الكراهية والسياسة والقانون … وجهات نظر نقدية حول مكافحة الكراهية

أصبحت الكراهية منبوذاً سياسياً في الديمقراطيات الليبرالية. وسواء تمّ التعبير عنها بالكلام، أم جرى تطبيقها في سلوكٍ إجرامي يومي، أم نُظِر إليها على أنها وقود للإرهاب والتطرف، تُعدُّ الكراهيةُ رذيلةً وشراً وتهديداً. في الخطاب العام، تُنسب الكراهية عادةً إلى الآخر (مجرمين، أعداء، غرباء، إرهابيين)، والصرخةُ ضد «الكراهية» تعني دعوة إلى العمل: إحصاءات جديدة أو تفصيلية أكثر، بنود قانونية للتجريم أو لتعزيز العقوبة، تدريب للشرطة والدفاع عن حقوق الإنسان. على كل حال، إنّ نتيجةَ التحريض الفعال ضدّ تهديد الكراهية المتصوَّر يعني التعبئة والتحشيد، و، في كثير من الأحيان، يعني بسط سلطة الدولة. يبدو أن الكثيرَ من العمل الأكاديمي حول الكراهية يشترك في الافتراض الأساسي أنّ الكراهيةَ سيئةٌ، وأن العالمَ سيكون مكاناً أفضل من دونها. لكننا نحن نشكّ في أنّ كل الكراهية سيئة، ونصرّ على أن محاربة الكراهية تحتاج إلى تمحيصٍ نقدي. هذه هي الفكرة الأساسية وراء كتابنا الكراهية والسياسة والقانون: تصوراتٌ نقدية حول مكافحة الكراهية، الذي صدر من مطبعة جامعة أكسفورد في 2018. كان هدفنا توسيع النظرة العلمية لكيلا تشتمل على الكراهية فحسب، بل على محاربة الكراهية أيضاً. وهذا يعني بدء استكشافٍ نقديٍّ ومناقشةٍ نقدية للافتراضات، والمُثلِ العليا، وجداولِ الأعمال الأساسية وراء المكافحة الحديثة للكراهية: ما الافتراضات المعيارية، والجذور الأيديولوجية، والوعود، والحدود، و-ليس أقلها-النقاط العمياء، في الحرب الحديثة على الكراهية؟ متى أصبحت محاربةُ الكراهية مشروعةً، ولماذا؟ ما الذي نقصده عندما نقوم بتأطير عملٍ ما، أو تعبيرٍ ما، فنقول إنه ينضح بالكراهية؟ كيف يرتبط الاستخدامُ الحديث والعام لمصطلح «الكراهية» بالتاريخ الأطول والأوسع لمفهوم الكراهية؟ ما الذي يكون على المحكّ في العلاقة الصعبة بين الكراهية والديمقراطية الليبرالية؟ تحقيقاً لهذه الغاية، يفتح الكتاب أربع مساحات للاستكشاف.

منظور تاريخي

لم تكن الكراهية دائماً شراً تجب محاربته، ولم تكن الكراهية والديمقراطية دائماً على خلاف إحداهما مع الأخرى. في الكتاب، يشرح باحث اليونانية واللاتينية القديمة، ديفيد كونستان (David Konstan)، كيف أنه في أثينا الديمقراطية القديمة، وفي روما الجمهورية، عُدَّت أشكالٌ محدّدةٌ من الكراهية ملائِمةً اجتماعياً ومرتبطةً بعداوةٍ شرعية، وليس بمرض اجتماعي. العاطفةُ، التي كانت تُعدُّ دافعاً للنزاع الاجتماعي المثير للمشكلات هي الحسد (الفثونوس phthonos)، وليست الكراهية (ميسوس misos). قد يكون الفهم الكلاسيكي للحسد مثيراً للاهتمام ليس لأغراض المقارنة التاريخية فحسب؛ بل أيضاً لفهمنا اليوم لجرائم الكراهية أو التحيّز. إن النظر عن كثب في الحسد يشجّعنا على أن نتعامل بجدّية أكبر مع مشاعر الظلم أو الخزي أو الإذلال، التي قد تكون عاملاً في العديد من جرائم الكراهية. بالتركيز على تاريخ تصنيف فئة «الكراهية» في ديمقراطياتنا الحديثة، يوضح عالم السياسة إريك بليش (Erik Bleich) أن التركيزَ السياسي والقانوني الحالي على الكراهية هو، إلى حد كبير، نتاجُ تراكمٍ تدريجي لقوانين وسياسات محددة ناشئة عن المخاوف من العنصريةعلى مدى أكثر من 50 عاماً. يشير هذا المسار إلى أنّ العنصرية –بغض النظر- لا تزال هي المثال للكراهية، وهذا يؤدي باستمرار إلى بناء فهم الجمهور للكراهية على أنّها نوعٌ محدّد من الشر.

تكوين فكرة عن الكراهية

ما المعرفة حول الكراهية، التي يحتاج إليها الأشخاص المنخرطون في مكافحة الكراهية؟ على قدر المستطاع يمكن للمرء أن يقدر تقديراً، وإلا فكيف سنحاربها؟ لكنّ معظم الدراسات حول جرائم الكراهية وخطاب الكراهية لا تبدو مهتمّةً كثيراً بالتفكير المفاهيمي المتعمِّق والمفصَّل. ربما يتعيّن على المرء أن يحتمل الإرجاعَ والإحالةَ إلى «الكراهية» في الخطاب العام والسياسي. قد يُمنح خطابُ الكراهية منحاً لأجل ضمانِ انتباه وسائل الإعلام، ولأجل إقامةِ تحالفات سياسية بين جهاتٍ فاعلة ومنظماتٍ لن تكون مترابطة من دونه. لكن وفقاً للعديد من العلماء، إن ما هو على المحكّ في مكافحة خطاب الكراهية وجرائم الكراهية ليس الكراهية «بعينها»، بل هو تلك الهيكليات من تحيزٍ وترتيبٍ هرميّ للسلطة غير مشروع، وتمييزٍ عنصري. ومن ثَمَّ، يدعو بعض العلماء إلى تغيير المصطلحات واستخدام تعبيرات مثل: خطابِ تشهيرٍ وتلويثٍ للسمعة، أو جريمةِ تحيز. هذا الرفض لاستخدام مصطلح الكراهية، باعتباره غير ملائم، يخدم غرضاً مهماً هو لفت الانتباه إلى التضمين البنيوي لخطاب الكراهية وجريمة الكراهية، وأن هذا التضمين هو السبب في جعلهما طبيعيَّيْن، وجعل طابعهما يتفشى في جهاز النظام. ورغم ذلك، إن صرف النظر عموماً عن وجوب التفكير بتوسعٍ بشأن الكراهية فيه تسرّع كبير للغاية. يعيد الفيلسوف توماس برودهولم (Thomas Brudholm) النظرَ في كتابات أفلاطون وأرسطو، موضحاً أنّ هناك إرثاً طويلاً من عَدِّ أشكالٍ معينة من الكراهية تحيزاً أو متلازمةً مرضية، وأيضاً من النظرِ إلى الكراهية (وربما ما زال بالإمكان رؤيتها هكذا) على أنها استجابةٌ عاطفيةٌ عادية تجاه شرٍّ متصوَّر تتجاوب مع أسبابٍ، وتقبل الضبطَ طالما لا ينقاد الأشخاص الكارهون، دائماً أو حتمياً، لاستهلاك أنفسهم بكراهيتهم هذه. تحلل عالمةُ النفس نيزا ياناي (Niza Yanay) الكراهيةَ على أنها مجموعة معقدة ومتناقضة للغاية من تشوق ورفض، واشمئزاز ورغبة، وهذه المجموعة تعمل على مكافحة الكراهية من داخل نزعات ورهاب المصالح ومن تحتها. ومن هنا تبرز الحاجة إلى فهم أعمق لازدواجية الكراهية، وعلاقتها الدقيقة المعقدة بالحب، لإيجاد استجابةٍ ضد الكراهية تكون دقيقةً بما فيه الكفاية في الديمقراطيات الليبرالية. أخيراً، يوضح الباحث القانوني إريك هاينز (Eric Heinze) كيف تظهر الكراهية بوصفها مفهوماً قانونياًفي خضم محاولةٍ تستهدف أشكالاً من مواقف عدائية غير مشروعة لا يمكن استيعابها داخل إطار قانون مكافحة التمييز العنصري. ورغم ذلك، إن استهداف مثل هذه المواقف، من خلال قوانين للخطاب، يضع الدولةَ الديمقراطية الليبرالية على خلافٍ مع التزامها بتجنب الإجراءات العقابية لوجهات النظر. وهكذا، الدولة تسير دائماً على حبل مشدود في سعيها لتنظيم المواقف قانونياً.

الاستجابات ضد الكراهية

يتعرض الناس، في جميع أنحاء العالم، للعنف والتخويف بسبب وضعهم أو انتمائهم إلى مجموعات معينة، ومثل هذا الأمر كان يجري على مرّ العصور، لكنَّ ما يميّز الخوفَ الحديث من الكراهية ليس العنفَ أو المضايقة في حد ذاتيهما، بل تفسيرُ العنف على أنه نوع محدّد من المشكلات الاجتماعية، وإدخالُ مجموعةٍ متنوعة من الاستجابات القانونية والسياسية لحلّها. ما نسميه الاستجابات على الكراهية (التجريم، وتعزيز العقوبة، ومقابلات الضحية والجاني، واستطلاعات الضحايا، والحملات العامة، والتعليم… إلخ) هو عملُ كلٍّ من الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية. في كلتا الحالتين، ردودُ الفعل هذه على الكراهية مرتبطةٌ، بشكل معقد، بقيم ومبادئ المجتمع المستجيب. وعلى هذا النحو، تخبرنا هذه الاستجابات شيئاً مهماً عن الأسس المعيارية للديمقراطيات الليبرالية؛ مثلاً، ما يتعلق بالعدالة الجنائية، والتسامح، والمساواة، والحريات الأساسية. من الواضح أن إحدى الاستجابات البارزة كان التجريم والعقاب، لكنْ هل التجريم هو الحلّ المناسب، وإذا كان الأمر كذلك فهل العقوبات المشددة هي أفضل الطرق؟ يسعى فصلان (من تأليف الفلاسفة إيه آر داف (A R Duff)، وإس إي مارشال (S E Marshall) والعالِم المتخصّص في الجريمة مارك والترز (Mark Walters)) إلى سدّ الفجوة الحاسمة بين تأكيد ظلم الكراهية من جهة، والاندفاع إلى التجريم والمعاقبة من جهة أخرى؛ وهي فجوة غالباً ما يتمّ تجاهلها، أو الارتجال في معالجتها في الخطابات الحالية المناهضة للكراهية. من الواضح أنّ هناك أيضاً استجابات أخرى ضدّ الكراهية سوى الآليات القانونية للمساءلة الجنائية الفردية. تطرح عالمةُ الاجتماع بيرجيت شيبلرن جوهانسين (Birgitte S. Johansen) مشكلة حكمة ترويج التسامح (كفضيلة ليبرالية كلاسيكية) بوصفه ترياقاً مضاداً للكراهية، وتطرح المنظِّرة السياسية ميهايلا ميهاي (Mihaela Mihai) حجةَ مزايا الفن لدى العمل على التصرفات الجمعية الظاهرة والعدائية بلا تبصّر.

الكراهيات الديمقراطية

أخيراً، كان طموحنا مع الكتب هو أيضاً سبر النقاط العمياء محتملة الوجود في قانون وسياسة مكافحة الكراهية الحالية. وبالتحديد، من خلال التساؤل عمّا إنْ كان هناك وجود لشيءٍ مثل كراهيةٍ ديمقراطيةٍ ليبرالية، وإنْ كان الأمر كذلك فكيف يتبدّى؟ يجيب مؤرخ الأفكار ميكيل ثورب  (Mikkel Thorup)عن هذا السؤال من الناحية المفاهيمية، من خلال التحقيق في القواعد النحوية المختلفة للعداوة الناشئة عن الديمقراطية بوصفها نظاماً سياسياً يستبدل بالكراهية مثالياً عدمَ التوافق، ويستبدل بالعدو المنافسَ، ويستبدل بالعنف التصويتَ والاقتراعَ. الفكرةُ، التي تكوّن مفهوم الذات الديمقراطية، هي أن العنفَ هو الشرُّ، الذي قد تنقذنا الديمقراطية منه، وأنّ العنفَ موجودٌ في هذا العالم بسبب الآخرين غير الديمقراطيين والمليئين بالكراهية فحسب. يجيب فصلٌ آخر عن السؤال تجريبياً، من خلال استقصاءِ ما إذا كانت الدول الديمقراطية الليبرالية ترتكب، في واقع الأمر، ما تزعم أنها تحاربه بوصفه «كراهية». تجادل الباحثة القانونية كاثرين أبرامز  (Kathryn Abrams)بأن هذا، في الواقع، ما تفعله ولاية أريزونا بالضبط في ظلّ نظام «إنفاذ القانون عن طريق الاستنزاف» المنتشر ضدّ المهاجرين، الذين ليس لديهم وثائق شرعية. تُظهر القضية كيف يمكن لملامح محددة من كراهية الدولة أن تصبح قانونيةً بسهولة عندما لا يتمّ اعتبار الأفراد أعضاءَ في النظام السياسي، وعندما تتدثر الكراهية بخطاب المخاوف بدلاً من العدائية.

لقد أصبح تبنّي روحِ مناهضةِ الكراهية، ومواجهةِ خطاب الكراهية وجرائم الكراهية، طرقاً تحدِّد بها الدولُ الليبرالية والديمقراطية أعداءها، وتُعرّف عن هوية نفسها. ورغم ذلك، إن محاربة الكراهية ليست واضحة بلا لبس، ولا تمر من دون تكلفة. فكما أشار الباحث القانوني روبرت بوست (Robert Post)، في ملخصه الختامي، إن التحشيد لمفهوم الكراهية، باعتباره المنظار الذي تُعالَج وفق رؤيته قضايا مثل التحيز والتمييز العنصري، يُحتمل أن يفتح باباً لإقصاء الجناة المرتكبين: «باسم التسامح، يجري تحريم وإقصاء المذنبين بارتكاب جرائم الكراهية؛ نضعهم خارج دائرة “الحوار الممكن”. إن خلق جرائم الكراهية لا يطهر المجتمع من الكراهية، بل، بدلاً من ذلك، يعيد توجيهَ كراهيةٍ ديمقراطيةٍ نحو مرتكبي جرائم الكراهية». هل نحن، في قتالنا للكراهية، نخاطر بإقصاءٍ مليء بالكراهية للآخرين المكروهين من وسطنا؟ لا يقدم الكتابُ إجابةً عن هذا السؤال الصعب، لكننا نأملُ دعوةَ وإثارةَ النقاش حول العلاقات الصعبة بين الكراهية والسياسة والقانون.

المكتبة المظلمة .. حان وقت القراءة السعيدة

المكتبة المظلمة .. حان وقت القراءة السعيدة

بقلم إريك لوريت

إذاً، ما المشكلة؟ ما الخطب بالضبط؟ اختفاء الأدب والشعراء والكتب والقُرّاء والنقد…؟ من المؤكّد أنه ليس وليدَ اللحظة أنّ أنطوان كومبانيون (Antoine Compagnon)، تحدّث عن ذلك حينما قدّم درسه الافتتاحي «الأدب، من أجل ماذا؟» في المعهد الفرنسي (Collège de France)، لكنْ تمّ تزويد عام التحرير 2017-2018، بشكلٍ خاص، بكتبٍ تعالج مخاوف وصعوبات الكُتّاب في مواجهة انخفاض المبيعات، أو الخطابات الموجّهة ضدّ النصوص المتخلّفة «عاطفياً» (أي التي تدّعي «الأدب») التي تلحّ على طرح قضيّة ما هو حقيقيٌّ في الفن.

أَهي كبوة بسيطة أم تغيير عميق في النموذج الأدبي؟ كما أشرنا مسبقاً، سيكون هناك ملفٌّ للتحدّث عن هذا القلق، الذي يتشاركه العديد من الكُتاب؛ كقصة نويمي لوفيبفر(Noémi Lefebvre) شاعرية الاستخدام، وكتاب فريديريك سيريز (Frédéric Ciriez) عن النقد كتاب بيتي، ومجلدي تاريخ الأدب الحديث لأوليفيه كاديو (Olivier Cadiot) الصادرين عامي (2016 و2017)، ومقالة إصلاح العالم بقلم ألكسندر جيفين(Alexandre Gefen)  التي تأتي بمنزلة تشخيص للحالة. يُضاف إلى هذه القائمة كتابان من تأليف سيريل مارتينيز(Cyrille Martinez) ، أحدهما الشاعر الفظ وقصص أخرى الذي نُشر في كانون الأول/ديسمبر الماضي، والآخر قصة المكتبة المظلمة في الربيع. القصتان مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً كجانبين للمشكلة نفسها باطني وخارجي؛ حيث تعالج الأولى قضية الكتابة، والثانية قضية القراءة.

قصة الشاعر الفظ تبدو نظريّة أكثر قليلاً، حيث تندرج، لحسن الحظ، ضمن هذا النوع: الحكاية، التي يذكرها كريستوف هانا(Christophe Hanna)  في المقدمة؛ حيث تمتلك «الأهمية المعرفية الأساسية […] في الكشف لنا عن أشكال التفاعل الاجتماعي والتواطؤ والتشابك المؤسسي الجديد نسبياً». قصة المكتبة المظلمة، وهي حكاية خيالية ومضحكة، تتخيّل مستقبل الكتاب (غير المؤكد)، وتستحقّ تقييماً لعرضها دراسةً اجتماعية لمرتادي المكتبة، أو التاريخ المرير للمكتبة الوطنية فرانسوا ميتيران، ولرأيها حول العلاقة بالقراءة في عصر الثورة الرقمية.

في هذا العمل الأخير، يقدم مارتينيز، وهو نفسه أمين مكتبة، كتاباً شاباً في حالة غضب (هذا عنوانه) لا يجد قارئاً. إنه ليس أفضل حالاً ولا أسوأ من الكتب التي يقتنيها القراء، لكنّه ضحية لما يسمّى، منذ فترة طويلة، «التناوب السريع». هناك مقابلة مع ديلوز (Deleuze) حول هذا الموضوع بعنوان«الشفعاء»(1985) ، صدرت في مجلة نقاشات؛ حيث يشير الفيلسوف إلى أنّ «بيكيت وكافكا المستقبل لا يشبهان تماماً بيكيت وكافكا الحقيقيين، فهما يخاطران بعدم العثور على ناشر ما، دون أن يلاحظ أحد ذلك بطبيعة الحال». كتابنا الشاب الغاضب يؤمن بالشيء نفسه: من خلال الاعتقاد بأنّ الروايات الأكثر قراءة هي بالضرورة الأفضل، نخاطر بعزل «الكتب الشابة […] بعيداً عن قرائها المحتملين»؛ لأن من الخطأ القول إنّ السوق هو منافسة حرة ينتج عنها الأفضل. منطق هؤلاء المتعصبين، على العكس من ذلك، يبدو سادياً: نظراً إلى أن التجارة الحرة تدمّر السلع، وتضع بدلاً منها سلعاً أخرى في القمة، كما يبرهنون، لنساعدها من خلال طرح المزيد ممّا يباع بالفعل بكثرة، وعدم الحديث عما يقلّ بيعه. لا يوجد شيء أقل حرية من هذه الليبرالية.

يندرج الخصم الآخر للكتاب الشاب الغاضب تحت كلّ ما هو رقمي. مثل جميع زملائه في المكتبة، ترهبه فكرة الرقمية. لا يعني ذلك أنه لا يحبّ الأجهزة اللوحية، أو القارئات الرقمية، لكنه يعتقد أن «طرق القراءة تختلف وفقاً للوسائل؛ لذلك من الضروري أن تتعايش وسائل القراءة المختلفة دون أن يكون بينها منافسة». يصف مارتينيز لبطله، بروح الدعابة، رقمنةَ قُراء المكتبة أنفسهم، الذين سرعان ما سيطلق عليهم «المستخدمون» و«المقيمون»؛ في الواقع، لم يعودوا يستعيرون الكتب، بل ما يهمهم فحسب جودة اتصال الواي فاي (Wi-Fi). في الجزء الثالث من القصة، يصبح الأمر أسوأ من ذلك؛ لأنه تتم إزالة ذكر كلمة «المكتبة» من المباني «بحجة أنها قد تكون مخيفة وتمييزية»: «تعدُّ القراءة شيئاً مخزياً، وهو أمر مؤلم نود التخلص منه لمصلحة المحتوى الذي يتطلب جهداً أقل».

حول هذه النقطة، يضم سيريل مارتينيز وجهة نظره إلى تشخيص ألكسندر جيفين في اقتراح نموذج «علاجي» جديد للأدب، لكنه يختلف في تشخيص المرض: «نريد مكتبة توفر لنا إمكانية زيادة قدراتنا الفكرية وقدرتنا على الإغواء، وتعبئتنا من أجل قضايا نبيلة، والوصول إلى الثروة، والحصول على معدات حاسوبية فعالة ورخيصة». التكملة تعكس ما خلص إليه سيريز من أن علاقات فكرية جديدة ترتسم في العالم: «نحن نحلم بأننا كُتاب ومحررون ومحاورون ووسطاء ونقاد فنّ وأفضل الأصدقاء لآلاف الأفراد. نحن بحاجة إلى مكتبة تمنحنا الأدوات التي نحتاج إليها للسيطرة على حياتنا».

بطبيعة الحال، كلّ هذا صحيح وخاطئ في الوقت نفسه. من المؤكد أننا لم نعد نقرأ الكثير من الورق، ونفضل التصفّح على الشبكات الاجتماعية. لكنّ القارئ، الذي يشغل مقعداً في المكتبة، دون استعارة الكتب، ليس جديداً تماماً (أعدْ قراءة هورتنس الجميلة لجاك روبو (Jacques Roubaud. من المؤكد أن هناك طلباً على كتب التربية والخير والكتب غير المؤذية التي تواسينا، ولكن ما الجديد في هذا؟ لو كنّا متوهمين تماماً، فسيبدو أن طلب الأغلبية موجود الآن في القراءات المريحة؛ وأن «النظام الجمالي» للأدب كان جافاً جداً، ولو أُجبر المرء على قراءة كلود سيمون(Claude Simon) من خلال المازوخية البحتة، بينما سيفضل المرء في الواقع غي دي كار (Guy des Cars. هناك العديد من علماء الموسيقا، الذين يبرهنون أنه لا يمكنك توقع أيّ شيء لدى شوينبيرغ (Schoenberg)، ومن ثَمَّ لا متعة في ذلك. باستثناء، كما يقول فرويد (Freud)، أنه حتى أسوأ العصابيين يجب أن يجد ضالته في معاناته، وإلا فسيتوقف (نسخة ليوتاردLyotard : المتعة الحديثة هي متعة تضرّ قليلاً). لطالما قرأنا أو استمعنا إلى الموسيقا بغرض المتعة أو العزاء، لطالما كان هناك استخدام علاجي للفن: لكنه اعتُبِر متداولاً فقط بقدر ما كان منبثقاً عن تطويرٍ ما. ربما ما يكون جديداً هو أن وسائل الإعلام والجامعة خفضت مجموعة «الكتب التي حققت نجاحاً كبيراً»، كما يقول مارتينيز، كممثلين لما بعد التاريخ الأدبي، فهي تضفي الشرعية على المتعة، التي تم الحصول عليها دون إثبات واضح للذات. لكن يوماً ما سيقع «الكتاب الشاب الغاضب» في يد قارئ جديد، وينتزعه من «الوقت المثمر» الذي يُدان به، ويعيد إليه طعم «القراءة السعيدة» والاشمئزاز من «الكتاب الذي يفعل الخير».

ورغم ذلك، يجب الاعتراف بأن هذه المتعة، التي تمّ الحصول عليها دون إثبات، وغسيل الدماغ هذا في أفق البشرية، يبدو أنهما يتجلّيان في الحكاية الخرافية. في قصة الشاعر الفظ، يكشف مارتينيز، في النهاية، هذا الخيال المأساوي والكارثي، لكن، سابقاً، في «شاعر شاب من مرسيليا» و«مؤدي»،يروي التدمير البشري لاقتصاد الكتاب من خلال سلسلة من الحكايات المروعة. يتعلق الأمر هنا بالشعر، لكن يمكننا استبداله بالأدب «الصعب» أو «المتطلب» أو «الهش» أو «غير المربح». نظراً إلى عدم وجود المزيد من القُراء الذين يُقرّون بأنّ القراءة من دون أيّ جمهور (توجب على المستمعة الوحيدة، في مهرجان الشعراء، مغادرة الغرفة بسبب تسرب في المبنى)، والناس الذين يطلبون منك النصوص دون الدفع لك، والآخرين الذين ينشرون أعمالك، لكنّهم يطلبون منك شراء المجلة التي تظهر فيها… «إنها قاعدة يجب الاعتراف بها لكي نفهم الشعر المعاصر: معظم قراء الشعر هم أنفسهم شعراء، وهناك شيء آخر يجب معرفته هو أن الشعراء غالباً ما يكونون ناشرين ومراجعي كتابة ومبرمجين»؛ لذلك نصادففي هذه الحلقة المغلقة شعراء في أحسن الأحوال يجهلون بعضهم البعض، ويسرقون أفكار بعضهم البعض بشكل عام، ويقتلون بعضهم البعض في أسوأ الأحوال، ولكنْ نصادف، أيضاً، الشخص الذي يأتي للترويج لنفسه في جنازة زميل له، والشخص الذي لا يقسم إلا «بالشعر التجريبي»، والشخص الذي يمتلك «إحساساً قوياً بالفشل»، وبشكل عام أولئك الذين قرروا التوقف عن الكتابة. هنا، مرة أخرى، يميل المرء إلى الاعتقاد بأن لا شيء جديداً تحت الشمس منذ قصيدة «الساعة الواحدة صباحاً» لبودلير .(Baudelair)

يصف مارتينيز المسار المثالي لأحد هؤلاء الشعراء الذين تخلّوا عن القضية. «لقد كانت تُخصّص مبالغ الحد الأدنى للدخل من أجل القراءات الشعرية، التي كانت تتقاضى أجرها بشكل جيّد ومنتظم. وعلى الرغم من أنّه كان من الصعب الحصول على القليل من المال في مدينة مثل باريس، كانت واحدةً من أفضل المدن أجراً بالنسبة إلى الشعراء». ورغم ذلك، لا تزال الشابة قلقة، معتقدةً أنه يتمّ نشر أعمالها من منطلق الالتزام الاجتماعي فحسب وليس لأهميتها. تتمثّل الحكاية، كما يقول هانا، في أنها دائماً مسألة «مواقف مؤسسية». في الواقع، ليس عليها أن تعتمد على المبيعات: لا يوجد في الشعر مفهوم الأكثر مبيعاً. يحاول الراوي إقناعها فيخبرها أنها حتى لو تم اختيارها بالتزكية تُعدُّ، على الأقل، جديرةً بالاهتمام. في أحد الأيام، غادرت باريس واختفت. يكتب إليها، ويسأل عن أخبارها: «بعد ثلاثة أيام أرسلت إجابتها: لقد أوقفتُ كلَّ نشاطٍ فنيٍّ، وفي الوقت نفسه وضعتُ حداً لشبكة العلاقات المرتبطة به… أتمنى لك ولعائلتك حياة سعيدة».

إنّ هذا الغياب الصريح والمثبط للقُرّاء هو، بالأحرى، تغيُّرٌ في مجموع القُرّاء. إننا، بطبيعة الحال، نبيع عدداً أقلّ وأقلّ من الصحف والكتب (وحتى عدداً أقلّ من كتب الشعر)، لكنّنا، ربما، لم نقرأ أبداً ما يكفي من التغريدات والمنشورات والقصص على الشبكات الاجتماعية. والأفضل من ذلك، ربما، أننا لم نكتب كثيراً ونشكّل صوراً من دون أي تصريح؛ أي كلّ حالة للمؤلف، كما هو الحال في العصر الرقمي. ربما لن يُحلَّ أيُّ تفاوت بهذه الطريقة ولن تتحسّن الديمقراطية، لكن لا يمكنك القول إن الكتابة أو القراءة قد ماتت. عندما يقول مارتينيز: «نحن نحلم بالكُتاب والمحررين والمحاورين والوسطاء ونقاد الفن» هذا صحيح. لا، بل نحن هذا كله. والنتيجة الطبيعية هي أننا لم نعد نهدف إلى العالمية، ولا إلى الأشمل، بل نهدف فحسب إلى نكون «أفضل أصدقاء لآلاف الأفراد»؛ أي أصدقاء لمجتمع متابعينا. يمكننا أن نستنتج أنّ ألكسندر جيفين كان مخطئاً عندما رسم نموذجاً «علاجياً» لما هو في الواقع «ركن مناسب» أضخم بالتأكيد من عشاق شوينبرغ، لكنّه لا يزال ركناً مناسباً لما يسمّيه مارتينيز «التنوع البيولوجي» لممارسات القراءة.

يمكننا القول مرة أخرى: إنّ الشاعرة، التي لم تعد تريد الكتابة، مخطئة؛ لأنّها لا تعرف شيئاً عن المتابعين الذين يمكن أن تمتلك، والجمهور الذي يمكنه التجمّع والالتفاف مؤقتاً حول نصوصها (عوضاً عن عملها). الكتاب الشاب الغاضب مخطئ في الاعتقاد بأنّ المكتبة سوداء، وسيريل مارتينيز محقّ في اقتباس الشاعر الفظ مثالاً هؤلاء الشعراء السعداء، الذين يعيشون في ما بينهم في إحدى القرى: «لقد تجاهلوا المراجعات النقدية القادمة من الصحافة الوطنية. لم يهتموا بأرقام المبيعات. كل ما كانوا يهتمون به هو قراءتهم من قبل العائلة والأصدقاء والجيران والأصدقاء والزملاء، وأيّ شيء آخر كان دون معنى. لم يأبهوا بالاعتراف الرمزي أو المالي. لم يفكروا في الأمر حتى. تختتم المرأة، أمام خمسة كتاب باريسيين، بحثاً عن النجاح والمجد: تخيلوا أنّهم كانوا سعداء جداً بهذا». فلتعلموا أنّ هؤلاء الكُتّاب يمكن أن يكونوا المستقبل؛ لأن «القراءة السعيدة» التالية، الرقمية أو المطبوعة، لن تكون مجرد «روائع أدبية»، بل ستكون ممارسة محلية ومحدّدة، أو لن تكون كذلك أبداً.

«ضحك النساء»… تفكيك سلطة الذكر واستعادة المهمّش الأنثوي حضوره المُقصى

ثق بي إذا قلت لك إن هناك الكثير من الأشياء التي يمكن أن تكون رأيتها أو سمعتها أو قرأت عنها، لكن الكتاب الذي يستولي على شغفك ويمسك بك ويأسرك هو ما يقدّم لك ما رأيت وما سمعت وما قرأت عنه كما لم ترَ ولم تسمع ولم تقرأ… هذا هو كتاب «ضحك النساء»، الذي تقرأه وفي الخلفية موسيقا كلِّ الدراسات المضادة المتمرّدة التي رفعت شعار تفكيك السائد والمهيمن والسلطوي واستعادة المُقصَى والمهمَّش… فالنصوص المهيمنة والسائدة والسلطوية، على كل حال، تحمل في كلماتها بذور تفكيكها، فإذا كان إدوارد سعيد قد استطاع أن يهز أركان عرش الاستشراق، وأن يسقط تماثيل معبوداته المرمّمة، وأن يعري ثقافة الغرب الإمبريالية الروائية والسينمائية والموسيقية، وإذا استطاع ميشيل فوكو أن يسقط سلطة صناعة السجون ومستشفيات الأمراض العقلية الخفية، وإذ استطاع جاك دريدا أن يسقط المركز الذي لا يكون مركزاً بلا هوامش، نقرأ سابين مليكيور بونيه وهي تسقط عرش الذكر من خلال سرد قصة صراع النساء المهمَّشات والمقصيّات في استعادة سلطتهنّ على الضحك؛ ضحك النساء، في عرض تاريخي شيّق وغزير ومتخم بأناقة البحث والعرض والتحليل والنقد… إنه كما يقول الفيلسوف آلان: «انتقام جميلٌ من الاحترام الذي لم يكن مستحقاً».

تاريخياً وكعادته لم يطلب النصّ الذكوري تغطية جسد المرأة فحسب، بل أراد تغطية عقلها، فبعناوين مثل اللباقة، وقواعد المحادثة الجدية والمحترمة، والأخلاق، أراد النص الذكوري للمرأة أن تكون قلباً نقياً وجسداً صامتاً، بعيداً عن الإغواء الذي يفجره الضحك بقوته الجنسية التدميرية، فللمرأة فموان فمها الذي تتحدث به وتضحك وفم رحمها، وقد اجتهد الرجال تاريخياً كثيراً ليؤكدوا أن الفم الأول يستحضر الفم الثاني، وأن اهتزاز الأول بالضحك يؤدي إلى اهتزاز الثاني.

منذ أرسطو وأريستوفانس وكلاسيكيات الأدب والأسطورة، إلى النصوص المقدسة، إلى فرجينيا وولف، وكوليت، ومارجريت دوراس، وناتالي ساروت، إلى عروض النساء الكوميدية اليوم، خاضت المرأة رحلة طويلة لاستعادة سلطتها على حريتها، وضحكها، وجسدها، لتكون امرأة ضاحكة ومضحكة، جميلة وربما شريرة، لا مبالية وربما سخيفة، لكنها ملكة منتقمة من كلّ ما حرمها حريتها باسم الاحترام الذي يسمح لها بأن تبتسم فحسب بدافع الرقة والتسلية، أو تبتسم، كما وُصفت ابتسامة الموناليزا الغامضة والمغلقة، ابتسامةً تكون «أفضل تعبير عن الانسجام الداخلي».

تقدم الباحثة والمؤرخة في الكوليج دو فرانس سابين ملكيور بونيه لنا قصة رحلة النساء هذه في استعادة ذواتهن وحريتهن بعد تاريخ طويل من الإقصاء والتهميش، واستعادة قدرتهن على الضحك وقدرتهن على إضحاك الناس، ورفض احتواء لغة أجسادهنّ باسم الجمال الأنثوي ونعومته تارةً وباسم الأدب والاحتشام تارة أخرى، لكن إذا كانت هذه الدراسة تطلق اليوم صوت المهمَّش والمقصَى، فإنها تؤكد أيضاً أن النساء على مر التاريخ لم يرضخنَ يوماً لتلك الكراسات الإكراهية، فقد كنّ يضحكن رغم كل شيء في الأرياف والمدن، في الأحياء الفقيرة والراقية، لكن متوارياتٍ عن أنظار الذكور، في الحمامات، وفي مخادعهن، وفي الأسواق، وفي الصالونات الأرستقراطية، وأحياناً في البلاط، متجاوزات قوانين الطبقية، حيث في المجتمع الراقي النبيلاتُ يتواطأن في الضحك مع الخادمات، حتى إنهن كسرن في ما بعد جدران الجليد بما يتمتعنَ به من محادثات مرحة وممتعة مع الرجال المتسللين إلى جلساتهنّ، لينتقل من ثَمَّ الضحكُ إلى كتاباتهنّ الممتلئة بالسخرية والاستهزاء من سلطة الذكر متحرراتٍ من صنميّة المرأة المشتهاة، كما نقرأ روايات كريستين دو بيزان ومارغريت دي نافار، ثمّ يظهرن في الكوميديات الساخرة الإيطالية والفرنسية يضحكن ويسخرن من الرجال والزواج، إلى أن يعلنّ ثورتهنَ فيصعدن مع بدايات القرن العشرين المسارح يرقصنَ في قاعات الموسيقا بفساتينهن القصيرة المضحكة.

هذا السرد التاريخي لقصة ضحك النساء لم يكتفِ برصد الحوارية الجدلية بين الذكر والأنثى، بل امتد ليرصد الأحداث الكبرى التي أثرت في الضحك صعوداً وانحداراً، حركةً وجموداً، فالثورة الفرنسية، بعد عقودٍ ازدهر فيها الضحك في المسارح والملاهي وحفلات المقاهي، أدت إلى جموده وانحداره، حيث ساد العمل الجاد كما سادت البرجوازية ومن ثم أحاديث السياسة والأعمال، فاختفت البهجة مع اعتزال الرجال وعزل النساء عن الجلسات المختلطة.

وكما كشف إدوارد سعيد تورط روايات جين أوستن وجوزيف كونراد كولونيالياً في «الثقافة والإمبريالية» تكشف هنا سابين تورط روايات بلزاك وزولا  في إقصاء النساء وتهميشهن، ولا سيما أولئك الجريئات اللواتي يرغبن في إظهار براعتهنّ، لكن النساء حتى لو أظهرنَ أنهن امتثلنَ لما هو متوقّع منهنَّ، كنّ دوماً نساء لا ينخدعنَ؛ إنهنَّ يعرفنَ جيداً عيوب الرجال، كما يلمسنَ بحدسهنّ الأنثوي الادعاءات الكاذبة، والفجوة بين استيهام الخطاب و صدق الواقع.

لقد نجحت النساء، في النهاية، في تحدي قدرتهنّ على الضحك وإضحاك الناس، ونزع وصمة العار عن ضحكهنّ، وفي تحدي احتكاره من قبل الرجال بوصفه ترفيهاً لهم وعزاءً لحزنهم، بل إن إحدى نقاط القوة العظيمة لضحك النساء هي أنهن تَمكنَّ من تجسيد الاستهزاء الذاتي. لقد سخرنَ من أنفسهنَّ، معترفاتٍ بعيوبهنَّ، كانتظار الأمير الفاتن على حصانه الأبيض، والسعي وراء السعادة بأيّ ثمن، ومكانة الأمّهات ضمن العائلة، وعمل النساء… إن ضحك النساء حقيقةً يؤكّد شفافيتهن أمام جدية الرجل الفارغة وغموضه وانخداعه وتعلّقه بالأوهام؛ إنّه الضحك الذي، كما تقول فرجينيا وولف، «يظهر الكائنات كما هي، خالعةً رداء الثروة والمكانة الاجتماعية والتعليم»؛ إنه الضحك الذي ينقذ الحياة، الضحك الذي يجب أن نظفر به، الضحك الذي يستمدّ جذوره من الطفولة ببراءتها ونقائها؛ إنه ضحك النساء الذي يقدم العالم بشكل هزلي من وجهة نظرهنّ.

أختم بقول ميلان كونديرا الذي اختتمت به سابين كتابها: «ليست أفضل القصص الساخرة تلك التي تجعلك تضحك أكثر، بل تلك التي تكشف آفاقاً جديدة». قد لا يجعلنا هذا الكتاب نضحك كثيراً لكنه لا شك يكشف لنا آفاقاً جديدة.

دوناتيين شخصية معقدة بمشاعر إنسانية

دوناتيين هي قصة عروس وأمّ شابة بريتانية ذهبت إلى المدينة للعمل مربيةً بغية مساعدة زوجها وأطفالها مالياً؛ منغمسة في دوّامة محادثات الخادمات الأخريات، بسبب عدم أخلاقيتهنّ، وتائهة بسبب الترف والمال المُكتسب بسهولة، تنسى ذويها، وتصبح عشيقةً لخادم مستهتر. غادر زوجها بؤسَ مزرعته، وهو تائهٌ على الطرقات مع أطفاله الثلاثة، وينتهي به الأمر بالفشل في منطقة الأوفيرن؛ حيث صار عاملاً في مقلع…

 دوناتيين هي شخصية معقدة، تحمل مشاعر إنسانية للغاية، ولها نقاط ضعفها وشجاعتها. مرت هذه الشخصية بدورة حياة متقلّبة: الرغبة في الفرار من تقوقع الريف وبؤسه، والانبهار بالمدينة وترفها، ونسيان وازدراء أصلها وقيمها، والفشل، والتعاسة، والندم، والوحدة، والتشكيك، ثمّ القرار، وأخيراً لمّ شمل عائلتها وثقافتها.

يمثل غطاء الرأس المميّز لمنطقة البريتاني رمزاً لانتمائها الثقافي، تخلعه أمام سخرية الرفاق لدى وصولها إلى باريس، وتعيده عندما تلتقي ذويها. تحاول هذه الرواية، على الرغم من أخلاقيّتها، أن تصف، مثل الروايات الخاصة بالكُتّاب الطبيعيين، الحالةَ الاجتماعية للخادمات، وأماكن سكنهنّ، ومكاتب التوظيف، لكنها تتناول، أيضاً، أعماق دوناتيين ونفسيتها، ولا سيما تعقيدات سعيها.

يتمثل السقوط والخلاص في شخصية واحدة كشخصيات مادلين وماري، ويمنحها ثراءً يبعدها عن الصورة الكاريكاتورية.

رينيه بازان هو روائي وأكاديمي فرنسي وُلد في 26 كانون الأول/ديسمبر 1853 في أنجيه. توفي في 19 تموز/يوليو 1932 في باريس.

بعد الدراسة في باريس وأنجيه، أصبح رينيه فرانسوا نيكولا ماري بازين أستاذاً للقانون في جامعة أنجيه الكاثوليكية. عرف، طوال حياته، كيف يبقى قريباً من سكان الريف ونشاطاتهم. تصوّر أعماله المبكرة حياة الفلاحين من وجهة نظر مثالية للغاية. فتحت له رحلاته إلى إسبانيا وإيطاليا، التي بدأت في عام 1893، آفاقاً جديدة، واكتسب إحساساً بعالمية موضوعات الفلاحين، التي أعطت المزيد من القوة لرواياته اللاحقة. تعالج رواية الأرض التي تموت (1899)، بشكل مؤثر، موضوع التخلي عن الأرض والهجرة، من خلال عائلة يهرب شبابها الواحد تلو الآخر من بؤس موطنهم الأم لافندي، بحثاً عن فرص أخرى في المدينة، أو حتى في أمريكا. تعالج رواية عائلة أوبرلي (1901) قضية ضم الألزاس واللورين من قبل ألمانيا، من خلال رسم صراعات الولاء التي تقسم هذه العائلة. حقّق الكتاب نجاحاً كبيراً، وبفضله استحقّ رينيه بازين دخول الأكاديمية الفرنسية في عام 1903. تروي دوناتيين (1903) ترحال زوجين شابين من منطقة البريتاني. بغية إعالة عائلتها، تذهب الأم الشابة، دوناتيين، للعمل في المدينة، وتقع في فجور حياة المدينة. بعد أن فقد مزرعته، يتحول الزوج إلى حياة بائسة لعامل متجول، ينتقل من مزرعة إلى مزرعة يجرّ أطفاله خلفه. بعد سنوات، تلتقي دوناتيين، الملطّخة، بعائلتها، وتتولى زمام الأمور، وكأن شيئاً لم يحدث، وتتابع حياتها بوصفها زوجة مزارع. يصف في روايته القمح ينمو (1907) فساد قاطعي الأشجار تحت تأثير النقابات العمالية.

وهكذا يصور رينيه بازين، في رواياته، الحياة الريفية في أعماق فرنسا، ويعبر، بلغة بسيطة، لكن أنيقة، عن حبه للطبيعة والقيم الأصيلة، مثل: العمل، ولاسيما العمل في الأرض. على الرغم من أنّ أعماله قد أصبحت الآن في طيّ النسيان، إلا أنه لا يزال أحد أبرز الكُتاب الممثلين لعصره، في الحركة الروحية للمؤلفين الكاثوليك، بمن فيهم موريس باريه، وجورج برنانوس، وفرانسوا مورياك.

«نسوية للجميع»… عندما تلامِسكم وتغيّر حياتَكم سترون أنّ النسوية للجميع

النسوية… هذا هو الموضعُ الذي تتوقف عندهُ الأسئلة، ويسود الصمت، ثم تبدأ الهمسات هنا وهناك: النسويات «سيئات»… كيف «يكرهن» الرجال؟ كيف يتعارضنَ مع الطبيعة والله؟ كلهنَّ «سحاقيَّات»… إنهنَّ يحظينَ بجميع الوظائف، ويجعلن من العالم صعباً على الرجال.

تحت ضغط هذا الصمت وهذا الفهم، تقدّم بيل هوكس في هذا الكتاب صوتاً عاطفياً آخر يتحدّث نيابة عن السياسة النسوية، معلنةً منذ البداية أنّ تقصير النسوية في التعريف بنفسها هو مقتلها؛ لذلك تطلق هنا صرخةً تريد لها أن تقتحم اللوحات الإعلانية؛ والإعلانات في المجلات، والإعلانات على الحافلات ومترو الأنفاق والقطارات؛ والإعلانات التلفزيونية؛ صرخةً تسمح للعالم بمعرفة المزيد عن الحركةِ النسوية. إنّها ترى الوعدَ والأمل متجسِّدينِ في الحركة النسوية. وهذان هما الوعد والأمل اللذين تريد أن تشاركهما مع قرائها ومع الجميع في هذا الكتاب؛ الوعد والأمل في عالم مجرَّدٍ من كلِّ هيمنةٍ؛ حيث الرُّؤية التَّشاركيَّة هي الروح التي تشكّل تفاعلنا.

لكنّ هذه النِّسويَّةُ أين تقفُ اليوم؛ إذ تفقدُ السِّياسات النِّسويَّةُ زخمها؛ لأنَّ الحركة النِّسويَّة فقدت التَّعريفات الواضحة. قد يكون لدينا تعريفات لكنّ علينا «تعديلها وتشريحها والبداية من جديد؛ فليكن لدينا قمصانٌ وملصقاتٌ ضخمةٌ، وبطاقات بريديَّةٌ، وموسيقا هيب هوب، وقنوات وإذاعات تجاريَّةٌ، وإعلاناتٌ في كلِّ مكانٍ، ولوحاتٌ إعلانيَّة… تعرِّفُ العالمَ على النِّسويَّةِ. يمكننا مشاركة رسالة بسيطة وقوية: إنَّ النسوية هي حركة تهدفُ إلى إنهاء الاضطهاد على أساس الجنس. لنبدأ من هناك. دع الحركة تولدُ من جديد».

لكن التَّوعية بالنسوية لا يجب أن تقف جامدة عند حدود المصطلحات، بل تحتاج إلى تغيير مستمرٍّ للقلب، ففي البداية على التوعية النِّسويَّة الثَّورية أن تشدّد على أهميّة قراءة النِّظام الأبوي بوصفهِ نظامَ هيمنةٍ، على أن ندرك أنّ الرجل، الذي تجرد من امتياز الذكر واعتنق السياسة النسوية، هو رفيق نضال لا يشكّل تهديداً للنسوية، في حين أنّ الأنثى، التي لا تزال متمسكة بالتفكير الجنسي، والسلوك المتسلل إلى الحركة النسوية، تشكل تهديداً خطيراً، لكن، بشكل عام، على النساء ألا ينسين قيمة الأختيَّةِ وقوَّتها؛ إذ «يجب أن ترفع الحركة النسوية المتجددة اللافتة عالياً مرَّةً أخرى لتعلن من جديد «الأختيَّة قوية»».

ثم تنطلق الكاتبة لتقدم عرضاً بأهم وأخطر الإشكاليات التي تشكل تحدياً للنسوية اليوم، ولنا أن نجرؤ على القول إنها باتت اليوم تهدد وجود النسوية، وأولى هذه الإشكاليات التعليم النسويٌّ القائم على الوعيٍ النقدي، فأحد أقوى وأنجح التدخلات للنسوية المعاصرة التَّأسيسُ لأَدبٍ نِسوِيٍّ كان يطالب دوماً باستعادة تاريخ المرأة، لكننا «إذا لم نعمل على إنشاء حركة جماهيرية تقدّم تعليماً نسوياً للجميع، إناثاً وذكوراً، فستتقوض دائماً النظرية والممارسة النسوية بسبب المعلومات السلبية المنتجة في معظم وسائل الإعلام السائدة. المعرفة النسوية للجميع».

الإشكالية الثانية جسد المرأة وذاتها، اللذين يتجسدان في حقوقها الإنجابيَّة، فالحاجة إلى المناقشة المستمرة لمجموعة واسعة من القضايا التي تندرج تحت عنوان الحقوق الإنجابية والتركيز عليها أمر ضروري لحماية حرية النساء والحفاظ عليها.

ولأن الجمال يقترن بالمرأة فليس لأيّ تجديد أو تغيير نِسويٍّ أن يتجاهل مفهومي الجمال الداخليّ والجمال المجرَّد للأنثى، فالتفكير الجنسي حول جسد الأنثى أحد أقوى التدخلات التي قامت بها الحركة النسوية المعاصرة. وأخطر ما يواجه هذه الثيمة النسوية مواصلة السماح للحساسيات الأبوية بالتَّحكُّم في صناعة التجميل في جميع المجالات؛ «إنّ رفض النسوية الصارم لتوق النساء إلى الجمال قد قوض السياسة النسوية. حتى تعود النسويات إلى صناعة التجميل، وتعود إلى الموضة، وتخلق ثورة مستمرة ومستديمة، لن نكون متحرِّرات. لن نعرف كيف نحب أجسادنا كما نحن».

وأحد أقوى تحديات النسوية الصِّراع الطَّبقي النِّسوي داخل النسوية، فالمواجهة تفرض حضورها بقوّة هنا مع النساء، اللواتي يتمتعنَ بسلطة طبقية، إذ يستخدمنَ، بشكلٍ انتهازيّ، برنامجاً نسوياً فيما يحافظن على نظام أبويّ سيعيد إخضاعهنّ في النهاية، فهؤلاء لا يخُنَّ النسوية فحسب؛ بل يخُنَّ أنفسهنَّ.

وبعيداً عن المحلية، وتحت شعار عالميّة النسوية، لا يجب أن نتجاهل قضايا المرأة العالمية مثل: الختان القسري للإناث، ونوادي الجنس في تايلاند، وحجاب النساء في أفريقيا والهند والشرق الأوسط وأوروبا، وقتل الفتيات الصغيرات في الصين، فهذه يجب أن تبقى من الشواغل المهمة؛ لكنّ معالجة هذه القضايا لا تتم إلا بطريقة لا تعيد ترسيخ الإمبريالية الغربية.

أما النِّساء في فضاء العمل، فالاكتفاء الذاتي الاقتصادي للمرأة لا يجب أن يكون هدفها الأساسي. لكن معالجة المحنة الاقتصادية للمرأة قد تكون أيضاً، في نهاية المطاف، المنصة النسوية.

من الطبقية والعمل تنتقل الكاتبة إلى العنصرية، وهذه ليست إشكالية مستجدّة في الفضاء النسوي، فقد مهّدت الحركة النسوية، ولاسيما الناشطات السود اللاتي يحملنَ رؤية، الطريقَ لإعادة النظر في العرق والعنصرية،  لكن يبقى العنفالهاجس الأكبر للمجتمع ككلّ رجالاً ونساء،فالكل يشعر بالقلق إزاء العنف، لكنّ جزءاً من هذا الكل يرفض ربط هذا العنف بالتفكير الأبوي أو الهيمنة الذكورية، وهنا على التفكير النسوي أيضاً أن يجد حلاً.

ربما أكثر المفاهيم، التي تطرحها النسوية وتثبت أنّ النسوية للجميع وليس للنساء فقط، مفهوم الذُّكوريَّة النِّسويَّة، لأن هذا المفهوم يعلمنا كيف نحبّ العدالة والحرية بطرق تعزّز الحياة وتؤكدها. تشكل الذكورية النسوية استراتيجية جديدة من أقوى وأكثر استراتيجيات التفكير النسوي أهمية وحيوية، لكن في التوازي مع هذا المفهوم المركزي  يأتي مفهوم الأبويَّة النِّسويَّة؛ «إن إنهاء الهيمنة الأبوية على الأطفال، من قبل الرجال أو النساء، هو الطريقة الوحيدة لجعل الأسرة مكاناً يمكن أن يكون فيه الأطفال آمنين؛ حيث يمكنهم أن يكونوا أحراراً؛ وحيث يمكنهم معرفة الحب».

لكن قبل ذلك علينا تحرير الزَّواج والأبويَّة، فهيمنة الذكور الأبوية في الزواج والشراكات هي القوة الأساسية، التي تسببت في حالات الانفصال والطلاق في مجتمعنا. فيما تظهر جميع الدراسات الحديثة للزيجات الناجحة أن المساواة بين الجنسين تخلق سياقاً يُرجّح فيه تأكيد كل فرد من الزوجين.

مع ما يترتّب على هذا التحرّر من مخاطر قد يكون أهمها الفهم الخاطئ للسِّياسة الجنسيَّة النِّسويَّة… فإذا كانت السياسة الجنسية النسوية التحررية تؤكد دائماً أن الوكالة الجنسية الأنثوية نقطةً مركزيَّةً، فلا يمكن لهذه الوكالة أن تظهر إلى الوجود عندما تعتقد الإناث أنّ أجسادهن الجنسية يجب أن تقف دائماً في خدمة شيء آخر.

وهنا ننطلق إلى قلب النِّسويَّة، إلى حيث أمانها واستقرارها، إلى الحب الحقيقي، الحب الذي يجمع بين الاعتراف والرعاية والمسؤولية والالتزام والمعرفة، فمع هذا الإدراك يأتي فهم أن الحب لديه القدرة على تغييرنا، ما يمنحنا القوة لمعارضة الهيمنة. «اختيار السياسة النسوية، إذاً، هو اختيار للحب».

تقدم الكاتبة بيل هوكس، في النهاية، رؤية النسوية، مؤكدة الحاجة إلى القيام بجهد جماعي لنشر رسالة النسوية؛ لكي تبدأ الحركة من جديد، بالفرضيّة الأساسية التي مفادها أن «السياسة النسوية هي بالضرورة راديكالية. ولمّا كان ما هو راديكالي غالباً ما يتمّ دفعه تحت الأرض في محيطنا، يجب علينا أن نفعل كل ما في وسعنا لإحضار النسوية فوق الأرض لنشر الكلمة».

آدم ينحت وجه العالم : قصة احتفاءٍ بالنّقاء وبالنّساء… وهزِّ الثوابت الأيقونيّة

مستعيراً إزميل النحات ومطرقته، في استعارة تخييلية من الفنّ التشكيلي كما هو ظاهر في العتبة النصية الأولى للرواية، ينتفض آدم من فراشه، وقد كان ألقى نفسه في قلب وسادته مثقلاً بضياع الأحلام (ضياع الشباب)، ويسير في قلب مدينته الكويت في قلقٍ متوترٍ بحداثتها وتشكيليّتها، لكنّها تمنحه للحظة التفكيرَ في تشكيليّته هو؛ أعني نحته هو… فيقرر المضيّ في رحلة الخروج من كونه منحوتاً إلى الصراع في أقوى تجلّياته، وخوض تجربة كونه ناحتاً؛ أعني تلك الرغبة في التغيير، وأيّ رحلة تلك التي خاضها في مختبره الداخلي، وفي مختبر الحياة الخارجي؟ حيث نجده يسير ببطء إلى لحظات اختناقه الأخير بالعالم، لكنه محمَّلٌ دوماً بتشكيليته ووجوده، وبنقاء أمه، ممثلةً النقاء عموماً، ونقاء النساء خصوصاً، بل هي أيقونة النقاء الذي سيكتشف لاحقاً أنه السر الذي كان يبحث عنه، والحلّ في الوقت نفسه لكلّ القضايا الإشكالية على تشعّباتها وتعقيداتها والأرشيف البشري الهائل الذي أسال الكثير من الحبر لتحليلها.

جغرافية الرواية تتجاوز الحدود كما أنّ زمنيتها عابرة للعصور، فمن الكويت إلى فرنسا إلى القاهرة، ومن الكويت الآن إلى الكويت قبل ثلاثة أجيال، إلى عمق الصحراء، ومن فرنسا الحرب العالمية الثانية إلى فرنسا الآن، من الحداثة الآن إلى البداوة ثم إلى الحداثة، هذا الحراك القلق للمكان والعبور المتوتر للزمان لا يكتملان إلا بالقلق الوجداني الذي يتوسل الإجابة عن الأسئلة الكبرى: لماذا الحرب؟ لماذا الظلم والقهر؟ لماذا هذه الفجوة بين من اقتربوا في عيشهم إلى السماء ومن في القاع؟ ولماذا الأقنعة الباهتة التي تغرقنا في الأكاذيب تحت وهم السيطرة؟… في الحرب المتحاربان إنسانان يملكان مشاعر الحب نفسها، ومشاعر الفقد نفسها، بل المشاعر الإنسانية نفسها، فبأيّ وجهٍ تحضر الكراهية هنا وهناك والآن وفي ما مضى؟ والرجل والمرأة يملكان المشاعر الإنسانية ذاتها، فبأيّ وجه يحضر تفوّق أحدهما على الآخر في حواريتهما الحياتية هنا وهناك والآن وفي ما مضى… أما النخبة والقاعدة في المجتمعات الإنسانية فعلى هذه الأرض ما يكفي لأن يرضي حاجات كليهما، فبأيّ وجه تُغرِقُ قوة النخبة مَن هم في القاع هنا وهناك والآن وفي ما مضى… فيما الأقنعة تحاصر براءتنا وصدقنا وشفافيتنا ومن ثم إنسانيتنا.

إنه النقاء نتعلّمه من فرنسا الأم، كما نتعلّمه من ضحى المحبّة بلا حدود، ومن ذلك الكفيف في خان الخليلي الذي يقرأ النص الديني نقياً من دون وصايات أو فرض تفسيرات هي لا تعدو أن تكون مجرد رأي يستحيل لاحقاً إلى شعارات فارغة، وثوابت أيقونية يشعر آدم بأنه معنيّ بهزّها وإعادة نحتها، كما هو معنيٌّ بإعادة نحت ذاته من جديد والخروج من جينيته…               

إنها رحلة تحفر في عمق الوجع الإنساني، في قاع الجغرافيا الإنسانية، في رقصة القلق الإنساني، رحلة مع آدم الممتلئ بالكتابة حدّ الانفجار، آدم الذي يمتدّ نسبه من الكويت في شبه الجزيرة العربية إلى ستراسبورغ جنوبي فرنسا، فيجمع بين ضفّتين هما الفالق بين عالمين الغرب والشرق… من عمق البادية ومن عمق مآسي الحرب العالمية الثانية تمَّ نحته، ومن ثم بدأت أسئلته تبحث في وجعِ المرأة، وتكوّنِ الذات جينياً ومعرفياً، ومتاهات العالم وأقنعته الخالية من أية ملامح، مع ما قد يترتّب على هذه الأسئلة من محاكمات قيميّة، ومع ما يترتب عليها من إعادة موضعة وتصحيح اللوحات الإرشادية التي تقودنا إلى الخلاص.

لقد كنّا ما اختاروه لنا، وآن الأوان لأن نكون ما نختاره نحن، لقد نحتونا، وعلينا الآن أن نعيد نحت أنفسنا… فكرة جوهرية تعيد الضوء إلى حقيقتنا.

هي دعوة توجهها إلينا الرواية، مع آخر لحظاتِ الصيّفِ الساخنة، إلى القراءة، وإلى أن نعيش لحظات شخصيّاتها آدم وضحى وفرنسا في ضحكاتهم وآلامهم وحواراتهم وسقطاتهم وقيامهم، ومن ثم مشاركة بطلها الرحلةَ من لهيب الصحراء إلى جليد أوربا إلى القاهرة بإرثها العريق والقاع فيها، من الحاضر إلى الماضي ثم إلى المستقبل، لنخرج من تماثيلنا التي نُحتِت لنا إلى أن ننحت أنفسنا من جديد، لنكون أحياء بعد المغادرة.  

 

أغنس غري رواية لا أقل من عبقرية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أغنس غْري: رواية لا أقلّ من عبقرية

 

شهر كانون الأول/ ديسمبر هو الوقت الذي يشتري فيه الناس الديك الرومي، ويلفّون الهدايا، ويعلّقون على الأبواب نبات الهدال، لكنّ هناك سبباً آخر للاحتفال في هذا الشهر؛ فهو يصادف الذكرى السنوية لنشر اثنين من أعظم ما كُتب من الكتب طراً.

نُشر معاً كتاب مرتفعات ويذرينغ (Wuthering Heights) بقلم إميلي برونتي، وكتاب أغنس غْري (Agnes Grey بقلم آن برونتي، من قبل الناشر نفسه توماس كوتلي نيوبي، في كانون الأول/ ديسمبر 1847. وقد شكّلت الكُتب مجموعةً من ثلاثة مجلدات؛ اثنين منها لكتاب مرتفعات ويذرينغ، ومجلد واحد لكتاب أغنس غْري. كان هذا الشكل معروفاً باسم ثلاثية، وقد شاع، بشكل خاص، في منتصف القرن التاسع عشر، وخاصة بين الناشرين، الذين يتقاضون رسوماً ثلاثة أضعاف من المكتبات المنتشرة، التي كانت ضمن عملائهم الرئيسيين.

وفي حين أنّ مرتفعات ويذرينغ تحظى بالثناء في جميع أنحاء العالم، نجد أن أغنس غْري لا تحصل على ما تستحقه تقريباً. وبينما تختلف تماماً عن الرواية الجريئة والدرامية الأخرى لآن المستأجر من ويلدفيل هول، أجد أن أغنس غْري، في نظري، بروعتها نفسها. في الواقع، أعلم أنني لست وحدي من يرى أن أغنس غْري هي من أكثر الكتب التي لا تحظى بالتقدير، فلماذا أحبّها كثيراً؟

أحد الأسباب، التي جعلتني أحبّ رواية أغنس غْري، هو السبب نفسه الذي جعلني أعدُّ كتاب شيرلي  (Shirley)للكاتبة شارلوت برونتي أفضل عمل لها: هذا الكتاب هو سيرتها الذاتية، ويحتوي على أشخاص وأحداث كانت آن تعرفها.

تبدأ الفقرة الثانية من الكتاب: «كان والدي رجلَ دينٍ من شمالي إنجلترا»، تماماً كما كان والد آن رجل دين (أي يعمل في) شمالي إنجلترا. إنه أول دليل من بين العديد من القرائن، التي تشير إلى أن أغنس هي في الواقع آن، أو أكتون (Acton)، كما كانت الكاتبة تسمّي نفسها في ذلك الوقت.

عند كتابتي السيرة الذاتية لآن، وجدت ستين حالة من الكتاب يمكن أن تكون مرتبطة، بشكل مباشر، بأحداث وقعت في حياة آن. بطبيعة الحال، هو عمل روائي، وأبدعت فيه من هذه الناحية، ولكن، كما يعلم كل كاتب روائي، لا يوجد كتاب واحد لا يحتوي على قطعة من الكاتب نفسه، وإنكار ذلك هو سوء فهم لفنّ الكتابة الروائية.

يبدو لي أنّ هناك الكثير مما تشترك فيه الكاتبة آن مع أغنيس أكثر مما تشترك مع معظم أبطال الرواية؛ لذا من خلال قراءة أغنس غْري نشعر بأننا أقرب إلى الكاتبة آن برونتي نفسها. حتى من دون هذه التوصية ستبقى الرواية شيقة ورائعة.

أغنيس غْري هي قصة مربّية وتعاملها مع عائلتين مختلفتين تماماً هما: عائلة بلومفيلد وعائلة ميوريه (اللتان تبدوان على غرار عائلتي إنغهامز وروبنسن؛ حيث عملت الكاتبة آن نفسها لديهما مربيةً). يتعامل أطفال بلومفيلد بقسوة مع الحيوانات، ويصطادون الطيور ويعذبونها، ويقسون على مربّيتهم، ويتشاجرون معها، ويبصقون في حقيبتها. يتطابق هذا مع ما نعرفه عن أطفال إنغهامز، الذين وصفتهم شارلوت، بشكل لا يُنسى، بأنهم «صغار أغبياء لا أمل منهم».

فتيات عائلة ميوريه، اللائي تعلّمن على يد أغنيس، هنّ أكثر ذكاءً ولطفاً، لكن أغنيس صُدمت بموقفهنّ من الزواج، وبالطريقة التي تحاول والدتهنّ إجبارهنّ بها على زيجات لا حبّ فيها. مرة أخرى، يتطابق هذا الأمر مع ما نعرفه عن فتيات روبنسون؛ فإحداهنّ هربت مع ابن مالكٍ لمسرح، واستمرت اثنتان منهنّ في الكتابة إلى آن للحصول على مشورتها، بعد فترة طويلة من توقفها عن العمل مربيةً لهم.

في قلب القصة، بشكل متزايد، تكمن أغنيس نفسها وحبها للمدير المساعد ويستون. في هذا يمكننا أن نقرأ عن حب آنلمساعد والدها ويتمان، تماماً كما نرصده في شعر الرثاء، الذي كتبته آن بعد وفاة ويليام ويتمان المفاجئة (بعد إصابته بالكوليرا التي التقطها من أحد أبناء الرعية، الذين زارهم، وكانوا مرضى، والزيارات هذه كانت مَهمة يقوم بها ويستون في أغنيس غْري).

لن أكشف النهاية باستثناء أن أقول إنّها نهاية رومانسية بشكلٍ لا يصدق، ومؤثرة أيضاً بشكل لا يصدق… هل هذه الشخصية البديلة أغنيس هي آن، التي تمنح نفسها، عبر الكتابة، حياةً انتزعتها الحياة الواقعية بعيداً عنها؟ نهاية الكتاب بسيطة جداً ومتقنةٌ جداً:

«والآن أعتقد أنني قلت ما يكفي».

قليل من الروايات تنتهي بجملة بسيطة كهذه، ورغم ذلك، إن بساطتها تكمن في القدرة على تحريك القارئ بعمق. أغنس غْري هي رواية مكتوبة بشكل رائع، وهي قصيرة، لكنّها دقيقة مُحكمة، ولا شيء فيها في غير محله. في رأيي، هي رواية من عائلة برونتي تفوق كلّ رواياتهنّ الأخرى بتشكيلها المكتمل بشكلٍ مثالي، ما يدلّ على أن آن قد أتقنت بالفعل فنّ كتابة الرواية. ليس هناك الكثير في الأدب الإنجليزي مما يشبهها. ورأيي أنّها تشابه روايات الياباني اللامع الحائز جائزة نوبل ياسوناري كاواباتا؛ حيث لا يحدث الكثير، ثمّ تدرك فجأة أنها استحوذت على قلبك.

جورج مور  (George Moore)لإدوارد مانيه  (Edouard Manet)

أثنى جورج مور، وهو نفسه كاتب مهمّ من أوائل القرن العشرين، على الكتاب على النحو الآتي:

«أغنس غْري هي أفضل قصة نثرية في الأدب الإنجليزي… قصة بسيطة وجميلة مثل فستان من الموسلين… نعلم أننا نقرأ تحفة فنية. لا يمكن إلا لعبقريةٍ أن تقوم بوضع الأشياء أمامنا بهذا الوضوح، وفي الوقت ذاته بهذا الضبط والتحفظ».

ليس لي إلا أن أوافق على رأيه، لذا إنْ لم تكن قد وافقته بعد، فامنح نفسك هديةَ عيد الميلاد، واقرأ أغنس غْري بقلم آن برونتي. إنّها ليست رواية طويلة مثل بعض الروايات الأخرى، وليست درامية، ولا عالية النبرة، وكذلك ليست صاخبة، بل هي عمل متألق تأتيك عبقريته همساً من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة.

بيل دا كوستا غرين أمينة المكتبة التي لا تملك ترف ارتكاب الأخطاء

«أمينة المكتبة الشخصية»…

«الفضاء بين أركان العمارة التي شكّلتها الحقائق»

ومن خلفك الموسيقا التصويرية يمكن لك أن تقرأ بيل دا كوستا غرين (بيل ماريون غرينر) مبدعة مجموعة المخطوطات الشهيرة في مكتبة بيربونت مورغان، والمرأة التي يكتنف حياتها الكثير من الأسرار، أو تحاور فرشاتها التاريخية السحرية، فتلك هي رواية «أمينة المكتبة الشخصية» للكاتبتين ماري بنديكت وفكتوريا كريستوفر موراي، الصادرة والمترجمة إلى العربية حديثاً.

ليس جديداً، ومن ثم لن يكون مثيراً، ولا أصيلاً، إذا ما قرأنا الرواية على أنها ترصد الظلمَ الرهيب والألم الذي عانى منه الناس من ذوي البشرة الملوّنة، والذي تسبّبت فيه العنصرية الممارسة على الأفراد داخل الولايات المتّحدة الأمريكية ككل… كثيرة هي الأعمال التي رصدت تفاصيل وأوجاع وآلام السود وبعدة أنواع من الكتابة والفنون: الرواية، القصة، الشعر، المسرح، السينما، الموسيقا والأغاني، الرسم… فما الجديد هنا؟

نبدأ من هذا السؤال: كيف ساعدت امرأةٌ أمريكية بسيطة العملاقَ، وربما السيئ الذكر، جي بي مورغان في بناء مجموعته الفنّية، وتجميع تلك المخطوطات الضخمة، من دون أن يعرف أيّ أحدٍ سرّها؟

ونضيف أننا أمام رحلة صعود شاقة، كما أننا أمام بطل روائي نموذجي يمكن أن نسقط عليه صفة المخلّص لأسرةٍ كانت تبحث عن وجودها، بغض النظر عن كونها ملونة وقررت أن تعيش بوصفها أسرة بيضاء، فلم أفكر في لونها عندما «كانت بيل على درجات سلم جامعة برينستون تلملم طيّات تنورتها الثقيلة… لقد سمعت صوت أمها تقول: «بيل، تحلّي دائماً بأخلاق السيّدات»، تنهّدت وقالت في نفسها: لو كنت سيّدة لما قرّرت الرَّكضَ…»… تماماً الجملة الأخيرة هي ما كنت أفكر فيه.

ولتكون سيدةً، كان القرار الذي اتخذته بأن تترك وراءها أصولها مؤلماً، والخوف من التعرّض للانكشاف الذي يحفّ بهذا الاختيار مرهقاً ومؤلماً أكثر. يمكن لنا بين سطور الرواية وأحياناً بشكل صريح أن ندرك كيف كان عليها كلَّ يوم أن تخرج من منزلها، وأن تقدّم عرضاً مضاعفاً تُكافأ عليه بأضخم الجوائز في النهار، لكنها، عندما تعود إلى المنزل في الليل، تخلع «زيّها»، وتضع رأسها على الوسادة لتدرك أنّها لا تزال سوداء.

أصعب الأشياء التي يمكن أن تحدِث شرخاً في عمق تفكيرك أن تكون بين خيارين لا يتوانى كلّ منهما عن حشد أقوى الأدلة على صوابه، فلكلٍّ قوة حضوره، كما أن لكلٍّ استفزازيته، فهل يمكن أن نسم ريتشارد غرينر (والدها) بالأنانية إذ تخلى عن عائلته لمبدأ آمن به لأجل أمته أو قومه أو شعبه؟ وهل نستطيع أن نسم جينيفيف (والدتها) بالانهزامية وحصر نضالها في عائلتها البيولوجية وترك عائلتها الكبيرة ومن ثم أمتها أو قومها أو شعبها في سبيل مصلحة أسرتها الشخصية؟… بين هذين الخيارين تسقط أشياء وترتقي أشياء، لكنّنا ساقطون مع التي تسقط، ومرتقون مع التي ترتقي، فيما نتأرجح ما بين هذين السقوط والرقي… نحن نعيش أحداث رواية نشعر فيها ومعها بأننا معلقون ما بين السماء والأرض، ما بين السقوط والرقي… وهذه ميزة أخرى يمكن أن تجعلني أجرؤ على القول إنها رواية استثنائية.

بيل دا كوستا غرين، وريتشارد غرينر، وجينيفيف فليت، وجي بي مورغان، وجاك مورغان، وبرنارد بيرينسون، وآن مورغان، وإلسي دي وولف، وإليزابيث ماربوري، وجونيوس مورغان، تقريباً هذه معظم شخصيات الرواية، وهي شخصيات عاشت حقيقة، ولكلٍّ منها عوالمها، لكنها هنا كلها تدور في فلك شخصيتنا الرئيسية بيل دا كوستا غرين.

يرصد السرد أيضاً علاقات الجنس المتوترة بين بيل وبيرينسون وبين بيل ومورغان، لكن الأهم هي تلك الهالة التي يرسمها المتفوّقُ لذاته، والتي لا تلبث أن تظهر هشاشتها مع أول موقف إنساني، أو أول خفقة قلب، أو أول كشف حقيقي يظهر عزلتها العميقة؛ لقد كان مورغان الاقتصادي العملاق هشاً، كما كانت هالته تترنح أمام خفقات قلبه، فيما كان بيرينسون ساقطاً بكل ما يعنيه السقوط الأخلاقي من معنى وهو خبير الفن الإيطالي في عصر النهضة والأكاديمي المبجل… فأمام نِسوية بيل، لا لونها، تسقط ذكورية الاثنين مورغان وبرنارد بيرينسون… كما سقطت ذكورية الأب أيضاً بمغادرة عائلته وإنشاء عائلة أخرى في الشرق الآسيوي ما وراء البحار، وإن كان يشارك بيل في كونهما ضحية العنصرية، ورغم كونه لم يتنازل عن الدفاع عن حق قومه في المساواة والعدالة مع الأبيض، ودفع لأجل ذلك ما ظننا نحن أنه ثمن كبير: خسارة عائلته؟

تنهي بيل سرديتها الناجحة والراقية مهنياً ولكن المتعبة والمتعثّرة حياتياً، بالتصميم على إبقاء الجوانب الأكثر خصوصية في حياتها مخفيّة، لكنها تمنحنا فرصة ملء الفجوات، وحتى لا نجنح كثيراً، ولأنها تصر على أن تتحكم في سرديتها، لا تفتأ تعدل مسارات قراءتنا وإن كان ذلك على نحو استفزازي وجريء أحياناً، لكنه استفزاز إيجابي… من البداية كان واضحاً أنّ بيل لم ترغب في أن يتم اكتشاف هويّتها الحقيقية ليس في عالم الرواية فحسب، بل لنا نحن القراء أيضاً.

وبعيداً عن رحلة البطلة وسقطاتها وصعودها، لافتٌ هذا الزخم المعلوماتي الذي يخص أفضل الأعمال الفنية والتحف، الأمر الذي لم تهمل الرواية نسج تفاصيله، من اللوحات الشهيرة «تطوّر الحبّ» لجان أونوريه فراغونارد، إلى لوحة بورتريه لرجل مورسكي، إلى لوحات رامبرانت ولا سيما البورتريه الذهبية للعجوز الذي اشتعل رأسه شيباً، إلى كتاب (موت آرثر) للسيّد توماس مالوري في نسخة طابعة وليام كاكستون، إلى نسخة سوينهيم وبانارتز من ديوان شعر فيرجيل، اللذين كانا من أوائل المستخدمين للآلة الطابعة في القرن الخامس عشر، إلى إنجيل الملك تشارلز الأوّل، وساعة نابليون، ودفتر ملاحظات دافنشي، وأوراق شكسبير، وعلبة نشوق الإمبراطورة كاترين العظيمة، ورسائل الرئيس جورج واشنطن. وجواهر عائلة ميديشي الإيطالية، ولوحات ورسومات ماتيس، ومنحوتات رودان، ونسخ كاكستون، وكتاب الساعات لميملينج…

لكن اللافت أكثر على المستوى البنائي كان نهايات الفصول، في عمقها، وتكثيفها، ورونقها، وملمسها، ونغمتها المتفردة، وفي كونها أخيراً ترسم خطوات سيدة الرواية بلا استثناء بيل دا كوستا غرين في تقدّم سرديتها:

  1. لقد أوصيته بإجراء مقابلة معك لينتدبكِ شخصياً أمينةً لمكتبته.
  2. أصبحتُ المرأة البيضاء المعروفة باسم بيل دا كوستا غرين.
  3. سأجعلُ من مكتبة بيربونت مورغان، في حدّ ذاتها، التحفة الفنيّة التي تستحقّها.
  4. هذا المكتب سيكون بمنزلة القاعدة المثالية، التي يمكن من خلالها إطلاق حجر الأساس لمكتبة بيربونت مورغان الفريدة.
  5. سابقاً، كانت تعتريني رغبة في النجاح. أما الآن، فلم يعد من الممكن أن تكون تلك الرغبة مجرّد لهفة بسيطة؛ لا بد لي من الالتزام بالنجاح.
  6. الأعداء يمكن أن يكونوا خطرين بشكل خاصّ على فتاة ذات بشرة ملوّنة تسمى بيل ماريون غرينر؛ لأنّها تعبر العتبة إلى العالم الأبيض الأوسع باسم بيل دا كوستا غرين.
  7. «دعينا نتنقّل في أرجاء قاعة الرقص، فلدي بعض الأعداء الآخرين الذين أريدك أن تلتقي بهم».
  8. لقد كنت أدرك أنّ ماما لا تزال حقاً تنظر إليّ على أنّني ابنتها.
  9. لقد بنت آن حياة لنفسها، وأنا أخطّط لأن أفعل الشيء نفسه.
  10. أردت أن يفهم الجميع أنّ مكتبة بيربونت مورغان فريدة من نوعها، وأنّ أمينتها استثنائية.
  11. يجب أن أتصالح مع نفسي بشأن حقيقة أنّ الشكوك التي تحوم حولي لن تختفي أبداً.
  12. سمحت لنفسي بإلقاء نظرة أخيرة عبر المروج قبل أن نجتمع ونبدأ رحلتنا شمالاً إلى المنزل الوحيد الذي تركناه.
  13. «إنّ الاسم المنحوت فوق أبواب هذه المكتبة هو اسمي، وليس اسمك. أنا لا أريد تذكيرك بذلك مرّة أخرى».
  14. فزت بالفعل بجائزة المزاد، وآمل أن أكون قد فزت بثقة السيّد مورغان الكاملة معها.
  15. «حسناً يا سيّد بيرينسون، يبدو أنّ ما وقع لا يعتبر بالتعرّف الدقيق بك؛ فمن الظاهر أنّني أعرفك منذ أن كنت في العاشرة من عمري».
  16. كنا محاطين بالثرثرة والموسيقا، بقينا صامتين. لم أدرك ما يفكّر فيه، لكنّ فكرتي الوحيدة كانت تعلن الآتي: يجب أن أتعرّف إلى ذلك الرجل.
  17. فقلت: «نعم سألتقيك يا برنارد».
  18. أيقظتني كلماته، وفي الوقت نفسه أدركت أنّني تهت إلى الأبد.
  19. أنا امرأة عصرية ولي مهنة أديرها باستقلالية، ولست بحاجة إلى أن تشرح لي أيّ شيء يا حبيبي. فأنا حسناؤك…
  20. «أنت أمينة مكتبتي الشخصية، ويجب أن تتذكّري دائماً أنّك ملكي».
  21. حدّق فيّ وهمس: «أنت إنسانة استثنائية!».
  22. ثم ابتسمت، وانغمست بسرور في النوم في أحضان برنارد بيرينسون، أو أياً كان اسمه.
  23. لقد تهت بين إيطاليا وبرنارد.
  24. ليس لديك ترف ارتكاب الأخطاء يا آنسة غرين.
  25. «تلقيت للتو برقية. لقد أرسل فيها برنارد تحياته لك، لكنّه، في نهاية المطاف، لن يتمكّن من المجيء إلى لندن».
  26. إنّني والسيّد مورغان نتشارك رابطاً لا يمكن كسره، وأنا لن أدع أيّ شخص أو أيّ شيء يفتكّ ذلك مني.
  27. قصّة ماما وما باحت به أيقظني. إنّني أدرك تضحياتها، وأقبل بحتمية ذلك الاختيار لنا جميعاً، وفي المستقبل سأنتبه وأكون حذرة أكثر.
  28. شعرت بنخب الانتصار وأنا أقف أمامهم؛ امرأة صاحبة بشرة ملوّنة في عالمهم الأبيض.
  29. هل سأندم على ما قلت من كلمات؟
  30. لقد تحدث معي كما لو أنّه كان السيّد وأنا كنت—. توقّفت أفكاري عند هذا الحدّ، فأنا لا يمكنني أن أسمح لنفسي بالتفكير في ما لا يمكن تصوّره.
  31. لكنّ الليلة مخصّصة لنا أنا وهو فقط، كما كنا دائماً، ومثلما أودّ دائماً أن نكون.
  32. «أعطاك السيّد مورغان الفرصة، لكنّ كلّ جزء من نجاحك يعود إليك، فأنت بيل دا كوستا غرين».
  33. في لحظة علمت ما يجب عليّ القيام به؛ فلكي أتقدّم لا بد لي من العودة إلى الوراء.
  34. فضغطت على يد بابا، ثمّ أغمضت عينيّ، محاولةً تذوّق كلماته، واستيعاب أمله.
  35. وارتميت في حضنه الذي كان ينتظرني.
  36. «حسناً يا آن. لتكن أسرارنا آمنة بيننا».
  37. لقد رأيت أخيراً عمق خيانة برنارد، وسمحت لنفسي بالاعتراف بها؛ فلماذا يبدو ظاهر كل شخص مختلفاً عن حقيقته؟
  38. أبقيت عيني ثابتتين على الطريق الذي كان أمامنا، فأنا لن أنظر أبداً إلى الوراء.
  39. سيكرّم جاك نسبه، تماماً مثلما سأكرّم والدي وأسلافي السرّيين.
  40. حان الوقت لترك مكتبة مورغان بوصفها مؤسسةً خاصة بك، وتحويلها إلى ما كان يجب أن تكون عليه: مؤسسة عامة تكريماً لوالدك».
  41. «سأكون راضية تماماً، ويشرّفني أن أعمل مديرةً لمكتبة بيربونت مورغان ما حييت».
  42. فهل سيعود شخص ما، في يوم من الأيام، إلى الوراء في الوقت المناسب لاكتشاف قصّتي، ويطالب بفخر بتبنّي حقيقتي بوصفي أمينةَ مكتبة شخصية لجي بي مورغان صاحبة بشرة ملوّنة كان اسمها بيل دا كوستا غرين؟

هذا ما فعلته ماري بيندكت وفكتوريا موراي وجوداً بالقوة (كتابة)، وهذا ما فعلتٌه وأدعو غيري إلى فعله وجوداً بالفعل (قراءةً).