهدف هو تعزيز الخرافات والأوهام عند الناس، وبهذا يكون قد منع البشرية من مواصلة تقدمها نحو الحقيقة والصلاح.

هنا لا بد من مصارحة الذات:

فإذا أردنا مساعدة الناس فعلينا، أولاً، التوقف عن التسبّب في بؤسهم؛ أي أن نتوقف عن المشاركة في استعبادهم؛ فما يجذبنا إلى استعباد الناس هو أننا اعتدنا، منذ الطفولة، ألا نقوم بأيّ شيء، واعتدنا الاستفادة من جهود الآخرين:

«إذا كنتُ مشفقاً على الحصان المنهك الذي أركبه، فعليّ أولاً أن أنزل عن ظهره، وأن أتابع رحلتي ماشياً».

علي أن أقوم بأعمال خدمتي بنفسي، وفي المقابل أعطي من كانوا يخدمونني المال، أو أعطيه لفقراء آخرين… كم هو يوتوبي هذا الكلام، ولا أدري إن كان قابلاً للتطبيق العملي، لكنه يستفز الحقيقة الأخلاقية، كما يستفز العقل.. إن تولستوي يقدم هنا وجهة نظر تحتاج إلى تأمل، لكنك لا تملك إلا أن تتفق معه تماماً في أن كلّ أولئك الذين يعدّون أنفسهم رجال دين، أو موظفي دولة، أو نخبة ثقافية، أوعلماء، أو فنانين، إنما هم متحرّرون من كفاح البشرية من أجل الحياة، ويتركون عبء هذا الكفاح على بقية الناس، مستندين إلى فكرة أنّ خدمتهم الحكومية تعوّض عدم مشاركتهم.

لكن المفاجأة التي يصدمنا بها تولستوي، وتستفز الجدل في داخلنا، هي غاية العلم والفن، ولا يستثني نفسه من ذلك: إذا سألنا أهل العلم والفن عن غاية عملهم فـ«إجابتهم تذهلك حالاً بوقاحتها، لأنها لا تستند إلى براهين، حيث يقولون، دون أيّ أدلة على صحّة كلامهم، كلاماً مشابهاً لما قاله الكهنة في الماضي، وهو أنّ نشاطهم هو الأكثر ضرورة وأهمية لجميع الناس، ومن دون نشاطهم تفنى البشرية»، لكنه لا يلغي العلم والفن، بل يشترط أن يربطا نشاطهما الخاص بالعلم التجريبي والوضعي والنقدي؛ لذلك يفند أوهام هيغل في فلسفة الروح ونظرية الدولة، ويحطم وضعية كونت التي عدت البشرية كائناً حياً، تماماً كما نقد مرجعيتها اللاهوتية في نقده مفهوم الكفارة، ويمر على مقولات سبنسر الواهية، ويقرر أن العلم عندما أدرك أنه لم يعد يتضمّن أيّ أفكار سليمة، أطلق على نفسه اسم «العلم الذي يسعى من أجل العلم».

حسناً، ما الحل؟

التقسيم المنطقي للعمل… وهنا تتجلّى فرضية تولستوي بقوتها الساخرة، وبدقّة المحلل والناقد اللاذع، يقول:

«من الغريب أن يعتقد الإسكافي أنّ الآخرين يجب أن يوفروا له قوت يومه؛ لأنه يواصل عمله في صناعة الأحذية التي لم يعد أحدٌ بحاجة إليها، ولكن ماذا عن أولئك الإداريين ورجال الدين وممثلي العلم والفن، الذين ليس فحسب لا ينتجون شيئاً مفيداً ملموساً، بل لا أحد يقبل على بضاعتهم أيضاً، لكنهم رغم ذلك تجرؤوا على الطلب من الآخرين، مستعينين بقانون تقسيم العمل، أن يقدموا لهم أفضل الطعام والشراب واللباس».

لقد قدم العلم مخترعات كثيرة: البرقيات والهواتف ومحركات البخار و… لكنه لم يحقق شيئاً لحياة العمال، أما الفن فحدث ولا حرج، يكفي أنه اقتصرت جمالياته على الأغنياء، إضافة إلى ما تنفقه الدولة عليه من دعم أخذته أساساً ضريبةً من الناس.

والآن، ماذا علينا أن نفعل؟

  1. التوقف عن الكذب على الذات وعلى الآخرين، والبحث عن الذات والمسار الواضح:

«عندما اعترفت وندمت فحسب؛ أي عندما توقفت عن النظر إلى نفسي على أني شخص مهم، بل بدأت أنظر إلى نفسي على أني شخص عادي، مثل جميع الناس، حينها فحسب أصبح مساري واضحاً لي.

  1. أن أتعلم كسب الرزق الحقيقي؛ أي ألا أعيش على حساب الآخرين:

«أؤمن طعامي وشرابي وتدفئة بيتي ومسكني بنفسي، وأن أخدم الآخرين من خلال هذه الأشياء».

  1. التخلي عن اعتقادي بامتلاكي حقوقاً وميزات وخصوصية عن الآخرين، والاعتراف بأنني مذنب.
  2. تطبيق ذلك القانون الأبدي، الذي لا شك فيه، المتمثل في العمل بكل طاقتي، وألا أخجل من أي عمل، وأن أصارع الطبيعة للحفاظ على حياتي وحياة الآخرين.

المُلكية هي أصل كلّ الشرور، والعالم كله تقريباً مشغول بتوزيع وتأمين المُلكية… فباسمها تحدث في هذا العالم الحروب والإعدامات والمحاكم والمعتقلات والترف والفساد والقتل وخراب البشرية.

وعلى الرغم من أن هذا الكتاب مؤثَّثٌ بالمقولات النابعة من حكمة عقل تولستوي، والتي قد تشكل كل مقولة منها إرهاصاً لنظرية في الأنثروبولوجيا، وفي علم الأخلاق، والإنسانيات عموماً، يقرر هو ذاته أن هذه المقولات، ومن ثم الحلول، لا تكتمل إلا بالنساء؛ فالنساء يصنعنَ الرأي العام، بل النساء هنَّ الأقوى في عالمنا؛ النساء يقدنَ البشرية إلى الخلاص، لكنّه يحصر دورهن في الفلك الذي رسمه هو حلاً للإشكالية الجوهرية التي أثارها:

«الأم الحقيقية، التي تعرف عملياً شريعة الله، هي من سوف تربي أولادها على الالتزام بها. ستشعر مثل هذه الأم بالألم عندما ترى طفلها يبالغ في طعامه ودلاله ولباسه؛ لأنها تدرك أنّ هذا كله سيصعّب عليه الاستجابة لإرادة الله التي عايشتها الأم. هذه الأم لن تعلّم ابنها أو ابنتها كيف يتحرران من العمل، بل ستعلّمهما ما يساعدهما على تحمل مسؤولية العمل في حياتهما».

أجل، أيتها النساء الأمهات، في أياديكنّ، أكثر من أيّ أحد آخر، خلاص العالم.

طلسمات … صرخة الرواية الأفغانية

حظيتُ في السنوات الأخيرة بقراءات أعدّها، على الأقل من وجهة نظري، متميّزة، لكنّ قصةً أو روايةً لم تمنحني هذه النغمة السردية وهذا الملمس التخييلي كرواية (طلسمات)الصادرة والمترجمة إلى العربية حديثاً للباحث والروائي الأفغاني محمد جواد خاوري. لم أكن لأتوقع حقيقةً أنني سأكون متورطاً ومتشابكاً معها إلى آخر كلمة فيها، إنها رواية تركت لديّ نغمتها المتفردة وملمسها القوي بكلّ امتيازأثراً لا ينسى. لماذا؟ هل هو الفعل الدرامي المركزي فيها؟ هل هي رحلة بطلها الحافلة بلحظات السقوط والنهوض من تحت الرماد؟ هل هي جماليات أساطيرها وخرافاتها؟ هل هي طقوسها الاجتماعية والدينية؟ هل هي حركية بيئتها الرمزية بجبلها وقراها وبيوتها في قلب الجبل ومدنها وأسواقها؟ هل هي لمساتها الحياتية التي تستعرض حياة المجتمع بكل تقلباته وسذاجته وإشكالياته...؟ هل هو تاريخ السلطة في أفغانستان الذي قدمته في رؤية متفردة من منظور ساخر ومثير للضحك ومؤلم ونبوئي في الوقت ذاته؟

الحقيقة أنها كلّ ذلك وأكثر؛ إذ تستطيع أن ترى كلّ شيء في هذه الرواية، فهي لا تضع على طاولة التشريح موضوعاًمركزياً واحداً، بل هي الحب والسياسة والتاريخ والقضايا الاجتماعية والدينية والشعبية. هي أفغانستان كما لم ترها من قبل.

يقدم الكاتب في هذه الرواية قصة قوم الهزارة المضطهدين، الذين يسكنون الجبال بل إن منازلهم في قلب هذه الجبال، التي لم تقدمها لنا وسائل الإعلام الآن إلا من منظور الصراع مع طالبان و«القاعدة»، لكن واحداً من أبنائها هو الكتاب هنا من مكانه في المهجر يقدّمها بحقيقيتها، في هيكلٍ بنائي ليس خطياً تقليدياً، بل إنه سرد دائري يبدؤها بمشهد احتضار بطلها «نيكه» في حضن زوجته وحب حياته وأسطورته «بلقيس»، لينهيها بنهاية هذا المشهد وهو موته، ذلك المشهد الذي تتم العودة إليه واسترجاعهباستمرار، وفي القلب من السرد يتركنا كقراء نتنقل ونتحرك من جغرافيا إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر، ومن حدث إلى آخر، في حركية شيّقة ذات ملمس أخاذ، ونحن نعيش تلك المغامرات التي حدثت وتحدث في أفغانستان.

ولأن الكاتب يعيش في المهجر، وجدتني أشاركه صرخته الأفغانية هذه، وأنا أقرأ مجتمع بلده في ثقافته الأصلية،وأرصد معه حياة شخوصه الذين يعيشون في هذا المجتمع القبلي والتقليدي المتناغم مع طبيعته، والذي لم يسعَ يوماً إلى إزالة الغموض عن هذه الطبيعة، ووجهة نظرهالبسيطة والساذجة، لكن الساخرة، تجاه العالم، وتجاهالظواهر الطبيعية والبشرية إنها رواية تروي لنا كيف هم يعيشون وكيف يفكرون.

إذا كنا نملك نظرة إيجابية لهذا العالم الذي نعيشه فقد تغدو  الأساطير مجرد وهم، لكن الأسطورة هنا أمر آخر إنها ليست وهماً إنها حقيقة يعيشونها، فإذا كانت الأساطيرالقديمة تروي قصة الآلهة، فإن الرواية هنا تروي قصة البشر؛ قصة الأسرار الكبيرة والصغيرة المرتبطة بطريقةٍ ما بالإنسان ومصيره، وكالجبل بكل عظمته وقسوته، وكذلك حبه وغضبه، تسرد الرواية قصة بشر بكل بساطتهم وقسوتهم وحبهم وغضبهم.

فالجبل ميخ في هذه الرواية، مثلاً، بالإضافة إلى كونه موطناًللآلهة في الأساطير ومحل إقامة لغير البشر من المخلوقات، له حضور بارز في الواقع الموضوعي لبيئة الرواية، فمكان الرواية هو منطقة جبلية بالكامل، حيث تعيش الشخصيات التى تُروى قصصها في هذا الجبل،بيوتهم في الجبل، ويعيشون على بركة هذا الجبل؛ يشربون من مياهه، ويطعمون ماشيتهم عشبه، ويشعلون النار بحطبه… لقد ربط الجبل حياتهم بطريقة ما... إنهم كيفما استداروا يرون جبلاً، ويعبرون جبلاً. بؤسهم من الجبل،وسعادتهم التي ينتظرونها هي في الجبل.

يمكننا أن نقول إن حياتهم الحقيقية لا تتغير ولا تتلون إلا بالتغيرات التي يحدثها هذا الجبل والألوان التي يصبغهم بها هذا الجبل، كما يمكن لنا أن ندرك أيضاً أن حياتهم لا نكهة لها من دون الخرافات والأساطير، فبها يرون أنفسهم،وبها يفهمون أحلامهم، وبها يقرؤون تاريخهم… في وادٍضيق بجدرانه الجافة، وفي جبال حجرية تمطر الغضب والعنف على وجوههم، في هذا الفضاء القصير وفي هذا السكون يستيقظون كلّ يوم؛ ليس الجبل عندهم كومة كبيرة من الصخور؛ الجبل مظهر من مظاهر الألغاز التي لا حصر لها. حتى الأشياء من حولهم لها هويتها الخاصة وتاريخها؛ فالقمر والنجوم والأشجار والأحجار والكهوف هي الأسرار والشفرات التي توسع نطاق الواقع بالنسبة لهم، وتضفي التنوع على حياتهم... لذلك علينا، إذا ما أردنا أن نتذوق متعة هذه الرواية، أن نفهم خرافاتهم وأساطيرهموأن  نعيش أحلامهم.

إننا أمام رواية تخبرنا فيها هذه الشخصيات عن نفسها،وتشاركنا وجهة نظرها عن الوجود والعالم من حولنا، وعن الحياة مع الآخرين، وتحاول أن تجعلنا نفهم الوجود والعالم المحيط بنا؛ أن تجعلنا نعرف الحياة جيداً، إنها تساعدنا على معرفة أنفسنا ومعرفة في أي مكان من العالم نحن شُكلنا وتم اختراعنا... إننا أمام رواية لا تقول لنا شيئاً واحداً، إنها تقول الكثير والكثير من الأشياء، إنها تحرك الراكد فينا، وتثير قلقنا، فبعد قراءتها من المؤكد أننا لن نعود نمارس حياتنا بصمت.

تروي حياة قوم الهزارة في جبال أفغانستان واضطهادهم إثنياً أمام البشتون والسادة والطاجيك، ولكلٍّ من هذه مرتبة، ومن ضمن قوم الهزارة، تسرد رحلة «نيكه» منذ ولادته ثم الهجرة من قريته طفلاً مع أمه إلى قريتها حسنك، ثم تسلل الموت إليه طفلاً وشاباً ورجلاً، ثم أخذه إلى الجندية، ثم العودة والتمرد على خاله، ثم الهجرة إلى كابول وفترة الضياع، ثم العودة والبحث عن الكنز  والوهم، ثم اليقظة، ثم الانحراف، ثم العودة إلى إثبات الذات وإلى مجتمعه، ثم اكتشاف الذات، ثم نقطة التحول والثورة، ثم القائد، ثم إيجاد حبه الحقيقي بلقيس، ثمّ مرارات هذا الحب ودفع ضريبته، ثمّ الموت... هي ظاهرياً رحلة «نيكه» لكنّها حقيقة تاريخ ورحلة الشعب الأفغاني، أما أسطورته بلقيس فهي أفغانستان التي تستعصي أن تكون لأحد، كما أنها تتمرد على أن تُسجن في مكان واحد. وخلال هذه الرحلة نعيش مع الكثير من المغامرات والشخصيات: شمن (والدة نيكهبيوند (خاله)، وبيجوم (زوجة خاله)، وخليفة ضامن، والأسطى نجف، ونعيم المترنح، وماما شمسية، ولا ننسى أطرف الشخصيات وأغناها الملا يعقوب، ومدل عازف الطنبور، وبسكل، وحيدر القزم، وشاه ولي، وشاه كيدو الصوفي رجل الكرامات حارس الجبل في قبره... لكننا مع هذه الشخصيات نعيش الكثير من المغامرات والأحداث الطبيعية وغير الطبيعة والجدية والساخرة، القوية والهشة، المؤلمة والمفرحة….

في بنيتها تترحّل بنا الرواية في ثلاث مراحل تمزج الطبعية بالزمن، فتنتقل بنا من الجفاف، إلى درس سنابل القمح الرطبة، إلى انهيار الجليد، واجتماعياً أصدقاء الأمس أعداء اليوم، أما سياسياً وتاريخياً فبالتوازي من المَلَكيّة (الجفاف) إلى الانقلاب وقتل الملك (درس سنابل القمح الرطبة) إلى الثورة الشيوعية (انهيار الجليد).

أما الملكية فتبدأ برؤية الملا يعقوب الدجاجة تلحس الماء بلسانها كالقطط ولاتشربه بمنقارها ولا ترفع رأسها كعادتها، فكان أن هرع إلى كتابه (الملهمة) الذي يفسر من خلاله الظواهر غير الطبيعية: ليجد تعبيراً للحادثة، فعلم أن الدجاجة إذا سلكت سلوك حيوان آخر فهذا يدل على انفتاح الطريق لتسلل الموت... أما المرحلة الثانية فتبدأ (عندما يجرّون الجِمال للنحر، فيُصاب الملا يعقوب بالذعر فيسرع إلى فتح كتاب (الملهمة) وفي النهاية يرى في زاوية إحدى الصفحات أنّ قتل الجمل الپشتوني يدلّ على تغيير الملك. فينتاب الملا يعقوب قلقٌ كبير، ويتذكّر أنّه في أثناء تغيير الملك السابق، عصفت ريح حمراء وسوداء إلى درجة أنّ أحداً لم يستطع أن يتنفس بسهولة. في ذلك الوقت أيضاً كان قد راجع كتاب (الملهمة) وقرأ فيه أنّ ملكاً سيُقتل في الشرق. لقد قسّم الملا يعقوب العالم إلى الشرق والغرب، ورأى كابل في الشرقهذه المرة، أيضاً، تحقّق تفسير كتاب (الملهمة) سريعاً، فوقع انقلاب ضدّ الملك. وقال الپشتون، الذين جاؤوا في الربيع اللاحق، إنّ الملك الجديد أقوى من الملك السابق، وأخرجوا أوراقاً نقدية جديدة من جيوبهم، وأظهروا صورته. فرأى الناس أنّ رأس هذا الجديد أيضاً أصلع مثل رأس الملك السابق، ولهذا السبب لم يرَوا فرقاً كبيراً بينهما. أخرج نعيم المترنح من جيبه ورقةً نقدية قديمة احتفظ بها من أجل الأيام السوداء، ووضعها بجانب الورقة الجديدة، ونظر إلى صورتيهما، وقال: «قسماً بالله إنّ هذين الشخصين شخص واحد!»، فضحك الپشتون قائلين: «ليسا شخصاً واحداً، فالورقة النقدية التي لديك باتت الآن غير صالحة ولا قيمة لها»).

أما المرحلة الثالثة فمع انهيار الجليد جاءت الثورية الشيوعية، «ولكن هل الثورة مثل انهيار الجليد؟» يتساءل خليفة ضامن أحد شخصيات الرواية... لكن الذي حدث أن الملا يعقوب استيقظ وقد انهار الجليد على القرية وغطاها بالكامل... جعلتهم الثورة حالمين، لأنها تحمل شعار العدالة والمساواة، لكن الحلم تبخر والشعار كان زائفاً.

لقد عشت عوالم الرواية، وأدهشتني حركيّتها الرمزية، وإيقاعها المثير، وأساطيرها المدهشة، وطقوسها الحياتيةوالدينية، وتقنياتها الحكائية، فكان أن وقعت في أسر هذه الملحمة الأفغانية، فأبحرت في جغرافيتها من سفوح جبل ميخ إلى كابل، وحاورت عميقاً شخصياتها المتنوعة: القروية الساذجة في قمة البراعة، والسياسية المثيرة للسخرية إلى حدّ الوجع، والدينية المثيرة للجدل إلى حافة الخرافة، وعايشت أحداثها ذات الإيقاع السيمفوني المتصاعد والمثير للغضب الممتع…. لقد لخّصت مأساة أفغانستان (بلقيس) وشعبها (نيكه) باختصار.

كان على المرأة الفوز بحقّ الضحك – حوار مع سابين مليكور بونيه

تقول سابين ملكيور بونيه: «كان على المرأة الفوز بحقّ الضحك».

طالما كان الضحك. وجعل الناس يضحكون امتيازٌ ذكوري، وظل ضحك المرأة لا يحظى بشعبية في المجتمع؛ لأن الضحك يمتلك قوة تخريبية، والمجتمع لا يثق بالنساء الضاحكات. تروي المؤرخة الفرنسية سابين ملكيور بونيه المسيرة الطويلة لأولئك النساء، اللواتي يطمحنَ إلى المرح بحرية كاملة، فانتهى بهنَّ الأمر إلى رفع المحرمات.

» بالنسبة إلى المرأة، الصمت زينة» أَحب أرسطو أن يتذكر، نقلاً عن سوفوكليس. نبتسم أو نختنق. لم تنقصهم أبداً النصيحة بشأن اللباقة، يقول ممثلو الجنس بصوت عالٍ إن من المناسب إبعاد ضحك النساء، وبقي الأمر على حاله لعدة قرون. هذا ما نتعلّمه من خلال قلم المؤرخة سابين ملكيور بونيه، التي تستكشف، في مقالٍ غزير الإنتاج نُشر في نهاية نيسان/أبريل، التخيّلات والرهانات المرتبطة بضحك الإناث.

حوار مع سابين ملكيور بونيه

على الرغم من أن المرأة لم تتمكّن من الفوز بالحقوق إلا مؤخراً في التاريخ، غالباً ما نجهل أنّ قدرة النساء على الضحك وإضحاك الناس قد تمّ تحدّيها أيضاً لعدة قرون. كيف يمكنك تفسير ذلك؟

سابين ملكيور بونيه: طالما كان يُنظر إلى ضحك النساء على أنه موضوع إشكالي، لا بل خطير. بقدر ما يُعدُّ لدى الرجل بمنزلة ترفيه منصف، أو علاج لحزنه، يتمّ تشبيهه لدى المرأة بأنّه فيضٌ جامح وفاحش. لكن وراء وصمات العار المتعلقة بضحك الإناث، إنّ ما هو على المحكّ هو قوتها التخريبية، بعبارة أخرى قدرتها على تحدي الجدية الذكورية، ومن ثَمَّ سلطة الرجال.

ومن أين تأتي الحاجة إلى تدوين هذا المنع من خلال الكتابة؟

سابين ملكيور بونيه: إنها كراسات اللباقة هي التي تحظر، بشكل صريح، ضحك الإناث. بدأت إيطاليا الحركة في القرن الرابع عشر، وازدهرت هذه الأعمال في فرنسا في وقتٍ مبكر من القرن السادس عشر. في البداية كانت مخصصة للفئات الميسورة نسبياً، وستُنشر وصفاتهم من خلال المكتبة الزرقاء، وهي مجموعة من الأعمال لعامة الناس. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ في قمّة السلم الاجتماعي كانت لدينا جميع الحقوق.

 

إنها الرغبةُ في السيطرة على جسدِ النساء التي تُنجَز، ولطالما كان هذا أمراً غريباً ومقلقاً للغاية في نظر الرجال.

 

سابين ملكيور بونيه، تعتبرين أنّ الشاعر اللاتيني أوفيد سيد استراتيجية الحبّ وأحدَ مصادر الإلهام لهذه المعايير.

سابين ملكيور بونيه: كان نفوذه حاسماً. لعدة قرون، سيتم الاستشهاد به من خلال كراسات التمدن وأطروحات الجمال. في كتابه فن الحب، انتقد ضحكة تشبه «صراخ حمارة عجوز تقلب حجر الرحى الخشن». المحبط في الأمر هو أنّ المرأة، التي تضحك وفمها مفتوح، وتكشف عن أسنانها تصبح، من ثَمَّ، ضبعاً، وبعبارة أخرى كائناً لاحماً. يشير هذا السجل المتوحش إلى شكل من أشكال الوحشية، بعيداً عن شرائع الجمال.

الجمال، إذاً، هو رافعة لتقدّم النساء خطوة إلى الأمام، بطريقة ما؟

سابين ملكيور بونيه: يتمّ الإساءة إلى الجمال والاحترام بداعي الضحك الجامح. يجب القول إنّ الضحك يغيّر الفراسة بشكل عميق؛ يستحوذ على الجسد بالتشنّجات، وينتفخ الوجه، وتنغلق العينان، ويظهر داخلُ الفم بوضوح، وفي ذلك الوقت، الذي كانت فيه حالة الأسنان شيئاً مرغوباً فيه، من المؤكّد أنّ هذا المشهد لم يكن دوماً مبهجاً. هذا ما سيشجع النساء على الضحك خلف المروحة. لاحظ في الوقت الحالي، هو عكس ذلك تماماً. من الواضح أنّ الضحك بصوت عالٍ يعدُّ نوعاً من الإغواء.

 

أنت تقتبسين، في هذا الصدد، الرأي اللاذع لأحد كُتاب التنوير، لويس سيباستيان مرسييه: «خذ سناً إلى هيلين الجميلة ولن تحدث حرب طروادة…»

سابين ملكيور بونيه: في الواقع، تمتلك هذه العبارة معنى الصيغة، لكن بصرف النظر عن هذه الاعتبارات الجمالية، غالباً ما ترتبط الأسنان بالحياة الجنسية؛ لذلك الكشف عنها يُعدُّ غير ملائم. نتحدث أيضاً عن «الفم العلوي» و«الفم السفلي»، فالأول يستحضر الثاني. الابتسامة فحسب يمكن أن تزيّن وجه المرأة؛ لأنها تجسد النعومة والحنان. إنها تشير إلى الصورة النموذجية للأم، وهي تميل على طفلها.

ومن وراء منع الضحك، إن الرغبة في التحكم في جسد النساء قيدُ التنفيذ، وتمثّل تلك الرغبة الغريبة والمُقلقة في نظر الرجال.

 

كيف تمّ اعتبار أن ضحك الأنثى لا يخضع لقوانين ضحك الذكور نفسها؟

سابين ملكيور بونيه: هناك العديد من المراجع على مرّ القرون، التي تشير إلى أن النساء كنَّ عرضةً للمشاعر القوية والمتغيرة. يحتلّ المنطق مكاناً أقلّ في دماغهم، كما هو الحال لدى الأطفال، ينبع ضحكهنّ بشكل أسرع. كما تمت الإشارة بإصبع الاتهام إلى مزاجهنَّ ورحمهنَّ. يقول الدكتور جوبير، على سبيل المثال، في كتابه مقالة عن ريس، في عام 1579، إنّ «غضب الرحم» يروّج للضحك العالي. ومن ثم، سيظل مرح النساء موصوماً بالجنون أو بالهستيريا، بعد فترة طويلة من إثبات شاركو أن الهستيريا ليست سمة خاصة بالمرأة.

بالرغم من ذلك، إذا كان الضحك محظوراً في الأماكن العامة، فمن حقه أن يُسمع على انفراد لكن في ظلّ ظروف معينة، وفقاً لبلوتارك عالم الأخلاق من روما القديمة.

سابين ملكيور بونيه: يذكر بلوتارك، في كتابه التعاليم الزوجية، أن المرأة هي مرآة زوجها. وهكذا يمكنها أن تدع نفسها تضحك في حضوره، «إذا كان التوقيت والمزاج بحالة ابتهاج». في هذه الحالة، يساهم الضحك في انسجام الزوجين.

على النقيض من هذه الرؤية، يؤكد روسو في كتابه جولي أو لا نوفيل هيلويز أن الضحك والزواج لا يمتزجان بشكل جيد.

سابين ملكيور بونيه: تتميز رؤيته للزواج بالفعل ببصمة الجاذبية. في هذه الرواية، التي ستؤثر بشدة في المؤلفين الرومانسيين، ستفضل كلير مكانتها، بوصفها أرملةً سعيدة، على الزواج، على عكس جولي التي ستموت بسببها.

 

بالرغم من ذلك، في عصور مختلفة، يتماشى الضحك والحب معاً. حيث تكتبين أن «الحب يجري من خلال الضحك كالدم في القلب«.  

سابين ملكيور بونيه: طالما كان الضحك استعارة للفعل أَحَبَّ؛ لأن ممّا لا شك فيه أنّ الضحك هو الموافقة. يقول أحد الأمثال بشكل أكثر فظاظة: «امرأة تضحك هي نصف سريرك». ومن هنا جاءت الحاجة إلى عدم التعبير عن نفسها علناً، ما سيضعها في موقف مزعج. فقط المحظيات ينغمسنَ في الضحك دون قيود.

بحسب الفيلسوف آلان: «هناك انتقام جميل في الضحك من الاحترام الذي لم يكن مستحقاً.... « في دوائر أخرى، يتدفق الضحك بحرية بين النساء، لا بل يتصف مظهره بالحيوية. حبذا لو تشرحي لنا ذلك.

سابين ملكيور بونيه: تمنح النساء أنفسهنّ الشعور بالفرح بمجرد هروبهنَّ من أنظار الرجال، في غرفة الغسيل، أو في السوق، أو في ورش العمل، أو في صالونات أحادية الجنس، «يطلقنَ سراحهنّ». لا يمكن كبح هذا السلوك إلا لفترة قصيرة فقط. عاجلاً أم آجلاً، يستعيد الجسد وضعيته. يُعدُّ الضحك متنفساً في سياق غالباً ما يكون عنيفاً بالنسبة إلى المرأة: عدم الاستقرار الاقتصادي، والزواج الإجباري، والولادة الخطرة.

حتى لو امتثلنَ لما هو متوقّع منهنَّ، لا تنخدع النساء؛ إنهنَّ يعرفنَ عيوب الرجال، والادعاءات الكاذبة، والفجوة بين الخطاب والواقع. يلخص الفيلسوف آلان الأمر جيداً: «هناك انتقام جميل في الضحك من الاحترام الذي لم يكن مستحقاً».

 

إذاً يُعدُّ الضحك مثالاً واضحاً للشفافية؟

سابين ملكيور بونيه: نعم، لكنْ هناك ضحك وضحك. يمكنك السخرية من الآخرين بروح شريرة، لتحقيرهم، أو لطرد الخداع وعدم التعلق بالأوهام. هذه هي فضيلة الضحك المحرّرة التي تحتفي بها فرجينيا وولف في مقالٍ رائع في صحيفة الغارديان عام 1905، قيمة الضحك. وتقول إن الضحك يفتح أعيننا؛ لأنه «يظهر لنا الكائنات كما هي، متخلصةً من رداء الثروة والمكانة الاجتماعية والتعليم».

 

لماذا فضلت النساء، في أغلب الأحيان، السخرية؟

سابين ملكيور بونيه: لطالما كان جعل الناس يضحكون من اختصاص الذكور. لذلك اختارت النساء هذا الضحك في الخفاء؛ هذا الضحك المخفي تحت عباءة هي قوة الضعفاء، هرباً من العقوبة.

تطالب كوليت وفرجينيا وولف بضحكة منقذة للحياة، كما تقولين، ضحكة يجب الظفر بها، تستمدّ جذورها من الطفولة

سابين ملكيور بونيه: نعم، تدرك كوليت تماماً التحريم الذي فُرض على النساء. يتوجب عليهنَّ إعادة الاتصال بهذه «الجنة المفقودة» من الطفولة. علاوة على ذلك، تتخلى العديد من بطلات رواياتها عن الزواج والأمومة، وينجحنَ في ذلك: ضحكهنَّ الذي لا ينضب هو الدليل.

حتى في مأساة الحياة، يتحلى هؤلاء الكُتاب بالضحك، مثل مارغريت دوراس، التي تستخدمه لتفخيخ سلطة الذكور، بما في ذلك سلطة الاستعمار. تستخدم أيضاً ناتالي ساروت وياسمينا رضا الضحك بشكل رائع.

 

يُعدُّ الزواج، الذي يُنظر إليه على أنه مثبط للتطلعات الأنثوية، موضوعاً لا ينضب. إن عروض المرأة الواحدة تقلل من الحب الزوجي، ولكنْ أيضاً الأطفال «صارخون أو متعفنون أو كذابون أو جانحون محتملون»

سابين ملكيور بونيه: النقد قاسٍ، لكنّه مبهج! هل يُنظر إلى العزوبة بأعين الحسد بالنسبة إلى هؤلاء النساء المتحررات؟ هذا أمر غير مؤكد. يعترفنَ بأنّ الحرية تعني أحياناً الوحدة. أعتقد أنهنَّ يضعنَ الجمهور في جيوبهنَّ أكثر من الرجال عندما يستهزئنَ من أنفسهنَ. أضع «زوك»في قمة البانثيون الخاص بي. إنّها حياتها التي تقدّمها على خشبة المسرح: إنّها لا تمثل ؛ إنها «هي» الفتاة الصغيرة، أو هذه الشخصيات التي رافقتها في مستشفى الأمراض النفسية. في الآونة الأخيرة، استولت على بلانش جاردين بعرضيها الفكاهة الجريئة وحتىالقمامة.

تلاحظين أنه إذا أخذ الرجال الأمر بصعوبة، موسومين بالتقلب والأنانية وعدم المسؤولية، فإن النساء يدفعنَ أيضاً ثمن ضحك الإناث.

سابين ملكيور بونيه: نعم، سواء كان ذلك في أفواه الفكاهيين، الذين يسمون النساء بالمتكيفات جيداً، أو الاصطناعيات، أو غير الذكيات، أم بريشة كلير بريتشر، على سبيل المثال، التي، في كتبها المصورة، تولت رئاسة النسويات الملتزمات، على الرغم من أنها تشاركهنَّ معركتهنَّ. لكن الضحك الأنثوي يستهدف أيضاً المصير المحتوم للضعفاء، وعبادة الأداء، والأوامر التي يجب على المرء أن يتوافق معها، سواء كان ذكراً أم أنثى.

 

من خلال الضحك، كما تقولين، تمكّنت النساء من التخلي عن «أصولهنّ الموروثة منذ القدم لكن المنفرة: الجمال، الإغواء، الشعور». هل هي ثورة؟

سابين ملكيور بونيه: أعتقد أن اللواتي عملنَ بشدّة قد أحدثنَ بالفعل ثورة ثقافية. لقد فزنَ بالحقّ في اللعب بالكلمات، بطبيعة الحال، ولكن أيضاً بأجسادهنّ، وقبل كلّ شيء، فزن بالشرعية ليقدمنَ العالم بشكلٍ هزليّ من وجهة نظرهنَّ.

«العاقل الذي ركل رأسه»… القلق المختبئ وراء ظهر الهدوء

هو القلق إذاً… الذي يسري بين سطور وربما كلمات هذا الكتاب، القلقُ الحرُّ غير المقيد بمعايير البحث الأكاديمي، أو يمكن أن نجرؤ ونقول إنه القلق المنقول بأمانة عن نقاشات الكتابة والقراءة بعيداً عن أروقة الثقافة، لكن قريباً جداً من القرّاء والكتّاب في أحاديثهم ودردشاتهم التي يمكن أن تكون قد بدأت على فنجان من القهوة الصباحية، أو على طاولة الغداء أو العشاء، أو ربما في زيارة بيتية على همس قطرات المطر وهي تتسلل على زجاج النوافذ، فموضوعات الكتاب، كما يؤكد المؤلف، «مُفكِّرة وليست حاكمة أو قاطعة بنتائج مطلقة. ينقل الفكرة على هيئة جُملٍ تحمل الأسئلة والأجوبة والآراء المختلفة»… «إن هدفه الذي يصبو إليه هو المشاركة في التفكير والآراء»… وهذا هو ما نلمسه في هذا الكتاب.

-1-

من جملة عابرة في إحدى قراءاته لإحدى الروايات «خطّ شاربه فوق شفته العليا» يثير المؤلف موضوعات القسم الأول من الكتاب، لكنها -وإن كانت عابرة- فجّرت لديه أسئلة القلق الكبرى لكاتبٍ وقارئ مثله ولغيره ممن يشاركونه هاجسي الكتابة والقراءة:  «كيف تم تكوين القارئ؟ ما الكتابة الإبداعية؟ كيف يتمكن الكاتب من صناعة عالمه؟ كيف تتم تلك العملية تبعاً لملكة الكاتب الساحرة، التي تدفع القارئ إلى الغوص في أعماق النص؟ ما مدى قدرة الكاتب في منح القارئ فرصة اكتشاف تفاصيل الإبداع؟»، ليتوقف عند محطّات النقد والذائقة، دون فرض قواعد خاصة، إنه يتجول بين عوالم القرّاء والكتّاب ويدوّن ملاحظاته، يريد الاقتراب أكثر من عالم القراءة والكتابة ليرصد الحركة التفاعلية بين القارئ والكاتب، إلى جانب تفاعل القراء في ما بينهم، وبين الكتّاب أيضاً.

وينطلق، على قاعدة الاختلاف، من حوارية مع روائي آخر حول قواعد الكتابة الإبداعية، التي لا تعدو كونها، في نظره، آراء لا تعني بالضرورة طرقاً أساسية للإبداع، فـ«على الروائي أن يوجه دعوة إلى مخيلة القارئ لحضور عالمه». الأمر متروك للقارئ؟

ومن خلال رحلة بحث صديقه التونسي عن الاعتراف به كاتباً، يطرح قضية الشرعية في الكتابة الإبداعية… بمعنى من يمنح النص الإبداعي شرعيته؟ ومن يمنح الروائي أو القاص أو الكاتب عموماً شرعية كونه روائياً أو كاتباً؟

هذا السؤال يؤدي به إلى قضية أخطر هي قضية الذائقة، فنجد أنفسنا أمام عدة أنواع للذائقة: الذائقة الاسفنجية، الذائقة الفطرية، الذائقة المعرفية، الذائقة العادية، الذائقة الخاصة…

إن المسألة لا تعدو أن تكون «محاولة بعضهم بناء مدارس للكتابة الإبداعية، وهم أقل بكثير من أن يؤدوا هذا الدور»… فقبل أن نطلق هذه الأحكام يمكن أن نطرح فكرة «ضرورة تحديد هوية العمل الإبداعي، دون أن ندخل في تفاصيل الأجناس الأدبية»…

لنقرأ الروائية والقاصة الأمريكية جنيفر إيغان. ماذا قالت عن عملها الذي حمل عنوان (زيارة من زمرة البلهاء)، والذي ترفض أن تصنّفه: «إنه لأمر مخيف أن تسكب الوقت والجهد في مشروع ليس له هوية أدبية واضحة، وبذلك يمكن أن يسقط بين الشقوق».

لكن، في المقابل، هل يمكن لنا الكتابة ومن ثم النشر تبعاً لرغبات القارئ، التي دفعت بأحد الناشرين إلى أن قرر طباعة كتاب محولاً هويته من موضوعات إلى جنس أدبي مرغوب فيه ألا وهو الرواية»… ماذا عن ما نجده اليوم مما يسمى «أدب الحثالة»، الأمر الذي  يدخل النص في اللا نوع؟

من جديد، الأمر متروك للقارئ، لكن أيّ قارئ؟ القارئ الذي يسعى دائماً إلى الرقي بمستوى الثقافة، أو كما قال نيتشه: «أجدني أتصوره (القارئ) على هيئة وحش شجاع شديد الفضول، كما أتخيله على هيئة مغامر ومكتشف بالفطرة، فهو شخص يتسم بالحذر والمكر والمرونة واللين…».

ولأنه ينطلق من قلقه ومن حريته، ولأن «العالم لم ولن ينحصر في أفكارنا فحسب، فهو أوسع بكثير من أن نبقيه على اتجاه فكر معين»، يوجه المؤلف نصيحته: «عزيزي الكاتب، وعزيزي القارئ أيضاً… لا يمكن للكاتب أن يهرب من النقد بحجة اختلاف الذائقة. هذا ما أراه من بعض الكتّاب، الذين يعانون من البحث عن مكانة تناسب نرجسيتهم في الوسط الثقافي».

وبالحرية ذاتها، بعيداً عن رقابة القيود الأكاديمية، يطرح ثنائية الإبداع والمال… يقول شوبنهاور: «فمحنة الأدب في هذه الأيام مرجعها أن كل من أعوزه المال يستطيع أن يجلس إلى مكتبه ويدبج شيئاً يبيعه، ما دام الناس في غفلة وبغباء يشترون كل ما يُطبع…». هل علينا أن نسلم بذلك؟

مهلاً، تطرح الكاتبة والروائية مارغريت أتوود القضية فتقول: «يجد الكاتب نفسه محشوراً بين مطرقة الفن وسندان اضطراره إلى أن يدفع إيجار المنزل. فهل يجب أن يكتب الكاتب من أجل المال؟ وإذا لم يكتب من أجل المال فمن أجل ماذا؟»، وتتابع مارغريت: «تطاردنا مثل هذه الكوابيس في لحظات يقظتنا، ناهيك عن لحظات نومنا، فنبدو مقيدين بالسلاسل إلى مكاتبنا… دون اعتبار لميولنا أو لمدى جودة هذه الأعمال، فنصبح عبيداً للقلم، ويا لها من معاناة شديدة».

يؤكد المؤلف كلامها، ويضيف: «ربما الأسوأ من ذلك أن نكون عبيداً للمال والشهرة من خلال القلم، وهذا ما وجدته في كتّاب المسلسلات» مثلاً.

وماذا عن الاهتمام بحياة الكاتب بعيداً عن كتبه ذاتها…؟ يقول: شوبنهاور: «ما هو أدعى للضحك، من اهتماماتهم في مجال الشعر؛ إذ ينصرفون عن العمل الفني إلى استقصاء الأحداث التي مرت بالشاعر، ومتابعة ظروف حياته. وهكذا إن الناس بدلاً من أن يمتعوا النفس بقراءة أشعار جوته يفضلون أن يقرؤوا ما كُتِب عن جوته…».

وماذا عن قواعد النشر والتسويق…؟ تقول مارغريت: «حتى لو تجنبنا توقيع صكوك الدين، بقي أمامنا العديد من العقبات؛ فهناك، على سبيل المثال، نظام النشر، الذي يخضع على نحو متزايد لعائد الربح».

وماذا عن موضة ورش العمل للتدريب على الكتابة؟

قد نوافق على هذه الورش بضوابط، كما يخلص المؤلف، لكن، كما يرى تولستوي، «الفن هو الإحساس الخاص الذي يعاني منه الفنان… كيف يمكن تعليم ذلك في المدارس؟».

«تشيخوف بدأ حياته الأدبية بالكتابة من أجل المال لإعالة أسرته التي أضناها الفقر. فهل يشينه ذلك؟… تشارلز ديكنز بمجرد عمله في الكتابة ترك عمله اليومي وعاش بالقلم. جين أوستن وإميلي برونتي لم يستطيعا ذلك، مع أن المزيد من المال لم يكن ليضيرهما. ومع ذلك لا يمكن القول إن أياً من هؤلاء يفوق الآخر قدراً، أو يقل عنه بسبب المال وحده».

يعود القلق ليستفز حامله -وهو المؤلف هنا- فيرمي بسؤال من الأسئلة الكبرى من جديد: ماذا بعد القراءة؟، فتأتي الإجابات لافتة ومفاجئة أحياناً: «القراءة… لا ترميني في مأزق الخجل والجهل حينما أُسأل عن أيّ معلومة أو حين خوض أيّ نقاش»… آخر: «القراءة تجعلني أحسن التصرف أثناء خوضي تجربة في الحياة». آخر: «لا أخفيك أنها مصدر السعادة بالنسبة إليّ، هي اللجوء في الوحدة والفراغ»…

ليخلص المؤلف إلى: «ما أراه أنا ليس بالضرورة أن يراه الآخر…»، فبعيداً عن المثاليّات التي لا يمكن تحقيقها، وعن التوهّم. إن ثمة «دوافع خاصة ينتفع منها الكاتب على المستوى الشخصي، وهذا لا يعيبه من وجهة نظر الكثيرين في شيء».

يحكي ماركيز: «صرّح فوكنر ذاته يوماً بأنه بعد كتبه الخمسة الأولى، وجد نفسه مضطراً إلى كتابة رواية إثارة؛ لأن الروايات السابقة لم تؤمن له من النقود ما يكفي لإطعام أسرته».

أفلا يركل العاقل رأسه بعد كل هذا؟

ومع ذلك، ما الذي يفعله القراء، ولا سيما في ضوء هذا العالم الافتراضي الذي خلقه الإنترنت؟

يجيبنا هارولد بلوم: «عليهم، بدرجة ما، اتباع غريزتهم، لكنّ هذا يقود في هذه الأيام إلى أنواع شتى من المشاكل، فالمرء ليس سعيداً بـ35 مليون نسخة من كتاب (Harry Potter)… أعتقد أن هذه ليست قراءة».

حسناً لم تُحسم المسألة، وكذلك أمر الذائقة، فـ«لا يوجد من النقاد والمهتمين في الشأن الأدبي والمعرفي مَن خرج بنتيجة واضحة حول ماهية الذائقة».

عدنا إلى الأسئلة الكبرى، ليس لمجرد الاستمتاع بطرح الأسئلة، بل لتأكيد أن الإبداع لا يمكن أن يخضع لشروط وقوانين: ما الجيد؟ وما الرديء؟

في حوارات أفلاطون، قال فايدروس: «ليس من الضروري لمن يُعِدّ نفسه لكي يكون خطيباً أن يعلم حقيقة العدالة، بل حسبه أن يعرف آراء الجمهور الذي سيكون له الحكم في موضوعه… فالمظهر لا الحقيقة هو مبدأ الاقتناع».

من جديد الأمر متروك للجمهور.

وعوداً إلى الذائقة، يؤكد المؤلف أنها في أصلها تكوين متغير… «تختلف من شخص إلى آخر… ومن زمان إلى آخر؛ فالمستحسن في الماضي ليس بالضرورة أن يكون مستحسناً في الحاضر… ومن مكان إلى آخر؛ فالقصيدة التي تصف أمجاد البحّارة لن تروق بمعناها وصورها لأهل البوادي، والعكس صحيح»… ومن لغة إلى أخرى، فماذا عن إمكانية عدم تذوق الأعمال الأجنبية… وفي حالة الترجمة قد تنقص الترجمة من مكامن الجمال فيها».

ويضرب المؤلف من جديد، في العمق هذه المرة، وفي الذائقة المعرفية… «وجه نجيب محفوظ سؤاله إلى طه حسين حول رأيه في ظاهرة انتشار القصة الفلسفية، فيجيب طه حسين: «… إنما القصة الفلسفية التي أوافقك على إنكارها هي بعض القصص التي تظهر الآن، وخصوصاً في فرنسا مثل قصص كامو… وناتالي ساروت… هو نوع من الإفلاس، لأن الأدب الفرنسي الآن معرض لأزمة، فهذا نوع من الثرثرة في غير فائدة».

أدب كامو إفلاس وثرثرة؟! أدب ساروت إفلاس وثرثرة؟!

يعطي المؤلف ناتالي فرصة الدفاع: «هل الرواية فن؟ وإذا كانت كذلك، أفليس هدفها هو إحداث هزة تؤدي إلى تغيير في شعور القارئ؟ هذا التغيير أليس في تلقي كلّ ما هو جديد وحيّ؟ فإذا تطلب هذا الجديد الحي عناصر كانت مختفية أو مجهولة أو بعيدة عن المواقف الأخلاقية، فهل يفضل عندئذٍ عدم تقديمها على الإطلاق؟ إن مهمة الفن التجديد والتجدد باستمرار، بصرف النظر عن الاهتمام بالمغزى أو بالحكمة أو بأي شيء آخر…».

-2-

كما انطلق المؤلف في القسم الأول من جملة عابرة، ينطلق في القسم الثاني من كتابه من جملةٍ، لكنها ليست عابرة، بل إنها في الصميم: ما الذي فعلته الأجيال لي؟

يقول أوسكار وايلد: «لماذا ينبغي عليّ أن أكتب من أجل الأجيال المقبلة؟ ما الذي فعلته الأجيال لي؟»، مثيراً (المؤلف) كعادته قضية كبرى هي قضية خلود الإبداع/المبدع:

إن عملية الكتابة،يراها أوسكار، تبادلية أو منفعية… يرى أوسكار وايلد أنّ رواج كتبه هي الخطوة التي تعينه على الاستمرار في حياته برضا، لتوافر المال، أما ما يقدمه للأجيال فلن ينفعه في حياته. ولهذا إن فكرة الخلود ليست سامية إلى هذا الحد عند الكثيرين، لكن عند اتساع الرقعة بين المجتمعات، أيضاً، لن يكون الإبداع إبداعاً إن لم يعترف به الآخر. الأمر متروك للقارئ من جديد.

تتفجر الأسئلة من جديد: هل يمكن عزل الكاتب عن إبداعه؟ هل للفضيلة علاقة بالخلود؟ القيم الأخلاقية؟

المفارقة، والشرط الإنساني القاسي، أن الخير تم تخليده، والشر كذلك تم تخليده، فكما أن أوسكار وايلد خُلِّد وخُلدت أعماله، كذلك هتلر خُلِّد وخلدت أعماله؟

لا تبتهجوا كثيراً، فالفضيلة ليست عاملاً أساسياً للخلود.

يتوهم بعض القرّاء ضرورة أنّ الكاتب، على وجه الخصوص، لابد له من أن يكون مثالياً، فاعلاً للخير، كاملاً، فاضلاً، مثالاً خالداً للاحترام والذوق الرفيع، وما يذكره في كتبه بالضرورة يعكس حقيقته…

يرى أنتوني ترولوب، الكاتب والروائي البريطاني، بإيمان قوي، أنّه ينبغي للروائي أن يُعلّم الناس الفضيلة من خلال رواياته، وفي رأي الكاتب الفرنسي، جورج ديهاميل، للكاتب وظيفة اجتماعية…

إذا ما أردنا أن نسلم بهذه المقدسات، فهل يمكننا أن نفصل محمود درويش عن إبداعاته، رغم الفوضى والشبهات في سيرته، التي قد تتخللها علاقته باغتيال ناجي العلي؟ ويطرح آخرون -هذه حقيقة وإن كانت صادمة- نزار قباني وثيمة الجنس في قصائده…

بهذه الحرية وهذا القلق يثير المؤلف هذه القضايا وغيرها في كتابه، لكنه يؤكد، في النهاية، أننا في عالم الإبداع لا يمكن أن نتجاهل فكرة أن «الأصالة تمنح قوة الصمود على البقاء، الأصالة التي هي الابتكار الذي يلامس جميع الأذواق». أما المفتاح الآخر فهو «أن يكون العمل الإبداعي مفتوح التأويل».

قد يركل العاقل رأسه، لكن مستقبل الحقيقة ضعيف جداً إن لم يتمكن أحد من تحمل ثقلها والعمل على إثبات وجودها.

السبيل إلى تعزيز إنتاجيتك الكتابية: خطة أنتوني ترولوب الاستراتيجية لكتابة ما يربو على خمسةٍ وأربعين كتاباً

السبيل إلى تعزيز إنتاجيتك الكتابية: خطة أنتوني ترولوب الاستراتيجية لكتابة ما يربو على خمسةٍ وأربعين كتاباً

بقلم: نيكول بيانكي

ترجمة: زينب بني سعد

قد يكون من الصعب علينا -نحن الكتّاب- أن نجد الوقت للكتابة أصلاً، ولكن عندما نتمكن أخيراً من إيجاد تلك السويعاتالثمينة، من المحبط للغاية ألّا نتمكّن من التركيز على كتابتنا.

 كان ترولوب أحد أنجح الروائيين في العصر الفيكتوري. وقد اكتشف روتيناً يومياً للكتابة مكّنه من إصدار الكتب بسرعة مثيرةللدهشة؛ فعلى مدى خمسة وثلاثين عاماً كتب سبعاً وأربعين رواية، فضلاً عن العديد من القصص القصيرة والكتب غيرالروائية والمسرحيات.

والأدهى من ذلك أنه أنجز أعماله الأدبية كلّها أثناء عملهِ مفتشَ مكتب البريد؛ إذ تطلبت منه وظيفته أن يسافر كثيراً، وأن يتعايش مع جدول أعمالٍ مزدحم، وهذا يعني أنه، عندما كان يجلس للكتابة، كان عليهِ أن يتأكّد له أنه يحقق  هدفه اليومي في عدد الكلمات. إذاً، كيف فعل ذلك؟ تابعوا القراءة لتكتشفوا استراتيجية ترولوب الفريدة!

 

روتين أنتوني ترولوب اليوميّ للكتابة

بادئ ذي بدء، كان على ترولوب أن يخصص عدة ساعات من الوقت للكتابة. وبسبب الساعات الطويلة، التي يتطلبها عمله، أدرك أنه لن يتمكّن من إيجاد وقت للكتابة إلا قبل أن يتوجّه إلى عمله.

ذكر إدوارد نيوتن، في كتابهِ (The Trollope Society)، أنّ: «ترولوب كتب لمدة ثلاث ساعات كلّ صباح من الخامسة إلىالثامنة صباحاً، ثم يتوجه إلى العمل، وأنه كان يدفع لخادم خمس جنيهات إضافية في السنة لإيقاظه بفنجان من القهوة».

وفي سيرته الذاتية، ذكر ترولوب «أنّ ذلك الخادم لم يتأخر قط، ولو مرة واحدة، في إيقاظي وفي  يده فنجان من القهوةوأعرف أني مدينٌ له، أكثر من أي شخص آخر، بالنجاح الذي حقّقتهفما إن تحلّ تلك الساعة المبكرة منالصباح، حتى يتسنّى لي إكمال مهمتي الأدبية قبل أن أرتدي ملابسي لتناول الإفطار».

 يقسم الكثير من الكتّاب بالاستيقاظ في الصباح الباكر والبدء في الكتابة قبل أيّ شيء آخر في  جدول يومهم المزدحم، وقد لاينجح هذا مع الجميع، لكنّ ما فعله ترولوب، بعد ذلك، أمرٌ  يستطيع أيّ كاتب أن يتبناه في روتينه اليومي.

استراتيجية الكتابة الموقوتة

حرص ترولوب على عدم إضاعة أيٍّ من هذه الساعات الثمينة الثلاث. أراد أن يضمن أنه  سيكتب باستمرار حتى لا يُبدد الوقت «وهو يقضم قلمه، ويحدق في الحائط أمامه، إلى أن يعثر  على الكلمات التي يريد التعبير بها عن أفكاره»!، وحلهِ لهذه المشكلة كانت ساعة جيب!

 في البداية، كان يقرأ مخطوطته قرابة نصف ساعة. يقول ترولوب:

«في تلك المرحلة، أصبح من عادتي، ولا يزال كذلك، وإن كنت في الآونة الأخيرة متساهلاً قليلاً مع نفسي، أن أكتب وساعتي أمامي، وأن أطلب من نفسي 250 كلمة كلّ ربع ساعة، ثم أدركتُ أن  الـ 250 كلمة تغدو في متناول يدي بشكل منتظم كماكانت ساعتي…».

وعليهِ، كانت جلسات الكتابة الموقوتة، التي حافظ عليها ترولوب، هي المفتاح لإنتاجه الوافر.

يضيف ترولوب: «أتاح لي هذا التقسيم للوقت كتابةَ أكثر من عشر صفحات من مجلد روائيّ  عاديّ في اليوم، ولو استمر ذلك لمدة عشرة أشهر، لكان من نتائجه ثلاث روايات من ثلاثة مجلدات في كل عام».

ما سبب نجاح استراتيجية ترولوب في الكتابة الموقوتة؟

كانت استراتيجية ترولوب في الكتابة الموقوتة فعالةً جداً؛ لأنه التزم بتجنيب نفسه كلَّ ما يشتت الانتباه خلال تلك الفترة الزمنية،وأجبر نفسه على التركيز على دقات ساعة التوقيت فحسب.  وهذا يعني عدم فعلهِ عدة أشياء في الوقت نفسه إطلاقاً؛ ففي عالمنا هذا، أصبح فعل عدة أشياء في الوقت نفسه شيئاً لا بأس فيه في حياتنا اليومية؛ حيث يصعب التخلص من تلك العادة؛ إذبينما نكتب، قد نتوقّف كلّ بضع دقائق تقريباً للتحقق من رسالة نصية على هاتفنا، أو إشعار  من فيسبوك، أو إنستاغرام.

 مع أن أدمغتنا لا تستطيع التركيز على عدد من المهمات في الوقت نفسه، وبدلاً من ذلك، على  الدماغ أن يتسارع لتحويل بؤرةتركيزه في كلّ مرة نبدأ فيها بفعل شيء مختلف! وعندما نقوم بمهمات متعددة أثناء العمل على مقال، أو أيّ نوع من مشاريعالكتابة، هذا يعني أن أدمغتنا تملك مسألة ثوانٍ فقط للانتقال ذهاباً وإياباً عندما نتحقّق من  الفيسبوك، ثم نكتبُ بضعة أسطر،ثم نتحقق بسرعة من بريدنا الإلكتروني، ونعود لنكتب بضعة أسطر أخرى، ثم نتحقق من رسائلنا النصية، وبعدها نعود إلىمشروع الكتابة. وبحسب مقالة في صحيفة وول ستريت جورنال:

«يستغرق استئناف المهمة، بعد مقاطعتها، أكثر من خمس وعشرين دقيقة كمعدل»، والأسوأ من ذلك «يستغرق الأمر خمس عشرة دقيقة إضافية لاستعادة التركيز المكثف نفسه، أو الاسترسال في الكتابة، كما كان قبل الانقطاع»؛ أي أربعين دقيقة كاملة، ناهيك عن المقاطعات المتعددة.

 بطبيعة الحال، لم يضطر ترولوب الى التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الخلوية، ولكن لا شكّ في أنه كانت هناك إغراءات مماثلة في أيامه يمكن أن تلهيه بسهولة عن مهماتهِ الكتابية. ولكن بوضع ساعته أمامه، تحدّى نفسه بألا يكسر تدفّق عملهالمكثف.

كيف بإمكاننا تطبيق استراتيجية الكتابة الموقوتة باستخدام «تقنية البندورة أو تقنية پومودورو» بالإيطالية؟ 

ليس كلّ واحد منّا لديه ثلاث ساعات في اليوم بوسعه تخصيصها للكتابة، ولن نتمكن جميعاً من تحديد وقت في الصباحللكتابة. ورغم ذلك، إنّ الكتابة الموقوتة هي استراتيجية  بسيطة وسهلة يمكن لأيّ كاتب توظيفها. في تلك الأيام، التي أدركتُ فيها أنني أواجه صعوبة في  التركيز على مشروعي، استخدمتُ أسلوباً مماثلاً لاستراتيجية ترولوب تُدعى «تقنية البندورة أو  تقنيةپومودورو»، وهي طريقة طورها طالبٌ جامعيّ إيطاليّ يدعى فرانشيسكو سيريلو في الثمانينيات؛ إذ كان مشتتاً خلال فترةدرسه على الدوام، وأخذ يبحث عن شيء يساعدهُ على التركيز.

استخدم سيريلو مؤقِّتاً على شكل ثمرة بندورة لتنظيم وإدارة وقته، وهي تعتمد مدداً زمنية متفرقة من ٢٥ دقيقة. وهكذا وُلِدتْ تقنية پومودورو، وپومودورو هي الكلمة الإيطالية لصلصة الطماطم.

إنَّ خمساً وعشرين دقيقة وقتٌ مثاليّ يقضيه المرء في الكتابة، ليس بالوقت القصير جداً ولا الطويل جداً، ثم بوسع المرء أن يحصل على بضع دقائق للتحقق من الفيسبوك، أو البريد الإلكتروني، أو لأخذ استراحة من الكمبيوتر، وتناول وجبة خفيفة! تلكالانقطاعات تتيح لدماغ المرء بعض الوقت لإعادة تنشيطهِ، وتبقيه مع التيار في الوقت نفسه.

سواء كنتَ تستخدم تقنية پومودورو أم طريقة أقلّ انتظاماً كاستراتيجية ترولوب، إنّ الكتابة  الموقوتة هي واحدة من أفضلالطرق للتغلب على المماطلة، وإنهاء مسألة تعدّد المهمات، والوصول إلى الهدف اليومي لعدد  الكلمات؛ إذ أدرك ترولوب أنه لم يكن في حوزته سوى وقت محدود للكتابة! كانت ساعاته ثمينة، وكان عليهِ استغلالها بحكمة. فالكتابة في وقت مضبوط ومحدد تساعدنا على الاستفادة من ساعاتنا بأفضل طريقة ممكنة، ووضع روتين يوميّ للكتابة.

وكما يقول ترولوب: «إنَّ إنجاز مهمة يومية بسيطة -شريطة أن تبقى مهمةً يوميةً بالفعل- من شأنها أن تتغلّب على أعمال عظيمالروم هرقل اللانظامي!»، ومن تأنّى نال ما تمنى.