Blog
“عقلٌ معطّل في وجه المألوف”

نوره بابعير
مشكلة الإنسان أنه أحيانًا لا يرغب في التفكير ببعض الأمور، فيضعها أمام غيره ليكونوا هم من يُشكّلون معناها. يترك فوضى الفهم تمضي دون أن يتأملها، ثم يعود، وعندما يرى جاهزية الآخرين، ينخرط في معناهم وكأنّه تبناه منذ البداية. لكن السؤال الحقيقي: هل منح تلك الفكرة مساحة فكرية صادقة من ذاته، أم اكتفى بانعكاسات غيره؟
هناك دومًا فجوة عميقة في الفهم، تحاول أن تُذَكّر الإنسان بقيمة العقل الذي يحمله في رأسه. إلا أن بعضهم يتجاهل هذه القيمة، ويستبدلها بما لدى الآخرين من وعي، بغضّ النظر عن مدى قوّته أو هشاشته. لا يهمّه إلا أن يصل بخفة إلى الموضع الذي يريد البقاء فيه، ولو على حساب ذاته.
وهنا يكمن الخطر؛ حين يتخلى الإنسان عن العقل، والأفكار، والنضج، والحكمة، وكلّ ما يترتب عليها من وعي وتميّز. يصبح أشبه بمن يُسلّم أدواته العقلية لطرفٍ آخر، مكتفيًا بالنتيجة لا بالرحلة.
إن التشابه بين المعنى الحقيقي ومحاولة اختلاقه، يكشف لنا عن دقة التوازن من جهة، وعن غفلة العقل حين يقبل كل ما يُطرح على سطحه دون أن يُصفيه عبر وعيه. وهنا، تتسرب الفكرة كما هي، دون عمق، دون وزن.
التفكير هو أحد أعظم احتياجات الإنسان، وهو ما يمنحه حق الوجود الحقيقي في حياته. كلما تثقف، وأعاد ترتيب قِيمه، اتسعت فرص تقدّمه، وتطورت قدراته العقلية والعملية. تصبح رؤيته للحياة أكثر مرونة، وأكثر صِلة بالحقيقة.
العقل هو ما يُبقي الإنسان متّصلاً بالعالم، لكن عليه أحيانًا أن يتخلى عن بعض قناعاته ليتسع لما هو جديد. فالعقل لا يقبل الشتات، بل يسعى للفهم. ومن الفهم يولد الاتساق، ويُضاء الطريق.
حتى تلك السلوكيات التي يتفاجأ بها الإنسان، يظن أحيانًا أنها لم تكن من اختياراته، ويتساءل: كيف لها أن تلتصق به رغم انعدام رغبته فيها؟ ينسى أن العقل حين يترك نوافذه مشرعة للأفكار السطحية، يفقد شيئًا من هويته، ويكتسب أخرى ليست منه، لكنها تسكنه، وتُفرز سلوكيات لم يعرفها من قبل.
أحيانًا، يفقد الإنسان السيطرة على ذاته حين يمتلئ بغيره. ويكفي موقفٌ واحد ليُحيطه بتنبؤات داخلية تُذكّره أن ما يصدر عنه لا يُشبهه، وكأنه تلبّس وجوه الآخرين دون وعي. وهنا تبدأ الأزمة، حين يصل الإنسان إلى مرحلة الانفراط الذاتي والانخراط الفكري، فيسير في خيط رفيع لا نهاية له، يقطع المسافات، لكنه لا يمثّل نفسه