بوابة أعضاء جدل, موضوعات متنوعة

العقل الذي خلع يقينه ومشى

نوره بابعير

ما النضج؟ أهو لحظة يبلغ فيها العقل قمته، أم حالة دائمة من التحوّل؟ هل هو معرفة، أم تخلي؟ سؤال فلسفي يتسلل إلينا كلما واجهنا ذاتنا مجردة من أقنعتها الاجتماعية. العقل الناضج في جوهره، ليس مزيجًا من الحقائق الثابتة، بل هو مرونة في مواجهة تغيّر المعاني.

النضج العقلي لا يعني تراكم السنوات، بل انفصال الوعي عن سذاجة الأحكام، وتحرره من أوهام السيطرة والفهم السطحي للواقع. إنه الخروج من كهف أفلاطون، لا لمجرد رؤية النور، بل للإدراك أن ما كنا نراه من ظلال، كان أيضًا يحمل معنىً في لحظته.

العقل الناضج لا يبحث عن الإجابات السريعة، بل يسكن في الأسئلة. لا يخشى التناقض، بل يعانقه بوصفه جوهر الوجود. إنه عقل عرف أن الحقيقة ليست مطلقة، وأن المعرفة أفق لا يُطال، وأن الإنسان ، مهما بلغ من وعي يظل ناقصًا بالضرورة، وهذا النقص هو ما يجعله إنسانًا.

في فلسفة النضج، الحرية ليست صخبًا، بل وعيًا بالاختيار. والاختيار ليس دائمًا بين خير وشر، بل بين حقائق متعددة، كلها صحيحة، وكلها ناقصة. الناضج لا يبحث عن المثالية، بل عن التوازن. يعرف أن العالم ليس عادلًا بالمعنى المطلق، فيُعيد تشكيل عدالته الذاتية بقدر فهمه، لا بقدر سخطه.

النضج هو أن ترى الحقيقة في عيون من يختلف معك، وتفهم أن الفكرة لا تموت بخصمها، بل تنمو حين تُناقَش. أن تتعلم كيف تخسر دون أن تهزم، وتربح دون أن تُخضع. أن تعرف أن الأنا ليست ذاتك، بل قيدًا يكبلك إن عبدتها، ويحررك إن وعيْت هشاشتها.

العقل الناضج لا يحتفل باليقين، بل يُقدّس الشك. يرى في كل فكرة احتمالًا، وفي كل قناعة مراجعة مستحقة. هو عقل لا يُسلّم بقيوده الداخلية، بل يسعى لتفكيكها، واحدة تلو الأخرى، بإرادة الباحث، لا غرور العارف.

إنه عقل يقف على الحافة، بين الفناء والخلود، بين العبث والمعنى، ويقرر أن يسكن التوازن: لا يستسلم للعبث، ولا يتعالى على الواقع بمعنىٍ زائف. هو عقلٌ يعترف أن لا شيء يدوم، حتى هو ذاته. وهذه هي الحكمة: أن تعرف، ثم تنسى. أن تمتلئ، ثم تفرغ. أن تحيا، ثم تمضي دون أن تترك سوى أثر من فكرة، لا من صدى .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *