المدونة, موضوعات متنوعة

البرج المقلوب: تفكيك النموذج المعرفي الكلاسيكي في زمن الرقمنة

البرج المقلوب: تفكيك النموذج المعرفي الكلاسيكي في زمن الرقمنة

بقلم: مريم بن عياش

يذهب عنوان الكتاب «البرج المقلوب» للكاتب العراقي كه يلان محمد إلى مخاتلة القارئ؛ إذ تنفتح لديه جملة من التأويلات الممكنة لما يحمله وما يحاول تجاوزه، فالبرج هو بناء دال على الارتفاع إلى أعلى مستويات الفكر، كما يدل كذلك على التراكم المعرفي والمنهجي، الذي يفرض استقرارا في الفكر. والمقلوب/الانقلاب دعوة صريحة للتشكيك في بنية المعرفة، والإقرار بأن ما يُعتبر ثابتا قد يكون متغيرا، ويحتاج إلى إعادة نظر وتفكير فلسفي. فالبرج المقلوب هو انقلاب للنظام المعرفي المتعارف عليه، باعتبار أن البرج هو الثبات، وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى أن الكاتب يذهب إلى تصوير الاضطراب الحاصل في المعرفة فيعكس اللا تناظر واللا ثبات فيها.

المسكوت عنه في الخطاب الفلسفي:

يحاول الكاتب الحديث عن المسكوت عنه في الخطاب الفلسفي؛ فإشكاليته تكمن في تغييبه تزامنا مع الفضاء الرقمي المفتوح والمؤثر بشكل أو بآخر على المعرفة ونظامها. يقف بنا عند سؤال جوهري عن دور الفلسفة في العالم اليوم، ونحن نعلم أننا نعيش رقمنتنا فيقول: هل تكون الفلسفة آلية لفهم، أو احتواء المتناقضات التي يشعر بها الفرد؟ هل يمكن للفلسفة أن تعزي الإنسان في واقع لا عزاء فيه؟ في الغالب يمكن أن نجيب عن هذا الطرح بقولنا، إن التكنولوجيا لا يمكنها الإجابة عن الأسئلة المُتشبّعة بالحياة، فهي تعالج الحلول العملية والظاهرة، دون الخوض في البنى العميقة التي هي من مهام الفلسفة.

استهلاك المعرفة/ صناعة الثقافة:

يحيلنا الكاتب إلى التكلف الذي أغرق فيه تجار الأفكار؛ وذلك من أجل تسليع المعارف، فقاموا باصطياد جمهور يستسيغ وجباتهم الغامضة، فالماديات حسب الكاتب تغوّلت وازدادت شراهة الاستهلاك، بتوالي الإصدارات الفلسفية التي تتناول محاذير الانسياق وراء الرغبات غير المنظمة، وتفضح عملية تضخيم الأوهام المبرمجة عن مفهوم السعادة، فقد فضحت من قبل مدرسة فرانكفورت الأمر، وسلطت الضوء على تأثير الوعي الرأسمالي في تأسيس خطابات معرفية مُغايرة، وفصل ثيودور أدورنو في هذه المسألة بداية من مؤَلفه المشترك مع ماكسهور كهايمر بحديثه عن تصنيع النخبوي لصالح الجماهيري. ما جعل صناع الفلسفة يقفون على خلفية العصر الجديد بميكانيزمات هشة، فأدّت عبثية الاستهلاك المعرفي إلى قلة طرح الأسئلة والخوض في عمقها، وتنظيمها بشكل فعال.

القطيعة مع أساطين الفكر الفلسفي/ من اللغة المقعّرة إلى اللغة الأليفة:

إن التشدّق اليوم بلغة أليفة قريبة من الجمهور، دون مراعاة لحساسية الأفكار المطروحة.. أو لتمرد الفلسفة ومشكلاتها المتشعبة، أدى إلى زعزعة القيم واختناق الأفكار؛ لأن الفلسفة لم تعد بإمكانها الإجابة عن هذه المطالب. إنّ فلاسفة الألفيّة الجديدة مخلصون، صادقون، قريبون إلى فكرنا، وكما يقول آلان دي بوتون «قليل من علاج القلق أفضل من التفكير فيه»، إذ يرى أنّ الفلسفة لا تستحق ساعة عناء إذا لم تساعدنا على العيش حياة أفضل.

ثنائية (الفلسفة.. السعادة) السعادة الماكرة:

يشير كه يلان إلى وجود علاقة خفية بين هذه الثنائية (الفلسفة/السعادة) وهي في حقيقة الأمر علاقة مفخخة، وبين (السعادة/المكر) من جهة ثانية، فالسعادة تتزايد مع تزايد عملية الإنتاج والاستهلاك، وتأجيج القنوات الإعلاميّة للرغبة الشرائية التي توهم بتوفير الهدوء النفسي، وهي «في الواقع لا تحقق شيئا سوى دعم ماكينة السوق وتضخيم السلع». حيث يذهب الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر إلى أن السعادة ليست شيئا يمكن السعي وراءه بشكل مباشر، بل هي حالة تتحقق من خلال العيش الأصلي والتفاعل العميق مع الوجود؛ إذ أنها ليست غاية، بل حالة تظهر نتيجة للعيش بوعي عميق. تختلف الرؤى حول مفهوم السعادة بناءً على الأفكار المتبناة، فقد يراها البعض مكافأة لعيش حياة قائمة على الفضيلة والواجب، بينما يراها آخرون نتيجة لعدم التعلق بالأشياء المادية، أو قبول العبثية والوجود.

استقلالية الخطاب الفلسفي:

الفلسفة قادرة على التعبير عن نفسها بشكل مستقل، دون تدخل أي سلطة، أو أي تأثيرات خارجية، دينية كانت، أو سياسية، أو ثقافية؛ إذ يُعتبر الخطاب الفلسفي مجالا حر الأفكار، ما يعزز قدرته على طرح الأسئلة الكبرى حول الإنسان والوجود والمجتمع. فقد رفض سقراط الخضوع لأوامر الحكام في أثينا، واعتبر أنه يجب على الفلسفة أن تكون مستقلة، وتبحث عن الحقيقة بغض النظر عن الضغط الاجتماعي أو السياسي. أما ديكارت في «تأملات في الفلسفة الأولى» فقد وضع قاعدة منهجيّة تقوم على الشك، وأكد ضرورة الاستقلالية الفكرية للوصول إلى الحقيقة. وكان كانط هو الآخر يرى أن الفلسفة مستقلة عن الديانات والمعتقدات التقليدية، في عمله «نقد العقل المحض»، وسعى إلى إنشاء نظام فلسفي يعتمد على العقل ولا يتأثر بالمعتقدات الدينية أو السياسية.

ويمكن القول أخيرا أنّ الفلسفة تهذيب للوقاحة، وترتيب للأفكار ولملمة لتشظيات الحياة اليومية، ودعوة إلى اكتشاف متعة التفكير انطلاقا من الواقع الموجود لا المُفترض أو المحتمل، بل هي خاضعة للممكن. يتناولُ المؤلف في سياق فصول الكتاب العلاقة بين المؤسسة الأكاديمية والفلسفة، مشيراً إلى أنَّ أفق التفكير الفلسفي أوسع من أن ينكفئ على حدود التنظير المُصطلحاتي لأنَّ الحياة بمتناقضاتها المُستفحلة هي قاعدة لانطلاقات الفلسفة وتجديد آلياتها. ويذكّرُ محمد بالتوتر السائد في الفضاءات التي يحاولُ فيها الخطاب الديني مصادرة ملعب الفلسفة وسحب الأوراق من العقل المسكون بالأسئلة الحيوية.

المصدر: جريدة القدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *