Blog
المهارات ثروة الإنسان التي لا تُرى

نوره بابعير
لم تعد الشهادات وحدها تكفي، ولم يعد الحفظ معيارًا للفهم، ولا الالتزام الآلي دليلًا على الكفاءة. ما تصنع الفرق اليوم، وتمنح الإنسان قيمة في عوالم العمل، والفكر، والإبداع، هي المهارات. هذه الطاقة الصامتة التي لا تُرى، لكنها تصنع أثرًا بالغًا في الحياة.
المهارة ليست مجرد “إتقان” لشيءٍ ما، بل هي نتيجة تفاعل طويل بين الفهم والتجربة، بين النظرية والممارسة، بين الرغبة الداخلية والتحديات الواقعية. إنها ما يبقى حين تختفي الوصفة الجاهزة، وحين يُترك الإنسان أمام الموقف الحقيقي، ليبتكر، ليحلّل، ليقرر.
من المعرفة إلى المهارة
الفرق بين من يعرف ومن يُتقن، يشبه الفرق بين من يقرأ عن السباحة، ومن ينجو من الغرق. المعرفة تفتح الباب، لكن المهارة تعلّمك كيف تمر عبره. وفي عالم تتقاطع فيه التقنيات، واللغات، والوظائف، تصبح المهارات هي اللغة العالمية الجديدة، التي يفهمها الجميع.
التعليم التقليدي، في كثير من الأحيان، يركّز على التلقين، على أن يعرف الطالب المعلومة، لا أن يتعامل معها. وهنا يأتي التحدي الحقيقي: كيف نحوّل المعلومة إلى قدرة؟ كيف نعلّم أبناءنا لا فقط ماذا يقولون، بل كيف يفكرون؟ كيف يبحثون؟ كيف يتخذون القرار؟
أنواع المهارات: خارطة العقل والعمل
المهارات تتنوّع مثلما تتنوع العقول. هناك المهارات الصلبة ، مثل البرمجة، التصميم، التحليل الإحصائي، الترجمة، وإدارة المشاريع. وهي مهارات يمكن قياسها، وتعلّمها غالبًا من خلال الدورات والممارسة المباشرة.
لكن الأعقد، والأكثر تأثيرًا، هي المهارات الناعمة مثل مهارات التواصل، الذكاء العاطفي، القدرة على العمل الجماعي، إدارة الوقت، حلّ المشكلات، التفكير النقدي، والمرونة النفسية. هذه المهارات لا تُعلّم في الكتب، بل تُكتسب عبر المواقف، وتُبنى مع التجربة، وتتأصل مع النضج.
المهارات ليست حكرًا على أحد
لا توجد مهارة تُولد معنا بالضرورة. كل مهارة يمكن تعلّمها، وتطويرها. الفرق بين من يمتلكها ومن يفتقدها هو الرغبة، والصبر، والممارسة. من يتقن الاستماع مثل من يتقن الحديث. ومن يعرف كيف يكتب، تعلّم ذلك عبر التجربة الطويلة، لا من موهبة نادرة.
وهنا تكمن العدالة في عالم المهارات: إنها متاحة للجميع. لا تتطلب رأس مال، ولا واسطة، ولا وراثة. تتطلب فقط إنسانًا يرى أن في داخله ما يستحق أن يُصقل ويكبر.
المهارة تبني الإنسان، وتبني الوطن
في المجتمعات التي تستثمر في المهارات، تُبنى حضارات معرفية، واقتصادات قوية، وأفراد واثقون بأنفسهم. حين يتقن الطبيب مهارات التواصل، يصبح أكثر إنسانية. حين يتقن المعلم مهارات التحفيز، يصبح صانعًا للأمل. حين يتقن الموظف مهارات التفاوض، يسهم في نجاح مؤسسته. في كل مجال، تظهر المهارة كما يظهر الضوء في الغرفة: لا يُرى، لكنه يغيّر كل شيء.
أصبحت المهارات محورًا أساسيًا في برامج التنمية، والتعليم، والتوظيف. فالعالم لم يعد يسأل: ماذا درست؟ بل يسأل: ماذا تستطيع أن تفعل؟ وما المهارات التي تمتلكها لتصنع أثرًا حقيقيًا؟
كيف نزرع المهارة في الأجيال القادمة؟
إن من واجبنا كمجتمع، وكأفراد، أن نغيّر نظرتنا نحو التعليم والعمل. أن نغرس في الأبناء مهارة السؤال قبل الإجابة، ومهارة التعلّم الذاتي، ومهارة التعاطف مع الآخر، ومهارة الوقوف بعد الفشل.
أن نعيد للورش قيمتها، وللخطأ مكانه في التعلّم، وللإبداع حرّيته. أن نحتفي بمن يصنع بيده، وبمن يبرمج بعقله، وبمن يبني علاقة صادقة مع فريقه.
في كل إنسان، هناك خامة لم تُشكّل بعد. المهارة هي الأداة التي نحفر بها في دواخلنا، فنخرج أنفسنا من العشوائية إلى الدقّة، ومن التكرار إلى الإبداع، ومن الاعتماد إلى الاستقلال.
نحن لسنا بحاجة فقط إلى مهارات مهنية، بل إلى مهارات إنسانية. مهارات تجعلنا أكثر صدقًا، أكثر وعيًا، أكثر قدرة على التواصل والتفكير والمساهمة. المهارة ليست مجرد طريق إلى الوظيفة، بل إلى حياة أكثر غنى وعمقًا.