نبرات … قصة بعنوان: وصمة صوت

وصمة صوت

وأنا أتخيل الكلمة، وهي قابلة للتردد، ومهيأة لتكون شائعة، وتخدش اهتزاز نفس سئمت أن تكون هشة بعدما تأملت أنه قد تتجاوز المفردة مناطق أفواه الآخرين، ولن يقولوها أو يتلاعبون بدلالتها، ومن أعينهم الوقحة لن تنساب،  وأنا أتجشم خوف الاستماع لصوت.. مجرد صوت،فأتخيل مقدرته أن يُذبل شيئاً في روحي المتشككة، وهي تود أن تبتلع كل الأصوات، و تتمنى لو أن الحياة خرساء.

آلمتها بيدي وعاندت رغبتها بالبكاء وهي تستنجد بي أن أتوقف، وأنا أخرس فمها المتساقط من الصفعات، ووالدتي تجر كتفي لكي أبتعد عنها، وكادت رأفة تأخذني لها، فلم أترك لنفسي فرصة للتراجع، ولجأت لكل المناطق التي أَعتمت رؤيتي المحاصرة على جرأتها وعدم إخباري بالذي قامت به، وخانتني أيام مودة لأخت تصغرني بثلاث سنوات بعد يتم أب سعى قلبها لي واحتويته، فتلاشى هذا أمامي الآن، ونار أسئلة والدتي أُحاول أن أطفئها وهي تعاود شدَّ يدٍ تُمزّق وجه ابنتها الصغير:”قل لي ماذا فعلت؟ أنا سأضربها بدلاً عنك، لكن أخبرني ماذا فعلت؟”.وبشرود امتزج برعونة صَوبت تأرجح قدمي على خاصرتها وسؤال والدتي الذي طمست إجابته وفي داخلي السحيق حَمّلتها جزءاً من ذنبها، فعادت بعد تجاهلي لها وهي تسأل “سعاد” تحاول فصلها عني، فبدأت بالصراخ على والدتي بأن تتركها لي: “أرجوك يا ولدي ستموت أختك بين يديك، سعاد ماذا أخذت منه؟ ماذا سرقت؟”. وبعينين امتلأتا برعب لم تتفهمه وغرقتا بالدموع طغى على ملامحها الهلع وهي تلوذ بقشة خلف ظهر والدتي، التي غرقت في موقف غير قادرة على انتشال ابنتها منه:”لم آخذ شيئاً.. لم أسرق شيئاً، ولم أفعل شيئاً يستحق كل ذلك؟”.ويدي التي صدئت قليلاً وهي تستلها من جديد من خلف ذعر خلقته لهم وأقربها لترهل سؤال استكملت فيه سَرَفي في الامتهان بسبب الذي فعلتهُ دون أن تعلم أبعاده في داخلي: “أرجوك يا ولدي هذه أختك”.. فانطفأت عيناي وأنا أغمضهما بحرق ممتلئ وأقول: “لن أفعل لها شيئاً”. ونسيت الكلمات المتبقية وهي تنزوي بوجهها أسفل مني، ولاحظت تورم عينها اليمنى، وتجاهلت جلدها المنتفخ وأنا أهمس لدمِ أنفها الذي سال من ضربة عشوائية بيدي حتى اقتربت من السقوط وهي تجيب “الجزائر” بعدما سألتها: “كنتِ في أي دولة؟”.

مضيتُ بالوقوف على تلك الهاوية التي لم أعلم عنها. أن تُسقط في ميزان أعين وأنت لا تشعر ولا يسمح لك أن تعرف أو أن تقول لماذا؟ امتداد تاريخي يُقيدك واحتفظت به الأيام لك على شكل مهانة يحاصرك ويتطور ضيقها ويخنقك ويحطم حلم وجود طبيعي تحاول أن تفرضه فتقول للآخرين أنا.. ما أنا عليه فقط، وتَكفر بكل التصنيفات المتشعبة والكلمات التي تختبئ تحت سِنّ يُصر بِصكه على إعادة ترتيب درجتك وإن لم تقبل بها، أو حتى توجد علامة واحدة تدل على رهان الاقتناع المسموح بهِ فتتشتت بين أمزجة مختلفة صَدِئة تتكسر أمام كل اختبارات التجربة،لكن قد تقضي عليك أحياناً، وتستسلم لصوت عارٍ لا يُدرك براءة فعل قديم لم تشهده ولا تعرف أحداً حضره، ولا يد شاهد ترتفع لتقر به، مجرد رياح قديمة امتدت وامتدت وأتت به أمامك الآن لتدفع ثمن دم يسري في عروقك ويربطك بالبعيد الذي تقربه نبرات أصوات مخادعة وتفاصيل وجه حقير يتغير إلى الكآبة الصامتة كلما رآك، وهمساتهم المتأخرة تتناثر لقدومك، فيحل الصمتُ الذي لا تعرف معناه لكن تُحِسه يخدش شيئاً في داخلك والمكان ينطفئ فجأة، وسؤال تتمنى أنت أن يوجه لك وأيضاًتسمعه أمامك ولا يسلك طرقاً جانبية منحدرة الوقوع للهمزات “أليس هذا هو؟” نعم هو . هو ابن الضريبة المتأخرة التي صَنفتهُ بشكل مختلف عن الجميع، وهو من أولئك الذين أذعنهم التقسيم لكل أجزائهم ووصموا بالذي يستحقون ، لكن الدنيا كلها لا تخجل منه سوى تخمة التمييز الذي أكلت الناس أو جزءاً من الناس الذين هم فقط يعملون بأيديهم فأهانوا صوت الأيادي  وأنا لا أعلم.

لم يغيرني الابتعاد عنها وقطع خطوة توقفت فوق عتبة باب ما زالت أماني الانتماء له لم تخفت وهج حنينه، وحتى الألم الذي أحيا به الآن ليس بمقدور أي ذاكرة أن تزيل أدفأ اللحظات معها، وأنا أخبئ لها شوقاًينتظر رؤيتها كأول مرة من تلك النافذة، فأنثره عليها كله، ولن أبقي شيئاً في داخلي طويته عنها في صميم النفس وحملتهُ على نظرة أخيها وهو يكشفه بموقف أخير أعاد ترتيب الاتجاهات، فلم تتصوب ناحيتها لي بل تجاوزتني رغم كل الود الذي جمعني فيه “عبدالرحمن”، لكني استسلمت لمحصلة الفكرة النهائية وهي تتكون في علاقة تمسكت أنا بها واشتد هو بساعده لي وأفضى كل ذلك إلى اللا شيء وهو يتحطم أمام الرغبة التي سمحت بصوت الجرأة، وأنا أقولها له مستغلاً خلو مجلس الرجال في بيته ومغادرة أبيه وضيوف لا ينفك وجودهم من ملازمة مجلسهم دائماً، والذي يعمر بواجبات الضيافة وعلى شكل عَصَبِ العائلة التقليدية المتمسك بنهج متأصل لجميع جوانب حياتهم حتى تفردهم بلهجة أبوا أن تزول من شفاههم وأن تُحَرّك قواعد بُنيتها الأيام كميراث أعطى صورة تذهب لخصوصية عادات اجتماعهم العائلي واللحمة الحاضرة لكل مناسبة، والتي ترفض أي عذر لغياب أحدهم عن مجلس “والد عبدالرحمن”، والذي يرونه شمساً تنير معنى تقاربهم وضوءاً لافتاًلطريق يصطفون له واقفين، ويدعو أيضاً بنوع مختلف من الفخر الذي أدى اقتحامي على مضض منهم لحياة عبدالرحمن كزميل عمل للتو ابتدأ منذ عام، وسور بيت جيرة لم يتهدم أمام يتم أب مازال والده يرعى غياب جاره الدائم، فَعظُمت محبتي لهم، ورباط اجتماعي يَثْبت في توهّم مخيلتي وأنا أقضي بعض ليال وأيام في بيتهم ولا آبه لكل ضيف يتجدد وجوده من أقاربهم وهو يتداعى لهمس الأسئلة وهي تخنقني في البدايات: “من هذا؟”، لوالد عبدالرحمن، وبصوت يشبه المرور السريع:”هذا أسعد ابن جاري محمود رحمه الله وصديق ابني عبدالرحمن وهو مثل ابني”، فأصبحت الأمثال التي أُشَبّه بها “مثل ابني” حماية لنفسه التي ترتبك، وكلما سمعوا مثل هذا الحديث استنكرت ملامحهم مضامينه،ويبدأ سيل جارف لاستغراب صامت، وأحاول صده بما توفر لي من استطاعة حتى أحولهُ للقعر الذي في داخلي، ثم أزيله بقربي على ظن التعمق برابط يجمعني بعبدالرحمن، وهيأت نفسي حقيقة كأخ من دمه صانعاً إطاراً لوجودي المستمر لتقبل صورة انتماء تربطني به، وإن جازفَ أي شي لتشويه ملامحها، لكني أعيد تزيينها كلما وسع ذلك،وانصهرت جدران بيتهم مع طبائعي الشخصية قبل اندماجي معأصحاب هذا البيت، حتى نافذة الغرفة اليمنى في الطابق الأول والتي تطل على فناء فسيح جداً قبل مجلس الرجال، ودوران هذه الأرض يتوقف للحظة لم ترد أن تثبت شيئاً سوى الجمال في عينيها، وهي تشرق علي أثناء توجهي لعبدالرحمن هناك، فوقفت للدهشة فجأة أمامها حفز ذلك ابتسامة لم تزلها من وجهها، وأرادت أن أعلم أنها لي ولم تجنح لعبور الهواء، واستراح ظل يدي لجرأته وأنا أرفعه لها، دلالة لصوت السلام الذي يلف روحي وينزع عني الأيام وكدرها فجأة وعيون ما زالت تبتسم ويدناعمة تلّوح قبل أن تضم  مزلاج النافذة وهي تغلقه بهدوء تاركةً لي رجفات خطواتي تتغير وأنا أعود لانتظار عبدالرحمن وضيوف أبيه الدائمين، واستنزاف اللحظة التي مرت على ماء وجه مرتبك يقتحم أنفاس رجال جالسين، وعمق عينيها يعود في مداهمة لي وأنا أتحسس أجزاء ذاكرتي داعياً لحفظ تفاصيلها التي أتت بخفة متناهية لقلبي المتراخي،فاصفرت ملامحي التي أرهبت قلق عبدالرحمن، ولم يمنعه اختلاسي لمكان بجانبه أن يحرك تمعنه بي وأنا أحاول أن أسند ظهري لمشقة غريبة تلف جسمي بسؤاله الخافت: “هل أنت بخير؟”. والمفارقة تأخذ بتكوينها لشعور مختلف ينشأ تجاه “عبدالرحمن”، واستند على تلك اللحظة الفارقة بانتماء له قد يتطور بوجهة مغايرة وقرب ملاصقته في ناظري يزداد،فضغطت على كتفه وابتسامة على وجهي تجد مكانها، وعيناه باستغراب تتسعان لي: “ليس بي شيء”، وعلى يدي اتكأت للتأمل الذي يحيطني وتنهيدة داخلية أعيدها لنفسي، ويقين ينشأ وأنا أحدد مصدر السكينة التي أحس بها وخيالي معلق هناك على يد رفعت لي هي أشد حناناً من تلفت عنق قلق عبدالرحمن علي الآن.

وجودي.. لطالما شعرت بالخوف من عدم معرفتي بمداه الحقيقي إلى أي مرحلة يصل! لكني أحسست به جيداً، وذلك بمقاومتي الدائمة لنظرات الآخرين وهم يقومون بتصنيف كل حضور لي مستنزف بالنسبة لهم،جاعلين آلة التحرك تعمل والأدوار تنقلب، فجأة أجد نفسي تغير مكانها دون أن أشعر لأحكام تطلق بصمت رافضين مناقشة لمز متطرف تداعى لهم مع عدم الاستطاعة على أن أبتعد عن توقعات لم أفرضها لهم،وأحاول الخروج عن إطار صورهم المتكررة وهم يحددون أبعادها المتناهية، وفي لحظة، خشيت أن أكونها، وأنا لا أعرفها، ولا يسمحون بصوت أدافع به عن خسارة سباق اجتماعي لم أُدْعَ له أصلاً، فقاومت كل أشكال الهزيمة الغائبة في نظري لكن لا أنكر أحياناً سقوطاً متداعياً في استنساخ شعور الانتماء الذي أتقمصه بنسخة متكررة اقتربت منها للتشوّه بإيماءات رأسي لحديث تافه أرهقني خوضه، وتوافق تام لرأي أجهل تفاصيل حُجَجٍ لم أنصت لها منذ البداية، ولرفضي أن أكون بهذا الشكل الذي أتقزز من ذاتي إذا استدعيتها لأراها فقد تراكم ثقل حضوري لمجلس والد عبدالرحمن وجيوش روادهم يتوالى، والذي لا يتوقف ولا يريد أن يحقق هدوءاً للمكان، ورغبة جامحة تدفعني لشبه انقطاع عنهم، لكن رؤيتي لنافذة تُوقد لي جَذوة دفء من عيون “ليلى” أعادت لي معنى التجاوز بابتسامة على أثرها، اخترت مكاني وهي تحدده عنواناًللحقيقة الوحيدة التي تشعرني بنفسي هنا، والذي شهد بذلك نافذة أغلقت على وداد لحظات يقف تحت نسائم روحها، واستطاعت أن تَفتح نافذة أخرى، ولطريق مهدته للذهاب إليها، وطوق رسائلها ترميه لأنجو بمشاعرها، وهي توسع هذا العالم الضيق وذراعاه تفتحان لي بموجات الحنين، تبعثها على يد أختي، وبأمل صغير تضعه في درب عودتي للبيت، وأنا ألاحظ ضحكات سعاد المسروقة لليل تأخر وقت نوم أقلقه تلاعبها بالكلمات: “زرت بيت جيراننا اليوم.. صديقك عبدالرحمن”، وغطاء السرير وهي تأخذه لمحاولات استفزاز بريئة آمنة من عدم غضب لم تعهده مني بل تشكلت بالحنان الذي أسكبه عليها وعلى والدتي حتى أصبحت لهم أباً يسعون له بشيء يشبه رد الجميل الذي أرفض حضوره بشدة في طرق تعاملهم لكسب رضاي، وأنا أغلق لحظات العمر عليهم: “لم تتوقف ليلى أخت عبدالرحمن في الحديث عنك وعن خلقك وتهذيبك ومدى محبة والدها وعبدالرحمن لك”، وغمزة من عينها وهي تتوقف عند لفظ محبتهم أربكتني، وبابتسامة المتجاهل لحديث سمعته جيداً طلبت منها أن تطفئ الضوء قبل أن آمرها بالخروج: “إن كنت تريد أن تنام فلا بأس سأتركك تنام”، وعلى سؤال أعادته للتأكد من رغبتي في النوم وذهابها عني، وأن لا تكمل حديثها، واستسلمت للمغادرة وهي تدس ورقة صغيرة تم طويها بمشبك صغير تحت وسادتي: “هذه رسالة من الآنسة ليلى”،وأغلقت الباب على رقيق الكلمات التي انسلت منها تلك الورقة التي رقصت بين يدي:

رأيت ابتسامتك..

الأماني كلها محصورة بين عينيك.

ليلى

ملحوظة: لا تخشَ من معرفة سعاد لمشاعري فهي صديقتي أيضاً.

وانتمت لي كلمة “أيضاً” لمكان يوضح المسافة التي تلاشت بيننا،والإيجاز الذي وقعتُ فيه وهو ينطق بكل أماني نفسها، وتحديد مسار خطوات سآتي إليها وأنا متيقن من أني لن أخطئه، ولن أتأخر في رد ينتظر إجابة، وأهزم هذا العالم بصوت رسالة أشرق عليها صباح زهري،وأنا أسلمها ليد سعاد، وفرح يتراقص من عينيها لي لا أعرف مصدره،لكني أتخيل كيف هو شعورها بعدما أوصيتها بسر مدركاً أن ثقتي لن تخيب في قلب أخت ستحفظه: “لا تخش يا أسعد.. ليلى إنسانة جميلة وتستحقك أيضاً”.

ابتسامتي.. صدىً لروحي..

أنتِ أجمل أماني القلب التي أريدها.

أسعد.

ملحوظة: خطّك جميل.

لم يعد ذلك التجاهل يُريحني لحديث أجد صعوبة في مشاركته وهو ينتقل بين أصوات المتحدثين في مجلس والد عبدالرحمن، والذي يكتظ كعادته أمام عدم اهتمامي حتى وإن ترقبت فسحة من خلاله أتسرب لهم على شكل إضافة قد تثري المعاني التي يتم تداولها بينهم، لكنه حاجز صعوبة غريب رفضها، وتوارت أسبابها. فقط الارتطام في كل محاولاتي هو الذي أحسست به، حتى شغف عبدالرحمن المتهالك أمام صمت يراه قد يطبق عليّ، فيؤذيني دون أن يشعر وهو يمهد لي مبادرة حديث أريدهُ ولا أريده بنفس الوقت: “حتى أسعد لديه علم واسع بهذا الأمر”، فترتبك كلماتي أمام باب أغلقه في لحظة أحدهم وهو يبتر حديثاً لم أكمله، ويمتد هو به بعدما رمى مفرداتي وخنق صوت لم تُسمَع نبرته جيداً، ويلتصق بي أسى أعجز عن وصفه، ليس بكبير ليقصم ظهري ولا هو يصغر في ناظري وأقدر على تجاوزه، فأهرب إلى شعور العمق الذي في داخلي.محاولات أبذلها الآن لتهدئته في فناء خارج مجلس لا تتسع بين جوانبه نفسي ومراقبة لنور قد يخرج من نافذة ضِقْتُ ذرعاً من إقفالها المحكم وإسدال ستائرها المستفز، وانتبهت للوهلة الأخيرة لعلم الكويت صغير عُلّق على عتبتهِ، واتكأت على سيجارة تشتعل في يدي وتحاول أن تخفف هزات شكوك قلب وشروداً يتبع دخاناً أبيض أنفثه، وتنازلت اللحظة الميتة عن إصرارها، وصوت يعيد لروحي لونه ويعانقه : “أسعد”؛ نبرة لها القدرة أن تلمس قلبي وتغنيني عن قلوب الأرض، فعَدوت لملامح أخذت كل انتباهاتي، وعيناي تطيلان في تمعّن تُريدانه، وأثره يحيطني حتى وصلت للشرود التام بها، فخشيتْ ارتباك التحديق بها يخرجني عنها،وبتلويحة من يدها لعلم الكويت ظلّت تُكرّرها حتى أفيق من إغمائي الواقف تحت عينيها، فابتسمت لها وهي تُودع هذا الشعور بإغلاق بعدما مَنحت الأشياء بريقها، ولا يشبهه إلا النوافذ في هذا الوقت، وهي تتزين بأعلام الكويت المتهيئة لاستثناء الأشهر “فبراير”، والذي يتفرد هذه السنة أيضاً بمرور ربع قرن على استقلال الكويت، واعتلت أسطح المنازل التي تعد خالية إلا في هذا الشهر، فترتفع رايات وصور حكام الكويت حتى في الطرق، وإنارات الشوارع تتشكل بالألوان الأربعة لعلم الكويت.كل شيء يزهو ويتجدد في هذا الوقت ذي البرودة المعتدلة، حتى كراسات الطلاب تأخذ واجهتها صور وطنية، والمرافق الحكومية تتزين في مداخلها للناس، وتروى حكاية هذا الوطن في كل مكان ولا يتوقف التلفاز في 25فبراير، تبدأ الأغاني والأوبريت الوطني يقدم عروضه المنتظرة من طلاب وطالبات وزارة التربية، وأخذت أعيد نظراتي لتلك النوافذ وأعتلي بعينيّللأسطح التي تجاورنا ونافذة “ليلى”، وعلم صغيرلا زال يتدلى منها،فيتضاعف معنى آخر حقيقي للانتماء، ويمتد الشعور ليشمل كل شيء، حتى عيون ليلى وطن ألجأ له، ويداي تلوذان بها، لا يشبه ليلى سوى البلاد.

ما الذي يشغل بالك؟

أمل قلبي يتسع لك.

ليلى.

ملحوظة: لم أتخيلك إنساناً مدخناً.

***

أريد أن أكون بجانبك هذا ما يشغلني!

سيمتلئ قلبي بكِ.

أسعد.

ملحوظة: لن أدخن أبداً بعد الآن.

لم تكن في صالحي الخطوات التي أصبحت ثقيلة بالندم لكل اللحظات التي يجرني إليها طريق مشيت فيه هناك على وجس خاطئ لا يريحني،وكشفته في إحدى المرات لعبدالرحمن بعد أنَفة لم تمنعني من البوح له على مضض: “هناك أشخاص من الذين يتوافدون عليكم باستمرار أشعر يا عبد الرحمن بكرههم لي”. عَزّ عليّ صوت الهوان الذي أحسسته بعد عبارتي له، ولم تُسعف تأكيداتهُ على تطمين شكوكي، وأرغمت نفسي على مجاراة مصادقة انتهيت منهاـ وكمية مخزون في الذاكرة يحمل أسى مواقف عديدة يناقضهاـ ويقفز أمامي: “أبداً هذا غير صحيح، أنت واحد منا أسعد”. واحد منكم! لو تعلم كم في القلب من أمانٍ لتحقيق هذه الكلمة الغائبة، ودعوتها لكي تحضر، وأتخيل في خاطري كم مقدار الثمن الذي أنا مستعد أن أدفعه، وتصورتُ حتى الأشياء التي أتجهز لأرغم نفسي عليها من أجل أن أشعر بصدق محتواها، وأنها ليست عابرة فقط.. آه لو استطعت أن أبوح بكل هذا لك الآن يا عبدالرحمن! فانتبهت لقيامه السريع ليقطع خيطاً من الشرود وحفاوة استثناء لزائر أغاظني.. صوت تهاليل وجه والد عبدالرحمن لقدومه وهو يطلق عبارات ترحيب اكتظت في المكان، ووقوف الحاضرين استعداداً للسلام عليه، والتوقف للحظات على كل يد تصافحه بعد تبادل حديث سريع لكل شخص على حدة، ثم ينتقل للشخص الآخر، ويكرر تفاعله حتى وصل ليدي الباردة، ليتنازل عن حرارة ضمها، واكتفاء فقط بملامسة خاطفة، دون أن ألفت انتباه عينيه، وملامح وجهه تَتَصّوب لهفة لعبدالرحمن الذي يقف بجانبي، واعتلى المكان صوت اللقاء الذي جمعهم به، وانطفاء يلمس كل ذرات جسمي، وأنا أستمع لتصدر صوت الضيف “علي” ابن عمهم الدارس في بريطانيا، والذي يستغل إجازة العيد الوطني بقدومه للكويت، وكل شيء يدار إلى الصمت ما عدا حديثه الذي تترقبه أعناق الحاضرين الملتفتة إليه بانتباه، والذي فاتتني كل محطاته، ولم أتوقف في أي موضع منها، واستكنتُ للتفاهة التي ألغتني، وذبل فيها وجودي الذي اخترته بيدي، واستوحشته حتى وصل التغاضي بمغادرة المكان مع فكرة توقفت عندها للحظات؛ أن أستأذن وحديث ضيفهم مازال يُسمع، فتمسكت بالخروج والجميع بمنأى عني، وشعور بضآلة نفس تذهب ولا يشعر بي أحد لغربة مكان لا يبالي بخلو حيزي فيه، وبانسحاب ذاتي المنهكة على سؤال أردده في طريق عودتي للبيت وأنا أفكر فيه: “لماذا أشعر بأقل مما استحق من اهتمام؟”.وسحبت أداة الإجابات الحادة حتى لا أجرح نفسي، وتجاوزت خوف ظنون من فرطها ستقضي عليّ لولا يد سعاد وهي تتوسط غرفتها، وبابها مازال مفتوحاً، وتعلم بقرب خطواتي منها، ومن دون لفت انتباه والدتي في صالة البيت ظلّت تُلوح بصمت برسالة تحملها، أنستني كل الذي شعرت به هناك، لكن لم تعلم عند لهفتها وهي تحمل رسائل ليلى الكثيرة أن هذه ستكون الأخيرة، وتعود على سعاد بالألم الذي لم تتوقعه، والكتف الذي ظلت سنوات تستند عليه مالَ وهو يقترب من حتفها، لتسقط عليها النهاية الصامتة، وجفاف وضوحها يحيط بيدي وهي تُسيل دماً سيبقى أثره على وجه سعاد كلما رأيته.

اشتقت لك

حاول أن تقترب.. لا تخف.

ليلى.

ملحوظة: أخبرتني سعاد بمشاركتها في حفل العيد الوطني والذي تم تصويره بتلفزيون الكويت وهي خائفة أن تخبرك.أرجوك لا تغضب منها.

ودون أسف لحروف رسالتها، وهي ممتلئة بالأشواق القادمة في وقت لم يكفِ ليبرر ردة فعل مجنونة تلبّستني لمواجهة تغافل أحدثتهُ سعاد بهذه المشاركة دون علمي، وتجاهل لغضب قد يكون، وأصبّه كله عليها وأنا أجرها لغرفتي في غياب حضور والدتي التي انتصف الوقت والألم وأنا ألحقه بضربات على وجهها، بعدما تراكم غضبي وتضاعف، وهي تخبرني بأن التلفاز سيبث الأوبريت هذا المساء، واشمئزاز لتبريرها لم يوقف غضبي، وتوهمت وهي تحاول إيقاف قطرات دم سالت من أنفها،أني فقدت كل طاقتي في الاستماع: “لم يكن في هذا الحفل ما يسيءلنا يا أخي.. فقط أغانٍ وطنية ودخولي كان عابراً، لم يتجاوز الدقيقة الواحدة، مجموعة من الفتيات تحمل أسماء الدول العربية، وأنا من ضمنهنّ”.

وتنامى حرصها التي ظلت تتمسك به لعدم إيذائها بسبب فهمي الخاطئ عن الذي حدث، وزادت من رجائها المتكرر بأن أحاول أن أرى الموضوع بشكل واضح، واقتطعت نهاية عبارتها بالتفاتة سريعة وهي تنزوي خلف ظهر والدتي وهي تقتحم موقفاً لم أرد أن تكون فيه: “ما الذي يحدث؟”،وإسراف لصراخ أعليتُ دويه محاولة مني بتعميق أسى ظهور أختي على التلفاز وأنها سيشاهدها الجميع، وخشيت من تسطيح والدتي كعادتها، أو أن تكون هي تعلم بمشاركتها، ففزعتُ لارتفاع صوتي ليُؤخذ هذا الموقف على محمل الجد: “ابنتك تشارك في حفل ممتلئ بالرقص والأغاني، والتلفاز قام بتصويره، وسيشاهده جميع الناس.. يا الله! ماذا سيقول الجيران؟ ماذا سيقول بيت عبدالرحمن وأهله؟”. وانتزعتْ كل دفاعاتي التي أردت أن أقنعها بها لأسباب ثورة بدأت تتفحص آثارها على وجه سعاد: “أختك ما زالت صغيرة يا ولدي، والناس هؤلاء الذين ذكرتهم كيف سيعرفون بالأمر؟ من سينتبه لها؟ وهي كما تقول لم تظهر كثيراً”. ذبتُ في التفاصيل التي بدأت أتخيلها؛ لو علم الناس بهذا وبعدم اكتراث والدتي ونظراتها العابرة التي ترى سعاد ذات 17 سنة صغيرة، وبدأ غضبي بمواساة الظن يستسلم لها، وقد بدأ يرحل ويكف يديه عن موقف رأيت أنه وقع وانتهى الأمر، ولن يخفف حدة ارتطامه إذا علم الجميع، فقد يكون فعلاً مرورها في الحفل عابراً ولن ينتبه له، ورغبة جامحة سيطرت علي لمشاهدته والتأكد بنفسي.

البلاد التي تطلب الأماني تزينت برقم 25 بدلالة ربع قرن مضى على استقلال الكويت في صدر مسرح رتبت صفوف الطلاب والطالبات،وامتلأت مساحة المكان بالكورال والمؤدين، حتى جُعِل العازفون أمام الجمهور مباشرة، وجاء التناسق المكثف للوحات العرض يواسي الألم الذي أشعر به، وتسمرت أمام التلفاز للتخفيف من شدة وطء مشاركة سعاد، والأماني كبيرة بأن يكون حضورها غير لافت لأحد قد يراها ويتعرف عليها، وظل قلبي فارغاً واللوحة الأولى في العرض تبدأ، وفي انتظار أن تظهر سعاد وتخرج من شاشة لم أتخيل في يوم من الأيام أني سأراها هنا فيها، لكن لحظات تَمَعّني انتهت لشعاع أنوار الأهازيج وهو يتخلل صداه لمنطقة معتمة في داخلي، واستعذبت تلك المعاني، وبدأت أنتفض انتماء لصوت مئات الطلاب وهم يفتحون عيون القلب لحب لم أتخيل أن مكانه فيّ سيتحرك هكذا، ويأخذني لبلاد حب، ويتمثل وجودها عمري كله الذي عشته، وخطوة أخيرة تستحق النهاية، وراحة بدأت بالمسير لي لعذوبة دخول الطلاب والطالبات بأسماء الدول العربية،مؤكدين انتماء الكويت العروبي، ومضى القلق بي وأنا أتخيل سعاد ستظهر الآن، وأتساءل: بأي شكل سأراها؟ لحظة مرت ولاقت لي خطوات سعاد البريئة وهي تحمل إشارة باسم “الجزائر” تقود طابوراً من طالبات تزيّنّ بلباس شعب الجزائر عليهن، وحنقي الذي أظهرته لها قبل قليل لم يقف بيني وبين عيونها التي ترقص لتقدمها أمام مسرح وصوت الأهازيج تجذب أيادي الحاضرين، وهي تصفق لها على مرور لم يطل حقيقة، لكن صورتها قريبة للشاشة، وباستطاعة المدقق بعلم مسبق أن يعرفها، وانتهت اللوحة ولم تنته رغبة في نفسي بأنني لا أريد أحداً أن يعلم بمشاركتها رغم الذي رأيته وأسعدني قليلاً.

طالَ أنين الغياب واستعصت بعده يد سعاد على كل تلويحة تحمل رسالة من ليلى، ولم يخطر ببالي أن حبل الوصل الذي ربطته ليلى من أجلي قطعته بيدي التي امتدت على أختي، وتوقفت بعدها نظراتها لي، ولم تعد تراني، وخذلني الضوء وأنا أضيئه وهو يتسلل معي لأيام، وأنا أفتح باب غرفتها، وظهرها تديره بتصنّع النوم بعدما شعرت بقدومي المتكرر، آلمت نفسي قبل أن أؤلمها، إحساس بالذنب تجاه قطرات دمها التي سالتيُمزقني بعدما خَفّت كل موجات الحنق، وقاومت مخاوفي من أن يعلم أحد، ويتلاشى كل ذلك باطمئنان للتأكيدات التي أحالتها لي نفسي بعد رؤيتي لمرورها السريع والأشياء الآيلة للعبور لن تنتبه لها عين، وما أكثرها حتى مروري تحت نافذة كَذبت كل ظنون المصادفات التي أهيئلنفسي لأن أرى ليلى خلفها، فأطلتُ اللحظات وهي تمر من تحتها مختبئاً وراء ظل النافذة لعل ملامح وجهها تستفيق لخيوط الشمس الضاربة، وخوف من أن يكشف انتظاري انتباه أحد مع كثرة خطوات الوافدين هناك، فيفسد علي اللحظة التي قررت تكوينها في داخلي بإصرار مثقل بالأمل الذي آمنت به، وقلبها سيسعني بكل جوانبه.. فتراجعت لاتخاذ الخطوة القادمة، وتنهيدة اللحظات العجاف جفت في جوف امتلأ هذا المساء الذي أخذت فيه كل انتباهات عبدالرحمن في بداية ليل صادف حضوراً قليلاً لمجلسهم، ووالده منشغل بهم عنّا،واختيار الصفحة الأولى لحديث هامس : “عبدالرحمن.. هل تعرفني جيداً؟”، وانطلقت الدلائل التي يَسردها بعمق بعدما أدرك جدية سؤالي دون أن تُفزعه توقعات لما خَلفه من أشياء مفاجئة له، وصوت استرساله أزهر بساتين روحي، وهو يلتقط من صفات يراها أجمل ورودها، ولم يكن في خاطر مخيلتي جماليات نظرته لي بهذا الشكل، واستعادته لذكريات أيام صدق جمعتني به، والتي أذابت جليد حروف استعصى عليه قولها:”أريدك أن تساعدني بأمر مهم.. أريد أن أخطب ليلى من والدك هذا المساء.. ما رأيك؟”. ألقى عليّ تردد ملامحه وجهه المتراجع والذي غمرته وحشة لم تستغرق كثيراً لتظهر على نظراته حتى وإن كانت بمقدار ضئيل، لكنها مؤلمة بهذا السكوت المتطرف الذي اجتاحه، وعيناه تتصوبان تجاه والده الجالس هناك، ويعيدها لي متكاسلة، وشعور بأنه انفصلَ عنّي فجأة، وانفلات عبارة أشاح في منتصفها بوجهه لريبة لم أستطع أن أحدد أسبابها، لكني أنصتُّ جيداً لصمته الذي طال بعدها:”هذا الموضوع يا أسعد ليس لي به أي رأي، هذا أمر أوله وآخره عند أبي”. لم أتوقع مع حياديته التي أحسست بها بطول المسافة التي امتدتبيننا الآن، وجعلني أرتبك لقرار الذي اتخذته، ولا فرصة أيضاً لتراجع لا أريده، ونتائج ابتعادي عن “ليلى” ستقضي علي، فجاهدت إرغام نفسي على تجاهل شعور حنق صغير لعدم تحمسه الذي غاظني به، وتساؤلات تجتاح تفكيري عن برود صوته في هذا الموقف وهو يوارب باباً يستطيع أن يفتحه وإن كان من أجل تصنّع للمجاملة لكنه تسلل للبعد الذي أشعر به الآن على الرغم من أنه يجلس بجانبي.

تناسيتُ نفسي عندما أحلت تشكيلها لكم، وأياديكم تعبث بحق أن أكون ما أريده من باب الاختيار الذي أقفلتم بابه غير سامحين بحدس يتراءى لي بمعني طبيعي للتشابه، وأن لي حق الاقتراب، فأتوَهّم أني أقترب.. وأقترب وأدس كلمة “مثل أبي” في منتصف حديثي، وتلقاها والد عبدالرحمن بعينين امتلأتا حناناً، وتناظرت مع ارتجاف أنفاس عبدالرحمن قبل سماعه لحديث هو يعرف إطلالته، وأفرط بسكوت خشيةعواقب توقعها، ولم يخبرني عنها، تاركاً لي النهاية التي لن يفوتني الندم على أحداثها، وقطرُ بدايتها يَهُلّ عليّ، فامتلأت بماء ذكرى جميع اللمزات التي خجلت من الظهور من قبل، ولم يكن أوضح من لسعة تُلهب قدمي والد عبدالرحمن ونار تحرق ساقيه، ووقوفهُ فجأة. تابعتهُ أنا أيضاً بقيامي له وفراغ يحيطني أمام “لا.. طبعاً”. بدت “لا” متسمة بالوضوح لكن “طبعاً” لم تكن لها الرغبة بأن أراها جيداً، وغشاوة فصلتني عن صوته العميق، فاقداً توازن ملامحي لانتهاك مفردة مكان تمنيتُ فقط الاقتراب منه والتطابق معه، والذي انقشع وكتف والد عبدالرحمن يغادر بينما احتجت لجهد كبير، وقلب آخر يتحمل وجع أذاه الذي أبى إلا أن يضاعفه لكن بشكل مختلف وهو يوجهه لي “لقد نسيت نفسك”.

إلى ما قبل النسيان ليتني أعود وأغتال فكرة الأمل قبل أن يداس بأقدامهالتي غادرت قبل قليل لمكان امتلأ بالخدعة المغشوشة التي أسرفت في تزيينها لنفسي، ولم أكن لهم سوى ظن شَوّهَ معالم وجهٍ يرونه، وتداعيتُ من أجله لقلق البحث عن حيز وسط اتساعات لم تكن لي. والآن صوت عبدالرحمن المتبعثر لطرائق يريد من خلالها أن يسلك مساراً يُخفف من خلاله ألماً لا يليق بأن أخرج بهِ من بيته وأنا أحمله، لكن نفسي أبت إلا أن تختلف الآن، وبدأت رغبة حقيقية باستعادتها بأن أضع حاجزاً استغربت من قدرتي على إيجاده، فعزلتُ عني صوت عبدالرحمن،واستنكرت خطواتي وأنا أغادر لوضوحه الذي أتى متأخراً وأشعرني به ،وامتنان أيضا يحيط بي لكومة الشكوك التي أزيلت من أمام عيني،وإغلاق نافذة لم يَلتفت لها عنقي حتى لو خلفها قمر، واقتربت من باب الخروج وهو يَتبعني، واتسعت الدائرة التي جعلت عبدالرحمن خارجها تاركاً عنده مشاعره المزيفة لي وتصنّعي الساذج بفرصة انتماء لهم، لكن نسخة من الحقيقة أردت أن يعرفها، وأن تلمسها يده التي يضعها على كتفي يحاول تهدئتي قبل أن أزيحها عني وعن كلماته التي لا أريد مشاركتي له بها حتى بالاستماع، فأوقفت حديثه المترهل، وبمنحى آخر لا أعلم كيف سَلكته وأخذتُ عبدالرحمن له: “حفل وزارة التربية للعيد الوطني.. شاركت به أختي سعاد”. لاحظت شرود عينيه، وحسبته يظن أني فقدت عقلي بعد رفض أبيه لي، وملامحه ترسم صوراً جَلية للاستفهام: “الحفل الذي تم بثه قبل أيام، ألم تشاهده؟ سعاد أختي كانت في إحدى لوحات الأوبريت الوطني”. فزاد فرط سكوت على سؤال وحيد امتلأ بالقلق: “أسعد ما بك؟”. وغَزت روحه المخاوف عليّ، ويده تحاول مسك كتفي من جديد، لكن تراجعت عن محاولة اقترابه مني: “احتفالات بمرور خمسة وعشرين عاماً على استقلال الكويت شاركت بها أختي..”،ولم يسمح لي باستمرار حديث مجهول بالنسبة له لم يفهمه، فأراد أن أصل إلى نقطة النهاية:

– “أسعد أرجوك أن لا تعيد هذه الكلمات.. الحفل الوطني شاركت به أختك سعاد فهمت كل ذلك.. لكن ما شأني أنا؟!”.

– “لا شأن لك”.

منزل البروفيسور نُشرت في عالم أدبي ما بعد يوليسيس وهو عالم لم تعد كاثر تشعر أنها تنتمي إليه.

في مقدمة كتاب Not Under Forty، وهو مجموعة مقالات نشرتها ويلا كاثر عام 1936، كتبت (عن عمد أو غير عمد) عبارتها الشهيرة: “لقد انكسر العالم إلى نصفين في عام 1922 أو ما يقاربه”، وهي وجهة نظر أدت، في أقل تقدير، إلى فصلها عن صفوف الفنانين والكتّاب الذين يُطلق عليهم عادة “الحداثيون”.

ومع ذلك، يبدو هذا الحكم متسرعًا للغاية. فقد انشغل الباحثون بتتبع جذور الحداثة إلى أوائل القرن التاسع عشر، ولا يزال المعنى المقصود من “ما بعد” في مصطلح “ما بعد الحداثة” محل جدل. وكل محاولة جديدة لتحديد ملامح الحداثة لا تؤدي إلا إلى تعميق ضبابية حدودها، كما أن موقع كاثر ضمن هذا التيار يبقى — وربما عن قصد — غير واضح.

رواية منزل البروفيسور لـ كاثر نُشرت لأول مرة عام 1925، في عالم أدبي ما بعد يوليسيس (رواية جيمس جويس)، وهو عالم لم تعد كاثر تشعر أنها تنتمي إليه. وتتمحور الرواية إلى حد كبير حول شخصية جودفري سانت بيتر، مالك المنزل المذكور في العنوان، والذي يجد نفسه في مرحلة يصبح فيها عمله وزواجه وعائلته، بل وحتى بيتيه، في حالة من التغير المستمر. ويلجأ إلى الذكريات، وخصوصًا ما يتعلق منها بأحب طلابه، توم أوتلاند، كوسيلة للتأقلم، وهي الذكريات التي تشكل جزءًا أساسيًا من حركة الرواية.

في كتابه كل ما هو صلب يذوب في الهواء، يكتب مارشال بيرمان أن الحداثة هي “وحدة متناقضة، وحدة التفكك: إنها تصبنا جميعًا في دوامة من التحلل والتجدد المستمر، من الصراع والتناقض، من الغموض والعذاب. أن تكون حداثيًا، يعني أن تكون جزءًا من كون، كما قال ماركس، ‘يذوب فيه كل ما هو صلب في الهواء’”.

وتشارك رواية ويلا كاثر، مثلها مثل أي عمل آخر على جانبي “الانقسام” الذي يفترض أنها أحدثته، في هذا الغموض، وفي استكشاف تجربة ثقافية تتسم بالوحدة من خلال الانقسام — بانكسار شامل. وعلى الرغم من تصريح كاثر بأنها “عادت إلى الوراء سبعة آلاف سنة”، إلا أن رواية منزل البروفيسور تحمل سمات عصرها، وتحكي قصة رجل محطم بأسلوب يعكس انكسار الزمن نفسه. وتنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام غير متساوية: “العائلة”، “قصة توم أوتلاند”، و” البروفيسور”، ويعكس هذا البناء التوترات التي وصفها بيرمان باعتبارها جوهر الحداثة، والأسلوب الذي يُنسب كثيرًا إلى الأدب الحداثي.

يشعر الأفراد بعدم يقين الحداثة بشكل مكثف على المستوى الشخصي، إذ كان من أبرز ضحايا تفكك الحداثة ـ وربما أكثرها حزنًا ـ تلاشي مفهوم الهوية المتماسكة. وتتناول كاثر هذه المسائل بحساسية ودقة طوال الرواية، مستخدمة البروفيسور كشخصية تأملية لتُظهر استحالة الإحاطة الكاملة بأي فرد، حتى الذات.

تُعد إحدى تأملات سانت بيتر في أوتلاند مثالًًا جيدًا على تقنية الرواية: ففي ذكرى محددة، وبعد أن تناول توم الغداء مع الأستاذ وزوجته، التقى لأول مرة بابنتيه، إحداهن ستصبح لاحقًا خطيبته. وقدم لهما حجرين خام من الفيروز كهدية عفوية وسخية. حاولت الأم منعه من تقديم هدية ثمينة، لكن صوته “كان حزينًا وجذابًا لدرجة أنه لم يكن هناك ما يُقال”.

بعد أن حُسمت المسألة، يتفحص سانت بيتر كلًا من الأحجار وتوم نفسه، ويتذكر: للأسفل، ليس إلى الفيروز، بل إلى اليد التي تمسك بها: راحة اليد القوية المليئة بالخطوط، الأصابع الطويلة القوية ذات الأطراف الناعمة، الخنصر المستقيم، والإبهام المرن ذو الشكل الجميل الذي ينحني مبتعدًا عن بقية اليد كأنه سيد نفسه. هذا المقطع مثال كلاسيكي على أسلوب “الرؤية المزدوجة” في الأدب الحداثي: فكما يرى البروفيسور، يرى القارئ، وتُنقل ملاحظاته مباشرة إلى القارئ، لتسهيل إصدار حكم مشترك حول يد صاحبها. فاليد مثيرة للإعجاب من الناحية الشكلية: تبدأ براحة قوية، ثم أصابع طويلة ذات أطراف ناعمة — ما ينقذها من القسوة أو الفظاظة. الخنصر مستقيم — ما يشير إلى النمو السليم وربما النزاهة أو العقلانية. لكن الإبهام هو المثير حقًا، ليس فقط بسبب مرونته، بل بسبب وصفه بأنه “جميل الشكل”، ثم يتطور الوصف ليُشخَّص — يصبح كأنه كائن مستقل، سيد لنفسه، رمزًا لنبالة روحية.

ينتهي المشهد بصيحة من سانت بيتر: “يا لها من يد!” ويخزن الصورة في ذاكرته كواحدة من أعمق ذكرياته عن توم أوتلاند. “ما زال يراها، مع الحجارة الزرقاء تستقر فيها”. وهكذا، يصبح الجزء رمزًا للكل؛ ذاكرة اليد تختزل الرجل كله.

لكن هذه الرؤية النقية التي ينقلها الأستاذ للقارئ ليست إلا وهمًا. فالانقسام المألوف بين الواقع والنفسية يظهر هنا بوضوح: فالمعطيات تتعلق بتوم، لكن التفاعل النفسي ينتمي إلى الأستاذ. وكما يوضح مايكل ليفنسون في Genealogy of Modernism: “في المعارضة بين الحقيقة وعلم النفس، فإن الاهتمام الأعمق يكون بالجانب النفسي”.

سكوت ماكغريغور، الطالب السابق للأستاذ وزميل توم، يقول: “لم يعد توم واقعيًا بالنسبة لي. أحيانًا أشعر وكأنه مجرد… فكرة براقة”. لا يرد البروفيسور حينها، لكن التأمل في اليد يُظهر أنه هو الآخر بدأ يرى توم على هذا النحو — سلسلة من الأفكار اللامعة التي تُجسد الحدث والشخصية في آن.

وكما يشير جيمس ماكسفيلد، فإن صورة توم المفضلة لدى البروفيسور هي صورة الفرد الحر الوحيد في الهضبة، لا ذلك الملتزم اجتماعيًا. وفي الفصول الأخيرة، يحاول سانت بيتر أن يُسقط هذه الصورة المثالية على نفسه.

لكن الوصف المثالي لليد يكشف بدوره عن تحريف للواقع: فقد نشأ توم فقيرًا، عمل في المزارع، وعانى على الأرجح من قسوة الحياة اليدوية. ومع ذلك، فإن يديه في وصف الأستاذ خاليتان من الندوب، خاليتان من الخشونة أو الانتفاخ — بأطراف ناعمة، كما لو أنه لم يعمل يومًا.

وبذلك، تصبح اليد رمزًا لـ”وحدة التفكك” — تذوب الحدود بين توم والأستاذ، ويصبح الفرق بينهما شبه معدوم. ورغم أن كاثر قبلت بإقصائها من معسكر الحداثيين — أو ربما تأكيدًا على ذلك — فإن منزل الأستاذ تتعامل مع نفس القضايا التي شغلت الحداثيين “الرسميين”، وبأساليب مشابهة، ما يذكرنا بأن الحداثة ليست تصنيفًا يقينيًا ولا ثابتًا كما يُعتقد غالبًا.

يبقى انقسام كاثر مهمًا لبعض الباحثين، لكن رواياتها المتأخرة تشير إلى أن الانقسام الحقيقي — بين ما نسميه الحداثة وما سبقها — وقع قبل عام 1922، وأن جميع من يعيش على هذا الجانب من الخط، سواء اعتُبر “حداثيًا” أم لا، يحمل آثار هذا التمزق وأعباءه.

أدب الأنا وإرنستو ساباتو

أدب الأنا

بناء على استرداد الفرد، وتجربته المُحددة التي لا تقبل التحول، كان من المنطقي أن يلجأ ممثلو التمرد المعاصر إلى الأدب للتعبير عن أنفسهم؛ لأن هذا الواقع المعاش يُمكن أن يظهر في الرواية والدراما فحسب؛ لكن الأمر هنا لا يرتبط بذلك الأدب الذي يتسلى بوصف المشهد الخارجي أو العادات البرجوازية، وإنما بأدب الأمور الفريدة والشخصية.

يجزم فلاديمير فيدلي، في بحثه البارز «مقال عن المصير الحالي للآداب والفنون» بأننا نشهد أفول الرواية والدراما؛ لأن فنان اليوم «يعجز عن تسليم نفسه تماماً إلى الخيال الإبداعي»، بسبب هوسه بأناه الذاتية. لا يَقدر كُتَّاب القرن العشرين على تخطي هذه الأنا؛ لأن مصائبهم واضطراباتهم الشخصية تُنومهم مغناطيسيّاً، فيتحاورون إلى الأبد مع ذواتهم داخل عالم الأشباح، على عكس روائيين عظماء من القرن التاسع عشر؛ على عكس كتاب كانوا يخلقون عالماً ويُظهرون كائناتُه الحيّة من الخارج مثل بلزاك؛ أو على عكس روائيين مثل تولستوي، الذين طالما أعطوا انطباعاً بأنهم الرب نفسه.

يؤكد نقاد كثيرون أن القرن التاسع عشر هو القرن العظيم لفن الرواية. من ناحيتي، أنا مستعد لقبول أن القرن التاسع عشر هو القرن العظيم لفن روايةِ.. القرنِ التاسع عشر.

تُمثل كلمة رواية اليوم شيئاً مختلفاً جدّاً عما مثلته في القرن الماضي. لا يرتبط الأمر بأن الكاتب يعجز عن تخطي أناه الشخصية كي يقدم وصفاً موضوعيّاً للواقع، وإنما بأنه لم يعد يهتم بالأمر أصلاً، أو أنه على الأقل لم يكن يهتم به حتى وقت قريب جدّاً إلى أن بدأت تنبثق توليفة جديدة بين الذاتية والموضوعية وهي سلف التوليفة الروحانية الشاسعة، التي سنشهدها كأحد أشكال تخطي الأزمة المعاصرة (لو سمحت القوى المادية الرهيبة التي تدير اللعبة لنا بهذا الأمر بطبيعة الحال).

يُخبرنا البطل في رسائل من تحت الأرض(): «ما الذي قد يتحدث عنه رجل شريف بأقصى درجات المتعة؟ الإجابة: عن نفسه. إذاً، سأتحدث عن نفسي»، وفي كل أعمال دوستويفسكي سيتحدث عن نفسه، سواء تنكر في صورة سافروجين أم إيفان أم ديميتري كارامازوف أم راسكولنيكوف، أو حتى جنرالة أو حاكمة.

يظهر هذا الانتقال نحو الذات في كل الأدب المعاصر العظيم، فأعمال مارسيل بروست عبارة عن ممارسة شاسعة للذاتية. فيرجينيا وولف، وفرانتس كافكا، وجويس، بحواراتهم الداخلية، أو حتى ويليام فوكنر.. إن كل هؤلاء لديهم ميل إلى إظهار الواقع بداية من الذات. تقول إحدى شخصيات جوليان غرين: «إن كتابة الرواية في حد ذاتها رواية، مؤلفها هو البطل. يحكي قصته الشخصية، وإذا جسد بنفسه مهزلة الموضوعية، فهو إما مبتدئ، وإما أحمق، لأننا لا ننجح أبداً في الخروج من ذواتنا».

يبدو هذا الخلاف مع العالم الخارجي ملحوظاً في أعمال دوستويفسكي، التي تُعد من أوجه كثيرة بوابة إلى الأدب الحالي، فنحن لا نعرف أبداً إذا ما كانت شخصياته المنغمسة في ذواتها تحيا داخل قصر جميل أم مكان حقير. يُخبرنا في مرات قليلة إذا ما كانت تمطر أو إذا ما كان الجو مشمساً؛ أو أننا نعرف الأمر بمشقة عبر جملة أو اثنتين، أو لأن هذه الأمطار أو هذه الشمس تشكل -ويا للطريقة التي تُشكل بها!- جزءاً من الهم أو المشاعر التي تغرق فيها الشخصية في تلك اللحظة، فيصبح المشهد الخارجي حالة روحانية.

طالما كانت مهمة تصنيف الإنتاج الأدبي في صورة أنواع مسعى مآله إلى الفشل. فيما يتعلق بالرواية، عانت من كل الانتهاكات أو، كما قال فاليري مشمئزّاً: «كل الانحرافات تخصها»()، أو شيء من هذا القبيل. صار عصرنا تبجيلاً جديداً للأنا. ثمة رواية لفوكنر اسمها «بينما أرقد محتضرة». ثمة واحدة أخرى اسمها «الصخب والعنف»؛ لأنه لم يعد ضروريّاً ولا حتى ملائماً أن يُحكى العالم بوساطة راوٍ عليم وقادر كليّاً. ربما الرواية، كما يقول شكسبير عن الحياة:

قصة

يحكيها أحمق

ملآن بالصخب والعنف.

للعلاقات تاريخ انتهاء | قصة بعنوان: ذو شأن عظيم

ستمر به لحظة يُسَائل فيها نفسه، ويقرر بعدها أن يكون شخصًا غير الذي اعتاده، سيضاعف من مجهوده في السنة الأخيرة له في الثانوية، ثم سيتخرج بمعدل عالٍ، سيحتفي به من في المدرسة، سيعلّق اسمه في لوحة الطلاب الأوائل والمتفوقين، وسيشيد به أحد المعلمين أمام والده حين يلتقيه، سيخبره أنه أب لطالب متفوّق، الجميع هنا يحبه، وأنه سيكون ذا شأن عظيم مستقبلًا.

  سيفرح والده، سيعود دون أن يعطيه هدية نجاح أو تخرج كما سيحصل عليها أقرانه، ولكيلا يلعب هو دور الضحية، سيردد أنه ليس الوحيد الذي لم يحصل على تقدير كافٍ من والديه، بل إن غيره لم يحتف به.

  سيتجَاهله الجميع في اليوم التالي من انتهاء العام الدراسي، لكن والدته ستظل تردد لأشهر قصة تفوقه أمام صديقاتها، وستحجب الأمر عن قريباتها اللواتي تخشى حسدهن، ستمر الإجازة سريعًا، وسيذهب إلى الجامعة في غير تخصصه الذي يريده، لن يعرف أحد من عائلته التخصص الذي يرغب فيه، وسيشكك بعدها فيما إن كان هو يعرف بدوره، سيفاضل بين هذا التخصص أو ذاك، وسيتظاهر أنه يرغب في التخصص الذي قُبل فيه، لربما يكون هو التخصص الذي سيقوده لأن يكون ذلك الشخص، ذا الشأن العظيم.

  سيقضي سنوات في التفكير في شأنه العظيم، وسوف يتساءل: عظيم في ماذا؟ وإن كان قد قال له ذاك المعلم، إلا أنه لم يحدد في أي مجال سيكون ذا شأن عظيم، أي طريق عليه أن يسلكه ليصل إليه، ما هو ذاك الشأن على أي حال!

   وحين يسترجع طفولته لا يعثر على أية أمارات تَدلّه على ذلك، كان الأكثر تفوقًا، لكنه كان الأقل حظًا، الأقل فرحًا، الأقل صداقة، والأقل تلقيًا للحب، لكن حين يعود الأمر بينه وبين إخوته، فهم جميعًا، لا ينالون إلا ذلك القدر الشحيح من الحب، يقتسمونه فيمَا بينهم، فلا يكاد يبدو أنه تم تقديمه.

  ثلاثة إخوة كانوا، هو ثاني الأبناء ترتيبًا بعد أخيه الأكبر، ثم يأتي أخوهم الأصغر الذي تأخر أعوام قبل مجيئه.

  كانوا إخوة لبعضهم أكثر مما هو مفترض، يلعب كل واحد منهم دور أحد والديه للآخر؛ يعطي كل منهم ما يملكه لأخيه، ويطلب هذا من والديه ما يريده ذاك، ويبرر الأول تصرف الأخير، ويقفون جميعًا صامتين، ليغطوا على الفعل الخاطئ لواحد منهم.

  حين يفكر في الأمر أكثر مما ينبغي له، يبقى مرتبكًا، تُرى هل سيقوده التفوق لذلك الشأن؟ سيفقد ثقته في ذلك، فما إن يبدأ سنواته الجامعية حتى يبدأ بالتعثر، سيتعثر في مادتين في السنة الأولى، ثم في أربع في السنة الثانية، ستزيد وستنقص في السنوات القادمة، وحين يتخرج بعد ست سنوات في تخصص كان من المفترض أن ينهيه في أربع، سيعرف أن الجميع قد مضى بحياته، لن يعرف والديه أنه قد تجاوز المقرر منه بعامين، ولكن كلمته ستكون كافية لهم لتصديقه، أو كافية على الأقل ليشعروا أنهم قد سألوا، وبإجابته هذه، تجنبوا هم التفكير فيما يمر به، وفيما يجب عليهم تقديمه له، لكن إن لم يكن هناك ما يقدمونه له في سنوات دراسته الماضية، فماذا يمكنهم تقديمه له في السنوات الجامعية؟ سنوات دراسية أدرك بنهايتها أن التفوق لم يعد طريقًا يقوده نحو ذاك الشأن العظيم.

  ستمضي الفترة التي سيقضيها بعد الجامعة في البحث عمّا يميزه، سيفكر كيف يفتتح مشروعًا يقوده نحو الثراء السريع، مشروعًا يبدأه صغيرًا ثم يقوده ليكون عظيمًا، وبمال المكافأة الذي كان يجمعه، سيفتتح محلًا يبيع فيه أغلفة واكسسوارات للهواتف المحمولة، لن يستطيع الاستمرار فيه طويلًا، سيكتشف أنه لم يكن ذلك العمل هو طريقه نحو الثراء، بالكاد كان يستطيع تغطية تكاليف إيجار المحل الذي قام باستئجاره، وفي نهاية العام، سيبدأ بجَرد لكل ما في المحل، ثم سيأخذ كل ما تبقى معه للبيت ليعرضه لاحقًا للبيع في أحد المواقع بثمن زهيد.

  سيقرر في الأخير أنه يجب عليه أن يجد مشروعًا يقوم به من البيت، دون دفع إيجارات تجعله يسعى طوال الشهر لتأمينها لا لكي يربح من مشروعه، وقد وجد الفكرة، وجدها من شيء كان يفعله لمن حوله بالمجان، خدمات إلكترونية! لطالما كان يقوم بالتسجيل لهذا أو ذاك في موقع ما، ولطالما فتح حسابات للكثيرين في جهات أو قدم لهم فيها، وأصلح لمرات عديدة هواتف من حوله، سيكون الأمر سهلًا عليه، والعمل الذي لم يمر عليه قبل ذلك سيتعلمه مع مرور الوقت.

  سيبدأ بإنشاء التصاميم التي سيعرض فيها خدماته، سيرسلها لكل من يَعرف، سيشاهدها أقاربه ومعارفه وأصدقاؤهم ممن يحفظون رقمه لطلب خدماته.

  سيتجاهلها الجميع، وسيتوقفون عن طلب خدماته، ستبقى إعلاناته ورقم الأعمال مهجورًا إلى أن ينقطع الخط لعدم استخدامه، سيعرف أن بعضًا منهم أصبح يذهب إلى مكاتب الخدمات لينجزوا ما كانوا يطلبونه منه، وآخرين قد استقروا على مقدم خدمات غيره، سيعرف أنهم يفضلون أن يدفعوا لغيره على أن يدفعوا له نصف ما يدفعونه هناك، سيتفاقم شعوره بالحنق تجاههم، وسَيُقنع نفسه أنه على الأقل قد ارتاح من عناء العمل دون تقدير منهم.

  ستمضي ثلاث سنوات بعد انتهاء مرحلته الجامعية، ستختلط عليه الأيام فلا يعرف أن السبت هو الأربعاء، سيتلقى الكثير من رسائل إعلانات الوظائف من أصدقائه الموظفين، وممن يعرف من أقاربه أنه ما زال عاطلًا عن العمل، سيقدم هنا وهناك، سيلاحظ أن الكثير منهم أصبح يعيد إرسال كل ما يصادفه له، وسيلومونه على تقصيره وعدم سعيه للبحث عن وظيفة، سيظن البعض الآخر منهم أنه تروق له جلسة البيت دون عمل، لن يقول لهم: إن تلك الإعلانات الوظيفية التي يرسلونها له تتطلب تخصصات غير تخصصه، أو خبرة لا يمتلكها، أو أن هذه العروض الوظيفية قد فات موعد التقديم عليها.

  سيستمر في التقديم في كل ما يجده، ستنخفض درجة تَطلبه، سيدرك أنه لا يمتلك رفاهية اختيار الوظيفة التي يرغب بها، ولكثرة ما أصبح يقدم عليه من الوظائف، سيجهل أي وظيفة هي التي قدّم عليها وجاءته منها طلب للمقابلة، سيسافر لمدينة ثانية ليجري المقابلة، ستصله رسالة الرفض ما أن ينزل من رحلة العودة، سيصاب بخيبة لإدراكه أنه خسر الكثير من المال دون جدوى، وسيبقى محبطًا لوقت طويل قبل أن تصله مقابلة وظيفية أخرى، وبتثاقل وتردد سوف يسافر لإجرائها هذه المرة أيضًا، ولكن هذه المرة سيُقبل فيها، وسيعود من جديد للتعجل في الحياة التي شعر أنها فاتته حين كان الكثيرون قد سبقوه إليها، الحياة التي تجعله يتطلّع إلى الأمام باحثًا عمن تجاوزه في حياتهم دون النظر للخلف ليرى من كان معه.

   سينتقل لمدينة أخرى لأجل الوظيفة، سيقضي شهرين عند أحد أقاربه، ثم سيبحث عن شقة يستأجرها، سينتقل لها ثم سيعود للبحث عن الشأن العظيم، وحين تقترح عليه والدته أن يتزوج ليجد من تُؤنس وحدته سيوافق مباشرة، فلربما كان معها الشأن العظيم، أليس وراء كل رجل عظيم امرأة؟

  سيختار له والداه إحدى قريباتهم، سيوافق عليها، وسيقرر أن يستخرج قرضًا للزواج، وسيصرف كل ما يملكه ليتم الزواج في مدينته، سيتزوج بعدها وسيسافر ليقضي شهر العسل في المدن التي حوله، سيكون غارقًا في سعادته كما هو غارقٌ في ديونه، وستكون حياته الزوجية رغم بعض الأمور التي سيتجاهلها حياة مثالية في العام الأول، وجيدة في العامين التي تليها، وستبدأ بعدها زوجته بمطالبته بالخروج للتنزه أو التسوق عوضًا عن بقائها وحيدة في البيت، بينما يذهب هو للعمل، سيخبرها أنه يذهب ليعمل لا للتنزه، وأنه بالكاد ينتظر وقت انتهائه من العمل ليعود للبيت لكي يرتاح، لا لأن يخرج من جديد، سيحتَدّ النقاش بينهما، سيتنازل حين يدرك أنها لا ترى أحدًا هنا ولا تعرف غيره، سيتحامل على تعبه في البداية، ثم سيشعر أنها لا تقَدّر تنازلاته ومجهوده الذي يقوم به كفاية، ستتفاقم المشاكل، ستعود إلى عائلتها، وستصلح العائلتان فيما بينهما، ثم سيعود الاثنان لبعضهما معتذرًا كل واحد عن تصرفه، وبعد أن يجرب كل واحد منهما الحياة دون الآخر، ستعود العلاقة كما كانت في بدايتها.

   ستمدد رقعة الرتابة لتحاوط أيامه، لتعود من جديد لاعتياديتها، سيتجاهل الاثنان تقصيرهما تجاه الآخر، سيخونان بعضهما، سيخونها بالجسد وستخونه بالفكرة، وسيعود الاثنان لبعضهما دون أن يعرف أحد عما فعله الآخر، لكنهما حينها سيقدّرَان قيمة بعضهما، متأخرين.

   وفي إجازة يسافر فيها مع زوجته سيحاول سدَّ الفجوة التي اتسعت بينهما، وحين يعود من السفر قبل انتهاء الإجازة بثلاثة أسابيع، سيكون البيت هو المكان الذي يقضي فيه جلّ وقته، ستعود معها النزاعات بينهما من جديد، وسيقرران الانفصال في النهاية.

  ستعرف زوجته بعد قرار الانفصال بشهر أنها تحمل جنينًا في بطنها، وسيعودان للعيش معًا، ستنجب الطفل الأول، وستصبح كل الخلافات مركونة في زاوية يتجاهلان النظر إليها، سيتغاضيان عن أي مشكلة تَعقب ذلك لأجل الطفل، وستصبح حياتهم روتينية تمامًا، هي تنشغل برعاية الطفل وهو ينشغل بالعمل، سيدرك حينها أن لا شأن عظيم سيأتي من هذه الحياة التي تتكرر كل يوم دون حَدث فارق فيها، لكنه سيقبل بها، سيقبل بالحال الذي أصبح عليه، ممنيًا نفسه، أن كثيرًا من العظماء لم يصبحوا ذوي شأن إلا في نهاية حياتهم.

  سيتجاهل بعدها جملة المعلم التي كانت ملحّة في سنواته الماضية، سيتظاهر أنه قد بدأ في تناسيها، سيكبر وتكبر زوجته، ويكبر أبناؤه، سيحاول أن ينمي أي هواية أو موهبة يرى بذورها في أبنائه، سيسعى ليمرر رغباته التي لم يستطع تحقيقها فيهم دون أن يدرك، محاولًا أن يكون أحد أبنائه هو من يقوده للشأن العظيم، سيتخلى أحد أبنائه عن تلك الهواية في مرحلة مبكرة من عمره، وسيتخلى الآخر عنها في مرحلة متأخرة يتحسر فيها والده على الوقت الذي قضاه في تنميتها، ستبدأ اهتماماتهم بالتغير، سيحاول، مرة أخيرة، في تنمية الاهتمامات التي طرأت عليهم فجأة، ثم سيتوقف عن المحاولة، ستتحطم آماله في الأول، وسيمضي الثاني حياته دون حدث يُذكر.

  وحين تنتهي سنوات عمله، سيتقاعد ويبقى في البيت دون شيء يشغله، سيعرف أن زملاءه ما هم إلا محض زملاء لا أصدقاء، وسيختفي تواصله معهم تدريجيًا.

  سينقص راتبه بعد التقاعد، وسيقلص من التزاماته، سيتخلى عن فكرة المزرعة التي كان قد قرر شرائها بعد التقاعد، وسيشعر حينها بعدم حاجته للكثير من الأشياء التي كان يرى أنها ضرورية.

   سيبحث عن شيء ما يملأ فراغ وقته الذي خلا فجأة من كل شيء، ولن يجد، سيحاول أن يعود للعمل، سيخبرونه أنهم لم يعودوا بحاجة لخدماته، سيكتفي حينها بالجلوس في البيت، وسيكثر بعدها من زيارة أقاربه.

  سيموت والداه وأحد إخوته، سيبدأ بعدها بالتلفت إلى الماضي أكثر مما كان معتادًا، سيعتب في كل مرة على أبنائه لعدم زيارتهم له، سيزورهم هو وزوجته، وستنزعج عائلاتهم لكثرة زياراتهم، سيتوقف بعدها مكتفيًا بزياراتهم حين يرغبون، سيُرزَق ابنُه الأكبر بحفيده الأول، ثم بعد عام بحفيده الثاني، سيحاول أن يعيد فيهم أبنائه، سيغدق عليهم بكل الحب الذي لم يعد يطلبه منه أحد، سيشعر حينها بفارق السنوات الكبير بينهم، وبين اهتماماته واهتماماتهم، وسيجهل الكثير مما يعرفونه، سيحاول مجاراتهم في البداية، ثم سيتوقف عن محاولاته، سيرضى بما بقي له من حياته، وسيترك كل شيء يسعى إليه دون أن يسعى له.

   سيرى الجميع يبتعد حين لا يبادر إليهم، سيدرك أنه قد كَبر على كل شيء إلا الموت حين يرى الذين يعرفهم يموتون تباعًا عامًا تلو الآخر، سيمضي في عزاءاتهم فاقدًا لكل شيء، مسترجعًا كل ما مضى من حياته، وسيبقى منتظرًا دوره، ستموت زوجته قبله بعامين، وسيبقى حينها بمفرده، سيعيش مع نفسه لأول مرة منذ زمن طويل، وحينها ستعاوده تلك الفكرَة الملحة، سيحاول فيما تبقى من عمره أن يفعل شيئًا يجعله ذا شأن عظيم، وإن كان ذلك في سنواته الأخيرة، لكن كل شيء سيكون قد شَاخ معه، سيبدأ في التقاط أفكار زارته متأخرة، سيبدأ في محاولات إتمام هذه أو إنجاز تلك، سيموت في أثناء محاولاته، وسيدفن في المقبرة التي دفنت فيها زوجته ومن مات من أقاربه، وسيضيع قبره بين قبور متشابهة لن يفرّق بينها أحد.

لماذا نقع في الحبّ؟ ستندال يتحدث (عن المراحل السبع للرومانسية)

يُعتبر الحب أحد أكثر المواضيع خصوبة في الأدب والموسيقى وجميع الفنون. كان كورت فونيغوت يعتقد أنه يُسمح للإنسان بالوقوع في الحب ثلاث مرات فقط خلال حياته. وقد وُصف الحب بأنه يتطلب شجاعة، ويُعتبر وسيلة للتعافي من الأحزان، وأفضل وسيلة للحد من الندم. بالنسبة لتشارلز شولز، مبتكر شخصيات الفول السوداني، فإن الحب ببساطة يجعل الحياة أكثر جمالًا. لكن ما هي الطريقة التي يؤثر بها الحب على القلب بالضبط؟

في عام 1822، قام الكاتب الفرنسي ماري هنري بييل، المعروف بلقب ستاندال (23 يناير 1783 – مارس 1842)، بتأليف عمله “عن الحب”، الذي يعد دراسة خالدة تهدف إلى تحليل المشاعر الإنسانية بعمق وبطريقة عقلانية. وقد تم اكتشاف هذا العمل مرة أخرى بفضل إشارة عابرة في مذكرات سوزان سان، التي اشتهرت بتعبيرها الساخر: “لا شيء غامض، لا علاقة إنسانية. إلا الحب.”

انطلق ستيندال في بناء جسر فني يربط بين “الحساسية العميقة والتحليل البارد”، حيث ابتدأ بتصنيف الأنواع الأربعة الأساسية للحب:

هناك أربعة أنواع مختلفة من الحب:

1. الحب الرومانسي. هذا هو شعور الراهبة البرتغالية، ومشاعر هيلويس تجاه أبيلارد، وحب قائد فيسيل، وحب دركي سينتو.

2.الحب المهذب الذي نما في باريس حوالى عام 1760 يظهر في مذكرات وروايات تلك الحقبة، مثل مذكرات كريبيلون ولوزون ودوكلو ومارمونتيل وشامفورت والسيدة ديبيناي.

لوحة مزخرفة، تمتزج فيها الألوان الوردية مع الظلال، حيث لا يوجد مكان لأي شيء غير لطيف على الإطلاق – لأن ذلك يُعتبر انتهاكًا للأخلاق والذوق الرفيع والدقة. الرجل المثقف يعرف مسبقًا كل القواعد التي يجب عليه اتباعها في مراحل هذا النوع من الحب، والذي غالبًا ما يبدو أكثر رقيًا مقارنةً بالحب الحقيقي، لأنه يخلو من العواطف أو المفاجآت، ويكون دائمًا مدروسًا. إنه يمثل صورة مصغرة هادئة وجميلة مقارنة بلوحة زيتية لأحد أفراد عائلة كاراتشي؛ بينما الحب العاطفي يأخذنا بعيدًا عن مصالحنا الحقيقية، فإن الحب المؤدب يحترم دائمًا تلك المصالح. ومن المؤكد أنه إذا أزلنا الغرور، فلن يتبقى الكثير من الحب المؤدب، ولا يستطيع الشخص الضعيف أن يدفع نفسه للأمام.

3. الحب الجسدي هو مغامرة فريدة، كأنك في رحلة صيد مثيرة، حيث تقابل فتاة من قرية ريفية، جميلة كزهرة تنمو بين الأشجار، تسرع بخفة ورشاقة عبر الغابة. إن هذا النوع من المتعة هو بمثابة الشعلة التي تضيء درب العواطف، ومع أن قلبك قد يكون جافًا وكئيبًا، فإن هذه اللحظة هي البداية الحقيقية لحياتك العاطفية، حيث تتفتح الأبواب أمامك في سن السادسة عشرة.

4. الحب المدفوع بالغرور. معظم الرجال، خصوصًا في فرنسا، يسعون لامتلاك امرأة أنيقة كما يمتلك المرء حصانًا رائعًا، كنوع من الرفاهية التي تناسب الشباب. الغرور إذا تم إبرازه قليلًا أو تم تحريكه بشكل طفيف، يمكن أن يؤدي إلى إثارة الحماس. في بعض الأحيان، قد يكون هناك عشق جسدي، لكن هذا ليس دائمًا، وغالبًا ما تفتقر المتعة الجسدية. كما قالت دوقة شولن: “لا تتجاوز الدوقة الثلاثين في نظر البرجوازي”، ويتذكر حاشية الملك العادل لويس الهولندي امرأة جميلة من لاهاي، لم تستطع مقاومة سحر أي دوق أو أمير. لكن وفقًا لمبادئ التسلسل الهرمي، كان يتم إرسال دوقها بعيدًا بمجرد وصول الأمير إلى البلاط، مما جعلها تشبه رمزًا للأقدمية في السلك الدبلوماسي!

أكثر أشكال هذه العلاقة المملة سعادة هو عندما تتزايد المتعة الجسدية مع مرور الوقت، مما يؤدي إلى ذكريات تشبه الحب. هناك شعور بالجرح في الكبرياء وحزن في الرضا؛ وكأن الخيال الرومانسي يسيطر عليك، مما يجعلك تشعر كما لو كنت مريضًا بالحب وحزينًا، لأن الغرور دائمًا ما يتنكر في شكل شغف عظيم. ومع ذلك، هناك أمر واحد مؤكد: بغض النظر عن نوع الحب الذي يولد الملذات، فإنها تصبح حية وذكرياتها تجذب الانتباه، فقط من لحظة الإلهام. في الحب، على عكس معظم المشاعر الأخرى، يكون تذكر ما حصلت عليه وما فقدته دائمًا أفضل مما يمكن أن تتوقعه في المستقبل.

أحيانًا في الغرور – الحب، أو العادة، أو اليأس من العثور على شيء أفضل، يؤدي إلى صداقة من النوع الأقل جاذبية، والتي ستتباهى حتى باستقرارها، وما إلى ذلك.

على الرغم من أن المتعة الجسدية تعد شعورًا طبيعيًا ومعروفًا للجميع، إلا أنها تعتبر ذات أهمية أقل لدى الأشخاص الحساسين والعاطفيين. فإذا تعرض هؤلاء للسخرية في غرف الرسم أو تأثرت مشاعرهم بمؤامرات العالم، فإنهم يكتسبون فهمًا لملذات لا يمكن الوصول إليها من قِبل أولئك الذين يسيطر عليهم الطمع أو المال فقط.

بعض النساء النبيلات والحساسات لا يفهمن مفهوم المتعة الجسدية، حيث نادراً ما يختبرنها. بل يمكن القول إن شعور الحب العاطفي قد طغى تقريباً على ذكريات الملذات الجسدية.

يوجد رجال يعتبرون ضحايا لأهواء الكبرياء المدمرة، مثل كبرياء ألفيري. هؤلاء الرجال، الذين قد يظهرون قساوة نتيجة لخوفهم المستمر مثل نيرون، يميلون إلى الحكم على الآخرين بناءً على معاييرهم الخاصة. لا يمكنهم الاستمتاع الجسدي إلا من خلال قسوة يمارسونها على رفقاء متعتهم، وهذا ما يمنحهم شعوراً زائفاً بالأمان.

بدلاً من تحديد أربعة أنواع فقط من الحب، يمكننا الاعتراف بوجود ثمانية أو عشرة تمييزات. قد تتنوع طرق الشعور كما تتنوع طرق الرؤية، ولكن الاختلافات في المصطلحات لا تؤثر على الحجج التالية. كل نوع من أنواع الحب الذي سيتم ذكره لاحقاً يمر بمراحل الولادة، والحياة، والموت، أو يصل إلى الخلود وفقاً لنفس القوانين.

في فصل بعنوان “عن نشأة الحب”، يوضح ستيندال كيفية تطور الحب. ومن الجدير بالذكر مفهومه للتبلور، الذي يعتبر نوعًا من الجنون، حيث صورت سيلفيا بلاث هذا المفهوم بشكل رائع. فالمثالية الإسقاطية تدفعنا إلى رؤية أحبائنا بطريقة تجعلنا نغمر إنسانيتهم الكاملة في نسخنا الرومانسية الانتقائية للواقع.

إليكم ما يحدث في الروح:

1. الإعجاب.

2. تفكر، “كم سيكون من الممتع أن تقبّلها، أن تقبلك،” وهكذا…

3. الأمل. تلاحظ كمالها، وفي هذه اللحظة يجب على المرأة أن تستسلم حقًا، من أجل المتعة الجسدية القصوى. حتى أكثر النساء تحفظًا يحمر وجههن خجلاً في هذه اللحظة من الأمل. العاطفة قوية جدًا، والمتعة حادة جدًا، لدرجة أنهن يخونن أنفسهن بشكل لا لبس فيه.

4.يبدأ الحب كفجر جديد، حيث يتجلى في لحظات من السعادة واللذة، حين تلتقي الحواس جميعها في تناغم ساحر. إنه الإحساس العميق بالمشاركة والامتزاج مع كائن محبوب، يجلب لك الفرح ويرد لك الحب بالمثل.

5. تبدأ مرحلة التبلور الأولى. إذا كنت متأكدًا من مشاعر امرأة تجاهك، فإنك ستشعر بالسعادة في تقديم آلاف المزايا لها، وستكون ممتنًا بشكل لا نهاية له. في النهاية، قد تفرط في تقديرها بشكل مبالغ فيه، وتراها كهدية نزلت من السماء، غير معروفة حتى الآن، لكنها بالتأكيد لك.

اترك حبيبك مع أفكاره لمدة أربع وعشرين ساعة، وهذا ما سيحدث:

في مناجم الملح بمدينة سالزبورغ، يتم إلقاء غصن شتوي جاف خالٍ من الأوراق في أحد المناجم المهجورة. وبعد مرور شهرين أو ثلاثة، يُستخرج هذا الغصن مغطى برواسب لامعة من البلورات. الغصن الأصغر، الذي لا يتجاوز حجم مخلب طائر القرقف، يصبح مزينًا بمجموعة من الماس المتلألئ، مما يجعل من المستحيل التعرف على الغصن الأصلي.

العملية التي أطلقت عليها اسم التبلور هي تجربة عقلية تستخرج من الأحداث المختلفة دلائل جديدة حول كمال الحبيب.

تستمع إلى مسافر يتحدث عن بساتين البرتقال المنعشة بالقرب من البحر في جنوة خلال فصل الصيف: آه، ليتك تستطيع أن تشعر بهذه البرودة!

[…]

تنبع الظاهرة التي أطلقت عليها اسم التبلور من طبيعة الإنسان، التي تجعلنا نشعر بالسعادة وترسل الدم إلى أذهاننا. كما ترتبط هذه الظاهرة بالشعور بأن مستوى المتعة يعتمد على كمال الحبيب، بالإضافة إلى فكرة “إنها لي”.

ستيندال يوضح مفهوم التبلور من خلال تشبيه بصري، حيث تمثل مدينة بولونيا اللامبالاة بينما ترمز روما إلى الحب الكامل. يبدأ المسافر رحلته من بولونيا، حيث يكون غير مبالٍ، ثم يتنقل عبر أربع مراحل من التبلور: الإعجاب، والاعتراف، والأمل، والبهجة، لينتهي به المطاف في روما وهو محب، بعد أن زادت بشكل كبير من مزايا المحبوب. يُقال إنه رسم هذا المخطط على ظهر بطاقة لعب أثناء توجهه إلى منجم الملح في سالزبورغ.

هذا ما يحدث بعد ذلك لتثبيت الانتباه:

6. يتسلل الشك إلى قلب العاشق. في البداية، تثير عشرات النظرات أو بعض التصرفات الأخرى آماله وتؤكد مشاعره. ولكن، بعد أن يتجاوز الصدمة الأولى، يبدأ في الاعتياد على حظه الجيد، أو يتصرف بناءً على فكرة مستمدة من العدد الكبير من النساء اللواتي يمكن الفوز بهن بسهولة. يبدأ في طلب المزيد من الأدلة الإيجابية على الحب، ويسعى لتعزيز قضيته بشكل أكبر.

يُواجه الشخص الذي يبدو واثقًا جدًا تجاهلاً أو برودة أو حتى غضب. في فرنسا، هناك نوع من السخرية يوحي بأنه يُقال له “تظن أنك أفضل مما أنت عليه بالفعل”. قد تتصرف المرأة بهذه الطريقة إما لأنها في مرحلة التعافي من شرب الكحول وتخضع لمتطلبات الحياء، التي قد تخشى أنها أساءت إليها، أو ببساطة بدافع الحكمة أو المغازلة.

يبدأ العاشق في فقدان ثقته في الحظ السعيد الذي توقعه، ويقوم بتحليل أسباب أمله بطريقة نقدية.

يحاول تعويض ذلك من خلال الانغماس في ملذات أخرى، لكنه يدرك في قرارة نفسه أنها لا تعني شيئًا. مما يؤدي إلى شعوره بالخوف من وقوع كارثة كبيرة، فيبدأ الآن بتوجيه انتباهه بالكامل. وهكذا تبدأ:

7. التبلور الثاني هو عملية يتم فيها ترسيب طبقات من الماس تُظهر أنها “تحبني”.

طوال الليل الذي يلي ولادة الشك، يمر العاشق بلحظات متكررة من الشك القاسي، ثم يحاول تهدئة نفسه بقوله: “إنها تحبني”، ليبدأ في إدراك سحر جديد. لكن سرعان ما تهاجمه مشاعر الشك مرة أخرى، فيتجمد في مكانه. ينسى أن يتنفس، ويهمس: “لكن هل تحبني؟” بين الشك والفرح، يقتنع العاشق المسكين بأنها قادرة على منحه سعادة لا يستطيع العثور عليها في أي مكان آخر على وجه الأرض.

إن تميز هذه الحقيقة، والطريقة للوصول إليها، مع وجود تحديات كبيرة من جهة، ورؤية للسعادة التامة من جهة أخرى، هو ما جعل التبلور الثاني أكثر وضوحًا بكثير من الأول.

يتأرجح عقل العاشق بين ثلاث أفكار:

1. إنها مثالية.

2. إنها تحبني.

3. كيف يمكنني الحصول على أقوى الأدلة الممكنة على حبها؟

أكثر اللحظات ألماً في الحب خلال الطفولة هي عندما تدرك أنك كنت مخطئاً في شيء ما، مما يستدعي تدمير كل ما بنيته من أحلام. يبدأ الشك في التبلور في ذهنك ويتسلل إلى مشاعرك.

على الرغم من ذلك، لا يُعتبر التبلور أمرًا سلبيًا بالضرورة. في الحقيقة، يشير ستيندال إلى أنه قد يكون العنصر الأساسي في مرحلة التعلق في الحب، كما حددتها عالمة الأنثروبولوجيا البيولوجية هيلين فيشر بعد حوالي قرنين من الزمن.

يضمن التبلور الثاني استمرارية الحب؛ حيث تشعر أن الخيارات المتاحة أمامك تقتصر على كسب حبها أو فقدان الحياة. إن الفكرة القائلة بالتوقف عن الحب تبدو غير منطقية عندما تكون قناعاتك ثابتة في كل لحظة، فتتحول الأشهر إلى عادة. وكلما كانت شخصيتك أكثر قوة، تضاءلت الرغبة في التذبذب.

[…]

تستمر عملية التبلور طوال فترة الحب تقريبًا دون انقطاع. وتتمثل هذه العملية في أنه كلما كانت هناك مشكلات بينك وبين شريكتك، تقوم بتكوين صورة مثالية وهمية. من خلال الخيال فقط، يمكن أن تبدو شريكتك مثالية. بعد لحظات القرب، تخف حدة المخاوف المتكررة عبر حلول أكثر واقعية. لذلك، فإن السعادة لا تبقى على حالها، فهي تجدد نفسها يوميًا، كما لو أن كل يوم يحمل زهرة جديدة.

يعتمد تحليله العقلاني للحب على نوع من التحذير المطمئن، حيث يقر بالفكرة الشائعة بأن الحب ليس شيئًا يمكننا التحكم فيه أو التخلص منه. “كما ذكر ستيندال:

الحب يشبه الحمى التي تظهر وتختفي دون أي ارتباط بالإرادة. هذا يميز الحب الهادئ عن الحب العاطفي. إن جاذبية الحبيب ليست مجرد مسألة تقدير شخصي، بل تعتمد أحيانًا على الحظ. وأخيرًا، لا يوجد عمر محدد للحب.

يُقال إن الحب في مراحل متأخرة من العمر يكون عادةً أكثر عمقًا واستمرارية مقارنةً بالحب في سن الشباب.

بالنسبة للأطفال الصغار، يظهر الحب كأنه نهر واسع يجرف كل ما في طريقه، مما يجعلهم يشعرون بوجود تيار مستمر. وعندما يصل الشخص الحساس إلى سن الثامنة والعشرين، يبدأ في فهم أن السعادة التي يمكن أن يحصل عليها من الحياة تأتي من الحب؛ ومن هنا يبدأ صراع عميق بين الحب وفقدان الثقة. يتشكل هذا الصراع ببطء؛ لكن أي تجربة تنجو من صعوبتها الشديدة، حيث تواجه الروح أخطر التحديات، ستكون أكثر إشراقًا واستمرارية بكثير من تجارب فتاة في السادسة عشرة، التي لا تعرف سوى السعادة والفرح. وبالتالي، فإن الحب في المستقبل سيكون أقل بهجة، ولكنه سيكتسب عمقًا عاطفيًا أكبر.

 

أورانوس رواية العوالم الشاسعة اللا نهائية

يُعد مارسيل إيميه، الكاتب الشعبي في القرن العشرين، من أصحاب القدرة النادرة على رسم صورة الحالة الإنسانية بدقة. كان يدرك الوحشية الهائلة في النفوس البشرية وضعف الإنسان – بل ضعف يتجاوز ذلك في بعض الأحيان… ومع ذلك، لم يُدن الإنسان أبدًا. في رواية أورانوس التي نشرت عام 1948، يحكي الكاتب بروح الدعابة عن معاناة قرية فرنسية في زمن ما بعد التطهير؛ وهي رؤية تختلف كثيرًا عن الخطابات الرسمية.

«أنا لا أدعي أنكم منافقون، لكن هناك عصور يصبح فيها القتل واجبًا، وأخرى تأمر بالمنافقة. إن العالم مصمم بشكل متقن. الإنسان يمتلك بداخله مواهب لن تزول.»

ليس كما لو أن قريتهم، التي دُمرت ثلاثة أرباعها جراء قصف عند التحرير، خرجت سالمين من ويلات الحرب وأربع سنوات من الاحتلال الألماني. إذ اضطر كل سكان بلومونت، سواء كانوا مثقلين بضميرهم أم لا، إلى أن يشقّوا طريقهم في فرنسا المُحررة والمطهرة جزئيًا. فلا أحد هنا نسي الإعدام العلني لخبير اعتبره خائنًا، حيث تم تثقيب عينيه قبل إجباره على الركوع حول القرية. ففي الصحف والمراسم الرسمية، تبدو الحقيقة لا جدال فيها: الفرنسيون، تحت قيادة الجنرال ديغول، قاوموا ببسالة وهزموا نذل النازي ومتعاونيه غير المستحقين. لكن في خفايا البيوت، تبدو الحقيقة أكثر تعقيدًا… وهذا هو الفارق تحديدًا بين الخطاب الرسمي والرواية غير الرسمية التي يُثيرها مارسيل إيميه.

آرشامبو، وهو مهندس يحظى باحترام زملائه، وإن كان محترمًا أقل بين أبنائه، لا يخفي موقفه: فقد آمن بفائدة التعاون مع المحتل، ولا زال يؤمن به “قاسيًا كالحديد”. ومثل كثير من سكان بلومونت، كان من أنصار مارشال، “دون صخب”، لكن ليس بدرجة تدعو للتوبيخ عند التحرير. لذا، يشاهد آرشامبو بإنزعاج مشهد النظرات الزائفة والابتسامات المتملّقة من زملائه الوطنيين، الذين هم ليسوا أكثر مقاومة منه ولكنهم حريصون على الانضمام إلى روح العصر الجديد. ويلاحظ، مع زيادة انزعاجه، أنه يُظهر نفس ميوله متى ما احتاج الأمر لإخفاء آرائه الحقيقية، فيكتفي بالصمت أو بهزة رأس أو ابتسامة توحي بلا لبس للطرف المقابل بأنه يتماشى مع الرأي السائد.

ولا بدّ من الإشارة إلى أن الوقت ليس مناسبًا للتفاخر في قرية يعيش فيها النشطاء الشيوعيون في قمم أخلاقهم ومستعدون للإبلاغ عن أي مواطن يرتكب حتى أدنى مخالفة. وفي خضم هذه الأفكار، وأثناء عودته إلى منزله ذات مساء، يُوقفه في فناء عمارتنا رجل يعرفه على الفور: ماكسيم لون، الموظف السابق في مصنعه والذي عمل أثناء التعاون لصالح صحف تفتخر بانتمائها لقضية هتلر. محكوم عليه بالإعدام حكمًا اعتباريًا، ومطلوب ومطارد، يطلب ماكسيم لون ملاذًا. آرشامبو، مدفوعًا بالشفقة ومضطرًا للظروف، يمنحه مأوى… فليكن ما يكن.

في الوقت نفسه، تدور النقاشات بنشاط في مقهى Le Progrès، حيث يبدو صاحب المقهى ليوبولد، الذي يستهلك اثني عشر لترًا من النبيذ الأبيض يوميًا، معجبًا بمسرحية راكسين منذ أن أصبح الأساتذة يعقدون دروسهم في مقهاه بعد هدم الكلية. وإذا شك البعض في نزاهة صاحب المقهى في زمن الحرب والسوق السوداء، فإنه يدعي براءة نفسه، حيث “وظّف يهوديًا كعامل تقديم”. والدرريون يعلمون، رغم ذلك، بأن هذا الشخص كان ابن أخيه الذي لم يكن يهوديًا… ولكن لا بأس، فكلٌ يرتب أموره كما يستطيع ليلعب ورقة المقاوم منذ البداية.

في بلومونت، يُخترع الناس القصص أو يتباهون بها، أو إن لم يتوفر لهم بديل، يصمتون. خاصةً إذا كانوا على مقربة من أذن ناطق بنشاط سياسي من اليسار المتطرف. هؤلاء يأتون في صور متعددة: جوردان، الشيوعي المتعصب، وران غينيه، العضو الوفي للجنة الفرعية المحلية للحزب الشيوعي، أو حتى فرومنتان، الاشتراكي النضالي، الذي يحلق فوق معاصريه في سماء الأفكار السياسية، “مفتون بالخطوط الكبرى والمخططات والأفكار العرضية”. ومنذ تدمير أجزاء من القرية، اضطر هذا التجمع البشري إلى تقاسم المساحات – حيث على بعض العائلات أن تتشارك شققها مع الذين دُمروا وتشاطر واقع الجوار الجديد الذي غالبًا ما يكون مزعجًا.

تحت اختبار الزمن: الرواية التي تثير الجدل

رُوِيَت مبكرًا جدًا، والرواية تثير الضيق. الأسطورة لدى فرنسا الغاليسية، المُطهرة من عناصرها “النجسة” بدأت تتشكل، لكن مع Uranus، جاء مارسيل إيميه ليفتت آثار الإجلال الوطني.

بجرأة، يُعيد إيميه فتح الجرح الذي لا يزال ينزف… ويُذكر بروح الدعابة بدلاً من الحدة أنه لا وجود لرواية بالأبيض والأسود.

لقد أظهر مارسيل إيميه من قبل براعته في الكتابة الروائية قبل الحرب العالمية الثانية، لكن الحرب الأخيرة بدون شك منحتَه مادة أدبية لا تُقدر بثمن. فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي، كان يستمتع برسم قسوة العلاقات الإنسانية على خلفية الانقسامات السياسية (كما في La Jument Verte، حيث كان المحافظون والجمهوريون “يضربون الحديد” في زمن البُولونجية)، ولم يكن ليحلم بأفضل من ذلك.

 نشرت الرواية مبكرًا جدًا، مما أثار استياء البعض. بينما بدأ الأسطورة الخاصة بفرنسا الغاليسية، الخالية من “عناصرها النجسة”، تظهر، جاء مارسيل إيميه مع أورانوس ليضعف قوة التأليه الوطني. بتحدٍ، يُعيد فتح الجرح الذي لا يزال موجودًا… ويُذكر بروح الدعابة وليس بالدقة اللاذعة أنه لا يوجد سرد يُقدم الأمور بأبيضها وأسودها.

كما تُشير الرواية، فإن المقاومات والمشاركات في التعاون لم تكن إلا سلوكيات هامشية. ففي البداية، كان الهدف الأساسي هو البقاء على قيد الحياة قبل الانخراط في السياسة. لكن هذه النظرة المذلة للفرنسي المتوسط السلبي – بل المستسلِم – استغرقت وقتًا لتبرز وتُحدث تشققات في أسطورة المقاومة الفرنسية. ولم تتصدَّ هذا التصور حتى بعد نحو عشرين عامًا من الحرب، بفضل هجمات متكررة من قِبل مؤرخين وصحفيين غاصوا في الأرشيفات؛ إذ أحدث عرض الفيلم الوثائقي Le Chagrin et la pitié (الذي سُمح بعرضه على التلفزيون عام 1981 فقط) تحولًا صارخًا في الرواية الرسمية وصدم الجمهور بشدة. من خلال تسليط الضوء على التناقضات في سلوك الفرنسيين تجاه المحتل، بادر إلى بدء مرحلة تاريخية جديدة، تُعرف بـ”الذاكرة المكسورة” كما أسماها المؤرخ هنري روسو.

في رواية Uranus، لا يقول مارسيل إيميه الكثير غير ذلك – بأسلوب أكثر رصانة – حين يعبِّر بلفظيات آرشامبو:

«كانت تلك الموجة من المنافقة، التي كنت أظنها ستجتاح فرنسا، قد اتخذت الآن في عيني أبعادًا رائعة. سواءً زعمت الصحافة بأكملها أنها تتجاهل حقيقة وجود ملايين الأفراد ممن يحملون هذا الرأي، أو قَلَّصت عددهم إلى بضع عشرات الآلاف من الحمقى والخونة؛ كان هذا بمثابة كذبة عملاقة.»

مدح الضعف

ومع ذلك، ولضمان ألا ينغمس القارئ الذي ليس مولعًا بالسياسة، لن نخوض في تفاصيل الجدل التاريخي حول نظام فيشي. فكلمة السياسة بالنسبة لمارسيل إيميه تُستخدم في المقام الأول كذريعة لرسم الحالة الإنسانية، وعنصر ديكور يُثري المواقف والحوارات، وهو الفن الذي يتقنه الكاتب. شخصياته تتحدث ببساطة، مستخدمة لغة يومية تبدو وكأنها تنبع من فم ممثل مثل غابان أو بورفيل… (والتي ستتناسب تمامًا مع أداء ديبارديو ومارييل، في تجسيد شخصيتي ليوبولد وآرشامبو في فيلم أورانوس للمخرج كلود بيري). هذا الكلام الشعبي، الذي يمتزج فيه “مظهر المتعجب بملامح ورقية” مع “نوع من قزم كوازيمود المُنهَك من الإدمان على الكحول”، أبقى دائمًا مسافة بين مارسيل إيميه وزملائه. لقد وُصف بأنه فظ جدًا ولم ينكر يومًا ارتباطه بحركة أدبية، فلم يُقبل خلال حياته من قبل محترفي الأدب، وبعد وفاته بعشر سنوات، تعرض لهجوم شرس من المؤرخ باسكال أوري الذي اتهمه – في مقال نشرت صحيفة Le Monde – بتبنيه “لأناركية الازدراء، التي تسخر من الحالة الإنسانية بنظرة خالية من اللين وتتزين بقناع ساخر”.

ومن الظلم أن يُنتقد مارسيل إيميه على أنه يحتقر الإنسانية؛ ما لم نُلقي اللوم أيضًا على فلوبير القاسي الذي يهاجم شخصية تشارلز بوفاري ويثقل صفحة تلو الأخرى على فريدريك مورو في L’Education sentimentale. وإن كان يرسم صورة لضعفنا وركوننا وخياناتنا المخزية، فإنه غالبًا ما يغفر تلك الزلات.

فمثلاً، يفقد جان غينيه، الشيوعي المتزمت، توازنه أمام ذراع وردية لفتاة صغيرة، ويأمل ابن مونغلات الفظة، المتعاون الذي لا يُصلح، في فتح محل أحذية مع تلك الفتاة، أو يبوح المتعصب جوردان في رسالة إلى “أمه الصغيرة الحبيبة” بمخاوفه في انتظار موجة ثورية جديدة.

يرى بعض القراء أن رواية أورانوس تأتي كمحاولة لإعادة تأهيل خفية لنظام فيشي، من خلال شخصيات مارشالست مسموعة ينمّي إليها الكاتب مودة. ويعتبر باسكال أوري من بين المنتقدين الذين يرون في الرواية “إدانة ساخرة لعملية التطهير”، في حين يرى مارسيل إيميه نفسه مُكتفيًا بوصف فترة قاسية على أهله، عندما يكون الخطأ الوحيد لهم هو ضعفهم وقلة بطولة تصرفاتهم. كما أنهم لا يغفرون له – بحسب نقاد آخرين – نشره خلال الحرب في صحف متعاونة مع الألمان، رغم أنه لم يُظهر يومًا تعاطفًا مع حكومة فيشي؛ فقد كان ينشر فيها أخبارًا أو خواطر عابرة. ولا يغفرون له أيضًا نضاله، إلى جانب جان أنوي وفрансوا مورياك، للحصول على عفو لبراسياش عام 1945. وفي برنامج إذاعي على إذاعة فرنسا كولتشر عام 1991، دافع ميشيل لوكيور، الذي كتب مقدمة ونظم نشر أعمال مارسيل إيميه ضمن سلسلة “La Pléiade”، عن الكاتب الذي اُتهم بكل اللوم – لاسيما اتهامه بـ”الأكل من كل صحن” – من قبل صحفية تبدو بريئة زائفًا:

«لو كنت نجارًا أو بائع زجاج، كان بإمكانك الاستمرار في حياتك دون أن يؤثر ذلك على السياسة. أما إذا كنت صحفيًا، فكل ما تبقى هو الصحف المتعاونة.»

كان لا بدّ من العمل، باختصار. وإنما يجب على قرّاء مارسيل إيميه أن يهتموا بعمله الأدبي الجليل، الذي تركه لنا، والذي تُعَدُّ أورانوس بلا شك إحدى القطع الرئيسية فيه.

«ما هو مخيف حقًا ليس زخم الأفكار مع كل أخطائها وتشوشها. الخطر الحقيقي يكمن في بؤس واختناق العقول.» كما يقول مارسيل إيميه.

عن فلسطين رؤية تحليلية

عن المؤلفَين

إيلان بابيه ونوام تشومسكي، وهما اثنان من أبرز العلماء والمفكرين، تعاونا لإنتاج العمل اللافت “عن فلسطين”. ويجلب كلا المؤلفين ثروة من الخبرة والمعرفة إلى النقاش، مما يُثري السرد بمنظورَيهما المتميزَين حول الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

إيلان بابيه، مؤرخ إسرائيلي، يشتهر بتحليله النقدي لتاريخ إسرائيل الحديث. وُلِد في مدينة حيفا، وقد دأب بابيه على تحدي السرديات السائدة، خاصة تلك المتعلقة بقيام دولة إسرائيل عام 1948. وقد أكسبه بحثه المكثف والتزامه الصريح بكشف الحقائق التاريخية شهرة دولية، مما جعله شخصية بارزة في مجال دراسات الشرق الأوسط.

أما نوام تشومسكي، فهو عالم لغويات وفيلسوف وناشط سياسي بارز، وناقد ثابت لسياسة الولايات المتحدة الخارجية، ومدافع عن العدالة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وُلِد في فيلادلفيا، ويمتد تأثيره الفكري إلى ما هو أبعد من علم اللغة، ليشمل مجموعة واسعة من التخصصات. وقد جعلته انتقاداته للإعلام والسلطة corporatية والسياسات الحكومية شخصية محورية في الأوساط التقدمية حول العالم.

ويُعد التعاون بين بابيه وتشومسكي في “عن فلسطين” اتحادًا بين عقلين بارعين يجمعان خبرات متكاملة. فمعرفة بابيه الدقيقة بتاريخ إسرائيل، إلى جانب الرؤى الجيوسياسية الواسعة لتشومسكي، تخلقان تآزرًا يُضفي عمقًا وتفصيلًا على تحليلهما للقضايا المعقدة المحيطة بفلسطين.

وفي مسيرتَيهما، واجه كلا المؤلفين انتقادات وجدلًا بسبب آرائهما الصريحة. فقد واجه بابيه، على وجه الخصوص، ردود فعل عنيفة داخل إسرائيل لتحديه الرواية التقليدية المتعلقة بتأسيس الدولة. كما أن انتقادات تشومسكي لسياسة الولايات المتحدة الخارجية جعلته شخصية مثيرة للجدل، رغم أن تأثيره كمفكر عام لا يزال قويًا.

ويأتي كتاب “عن فلسطين” كثمرة لالتزام مشترك من بابيه وتشومسكي بالانخراط في تعقيدات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ولا يُعد تعاونهما مجرد مسعى أكاديمي، بل يعكس إيمانًا مشتركًا بقوة المعرفة في تعزيز الفهم، وفي نهاية المطاف، الإسهام في إيجاد حل أكثر عدلًا وإنصافًا للقضايا العالقة في المنطقة.

التحريف التاريخي والنكبة:

يتناول الكتاب موضوع “التحريف التاريخي”، من خلال تحدي السرد التقليدي المحيط بالنكبة، أي التهجير الجماعي للفلسطينيين أثناء تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948. وتتمثل مساهمة إيلان بابيه في هذا السياق في إعادة فحص دقيقة للوثائق التاريخية والشهادات، كاشفًا عن رواية أكثر تعقيدًا وغالبًا ما تكون مزعجة للأحداث. يُقارن بابيه بين اكتشافاته والرواية الصهيونية السائدة، مقدّمًا منظورًا يطعن في الأعراف الراسخة.

أحد الجوانب المحورية في مراجعة بابيه التاريخية هو تركيزه على دور “التطهير العرقي” في نشأة إسرائيل، حيث يجادل بأن تهجير الفلسطينيين لم يكن مجرد نتيجة للحرب، بل كان جهدًا ممنهجًا ومتعمدًا لإنشاء دولة ذات أغلبية يهودية. ورغم أن هذا المنظور مثير للجدل، إلا أنه أثار نقاشات مهمة داخل الحقل الأكاديمي التاريخي، إذ يختلف بشكل جذري مع التفسيرات الصهيونية التقليدية للنكبة.

وبالمقارنة مع مؤرخين آخرين مثل بني موريس، فإن نهج بابيه يمثل انحرافًا حتى عن “المؤرخين الجدد” الذين، رغم مراجعتهم لبعض السجلات التاريخية، لم يستخدموا دائمًا مصطلح “التطهير العرقي” لوصف أحداث عام 1948. يناقش الكتاب هذه التفسيرات المختلفة من خلال طرح مساهمة بابيه المميزة في هذا الجدل المستمر حول النكبة.

دور الفاعلين الدوليين ومسألة العدالة:

يستكشف بابيه وتشومسكي موضوع التدخل الدولي في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، من خلال تحليل أفعال القوى والمؤسسات العالمية. وينتقدان بشدة دور الولايات المتحدة، مشيرين إلى دعمها الثابت لإسرائيل وما يترتب على ذلك من آثار على السعي نحو العدالة في المنطقة. وتتمثل مساهمة تشومسكي في هذا السياق في تحليله الأوسع للسياسة الخارجية الأمريكية، من خلال وضعها في سياق توازنات القوى والمصالح الجيوسياسية.

يتناول الكتاب مفهوم “عملية السلام” ودورها في تكريس الوضع القائم، حيث يرى المؤلفان أن هذه العملية، التي تديرها قوى دولية نافذة، غالبًا ما تكون ستارًا يُخفي الأسباب الجذرية للصراع. ينتقدان اتفاقية أوسلو والمفاوضات اللاحقة، ويؤكدان أنها فشلت في معالجة القضايا الجوهرية المتعلقة بالعدالة وتقرير المصير الفلسطيني.

وعلى خلاف بعض الأكاديميين الذين يتبنون رؤى أكثر دبلوماسية، فإن نقد بابيه وتشومسكي ينبع من تحليل أعمق لبنى القوة واختلال التوازن في العلاقات الدولية. وبدلًا من الاكتفاء بالمناقشات السطحية حول مفاوضات السلام، يقدم الكتاب فهمًا عميقًا للتحديات التي تفرضها القوى الجيوسياسية أمام تحقيق العدالة للفلسطينيين.

مفهوم الصهيونية وتطوره:

يناقش الكتاب أيضًا موضوع الصهيونية من خلال تتبع تطورها التاريخي وطبيعتها المتغيرة. يستعرض بابيه وتشومسكي التاريخ المعقد للصهيونية منذ بداياتها الأيديولوجية وحتى تجسيدها في إقامة دولة إسرائيل. وتبرز مساهمة بابيه في نقده لطبيعتها الإقصائية وتأثيرها على الشعب الفلسطيني.

يركز الكتاب على التوتر الكامن بين فكرة “إسرائيل الديمقراطية” والطابع الديني أو الإثني للدولة، مقابل مبادئ الحكم الديمقراطي. يرى بابيه أن المشروع الصهيوني منذ بدايته كان يحمل عيوبًا جوهرية لا تزال قائمة بل تعمقت مع الوقت. هذا الطرح يختلف عن التفسيرات المعتدلة التي تحاول التوفيق بين الطموحات القومية الصهيونية والقيم الديمقراطية.

وعند مقارنته بمفكرين مثل أ.ب. يهوشوع أو عاموس عوز، الذين يميلون إلى موقف تصالحي أكثر تجاه الصهيونية، فإن بابيه وتشومسكي يقدّمان تقييمًا نقديًا يدفع القارئ إلى التساؤل حول الأسس التي يقوم عليها المشروع الصهيوني. يتجاوز طرحهم مجرد استعراض تاريخي، إذ يقدمان فهمًا معاصرًا لانعكاسات الصهيونية على الصراع المستمر.

دور الإعلام في تشكيل التصورات:

يتناول بابيه وتشومسكي دور الإعلام في الصراع، من خلال تحليل نقدي لكيفية تشكيل السرديات الإعلامية للرأي العام. يطرح تشومسكي، الناقد الإعلامي المعروف، مفهوم “صناعة القبول” لتوضيح كيف تساهم وسائل الإعلام في إسرائيل وحول العالم في بناء رواية معينة. يستعرضان كيف يؤثر تأطير الإعلام للأحداث على الرأي العام، وبالتالي على القرارات السياسية.

من الجوانب المهمة التي يتم تناولها، تصوير العنف والمقاومة؛ حيث يرى المؤلفان أن الإعلام غالبًا ما يصور المقاومة الفلسطينية على أنها إرهاب، بينما يتجاهل العنف البنيوي للاحتلال. وتوفر أفكار تشومسكي، المستندة إلى كتابه المشترك مع إدوارد هيرمان “صناعة القبول”، أساسًا لفهم كيفية استمرار التحيزات الإعلامية في دعم بنى السلطة القائمة.

وبالمقارنة مع التحليلات السائدة لتغطية الإعلام، فإن نقد بابيه وتشومسكي يقدّم عدسة نقدية للقارئ للتشكيك في تأطير الإعلام للصراع. يشجّع الكتاب القراء على أن يكونوا أكثر وعيًا وانتقائية في استهلاكهم للمعلومات، وعلى التفكير في تأثير الروايات الإعلامية على الخطاب العام حول النزاع.

تحديات وإمكانيات النشاط الأكاديمي:

من الموضوعات الأخرى التي يناقشها كتاب عن فلسطين دور المثقفين والأكاديميين في الدفاع عن العدالة والتغيير. يتأمل كل من بابيه وتشومسكي، بصفتهما أكاديميين، في التحديات والإمكانيات التي يطرحها ما يمكن تسميته “النشاط الأكاديمي”. يناقشان المسؤوليات الأخلاقية التي تقع على عاتق الباحثين في مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان، وضرورة التحدث علنًا ضد الظلم.

تضفي تجارب بابيه الشخصية، بما في ذلك المضايقات التي تعرض لها داخل إسرائيل بسبب آرائه، بعدًا واقعيًا لهذا الموضوع. فهو يؤمن بأهمية أن يتجاوز الأكاديميون حدود الجامعة ويتفاعلوا مع المجتمع، مسلطًا الضوء على الواجب الأخلاقي المتمثل في قول الحقيقة. أما تشومسكي، فتعكس التزامه الطويل بالنشاط السياسي هذه الفكرة من خلال حديثه عن التداخل بين العمل الفكري والسعي لتحقيق العدالة.

وبالمقارنة مع النظرة المحافظة التي ترى أن الأكاديمي يجب أن يكون محايدًا ومنفصلًا عن القضايا الاجتماعية، يدعو بابيه وتشومسكي إلى أن يستخدم الأكاديميون معارفهم للمساهمة في التغيير الإيجابي. يحفّز هذا المحور القرّاء على التأمل في الدور المحتمل للبحث الأكاديمي في التصدي للمظالم البنيوية، والدعوة لحل عادل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

تشومسكي حول فلسطين:

تعكس مساهمة نعوم تشومسكي في عن فلسطين التزامه الطويل بالتحليل النقدي والنشاط السياسي. فهو يستند إلى خلفيته في اللسانيات والنظرية السياسية ليقدّم رؤيته الفريدة في قضايا الصراع.

يُرجع تشومسكي الصراع إلى دعمه الأوسع لتحليل السياسة الخارجية الأمريكية، حيث يرى أن الولايات المتحدة دعمت إسرائيل دائمًا سياسيًا وعسكريًا، مما ساهم في تكريس الوضع القائم. هذا يتماشى مع تحليلاته العامة لبنى القوى العالمية ودور الدول المهيمنة في رسم السياسات الجيوسياسية.

يتناول تشومسكي “عملية السلام” وما يرى أنه حدودها وفشلها. ينتقد مفاوضات أوسلو معتبرًا أنها لم تُعالج القضايا الجوهرية كالعدالة وتقرير المصير للفلسطينيين، مؤكدًا أن المصالح الجيوسياسية تقف عائقًا أمام الحلول الجذرية.

كما يناقش دور الإعلام في تشكيل فهم الناس للصراع، حيث يطبّق نظريته حول “صناعة القبول” موضحًا كيف تساهم التغطيات الإعلامية في تصوير الفلسطينيين كمعتدين بينما تُخفي عنف الاحتلال البنيوي.

وفيما يخص الصهيونية، يقدّم تشومسكي تقييمًا نقديًا لتطورها التاريخي ومآلاتها، متسائلًا عن مدى توافقها مع المبادئ الديمقراطية. ويرى أن طبيعتها الإقصائية تسببت في تفاقم معاناة الفلسطينيين.

بابيه حول فلسطين:

إيلان بابيه، المؤرخ الإسرائيلي، يقدم صوتًا مميزًا في On Palestine، من خلال تركيزه على مراجعة التاريخ وتفكيك الروايات السائدة.

يعتبر محور المراجعة التاريخية للنّكبة جوهريًا في مساهمته. إذ يفحص الوثائق والشهادات التاريخية بعناية ليكشف عن سردية معقدة، يرى فيها أن التهجير كان ممنهجًا لا عرضيًا. ويُعد استخدامه لمصطلح “تطهير عرقي” نقطة محورية أثارت نقاشًا أكاديميًا واسعًا.

ينتقد بابيه الصهيونية كمشروع إقصائي، ويُحلل تطورها وآثارها طويلة المدى على الفلسطينيين. يذهب أبعد من الطروحات المعتدلة ليقدم قراءة معاصرة لجذور الصراع.

يناقش أيضًا دور القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة، في تطورات الصراع، معتبرًا أن عملية السلام لم تعالج القضايا الأساسية بل ساهمت في إخفائها.

ويسلّط الضوء على تجربته الشخصية كمثقف مُلاحق داخل إسرائيل بسبب آرائه، مما يعزز من دعوته لدور فاعل للأكاديميين في المجتمع.

ردود الفعل على الكتاب:

أثار كتاب عن فلسطين نقاشًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية والسياسية والجماهيرية. فقد نال الثناء من قبل مؤيديه الذين أشادوا بتحليله العميق ومراجعته الجريئة للتاريخ وتقديمه لرؤية جديدة للنّكبة والصراع المستمر.

لكنّه أيضًا تعرض للانتقاد، خاصة من أنصار الرواية الصهيونية التقليدية الذين اعتبروا أن الكتاب ينطوي على تحامل ضد إسرائيل ويفتقر للتوازن، وهو ما يعكس الانقسام الأيديولوجي العميق المحيط بالقضية.

وجد الكتاب جمهورًا مهتمًا بالرؤى البديلة، خاصة بين من ينتقدون التغطية الإعلامية السائدة للصراع. لكنه واجه في المقابل مقاومة وربما رقابة في بعض السياقات السياسية، خصوصًا داخل إسرائيل، حيث يُنظر إلى مضمونه كتهديد للروايات الرسمية.

وتعكس ردود الفعل هذه الطبيعة المستقطبة للصراع وصعوبة إيجاد حوار منفتح ونقاش دقيق في سياق كهذا.

الطيور تسقط ميتة

تحتل الطيور في عناوين الروايات مكانة خاصة كرمز للغموض أو لما لا يُفهم. فهي تموت في البيرو، أو تختبئ لتموت، وتمنح عند دافني دو مورييه وهتشكوك عنوانًا جنسيًا للتهديد والجريمة. إنها ضحايا أو جلادون، نادرًا ما تكون غير ذات دلالة. حمامة باتريك زوسكيند ليست سوى عين كاشفة ومقلقة.

يعطي فيكتور بوشيه لروايته المذهلة عنوان لماذا تموت الطيور، بدون علامة استفهام. فالعنوان ليس سؤالاً، ولن يقدم الكتاب تفسيرًا. إنها طيور سقطت من السماء، هكذا ببساطة، طيور ميتة سقطت بالآلاف على شواطئ النورماندي خلال بضعة أيام، وهذا الحدث هو ما يدفع الراوي لبدء تحقيقه. مرور الخبر بصمت تقريبًا في وسائل الإعلام، ونسيانه بسرعة دون أن يثير تساؤلاً، يغرق الراوي في حالة من عدم الفهم على مستويات متعددة. خصوصًا أن أول “مطر من الطيور الميتة” حدث في بلدة نورماندية قضى فيها طفولته، حيث لا يزال والده يقيم.

الراوي يحمل اسم فيكتور بوشيه، ويمكننا أن نفترض بشكل معقول أن ذلك نوع من المزج بين الذاتي والمتخيل. اسم “بوشيه” له أهمية خاصة في الرواية، وسنعود إليه لاحقًا. والراوي يشترك على الأقل مع المؤلف في نفوره من كتابة أطروحته، التي يشعر بالملل منها. ملاحقة الطيور الميتة تشكل تحقيقًا أكثر إثارة بكثير. ها هو أخيرًا هدف يمكن السعي إليه، طريقة لانتشال نفسه من الركود، لاستعادة زمام مصيره. فالراوي يعيش مرحلة اكتئاب، انفصل عن صديقته، وأسرته مفككة بالكاد تعطي أخبارًا. طالب في باريس، يجد نفسه على متن رحلة نهرية مخصصة للمتقاعدين، متجهًا إلى النورماندي. فركوب القطار لم يكن ليحمل المعنى ذاته: لفهم سر المطر الغريب من الطيور الميتة، عليه أن يتبع مجرى نهر السين. التفسير لا بد أن يكون على الضفاف.

يسير فيكتور بوشيه بعكس التيار في اختياره لهذا الدافع السردي، إذ يجعل الراوي ينزل مع النهر ليصل إلى الجذور. الرحلة بطيئة كما هو حال الرحلات النهرية، تتخللها محطات ثقافية ووجبات مشتركة مع ركاب غرباء، لطفاء أحيانًا ومزعجون أحيانًا أخرى. كونه الشاب الوحيد وسط كبار السن، يشعر الراوي بانفصاله عن المجموعة، لكنه في الوقت ذاته جزء من رحلة تدفع الجميع في نفس الاتجاه، ولو لأسباب مختلفة.

السين، بمنعطفاته وميله الطفيف، يشكّل الصورة المثلى لرحلة باحث عن أسرار الموت الغامض. هذه ليست جريمة على النيل مع محقق لا يخطئ، بل هي موت في نهاية السين مع محقق متردد، حزين وتائه. وكان من السهل، انطلاقًا من هذا الوضع، أن يكتفي الكاتب بسرد الرحلة بهدوء، وأن يرصد مجموعة المتقاعدين في مغامرتهم، ويكرر الكليشيهات عن جيفرني وروان. لكن فيكتور بوشيه يتجنب كل هذه الفخاخ ببراعة. فيغادر الراوي المجموعة في محطة روان، ليعود إلى كبار السن الحقيقيين في حياته: المجنونة مادلين التي تهذي في الكاتدرائية، ووالده الذي يمضغ في منزله ببونسكور – موقع أول سقوط للطيور – فكرة انحدار فرنسا.

يقدّم فيكتور بوشيه رواية شديدة الحساسية، تتنازع فيها الاستعارة مع حبكة أوسع وأكثر تركيزًا في آن. الهدف الأول – لماذا تموت الطيور – لا يتغير، لكنه يكشف شيئًا فشيئًا عن تساؤل أكثر حميمية: لماذا تموت الأشياء؟ لماذا انفصل الوالدان؟ لماذا غادرت الحبيبة تاركة فقط بضع كلمات مقتبسة من ميشو؟ تعود ذكريات الطفولة ومشاعرها: غطاء السرير المرسوم عليه تان تان يركض خلف قطار، شجارات الوالدين في السيارة والطفل محاصر في المقعد الخلفي، غثيان البحر على متن قارب والده وانتظار الوصول للميناء.

حساسية الرواية لا تقوم على التباكي، بل على إشارات ثقافية موزونة، تستند إلى خلفية حضارية يونانية. الأب هو أوليس من الأقاليم، والراوي لا يملك سوى دفتر “كليرفونتين” كدرع يسجل عليه ملاحظاته بدقة، يرسم عليه أحيانًا مخططات أو يسرد كلمات تصف شعوره كطفل لوالدين مطلقين، وكطالب دراسات عليا هارب، وعاشق مرفوض.

فالمرء إما باحث أو ليس كذلك. والراوي قد تدرب على التحقق من المصادر، على البحث واستكشاف النصوص. في يوم مضطرب، بعد أن غادر الرحلة النهرية وبكى بين أحضان حبيبته، ينغمس في حياة وأعمال فيليكس-أرشميد بوشيه، الذي يحمل اسمه. وهذه، على الأرجح، أكثر أجزاء الرواية إثارة ودهشة. نترك للقارئ متعة اكتشاف الخلاف بين بوشيه وباستور حول نظرية “الخلق التلقائي”. ومرة أخرى، تلتقي القصة الشخصية مع الاستعارة – هذه المرة العلمية. آه، لو كان بإمكاننا أن نولد من لا شيء! لكن النظرية دُحضت في وقتها، والنسب الذي كان يُرجى أو يُتخيل، تبين أنه خادع.

تتخلل الرواية إشارات أخرى كثيرة، ترسم مسارًا أدبيًا وتاريخيًا. توقّف الأب في غيرنزي، جزيرة نفي فيكتور هوغو. اسم بوشيه الذي ربما ألهم فلوبير في خلق شخصية “بيكوشيه”. فلوبير وببغاؤه. فيليكس-أرشميد بوشيه الذي عمل على تأليف كتاب عن الطيور. كل شيء يتداخل بسلاسة ووضوح وتحكم تام. حتى الإشارة إلى حملة ماو لمحو الطيور الصينية للقضاء على المجاعة. صحيح أن ظاهرة سقوط الطيور غذّت نظريات المؤامرة، لكننا نعرف كيف ولماذا تموت الطيور وتسقط بهذا الشكل الجماعي أحيانًا. يكفي جولة قصيرة على الإنترنت لاكتشاف الجواب.

لكن فيكتور بوشيه لا يعطينا حلًا لهذا اللغز في روايته. لأن ما بدأ به لم يكن سوى نقطة انطلاق خادعة. النهاية التي يصل إليها مختلفة، أكثر إنسانية، وأكثر حساسية. لماذا تموت الطيور رواية أولى ناضجة، مليئة بالعاطفة. رواية بعيدة عن الاستعراض، لا تعتمد على الموضات أو التصنع، بل تقول بصدق ما نحن عليه: كائنات ضائعة قليلاً، تبحث في ما يسقط من السماء عن مبرر لحياة تزحف على الأرض.

‏رحلة في عوالم حميد الرقيمي: قراءة في عمى الذاكرة

‏رواية مخيفة، فيها من الحب والحرب ما يكفي لتبقى عالقًا، متقرفصًا بين أروقتها حتى آخر ورقة. وأنا أقرأ مستهل صفحاتها الأولى، شعرتُ أنني في مواجهة تتطلب شرفة هادئة ونفسًا عميقًا، وربما جاهزيةً مكتملة الأركان للدخول إلى عالمٍ طويل، وهذا ما حدث بالفعل. في تلك اللحظة، لم يكن لي إلا أن أُسلم أشرعتي لحميد، حيث تودي بي قريحته. كنتُ مطمئنًا على نفسي، وفي رفاهيةٍ وأنا أتنقل مع شخصيات روايته، أعيش معهم غربة المكان، وخوف المستقبل، وقلق الأسئلة المبتورة.

‏الريبة التي توشحت “سالم المجهول”، دفء الجد الذي ملأ رأسه جنون البشرية كلها، صدفة “عبده حمادي” وحياة كوخه الذي احتضن الشتات والتيه والشرود الطويل لـ”يحيى” القادم من اللا شيء، كوخٌ تسربت من خلاله الكثير من الحيوات والكثير من الآمال إلى قلبه، وجعل منه لافتًا وملفتًا لزملائه، ولـ”يافا” تحديدًا، الفتاة التي كسرت في فمه جمود الريف، ليصبح عاشقًا مشدوهاً متلهفًا، صخبُ حنينه يلوي شوارع صنعاء حتى انتهى به القدر، مع تفاقم تخوم الحرب في المدينة، إلى اقتناء حماقة لا يغفرها الزمن: الانتقال إلى يافا التي تسكن شملان، الملتهبة بالصراع والموت، للاطمئنان عليها فحسب، متجاهلًا فكرة ما قد يلحق به وبـ”النبيل عبده حمادي” من قذيفة أو رصاصة طائشة قد تمحو وجودهما إلى الأبد، وهو ما حدث بالفعل. إذ اعترض جنونهما طريق “يافا” التي نزحت إلى المجهول، فيما قذيفةٌ وزعت جسد “عبده حمادي” إلى أشلاءٍ صامتة، دون أن يوحي شيءٌ منها بقوام رجلٍ كان يمشي على الأرض.

‏وأنا أقرأ براعة حميد في عمى الذاكرة، وقفتُ مراتٍ عدة متعجبًا من طراوة هذا الرجل، وعلاقته مع اللغة والكلمة، وكيف يكتب بهذه الغزارة إلى درجة يخال إليك وأنت تقرأه أن قلبه ليس إلا محبرةً تضخ الكلمات والأحاسيس التي تهوي بك إلى عالمٍ لم تكن تتوقعه. لا أنكر أنني عشتُ وشاطرت شخصيات عمى الذاكرة أرواحهم العليلة، وألم الهجرة والبقاء خارج الحدود، بعد أن خذلهم الزمن داخل البلد، وكيف أرغمتهم صيرورة الحياة على بدء رحلة جديدة من الضياع والموت المؤجل.

‏ثلاث ليالٍ وأنا أقرأ حميد، وفي كل لحظة تزداد لوعتي التصاقًا بما كتب، وبما سيكتبه أيضًا. حميد الرقيمي كاتبٌ من النوع الذي ما إن تقرأه حتى يلقي على كاهلك مسؤولية المواصلة، حتى وإن كانت الوجهة إلى أوروبا والطريق شائكًا بالموت. سيربّت على كتفك بجنون السطر الأول، ويمسك بيد قلبك ليعبر بك صحاري طويلة، ويجبرك على الغرق دون أن تشعر بذلك. ولا تفسير لهذا أكثر من كونه حميد الدهشة، والمنجم الطويل الذي ينبض أدبًا وقصيدة.

‏رواية ماتعةٌ للغاية، وهذه الثالثة لحميد الرقيمي التي أقرؤها بشغف، بعد حنين مبعثر والظل المنسي.

‏خالص التوفيق، يا حميد الخصال..!

‏بقلم: عتصم الجلال

المزاوجة بين الواقع والخيال في المجموعة القصصية “عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي ”  للكاتبة السعودية “رجاء البوعلي”

المزاوجة بين الواقع والخيال في المجموعة القصصية “عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي ”  للكاتبة السعودية “رجاء البوعلي”

بقلم:  حامد أحمد الشريف

من المعلوم أن الخيالَ ركنٌ رصينٌ في الإبداع لا يكون إلا به، مهما تعددت أوجهُهُ أو تغيرت المهارات التي يعتمد عليها، وبقدر اتساع هذا الخيال يكون حجم الإبداع، وذلك يعنى أن قيمة المهارة ترتبط طرديًا بكمية الخيال التي عجنت به وأبعدته عن الواقعية، ويُستثنى من ذلك المهارةُ التي تقترن قيمتها عادة بمدى تطابقها مع الواقع ، كالمدرسة الواقعية في الفنون التشكيلية، وكذلك رسم الوجوه “البورتريه” أو الكتابات الواقعية كالسير الغيرية والتاريخ ونحوِهما، ولكن يعيب كلَّ ذلك؛ عدم القدرة على توظيف المهارة واستخدامها لإيصال أفكار وفلسفات الفنان أو الكاتب نفسه، إن لم يكن صاحب المهارة قادرًا على مزج الخيال بالواقع، وبالتالي افتقارها للمغازي والأعماق المثرية، واقتصارها على قيمة جمالية سطحية لا تدوم طويلًا، أي إن إحياء المهارات وتدسيمها واستدامتها يقترن على الدوام بالخيال.

ذلك ما يدفعُنا للقول بشكل مبسط إن الخيال هو التفاصيل الجديدة التي يشتغل عليها المبدع ويحطم بها الأغلال ويمنح من خلالها قيمةً إضافية للواقع الـمُحاكَى، وهو بهذا الوصف يمنح المبدعَ القدرةَ على قول كلمتِه الفصلِ واستظهارِ أفكاره وفلسفاته وتوظيف مهاراته لإيصال صوته، بينما لا يكون له ذلك في حال كان الواقع مستحوذًا على مهارته واستكان تحت جدرانه.

وحتى لا نبتعد كثيرًا نخصص حديثنا عن الكتابة الإبداعية فنقول إن الكاتب المبدع هو من يستطيع تضميخ كتاباته بفلسفاته وأفكاره وإخراجها من السطحية، مستخدمًا الخيال كوعاء يحقق له كلَّ ذلك، ومن هنا ظهر أدب السرد بكافة أشكاله وألوانه، أي إن نسبة الخيال تشكل قيمة حقيقية للقطع النثرية والشعرية أيضًا، ترتفع قيمتها بازدياد نسبته وتنخفض بانخفاضها ويستثنى من ذلك السير الذاتية التي تستغني إلى حد ما عن الخيال، وتعتمد على عواملَ أخرى في استظهار قيمتها، وإن كان بعضهم يعتقد أن الانتقائية في سرد الواقع، وتسليط الضوء على مفاصل معينة، واستعادته بعد فترات انقطاع زمنية طويلة، وكذلك التفسيرات والتأويلات والاستشهادات الممنهجة، تُعد جزءًا من الخيال الذي يمنح مثل هذه السرديات الواقعية قيمة تخييلية إضافية، خلاف أن الفضائحية والقيمة الحكائية العالية تمنحها قيمة مؤقتة تدفع للقراءة الأولى وتختفي بعد ذلك أو تقل، ما يغنيها إلى حد ما عن الخيال المحض في صياغتها الكتابية، وفي الأمر تفصيل أكبر لا يعنينا في هذه الوقفة.

وبالعودة إلى قيمة الخيال والواقع للمرويات السردية، نجد أنهما صنوان لا ينفصلان فأي منهما لا يستغنى عن الآخر، فالسرد لا يقوم بدون واقع معين ينطلق منه، والواقع لا قيمةَ له بدون الإضافات التخييلية، وإن كان ذلك جانب تنظيري قد لا يؤمن به بعض المبدعين؛ ممن استطاعوا تدوين سرديات واقعية إبداعية تصف تجربتهم الحياتية ويكاد ينعدم فيها الخيال، من دون اختلال قيمتها الحكائية، واستدامة حضورها في أذهان المتلقين، ويمكننا تلمُّسُ ذلك في مرويات الكاتب المصري المبدع إحسان عبدالقدوس وكذلك الكاتب المصري المبدع إبراهيم أصلان، وغيرهما من المبدعين الذين استطاعوا تدوين الحكاية الواقعية كما هي بدون تصرف في وقت منحوا كتاباتهم قيمة كبرى من خلال تضمينها لأفكارٍ ومغازيَ عميقة وفلسفات، استنطقوها في وصفهم المجتزئ وجعلوا من كتاباتهم تلك أنموذجًا للكتابة الواقعية الراقية التي تُخضع الواقع لسلطان الخيال، وتوظفه لإيصال مستهدفات الكاتب القيمية بطريقة مقنعة ومقبولة، وبالتالي فهي لا تبتعد كثيرًا عن الأدب السردي الخيالي إن لم تتطابق معه.

إن هذه القيمة التي حفلت بها كتابات إحسان عبدالقدوس وإبراهيم أصلان وغيرهما من المبدعين العالميين – رغم واقعية مروياتهم وعدم تقيدها باشتراطات القصة- ، شكلت تحديًا كبيرًا لأقلامهم نجحوا في تجاوزه، بينما أخفق كثيرون عند استنساخهم لهذه التجارب الإبداعية، فظهرت كتاباتهم سطحية ممجوجة لا قيمة لها، ولعل ما أعان هؤلاء المبدعين الأوائل على تجاوز هذه الصعوبة؛ خبراتهم الحياتية الكبيرة، واعتناقهم كثيرًا من الأفكار الفلسفية المتجردة، وامتلاكهم ناصية اللغة، وحرفيتهم الكتابية العالية، وقدرتهم الحكائية المميزة التي منحتهم القدرة على نقل الواقع بهذه الطريقة الصعبة، وهم يتعمدون إهمال الخيال، أو لنقل تقليل نسبته مع الاحتفاظ بقيمة كتاباتهم.

الآن يمكننا تركُ كل ذلك والذهاب باتجاه كتابنا “عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي” للكاتبة السعودية المبدعة “رجاء بالعلي” الصادر عن منشورات جدل في مائة واثنان وستون صفحة من القطع المتوسط، ولقد اضطررت لتدوين هذه المقدمة الطويلة، لإيصال الفكرة التي منحت هذه المجموعة القصصية المكونة من خمس عشرة قصة قصيرة قيمتها الحقيقية على الأقل من وجهة نظر شخصية، وكان أكثر ما ميز هذه المجموعة خلطُها بين القصص الخيالية المعتادة والقصص الواقعية السيرية التي تظهر فيها الكاتبة بشحمها ولحمها وفكرها وفلسفتها المباشرة، وإن كانت مجرد إضاءات على مواقف معينة تعرضت لها الكاتبة وسردتها كما هي بواقعيتها، ويمكن حصرها في قصص “عاملتي الأفريقية” و”شقة في الملحق الأخير” و ” عشرة أيام في مركز عين قسيس الإنجيلي” وكذلك القصة الأكثر أهمية “عيني على نعش” و”سيدة المكتب الجديدة”، وإن كانت نسبة الخيال الموظف قد ارتفعت في هاتين القصتين، ولم تكن كالحكايات الواقعية في الثلاثِ الأُوَل.

وبالعودة للقصص السيرية الواقعية الخمس نجد أنها تشابهت في إهمالها للخيال إلى حد ما، وتقليلها من حضوره، ونقلت لنا واقعًا معينا عاشته الكاتبة وأخبرتنا بكل تفاصيله الدقيقة، وكان يمكن لنا تناولُه ضمن أدب السيرة، وإن كانت مقتطفات وليست حياة كاملة وهذه الخاصية الشذرية بالمناسبة لا تخرجها من أدب السيرة، فالسيرة الذاتية إنما اتصفت بهذه الصفة من خلال سردها للوقائع الحقيقية وتجنيبها للخيال ولا يشترط في ذلك أن تكون طويلة أو قصيرة أو أنها تمثل الحياة كاملة أو جزءًا منها، وهو ما نقلته لنا هذه الحكايات الخمس، بداية مع العاملة المنزلية التي وصفت لنا الكاتبة تجربتها معها كاملة من وقت حضورها حتى مغادرتها، واتخذت نفس الأسلوب في وصف حياتها في السكن الجامعي بكل تفصيلاته وعلاقاته المضطربة، وختمت هذه المرويات السيرية بحكايتها الطويلة نسبيًا عن تلك الأيام التي قضتها في لبنان من خلال مركز مسيحي انخرطت فيه مدة عشرة أيام. ويمكن إضافة قصة “عيني على نعش” التي أسهبت الكاتبة من خلالها في التحدث عن والدها ومنحته القيمة التي يستحقها وجددت إيمانَنَا بمقولة “إن كل فتاة بأبيها معجبة” وكانت قد فردت لها مساحة كبيرة للحكي تقدر بسبع عشرة صفحة ولم يتفوق عليها غير قصة “عشرة أيام..” التي وردت في خمس وعشرين صفحة.

إن قصة “عيني على نعش” وكذلك القصة الأخيرة “سيدة المكتب الجديدة” يمكن اعتمادهما كحلقة وصل بين الواقعي والمتخيَّل، فحكمها يختلف إلى حد ما عن بقية القصص الواقعية، إذ إن نسبة الخيال في “عيني على نعش” ترتفع إلى حد ما بداية من العنوان الذي لم يذكر الوالد يرحمه الله صراحة وإنما استخدم عنوان تخييلي له دلالاته السردية ويستخدم عادة في القصة القصيرة الإبداعية، بما له من إشارات سيميائية ذات قيمة كبيرة تبتعد به عن الواقع، رغم ارتباط الحكاية بذكرى موت الوالد، وبالتالي استطاعت منحه مساحة تأويلية أكبر، وأحضرت حاسة النظر لتأكيد هذه المغازي العميقة التي يحتملها العنوان، وهي بذلك قد وظفت الخيال في السرد، طالما أنها استطاعت دفعنا للتفكير في الحالة الوجدانية والفكرية والفلسفية، التي غالبًا ما نعيشها ونحن ننظر لأي نعش، حتى لو لم يكن لنا علاقة بالراقد بداخله، وأتت الحكاية بعد ذلك وجدانية، تعبر بالفعل عن علاقتها بوالدها بكل تفصيلاتها، بينما كانت الحكاية الأخيرة “سيدة المكتب الجديدة” حلقة وصل بين الخيال والواقعية في متنها، عندما استلهمت الكاتبة تجربتها الشخصية في قيادة فريق العمل، بوصفها الأنثوي، وأخذتها لأبعاد تخيلية وإن بنسب معتدلة حتى توصل مستهدفات القصة الفهمية بعيدًا عن تجربتها الشخصية، حيث إن التفاصيل لم تكن كلها واقعية رغم اتكائها على الواقع، وهي مزاوجة جميلة بين الواقع والخيال.

وبالعودة للحديث عن الواقع غير المتخيل الذي استطاعت الكاتبة نقله بطريقة أدبية ماتعة وحافظت على استدامة حضوره في وجدان القارئ وحاكت من خلاله أدب عظماء السرد العربي الواقعي، فنحن نتحدث عن الثلاث القصص الأولى، وإن تفاوتت قيمتها فهي تبلغ أوج عظمتها في القصة التي ظهرت في غلاف العمل، ونقلت لنا الواقع كما هو بدون حضور الخيال، إذا ما اعتمدنا على الصراع الموصوف والحدث المتوالد خلال عشرة أيام، فكل الأحداث والصراعات واقعية بتفاصيلها الزمانية والمكانية وبشخوصها من بدايتها حتى نهايتها، ولكن حصافة الكاتبة حضرت هنا، من خلال منحها قيمة إضافية من دون المساس بهذه الثوابت الواقعية فكان تداخلها في السرد بالتأويلات والإشارات وتوظيف المواقف في إيصال كثير من أفكار وفلسفات الكاتبة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فكانت هذه المساحة الواقعية غنيةً جدًا بهذه التجاذبات الفهمية، التي أظهرت إبداع الكاتبة وجعلتنا لا نكاد نفرق بين الواقع والخيال، أي أنها استطاعت الجمع بين الواقع غير الموظف والمواقف التخيلية الموظفة، لإظهار بصمة الكاتب وإيصال أفكاره، وهذا المزج الفني شكَّل قيمةً حقيقية لهذه القصة تحديدًا، فبتنا نتعامل معها كأنها خيال صرف، ونحن نقف على المغازي العميقة والرسائل التي تريد إيصالها في كل منعطفاتها السردية، وتوظيفها لضمير المتكلم بطريقة تحاكي الروايات الإبداعية، في وقت نعجب من واقعيتها وسردها لأحداث عايشتها بالفعل، وكان ذلك نجاحًا كبيرًا للكاتبة استطاعت من خلاله المزج بين الواقع كقيمة تثير فضول المتلقي وتخاطب غرائزه المعرفية كما أسلفنا، وفي ذات التوقيت توظف هذا الواقع لقول ما تريد بطريقتها التخيلية، وهي تجربة ثرية تستحق السرد والتناقل بقيمتها الواقعية، عندما نجد كثيرا من المحاذير الاجتماعية تم تجاوزها، كانتقال فتاة سعودية مسلمة من بيئة محافظة للعيش في دير مسيحي بمفردها وما يترتب على ذلك من تجاوزات تتعلق بهذا الانتقال، إذا ما ربطناه بالأيديولوجية الدينية الرافضة لهذا التمازج غير المؤطَّر، بين الثقافة المسيحية والثقافة الإسلامية، وكان يمكن للكاتبة الاعتمادُ على هذا الواقع فقط لمنح الحكاية قيمةً كبيرة، ولكنها كما ذكرت سابقًا وظفته بطريقة رائعة لإيصال فلسفاتها باستخدام ضمير المتكلم الحكاء، الذي يبحر في التأويل والتفسير وحديث النفس ويتجاوز الواقع كثيرًا، بهدف إيصال رؤية الكاتب.

هذا النجاح الكبير الذي وقفنا عليه في الأيام العشرة حضر، وإن بنسبة أقل في قصة “العاملة” وكذلك قصة “الشقة” فكلتا هاتين القصتين نُقلت غالبًا بدون تدخل كبير من الكاتبة، واكتفت باستخدام أسلوب الاستفهام المعزز للمعاني المستهدفة، وترك فهمها لحصافة القارئ، وبالتالي انحصر تدخل الكاتبة في بث هذه الاستفهامات وتركها بدون إجابات محددة، مما قلل من قيمة الخيال وحصره في أضيق نقطة ممكنة، في وقت لم تفقد تلك الحكايات قيمتها، نظرًا للأسلوب الكتابي الأخاذ المعتمد على تقنية السرد الحكائي الجميل، الذي يعتمد على استحضار القارئ وتشويقه وإثارته وإمتاعه ودفعه للمتابعة بغض النظر عن أصل الحكاية، وهو الأسلوب الذي ينبغي أن يكون عليه السرد بالفعل، عندما يقل تأثير المتن الحكائي المتخيل والواقعي، وتنحصر أهمية المروية في أسلوبيتها البديعة، وبالتالي فإن هذا العمل يعد أنموذجًا يحاكي الكتابات القديمة التي نهض بها أسلوبها الكتابي البديع وفاق خيالها ومتنها الحكائي الواقعي.

إن حديثنا عن هذه القصص الواقعية الخمس بدرجات واقعيتها المختلفة ونِسَب الخيال المتدنية لا يمنعنا من الحديث عن بقية القصص الخيالية العشر؛ التي ارتفعت فيها نسبة الخيال بشكل كبير، واختزل الواقع كما جرت العادة في نقاط ضوء بسيطة، ينطلق منها السرد ويتحول لبقعة ضوء كبيرة تحتضن صراعًا معينًا وشخوصًا وأزمنةً وأمكنةً وأسلوبًا كتابيًا ينسج كل ذلك، ويرفع من قيمة تلقيه في المنظور الخيالي، وبالطبع نجحت الكاتبة في كل ذلك وبتنا نطالع قصصًا قصيرة متخيلة مكتملة الأركان لا ارتباطَ صريحًا بينها وبين الكاتبة، وهي المواصفات التي يشترط وجودها للتعامل مع القصة كجنس أدبي، يحمل هذه المواصفات وكان بوسع الكاتبة الاقتصارُ على هذه القصص العشر فقط، وإصدارها في مجموعة قصصية، لكنها أرادت بالفعل أخذنا معها لتبيان قيمة الخيال المتذبذبة، وعدم قدرته على إسقاط الحكاية والتقليل من قيمتها في حالة انخفاض نسبته، طالما كان القلم بأَيدٍ إبداعية أمينة، فكان المزج بين هذين النوعين من القصص مقصودًا بالفعل، حتى لا ينظر للقصص الواقعية على أنها عجز عن الخيال وسطحية في التناول، واستخدامها أيضًا في إظهار قيمة قلم الكاتبة وقدرته على منح المروية الواقعية قيمة إضافية اعتمادًا على الأسلوبية لا المتن الحكائي التخييلي، وذلك يشير بوضوح إلى أن هذين النوعين من القصص لم يأْتيا اعتباطًا، وإنما بقرار من الكاتبة بهدف خلق قيمة معينة للعمل.

في هذه القصص العشر الخيالية تم تناول بعض الصراعات الناتجة عن أحداث معينة، تستلزم ردود أفعال مختلفة تخلق لنا حكاية ما، كقصة “جاثوم الحب” التي أتى عنوانها بعيدًا كليًا عن متنها الحكائي، عندما ارتبطت الحكاية بإجراء عملية جراحية لإزالة ورم خبيث من المخ وتسليط الضوء على فترة الإفاقة التي تعقب استعادة الوعي بعد التخلص من تأثير جرعة المخدر الكبيرة، وهي الفترة التي عادة ما يحجز المريض في غرفة مخصصة لهذا الغرض تسمى غرفة الإفاقة ولا يسمح لأقربائه وأصدقائه بالتواصل، خشية تجاوزه في الحديث وفضحه بعض أسراره، والجميل في هذه الحكاية أن الكاتبة لم تنظر إليها من هذه الزاوية، وإنما منحت المريض اللاقط الصوتي، وسمحت له بالتعبير عن الحالة الذهنية والوجدانية التي يعيشها، إلى أن يحين خروجه من هذه الغرفة، وهي بالفعل فترة متخيلة ذات قيمة كبيرة لوقوعها بين عالم الوعي واللاوعي، وبالتالي لا يمكن وصفها بطريقة واقعية ويكون الخيال هو الوسيلة المثلى لدخولها وتوقع المونولوج الداخلي، الذي يدور داخلها وهو حوار مهم جدًا نظرًا لصدقه وتخلصه من كل التأثيرات التي تفسده فيما لو كان في العالم الواقعي، ما يعني أن الكاتبة استطاعت باقتدار امتطاء صهوة الخيال ووصلت بواسطته إلى الأماكن التي يستحيل أن يصل إليها الواقع.

  هذه الفكرة التي اعتمدت في صياغة قصة “الجاثوم” تكررت أيضًا مع بقية القصص التخيلية، باعتماد الخيال مَرْكبًا يتم الانتقال بواسطته للمناطق التي لا نصلها بأقدام الواقع، رغم حاجتنا لسبر أغوارها، والوقوف على تفاصيلها المغيبة، كقصة “متعة” التي أوقفتنا على المشاعر المتقلبة التي تنتاب المطلَّقة بعد حصولها على صك طلاقها، استطاعت الكاتبة هنا توظيفَ الخيال لفضح الواقعية المزيفة التي تسلط الأضواء على سعادة المطلقة إن تم الأمر وفق رغبتها، أو الحزن والألم إن كرَّسَ ظلمَ الزوج وخذلانه لها، فنجدها من خلال هذه الحكاية تغوص في حادثة الطلاق، وتستظهر المتناقضات التي تحفل بها، عندما تجمع بين النقيضين؛ السعادة والتعاسة، في قلب صاحبته، لتنطلق من لحظة التنوير هذه للأخذ بأيدينا وإطلاعنا على الإحساس الصادق الذي تعيشه المرأة بعد قرار كهذا، وبالطبع استطاع الخيال النهوض بهذه المهمة على أكمل وجه، وهو ينقل المونولوج الداخلي الذي تعيشه امرأة مرت بنفس التجربة وترك له إيصال المشاعر الحقيقية والتأثيرات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية المواكبة، والتشابك المجتمعي مع هذه الحالة، وصولًا لدهشة النهاية الرائعة التي لخصت لنا المعاناة الحقيقية التي تعيشها المرأة وهي تعتقد أنها تخلصت بقرار الانفصال من كل أحزانها وحانت لحظة الفرح التي تنتظرها في وقت قد يحدث فيه العكس.

هذا الخيال قادنا أيضًا لسبر أغوار أحد المواقف المهمة، التي قد يعيشها أحدنا عند وقوع حريق يقضي على كل ممتلكاته المادية، ويستبقي له أرواح عائلته، فمثل هذا المشهد غالبًا ما يوصف من خلال القيمة الإنسانية الثمينة الباقية، ويتم تجاهل الخسائر المادية التي يمكن تعويضها، وهي حقيقة بالفعل، لكن الخسائر المادية لها قيمتها أيضًا، وتأثيراتها الحياتية المهمة، فأراد خيال الكاتبة من خلال قصة “الحريق” أخذنا معه للتعرف على هذا الإحساس الذي ينتاب الإنسان غالبًا عندما تستعيده تفاصيل الحياة وتهزه قيمة مفقوداته المادية، ولا يسمح له الواقع بالتعبير عن هذا الإحساس طالما نجا الإنسان الأكثر أهمية بكثير، وقد أجادت الكاتبة بالفعل في كشف هذا الموقف، مستخدمة مركب الخيال الذي طاف بنا على تلك المشاعر الصادقة التي يصعب التصريح بها.

         الخيال أيضًا قادنا في قصة “وجه الليل” ليُجَدِّف بنا وينقلنا لشاطئ شبه مقفر لا تصله مراكب الواقعية بسهولة، عندما حدثنا عن الفراغ العاطفي الذي تعيشه المرأة عند إعطاب شريكها الرجل وفقده للأهلية الزوجية، وكتمها لهذه المشاعر في صدرها إما اعتدادًا بأنوثتها أو تماهيًا مع حيائها أو هروبًا من عقدة ضعفها أو بسبب عدم جدوى الحديث عنها عند غياب الحلول الممكنة، كان الخيالُ وسيلتَنا للدخول لهذه المنطقة المحظورة، واستطاعت الكاتبة باقتدار التعبير عن هذه الأحاسيس المغيبة لأنثى لا يمكن فصلها عن عاطفة جياشة تعد سر حياتها، والجميل أن الخيال قادنا هنا للوقوف على صراع من نوع مختلف عندما وقعت بطلة الحكاية في شراك عاطفة مضطربة غير واضحة المعالم لا تحقق قيمتها المفترضة كأنثى مرغوبة، بسبب تقدم عمر زوجها وعدم قدرته على الحركة وعجزه التام عن ممارسة دوره الإنساني كزوج، في وقت جمعتهما الاهتمامات المشتركة المتعلقة بإبداعاتها الكتابية التي تحيله إلى صديق مقرب لا يمكن الاستغناءُ عنه، ولعجز الواقع عن إظهار هذه المشاعر؛ أتى الخيال ليعبر بصدق عن إحساس هذه الأنثى، التي جربت المشاعر الحقيقية بوجود زوج سابق وأبناء أحبتهم، قبل أن يقضي الموت عليهم جميعًا ويغيبهم من حياتها وتستبدل بهم هذه الحياةَ البائسة.

الخيال أيضًا نقلنا معه إلى منطقة وعرة عادة لا يطرقها الواقع عند وقوفه على انجذاب أنثى محافظة لشاب يستهويها، ولا يرتبط معها بعلاقة، ولا يمكنها الإفصاح عن هذه المشاعر لأي سبب كان، وهو إحساس موجود بالفعل تشعر به أغلب الفتيات؛ لكنه لا يظهر عادة للعلن؛ انسجامًا مع فسيولوجية الأنثى المتمنِّعة رغم رغبتها، وكذلك استحالة مبادرتها بإبداء مشاعرها حفاظًا على كرامتها، خشية أن تُصْدمَ بشاب قد لا يقيم وزنًا لمشاعرها، أو تحسبًا لأي ظرف لا يسمح لهذه العلاقة بالنضوج والوصول إلى النهاية الطبيعية المرتقبة، أتى الخيال هنا ليصطحبنا معه ويقول كلمته، بعد أن تجرد من كل المحاذير المعيقة عن الإفصاح ، وأطلعنا على تلك المشاعر المغيبة التي تعيشها الأنثى في كل حين وتحترق بداخلها، في رحلة ماتعة قضيناها مع قصة “رسائل كوب الشاي”.

في قصة “عُطب أمومي” كان الخيال مضمرًا داخل النص، عندما اكتفت الكاتبة بسرد حكاية كاملة عن الإشكالية التي تعاني منها تلميذات المدارس، وهي التي تقودنا في نهاية الحكاية لمعرفة أن سوء الوالدين أو الأم تحديدًا يتسبب في السوء الكبير الذي نراه من هؤلاء التلميذات ونحاسبهن عليه بينما الأَوْلى محاسبة الأم والأب فالأبناء نتاجهم السيِّئ أو الجيد.

الخيال في قصة “هرة” أخذ بعدًا مختلفًا عندما ترك لنا متابعة حكاية واقعية اعتيادية عن أصحاب القناعات المتفلِّتة، ممن يروجون للنسوية، أو ممن يتصادمون مع المجتمعات المحافظة في قناعاتهم السلوكية البعيدة عن أي ضابط أخلاقي أو ديني، لنجد الخيال قابعًا يترصدنا في قفلة الحكاية المدهشة حتى يوصل لنا الرسالة أو العمق الذي تستهدفه هذه الالتقاطة، عندما بين لنا أن هؤلاء المنحازين لأفكارهم الشاطحة غير الواقعية عادة ما يسقطون في أول المنعطفات، ويتخلون عن هذه القناعات، ويمكننا اكتشاف ذلك من خلال مراقبة سلوكياتهم الواقعية بعيدًا عن تنظيرهم، وأتى الخيال ليطلعنا على هذه التناقضات من خلال قفلة الحكاية، متوقعًا قدرتنا على الغوص في أعماق النص، وعقد مقارنة بين هروب بطلة الحكاية من الإشكالية التي تعاني منها إناث القطط في انشغالها بالذكور، وجَلَدِها في البحث عنهم ومعاشرتهم بدون أي ضابط، مما دفعها لاستئصال رحم قطتها المسكينة التي كانت تمارس الحياة بالفطرة التي خلقها الله عليها، في وقت قاتلت من أجل قبول هذه التصرفات البوهيمية من الفتيات وتحريضهن عليها رغم أنها منافية للفطرة، وكأن الخيال يريد إفهامنا أن أصحاب الأفكار التصادمية يعودون عنها إذا تماسَّت مع مصالحهم.

وفي قصة “مونامور” أو الحب العميق والرومانسية اللطيفة، نجد أننا في منطقة محرمة يصعب أن يسردها لنا الواقع السيري، فذهبت الكاتبة باتجاه الخيال كي تطلعنا على واحدة من قصص الحب العذري عند بداية نشأتها في قلب طفلة ترى في أحد أقاربها حلمها المستقبلي، وتصف لنا ذلك الشعور الذي عادة ما يلازمها إلى أن يُقضى عليه فيموت أو يدفن حيًا، عندما تقودنا تصاريف الحياة لاختيار البديل الممكن بدلاً من المستحيل المتاح.

وأيضًا في قصة “سلام أمي” يأتي الخيال مضمرًا، فيترك للمتلقي الوصول إليه، مع متابعته لحكاية واقعية اعتيادية، تخبرنا عن النزاعات المذهبية التي يزرعها ويقودها الكبار، ويقع في حبائلها الصغار، وكانت فلسفة الكاتبة عميقةً جدًا، تتخطى المشهد الموصوف فأركان هذا المشهد وهم الأطفال والأمهات؛ يمكن اعتبارهم المجتمع بكل مستوياته، إذ إن المرجعيات الدينية يمكن أن تكون هي الأم المحرضة، والأطفال يمكن أن يكونوا الأتباع بكل مراحلهم العمرية، وهذا ما لا يمكن الإفصاح عنه بالحكايات الواقعية، ويكون الخيال منقذًا لنا من هذه الإشكالية ويمكنه قيادة المشهد للمستهدفات الفهمية من دون أي محاسبة.

وأخيرًا في قصة “المشهورة” تأخذ الكاتبة بأيدينا لتطلعنا على الفرق بين المظهر والجوهر، وتطلب منا عدم الاغترار بالزخرفات الشكلية، التي يلجأ لها البعض مخفيًا الحقيقة التي يعلمها بعض القريبين منه، وكأنها تريد لنا عدم الاحتكام للواقع المشاهَد، الذي عادة ما يخفق في إظهار الصورة كاملة، وأن علينا استكمالها بأنفسنا، من خلال إشغال الخيال، وتوظيف قدراتنا العقلية، لاستكمال النواقص التي لا تكتمل الاستفادة الحقيقية بدونها، وهذا جانب مهم من المعرفة الإنسانية لا ينهض به الواقع المزيف عمدًا، ويأتي الخيال ليفضحه ويعيد ترتيب المشاهد بشكل صحيح ومقنع.

وخلاصة القول: إن أهم ما يمكن التقاطه من هذه المجموعة القصصية خلاف قيمتها الكتابية وأسلوبيتها الرائعة وتشويقها وإثارتها ومتعتها، هو مقاربتها بين الخيال والواقع، في تلقي المشاهد اليومية، وتقريرها بأن استفادتنا الحقيقية تقتضي هذه المزاوجة الإبداعية بين الخيال والواقع، وأنه وحده القادر على إعادة رسم المشاهد الواقعية بما يتناسب مع مستهدفاتها الفهمية.

     المصدر: جريدة الجزيرة