Blog
كل عقل مُهيأ أن يكون واعياً

نوره بابعير
مهم أن تفهم كيف تفصل المفهوم المستحق من حياتك، لتتمكّن من بناء أفكار واضحة تخدم قدراتك في مسيرتك نحو التقدّم. فمثلاً، إذا أدركت أن العقل هو الخزينة الثمينة لذاتك، ستصبح العناية به أولوية من أولوياتك، وذلك من خلال تحسين أدائه واتساع معرفته ووعيه وقناعاته. وكل هذا ثمرة اجتهاد فكري قيّم يضع لك حدود القيمة في كل ما تملك. وهكذا تتحول أفكارك إلى حوار مثمر، يتيح لك أن تدرك المعنى الحقيقي لكل فكرة، ولكل حوار عميق، في محاولات عديدة تستكشف من خلالها لبّ وعيك وتكشف عن تغيّراتك.
الفهم يصنع للذات حياة تتوافق مع قدراتها. كثيرون يدركون هذه الحقيقة، لكن الوصول إليها ليس بالسهولة التي نظن؛ بل يحتاج إلى جهد متواصل يحقق لك مستوى من الانضباط فيما تسعى إليه. ومع ذلك، فالسعي في الحياة لا يقتصر على زاوية واحدة، بل يتشكل من مفاهيم متنوعة، والغاية قد تكون وصفًا، لكن المعنى يُترجم بطرق مختلفة تبعًا لاحتياجات كل شخص. وهنا تكمن المشكلة: أن بعضهم يلجأ إلى التقليد، فيتبع الآخرين بما يملك من وعي، كأنه يتخلى عن وعيه المستقل. وعندما تغيب الأفكار الواعية، تتسلل مكانها الأفكار الفاسدة، فتحجب جزءًا من مساحة العقل رغمًا عنه.
ومسألة الفهم ليست سهلة كما نتصورها، بل تحتاج إلى كثير من العلم لتتلاشى الأوهام المؤقتة ويأخذ الوعي مكانه الصحيح. ومع أن لكل إنسان خيارًا، إلا أن بعضهم يفقد الاختيار الجيد، فلا يملك إلا أفكارًا سطحية، وحوارات فارغة، وتغذية عقلية ضعيفة، وسلوكيات لا تُعين على النضج ولا على تنوير العقل.
لماذا يخفق عقل ويتفوّق آخر؟ لأن الأساس يتشكل منذ البداية. فالعقل الواعي يُدرّب نفسه على الانفتاح، والتأمل، والمراجعة، ويصوغ من التجربة قيمة تساعده على التمييز بين الغث والسمين. أما العقل الخامل، فيرضى بالسطحية، ويكتفي بظاهر الأشياء، فيتعثر كثيرًا ويهدر جهده في دوائر مكررة لا تنتهي.
والفرق بينهما هو الفارق بين عقلٍ يبحث عن النور، وآخر يكتفي بالظل. فالواعي ينقّب عن الحقيقة ويختبرها، بينما الخامل يسلّم نفسه لما يأتيه دون أن يُثير في داخله سؤالًا واحدًا. ولهذا، فالتفوّق لا يُقاس بما نملكه من معلومات، بل بقدرتنا على تحويلها إلى وعي فعّال يقودنا إلى قرارات أصحّ، وخيارات أوسع، وحياة أكثر اتزانًا.
في النهاية، العقل كالأرض؛ إن زرعته بالفكر الجيد، أثمر وعيًا يرافقك في كل مراحل حياتك. وإن أهملته، نما فيه عشب الوهم وغلبه الجهل. فالمسؤولية أن تختار أي عقل تريد أن تكون: عقلًا واعيًا يضيء لك الطريق، أم عقلًا خاملاً يطفئ نورك قبل أن يبدأ.
العقل في جوهره يُبنى من اختياراته الأولى؛ فالواعي يتعامل مع كل فكرة كأنها بذرة قابلة للنمو، يختبرها ويغذيها بالمعرفة حتى تكشف حقيقتها. أما الخامل فيرضى بقبول الفكرة كما هي، بلا تدقيق ولا مساءلة، فيُثقل نفسه بما لا ينفع.
العقل الواعي يدرك أن خطواته الأولى هي أساس مساره، فيزرع في بداياته وضوحًا وانضباطًا ليبني مستقبله على قواعد راسخة. بينما إذا تهاون الإنسان في بدايات عقله، ترك فجوات تتسع مع الوقت حتى يضيع في التباسات لا يعرف كيف يعود منها.
وهكذا، يبقى الفارق بين عقلٍ يصنع معنى لحياته، وآخر يظل أسير العشوائية، هو مقدار الجهد المبذول في التهذيب والتجريب والمراجعة. فلا وعي بلا ممارسة، ولا نضج بلا معاناة صادقة تبحث عن جوهر الفكر.
والحقيقة أن كل عقل مُهيأ أن يكون واعيًا أو خاملاً، والقرار يبدأ من لحظة إدراك الذات: هل تختار أن تصنع مسارك بفكر مستقل، أم تترك نفسك للتيار بما يحمله من فوضى وتناقضات؟