بوابة أعضاء جدل, موضوعات متنوعة

فلسفة كائن في منتصف الحكاية

نوره بابعير

ليس ثمة ما هو أكثر إرباكًا من أن تجد نفسك كائنًا في منتصف الحكاية. لا أول السطر لك، ولا خاتمته بيدك. أنت هنا، في الصفحة الممزقة بين الماضي والمجهول، تقف وحيدًا على جسر هشّ، لا تدري أهو طريق، أم مجرد فاصل زمني بين فقدين.

في منتصف الحكاية، لا يصفق أحد. لا الأبطال منتصرون، ولا الضحايا بوضوحهم متعاطف معهم. في هذا المنتصف، أنت لا تزال حيًّا بما يكفي لتحلم، لكنك مُتعب بما يكفي لتخاف من الحلم.
كأنك سطرٌ نسي الكاتب أن ينهيه.

الذين وُجدوا في البدايات، عاشوا دفءَ الفكرة الأولى، بهجة الاكتشاف، طفولة اللغة، انبهار العين بالبدايات.
أما الذين سينتهون في الخاتمة، فسيحملون لذّة الخلاص، ووضوح الغاية، وخفّة الختام.
لكن ماذا عن الكائن في المنتصف؟
ذلك الذي لا يتذكر متى بدأ، ولا يعرف إلى أين يسير، ولا لماذا لم يرحل بعد.

أنا كائن في منتصف الحكاية.

لي وجوه كثيرة، وأسماء سقطت سهوا من دفاتر الأيام. لا أملك صورة البداية، ولا حق المراجعة. كل ما لديّ، هو هذه اللحظة، بما تحمل من أسئلة عالقة، وبقايا لم تُفهم بعد.

في منتصف الحكاية، يصبح الإنسان في مواجهةٍ مع ذاته، دون أن ياخذ دور البطولة أو أقنعة الانكسار.
لا مكان هنا للبطولات الدرامية ولا للانهيارات المدوية. هناك فقط تلك التفاصيل الصغيرة التي تقتلك ببطء:
نظرة لم تفهمها، و صمتٌ طال أكثر من اللازم، كتاب لم تُنهه، مقعد فارغ ظلّ ينتظرك، وندم ثقيل لا يعرف اسمه.

في هذا المنتصف الرمادي، لا أحد يصفق لك لأنك استيقظت من سريرك رغم أن قلبك لم يخرج من ليله، لا أحد يحتفل بكونك لا تزال تقرأ، رغم أن بصيرتك قد تعبت.
لكنك، رغم كل شيء، لا تزال تمشي.

المنتصف هو فلسفة وجودية في حد ذاته.

هو سؤال: “من أنا الآن؟”بعد أن فقدت ما كنتَه، وقبل أن تُصبح ما ستكونه.
المنتصف هو لحظة النظر في المرآة دون توقع، أن تلمح وجهك الحقيقي، العاري من محاولات التجميل، والناجي من تعاريف الآخرين.
هو وقت إدراك أن الطريق لم يكن مستقيمًا، ولا معوجًا، بل كان أنت.

أعرف الآن لماذا يخشى الناس هذا الموضع من الحياة. لأن المنتصف لا يمنح إجابات. هو اختبار صامت للثبات، اختبارٌ للقدرة على العيش رغم اللايقين.

أن تكون في منتصف الحكاية، يعني أن تتقن فنّ الإصغاء إلى قلبك، وأنت لا تفهمه. أن تؤمن بشيءٍ ما، حتى وإن لم تُسمّه. أن تحبّ مسراتك المحركة لشعور سعادتك ، ليس لأنه الوقت المناسب، بل لأنك لا تملك إلا أن تُحب مسراتك الصغيرة حتى تكبر ، رغم ثقل الأشياء في بعض الأوقات .

في المنتصف، تعلّمت أن لا أنتظر الخاتمة لتمنحني معنىً، بل أن أزرع المعنى هنا، بين السطرين، بين تنهيدة وتنهيدة.
أصبحت أبحث عن المعجزة في التفاصيل: في ضحكةنقية ، في طعم الشاي، ورشفة قهوة ، في جملةٍ مكتوبة بصدق، في غيمةٍ تشبهني في مواقف إنسانية عابرة . أصبحت أكتفي بأن أعيش، لا كما تُروى القصص، بل كما تُعاش ببساطة، وبلا مجازفاتٍ مبهرة.

قد لا أكون البداية التي يُحتفى بها، ولا النهاية التي تُصفّق لها الجماهير. لكنني أنا، في منتصف الحكاية.
أصغي إلى الزمن،وأعيد ترتيب ملامحي، وأمشي، ولو تعثّرت.
أنا فصلٌ خامس، لا تعترف به الفصول الأربعة، لكن له نكهته، وظلاله، وسيرته التي لا تشبه سيرة أحد.

وأنت؟
أين أنت في حكايتك؟
هل ما زلت تكتب؟ أم علّقت القلم بانتظار شيء لا تعرفه؟
هل تُدرك أن المنتصف ليس مهلة مؤقتة، بل مساحة لتكون فيها إنسانًا كاملًا، حتى وإن كنت منقسمًا بين ما فات وما سيأتي؟

ربما الحكاية لم تكن يومًا عن البداية أو النهاية.
ربما كل ما يهم… هو هذا المنتصف.وانت بعد منتصفات حكايتك ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *