Blog
قيمة العقل لا تُقاس بما يتفق عليه

نوره بابعير
لم أعد أنظر إلى الاختلاف الفكري كنوعٍ من الخلاف، بل أصبح وسيلة لإيقاظ الوعي، إذ يساهم في اتساع الرؤية البصرية والبصيرة الداخلية. فالمعنى يتشظّى في كل مرة، ويتغير تبعًا لفهم الأشخاص له. وهذا ما يمنح الفكرَ قيمةً؛ إذ يتحرك العقل بين صحوة الوعي وجهل الآخر. وعندما تحدث مثل هذه الأمور، فإنها تُشكّل ترابطًا عميقًا بين الطرفين، لكلٍ منهما وجهة نظر مختلفة تضع أمام العقل خيار المفاضلة بينهما، حتى تتضح الصورة الكاملة للفهم.
لكن هذا لا يعني أن الآراء الأخرى خاطئة، فربما بُنيت على أسس صحيحة، لكن من زاوية فهم مختلفة.
أما التنبؤات الناتجة عن الاختلاف، سواء في الألفاظ أو الأفعال، فإنها تعود إلى طريقة تفاعل العقل معها؛ كيف كوّنها، ودوّنها، وأخرجها بالصورة الملائمة لقدراته. ومن هنا تتفرّع الآراء، ويبرز في كل رأي مدى النضج العقلي لصاحبه، فيتجلّى فيه إنصاف بين وعيٍ منير ونضجٍ متكامل، يقود الإنسان وفقًا لانعكاسات داخلية متشابكة.
فليست المشكلة في وقوع الاختلاف، ولا في الخلاف ذاته، بل في فراغ العقل حين ينظر إلى هذه الأمور ويضعها في غير موضعها الحقيقي، فيتمسك بها دون وعي، بدلاً من أن يترك مساحة كافية لاكتشاف الحقائق المخفية
وهنا يصبح الوعي مرآةً صافية، لا تعكس فقط ما يُرى، بل ما يُفترض أن يُفهم، فليس كل ما نسمعه يحتاج إلى تصديق، ولا كل ما نختلف عليه ينبغي أن نُحسمه بالصواب والخطأ. لأن جوهر الفكر لا يقوم على الانتصار لرأي، بل على فهم أعمق لطبقات المعنى، وإدراك أوسع لما بين السطور.
الاختلاف الحقيقي ليس صراعًا بين العقول، بل تلاقٍ بينها، حيث ينمو الفكر في منطقة التباين، لا في مناطق التماثل. فحين تتجاور الأفكار المتناقضة، تتكوَّن لدينا خرائط جديدة للفهم، ومساحات أرحب للتأمل، تجعلنا أكثر مرونةً في تقبّل وجهات النظر، وأكثر نضجًا في مراجعة قناعاتنا.
إن العقل الممتلئ لا يخشى الاختلاف، بل يحتضنه، لأنه يعلم أن كل فكرة تحمل احتمالًا للحقيقة، حتى وإن بدت لنا غريبة أو بعيدة. فالحقيقة ليست حكرًا على طرف دون آخر، بل هي حصيلة الحوار، والتقاطع، والتراكم المعرفي المستمر.
ولعلّ أحد أخطر ما قد يُفسد هذا المسار، هو التسرع في إصدار الأحكام، والرغبة الدائمة في تصنيف الآخرين تحت لافتات مسبقة. فالاختلاف لا يُدار بالعاطفة المجردة، ولا بالانحيازات الشخصية، بل بعقلٍ يُنصت قبل أن يُجادل، ويُحلل قبل أن يرفض، ويُقدّر أن لكل فكرة زمنها، وسياقها، وبيئتها.
من هنا، علينا أن نمنح عقولنا فرصة للنمو داخل مساحات الاختلاف، لا خارجه، فكل فكرة نستوعبها خارج قناعاتنا المعتادة، هي توسعة لمجال الرؤية، وتعميق لبصيرة لم تكن لتتفتح لولا احتكاكها بما يخالفها.
تبقى الفكرة الأكثر رسوخًا: أن قيمة العقل لا تُقاس بما يتفق عليه، بل بما يستطيع فهمه، ومراجعته، وتطويره، حتى وهو في قلب الاختلاف.