بوابة أعضاء جدل, موضوعات متنوعة

النقد كحاجة مطوِّرة… ومتى يفقد قيمته

نوره بابعير

في كل حقل من حقول الإبداع، يكون النقد هو ذلك المرآة التي لا تخجل من أن تعكس كل تفاصيل الصورة، بوضوح لا يتواطأ مع المجاملة، ولا يُهادن الرداءة. لكن السؤال الأعمق الذي يتسلل من خلف هذا الدور هو: متى يتحول النقد من حاجة مطوِّرة إلى ممارسة تفقد القيمة ولا تضيف شيئًا؟

ليس النقد فعلًا هامشيًا أو ترفًا فكريًا. هو ضرورة حتمية لكل مشروع ثقافي وفني، لأنه يُعيد ترتيب العلاقة بين المبدع والمتلقي، ويؤسس لفهم أعمق لمضامين العمل. هو أداة لا تُمسك السيف، بل تضيء العتمة حول العمل وتمنحه أفقًا جديدًا من التأويل والمعنى.
لكن هذه الضرورة لا تعني أنه لا يُخطئ، أو لا يتحول أحيانًا إلى عائق بدل أن يكون عونًا.

النقد حين يكون امتدادًا للفهم

النقد حين يُمارَس من وعي، يتحول إلى عملية مُشاركة في البناء، وليس فقط تحليلًا لما تمّ. هو ليس حُكمًا قضائيًا، بل عملية تواصل عالية بين النص والعقل، بين الفن والواقع. إن الناقد الحقيقي لا يسعى لإثبات سلطته، بل لتفكيك الجمال الكامن، وتعريته من الضباب، لكي يرى المتلقي العمل بعين أكثر تبصرًا.

في هذه الحالة، يصبح النقد أشبه بجسر، يمكّن النص أو العمل من عبور حدوده الأولى، والانفتاح على تأويلات جديدة، ربما لم يضعها المبدع في حسبانه. وهنا، تتحقق القيمة التطويرية للنقد: حين لا يقتل التجربة، بل يُعيد بعثها من جديد.

عندما يُصبح النقد سلبياً بلا جدوى

لكن النقد، كأي أداة، يمكن أن يُساء استخدامه. يحدث ذلك عندما يُمارَس بروح الخصومة، أو بنية الهدم لا الفهم. حين يُختزل في المقارنة، أو يُمارَس من دون خلفية معرفية عميقة بالعمل، أو حين يتحول إلى قالب جاهز يُفرَض على كل إنتاج دون مراعاة خصوصيته.

الناقد الذي لا يُنصت، بل يُعلّق حكمه منذ البداية، لا يُطوّر العمل ولا يحترمه، بل يُمارس إلغاءً ناعمًا تحت لافتة “التحليل”. وهذا هو النقد الذي يفقد قيمته: حين لا يحمل قدرة على الإضافة، ولا رغبة في الاكتشاف، ولا روحًا للحوار. يصبح حينها عَبئًا معرفيًا، يُكدّس اللغة دون أن يفتح نافذة واحدة للرؤية.

بين الحاجة والتجاوز

تكمن المفارقة في أن بعض الأشكال السلبية من النقد، حتى حين تكون “ذكية” ظاهريًا، قد تُصيب المتلقي بالإرباك، أو تدفع المبدع إلى الانغلاق بدل الانفتاح. وتكمن الخطورة عندما لا يستطيع المتلقي التمييز بين نقد هدفه التوضيح، ونقد غايته التشويش.

لذلك، نحن لا نحتاج إلى نقد “أنيق” فقط، بل إلى نقد منسجم مع قيمته الأخلاقية: أن يكون صادقًا، موضوعيًا، ومبنيًا على المعرفة، لا على الانطباع. لا قيمة لنقد لا يعرف أن يُضيء، حتى وهو يُشير إلى العيوب. ولا جدوى من نقد يُجيد الهدم، لكنه لا يملك لبنة واحدة للبناء.

الوعي النقدي كفضيلة ثقافية

من الضروري أن نُعيد التفكير في ماهية النقد، لا بوصفه سلطة، بل كمسؤولية ، الوعي النقدي اليوم ليس مطلوبًا من النقاد فقط، بل من المتلقين أنفسهم، ليُميزوا بين من يُمارس النقد كفن، ومن يتخذه كوسيلة للضجيج. النقد الحقيقي لا يعلو صوته، بل يعلو أثره.

النقد، حين يُمارس بشروطه الفكرية والإنسانية، يحمي الإبداع من التحجر، ويمنحه فرصته الثانية للوجود. لكنه، حين يُنزَع من روحه، يتحول إلى حالة شكلية تُفرغ النصوص من معناها، وتقتل الحس الجمالي في سبيل استعراض المعرفة.

لذلك، علينا أن نسأل أنفسنا دومًا:
هل هذا النقد يُضيف للنص حياة جديدة؟
أم يُطيل في جنازته بصياغة أنيقة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *