Blog
فِي ثقل التساؤلات، حيوات أُخرى

نوره بابعير
تظلُّ التساؤلات، منذ فجر الفكر الإنساني، هي البذرة الأقوى في حقل الوعي، والنبع الذي لا ينضب مهما حاول العقل أن يرويه.
كيف لعقلٍ أن يتشبث بسؤالٍ واحد، ثم لا يلبث أن يحيله إلى همسٍ داخلي يتكاثر كالنار في هشيم الفكر، حتى يغدو ثرثرة صاخبة ترفض السكون؟ وكيف تتحول تلك الثرثرة إلى غذاءٍ للعقل، لا يعرف الشبع منه إلا حين يظفر بغاية السؤال، فيدرك عندها أن الوصول ليس نهاية، بل بداية لأسئلة أخرى أكثر عمقًا وإرباكًا؟
كيف للإنسان أن يفرغ نفسه حتى يصبح كصفحة بيضاء تنتظر الحبر الأول، ثم كيف يمتلئ حتى يكاد يفيض عن ذاته؟
هل الصمت امتناع عن القول، أم أنه كلامٌ آخر لا تُدركه الأذن، بل تصغي إليه الروح؟ وهل الكلام امتلاء بالمعنى، أم محاولة يائسة لسد فراغات الوجود بما نظنه أفكارًا؟
إن الحوارات ؛ حين تكون صادقة ، تُشبه عدوى فكرية تنتقل من عقلٍ إلى آخر، فتثريه بما يحمله من ذخائر المعرفة والرؤى، لكن السؤال الأعمق: كيف يمكن للإنسان أن يبقى هو نفسه وسط هذا التبادل العميق؟ وهل الثبات على الذات فضيلة، أم أن التحول هو جوهر الحياة؟
ربما لا نعيش بالحقائق بقدر ما نحيا بالأسئلة. فالأسئلة تمنحنا القدرة على إعادة النظر في أنفسنا وفي العالم، وتُربك يقيننا كي لا يتحول إلى جمود. لعل الإنسان، في نهاية الأمر، ليس سوى كائن يبحث عن نفسه بين ما يفرغه من فكر وما يملؤه من دهشة، بين صمته الذي يفتح أبواب التأمل، وكلامه الذي يوقظ الآخرين. وربما تكمن الحكمة الكبرى في أن ندرك أن امتلاءنا لا يكتمل إلا حين نتقن فن النقص، وأن الوصول إلى الإجابة ليس إلا بداية طريق نحو سؤالٍ آخر أكثر اتساعًا .
لكن، ماذا لو كان السؤال نفسه كائنًا حيًا يعيش فينا؟ ماذا لو كان هو الذي يختارنا، لا نحن من نختاره؟ ربما نحن لسنا سوى أوعية مؤقتة للأسئلة التي تبحث عن أجساد لتسكنها، عن عقول لتدور فيها، وعن قلوب تتسع لثقلها ودهشتها. وربما لهذا السبب، كلما حاولنا إغلاق باب التساؤل، تسللت الأسئلة من شقوق أخرى، لأننا وُجدنا لا لنسكن في الإجابات، بل لنتنقّل بين احتمالات لا تنتهي.
إن الامتلاء الحقيقي لا يأتي من تراكم الأفكار، بل من القدرة على النظر في أعماقها، في مساحات الظل التي تخفيها، وفي المناطق الصامتة التي لا يقترب منها ضوء اليقين. الإنسان الذي يكتفي بما يعرفه، هو إنسان أغلق أبواب بيته الفكرية وعلّق على الباب لافتة تقول: “المعرفة هنا اكتملت”، لكنه لا يدرك أن الغبار سيتراكم على جدرانه الداخلية حتى يختنق.
لذلك، ربما كان أعظم ما يمكن أن نفعله هو أن نعيش كما تعيش النهر: متحركين دائمًا، نستقبل ما يأتي من منابع جديدة، ونتحرر مما لم يعد صالحًا للبقاء. أن نكون كالأفق، لا يكتفي بلون واحد، بل يتشكل مع كل فجر وكل غروب.
في النهاية، قد لا نعرف هل نحن من نصنع الأسئلة أم أن الأسئلة هي التي تصنعنا، لكن المؤكد أن حياتنا، بكل ما فيها من فراغ وامتلاء، من صمت وكلام، ليست سوى محاولة طويلة لفهم ما لا يمكن فهمه بالكامل. وهذا هو سر جمالها.