بوابة أعضاء جدل, موضوعات متنوعة

قصة قصيرة ” مسوّغات الغياب “

نوره بابعير

كان يفتّش عن الأسباب المتغيّبة من حقائق حجّته.
يلتفت لبعض الأشياء، وأخرى تغيب عنه، وكلّما غفل، سقط منه الجزء الأهم. لم يكن قاصدًا، لكن خطيئة الغفلة جعلته يفقد التوازن الذي كان يفترض به أن يحفظه.

ظلّ يبحث عن ظلٍّ يحمي ذاته من سطوع الأسئلة، ومن ذلك الضوء الذي يفضح هشاشة يقينه.ظنّ نفسه منسيًا، لا شيء يلامس أفكاره، يغيب عنه ضوء النضج كما تغيب الشمس خلف سحابة عابرة. كان شيءٌ من الصمت يعيد إليه ترتيب الفهم… أو قل يبعثره ليتشكّل من جديد.

ثم توقّف.

راح يفتّش مرّةً أخرى عن تلك البداية الغامضة، تلك اللحظة التي جعلته يقع فوق حجّة ما… ثم تلاشت منه.
تساءل: هل كان يبحث حقًا عن حقائق تغيّر مسار فكره؟
أم أن هناك حجّة خفيّة لكل شيء، تدفع المواقف لتتماهى معها، فتشكّل المعنى كما يُشكَّل الطين بين اليدين؟

كانت الأفكار تتكاثر، لا تشبه التوالد، بل الزحام.
كل فكرة تحمل على ظهرها أخرى، وتتناسل منها أسئلة لا أجوبة لها. بات لا يعلم إن كانت تلك الحجج صادقة، أم مجرد قشور يكسو بها ضعفه، ليُقنع نفسه أن الغفلة لم تكن خطيئة، بل حكمة مؤجلة.

ربما لم يكن يبحث عن معنى، بل عن عذرٍ للفراغ الذي يسكنه. وربما ،كان كل ما مضى محاولةً لتفسير صمته، لا أكثر .

و كانت الحيرةُ كثيفة، تمشي خلفه كظلٍ لا يفارقه، تتربص بكل لحظةِ هدوءٍ ليشتعل فيها السؤال. لكنّه، في لحظة لا تشبه غيرها، أدرك شيئًا صغيرًا كأنّه لم يكن غائبًا بل كان ينتظر النضج داخله.

أن بعض الأسئلة لا تأتي لتُجاب، بل لتفتح الباب نحو وعيٍ أعمق،وأن الغفلة التي ظنها خطيئة، لم تكن إلا طريقًا آخر للفهم متأخراً ، و لكنه صادقًا .

توقّف عن النبش في البداية، وتعلّم أن لا يمسك المعاني بأطراف أصابعه،بل يتركها تنمو فيه بهدوء، كما تنمو الأشجار بلا عجل.في النهاية، لم يصل إلى يقينٍ كامل،
لكنه وصل إلى سلامٍ خافت… سلام لا يقطع الأسئلة،
لكن يمنحها مقعدًا هادئًا في ركن القلب و ضوءً خافتاً في مسكن العقل وأفكاراً ناضجة في مساحة الوقت .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *