Blog
“سر القبعة الطويلة: لماذا يعلو رأس الطاهي بهذا الشكل؟

نوره بابعير
في أروقة المطابخ، حيث تنبعث رائحة البهارات وتتمازج الأصوات بين تقطيع وسلق وقلي، يبرز رجل أو امرأة بقبعةٍ بيضاء، شاهقة، كأنها منارةٌ في بحرٍ يغلي. قبعة الطباخ ليست مجرد غطاء للرأس، بل هي رمز، تاريخ، وقصة طويلة من الانضباط والفن.
قد يتساءل البعض: لماذا هذه القبعة الطويلة؟ لماذا لا يكتفي الطباخ بقبعة صغيرة أو قطعة قماش تلفُّ رأسه فحسب؟
الإجابة تتعدى الوظيفة، وتكمن في الطبقات العميقة من الاحترام والتقدير لهذا الفن المتقن. فالقبعة وُلدت قبل قرون، يوم كان المطبخ مملكةً خفية، لا يدخله إلا الماهرون في لذة الطبخ.
الطول في قبعة الطباخ كان، عبر الزمن، علامةً على الرتبة. كلما علت القبعة، علت معها مكانة مرتديها. أما تلك الثنيات البيضاء التي تتراكم حولها كأمواج هادئة، فهي لم توضع عبثاً؛ بل يقال إن عددها كان يُمثل عدد الوصفات التي يتقنها الشيف، خصوصاً طرق طهي البيض، رمز البساطة والابتكار في آن.
لكن، لو تأملناها من زاوية أخرى، قد نجد في طول القبعة شموخاً يشبه شموخ الحرفيين، أولئك الذين يهبون حياتهم لإتقان صنعةٍ لا تُرى عظمتها إلا حين تتذوقها. إنها قبعة ترفع الرأس لا غروراً، بل فخراً بالتفاني، بالدقة، بالإبداع.
في عالم سريع، تتساقط فيه المعاني أمام العجلة، ما زالت قبعة الطباخ تقف، طويلةً، بيضاء، نقية. تذكرنا بأن الجمال يكمن في التفاصيل، وأن الفن لا يحتاج دوماً إلى فرشاة، بل أحياناً، إلى ملعقة… وإلى قبعة عالية، تحرس سرّ النكهة .
لم اكتف بما اكتب عن حكاية القبعة لدى الطباخ كنت اتساءل من أول شخص ارتداء القبعة حتى تشكلت علامة بارزة لدى الطباخين؟ أول من ارتدى قبعة الطباخ قبعة الشيف المعروفة و يُعتقد أنه الشيف الفرنسي الشهير ماري أنطوان كاريْم (Marie-Antoine Carême) في أوائل القرن التاسع عشر.
كاريْم كان من أوائل من نظموا قواعد الطبخ الفرنسي، ويُنسب إليه إدخال القبعة الطويلة البيضاء كرمز للنظافة والاحتراف في المطبخ. و كانت تختلف أطوال القبعات حسب رتبة الشيف في المطبخ، فكلما زادت خبرته، زاد طول قبعته.
أما من حيث الأصل التاريخي لفكرة قبعة الطهاة، فبعض الروايات وجدت أنها ترجعها إلى العصور الوسطى، حين كان الطهاة في البلاط الملكي يرتدون قبعات تميزهم، لكن كاريْم هو من رسّخ شكلها المعروف حالياً .
كيف كانت ردة فعل الآخرين تجاه قبعة الطباخ؟
عندما بدأ استخدام قبعة الطباخ في المطابخ الاحترافية، لم يكن الأمر مجرد تغيير في الزي، بل كان خطوة نحو ترسيخ الانضباط والنظام والاحترافية في بيئة العمل. في البداية، ربما لاقت الفكرة شيئًا من الغرابة أو الاستغراب، خاصة وأن ارتداء القبعة لم يكن شائعًا في بيئات الطهي التقليدية.
لكن سرعان ما بدأ العاملون في المطبخ، وكذلك الجمهور، بتقدير هذا العنصر الجديد. فقد كانت القبعة رمزًا للنظافة أولًا، حيث تمنع تساقط الشعر في الطعام، ورمزًا للمكانة ثانيًا، إذ إن طول القبعة كان يميز مكانة الطاهي وخبرته.
لقد تقبّل زملاء المهنة في المطابخ لهذه الفكرة و جاء مع الوقت فرض الطاهي الشهير “ماري أنطوان كاريم” هذا الزي كعلامة مهنية تدل على الهيبة والترتيب. و أما بالنسبة للجمهور، فوجدوا في هذا الزي ما يعكس الجدية والاحترام للمهنة، وسرعان ما أصبحت قبعة الطباخ من العلامات البصرية المرتبطة بالطهي الاحترافي. وهكذا، من كونها مجرد قطعة قماش على الرأس، أصبحت قبعة الطباخ رمزًا عالميًا، يحمل في طياته تاريخًا من التقاليد والانضباط، ويُعرف به أصحاب هذه المهنة أينما كانوا