بوابة أعضاء جدل, موضوعات متنوعة

الأدب قوة أخلاقية خفية

نوره بابعير

ربما يتساءل البعض: كيف يمكن لنص مكتوب أن يُهذّب السلوك أو يُقوّم الأخلاق؟ الجواب لا يكمن في المباشرة، بل في الأثر البطيء العميق، و الذي يتركه الأدب في القارئ. عندما نقرأ “الكتب ” نحن لا نحفظ قوانين العدالة، لكننا نحيا مع الصراع الداخلي ، ونفهم جميع السلوكيات حينها و كيف يمكن لرحمةٍ واحدة أن تغيّر مصير إنسان. الأدب لا يعظ، بل يعايش. لا يفرض القيم، بل يُجسّدها في الحكاية.

الأخلاق في الأدب لا تنبع من الخطابة، بل من الإحساس؛ من تلك اللحظة التي يقرا فيها القارئ وتربك أفكاره دون أن يعرف السبب تمامًا لكنها حركة في ساكن العقل شيئًا من وعيها ، أو حين يشعر بخجلٍ داخلي لموقفٍ قرأه في سطرٍ عابر. هذا الخجل، هذا التأثر، هو بداية التحول الأخلاقي الحقيقي؛ لأنه ينبع من الداخل، لا من الخوف أو العقوبة. يشعر القارئ بحاجة إلى تغيير سلوك معين اتجاه ما يقرأ.

لان الأدب يتحول أداة للوعي الذاتي و الوعي ليس مجرد إدراك لما يدور حولنا، بل هو بالأساس إدراك لأنفسنا في هذا العالم، لفعلنا، لوجودنا، لما نفكر فيه ولماذا. في هذا السياق، يأتي الأدب كمنبه حاد بارز لهذا الوعي. حين نقرأ رواية فلسفية، أو نصًا شعريًا عميقًا، فإننا لا نكتفي بتلقي المعنى، بل ننخرط في إعادة إنتاجه داخليًا. نطرح الأسئلة: ماذا كنت سأفعل لو كنت مكان هذا البطل؟ لماذا شعرت بهذا الألم عند قراءتي للمشهد؟ هل أنا بريء تمامًا من الأنانية التي أدانها الكاتب ؟ لماذا نقرأ الفلسفة ؟هل نحن نحتاج إلى المزيد من الوعي و النضج ؟ لماذا نقرأ الادب هلّ أخلاقنا تقف على نبتة القراءة ومع الوقت تصل إلى حد الإشباع الذاتي ؟

يمكن في الأدب، تتكسر مرايا التبرير، ويُجبر الإنسان على مواجهة ذاته، وجهًا لوجه. الروايات الكبرى لا تريح القارئ، بل تقلقه، لأن القلق هو عمق الوعي، ومن دونه نعيش على هامش الوجود، في أمان قراءة مزيفة .

الأدب يوسع المدارك الإنسانية في كل قراءة لأدب مختلف، نحن لا نقرأ شخصيات فقط، بل نطل على عوالم جديدة، نعيش حياة أخرى دون أن نغادر مقعدنا. نقرأ تولستوي فنفهم روسيا القديمة، نقرأ نجيب محفوظ فنشعر باجواء الحارات المصرية، نقرأ دوستويفسكي فنغرق في دهاليز النفس البشرية. هذا التعدد لا يجعلنا أكثر ثقافة فحسب، بل أكثر تسامحًا، أكثر فهمًا للاختلاف، أقل يقينًا، وأكثر إنصاتًا.

الأدب يوسع المدارك لأنّه يعلّمنا أن الحقيقة ليست واحدة، وأن الخير والشر ليسا أبيض وأسود، بل طيفٌ من المعاني والدوافع والتعقيدات. وهذه الرؤية المتعددة تخلق إنسانًا أكثر تعاطفًا، أقل تطرفًا، أعمق إنسانية.

قراءة الأدب تربية داخلية مستمرة ،إذا كانت التربية الأخلاقية التقليدية تبدأ من التوجيه الخارجي، فإن الأدب يشتغل على الضمير الفردي. إنه لا يلقّن، بل يوقظ. لا يفرض القيم، بل يجعل القارئ يكتشفها بنفسه، في تجربة داخلية، تتكرر كلما فتح صفحة جديدة زادت رغبته فيَ إكمالها.

يظل الأدب هو البئر العميق الذي نلجأ إليه لا لنشرب فقط، بل لنرى انعكاس أرواحنا في مائها الساكن. ومن يقرأ بصدق، لا يخرج كما دخل. لأن الأدب، في النهاية، لا يُقرأ، بل يُعاش .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *