Blog
عبدالله ناجي: اللغة و الخيال أحلّق بهما في سماوات الكتابة الإبداعية

نوره بابعير
كان عبدالله ناجي مهتمًا بالمعنى الحقيقي لمفهوم الكتابة، وكانت له وجهة نظر خاصة من هذه الزاوية، مقتبسًا من الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت قوله: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”. فجعل من هذه العبارة مرجعية فكرية ومعنوية، وأعاد صياغتها على طريقته قائلاً: “أنا أكتب، إذن أنا موجود”.
ربما كان في هذا المعنى شيء من العمق، مما دفعه للتوغل أكثر في إبراز هويته ككاتب وشاعر وروائي. كان يرى أن الكتابة شكل من أشكال التذكار، تُبقي ذهنه يقظًا، وتحفّز ذاكرته. كلما كتب، انغمس في التفاصيل، وكلما فكّر، نفض عن ذاكرته غبار النسيان.
الكتابة بالنسبة له وسيلة لتوثيق اللحظات، من خلال سرده، وشعره، ورواياته.
الكاتب والشاعر عبدالله ناجي صديقًا وفيًا للغة، والشعر، والرواية. خاض تجارب كتابية عديدة، يمتلك فيها الإبداع، ويصقل المعاني من خلال لغته الثرية وأسلوبه المتفرّد
-هل تؤمن بأن الشعر تجسيد للجماليات؟ وكيف ترى ارتباط الشعر بالفلسفة؟
التجسد الأول للشعر كان البحث عن حقيقة الوجود، ومن هنا ارتبط الشعر بالفلسفة برباط خفي أزلي، فكلاهما باحثان عن الحقيقة، الأولى شعرية والثانية فلسفية. ولأن الحقيقة عبر طريق الشعر تتخذ أشكال عدة بينما تحتفظ بجوهر واحد، وهو الجمال أو الفن، فإن الشعر اتخذ المكانة الأعلى فيها، فالحقيقة الشعرية متأصلة في الذات والكون، غير مفهومة المعنى ولكنها تعاش بكامل أناقتها الفنية والجمالية، وتتنقل بالإنسان فضلا عن كونه شاعرا من مرتبة وجودية إلى مرتبة أعلى. ذلك يشبه التصوف أو الترقي بشكل ما، ولكنه لا يعبأ بالطقوس، فالشعر طقس بمفرده، وحالة كامنة في اللاوعي، تنبثق في الوجدان، وتتجلى في المعاني والأشياء، وإلى ذلك الطقس المفرد تنجذب الفنون بكل تنوعاتها. ولا أعني بذلك الوقوف على الشكل الشعري النظمي، بل أطير إلى المعنى الحقيقي والاتساع الأجمل، فكل جمال أو فن أو حب أو بهاء أو رؤية هو شعر أو حالة شعرية. والشعرية أعم من الشاعرية، إذ هي التجسيد الكامل للجماليات، أو النظر إلى الجمال الكامن في كل شيء.
-ما مكانة الشعر في حياة الشاعر؟ وهل ترى أن له تأثيرًا عميقًا في تجربته الشخصية والوجودية؟
إذا ارتبط الإنسان بالشعر كباعث له وخالق لمفرداته فإن حياته تصبح مرهونة للشعر، وبه يتكون وجوده. فهو مسكون بهواجسه وطقوسه، يعيش في دائرته داخل دائرة الحياة، ودائرة الشعر أرحب لأنها الجمال ذاته. ومن هنا تتحدد مكانة الشعر في حياته، وتتجدد، فالقصائد هي تجلياته المتعددة، ولكل قصيدة روح تعيش بها بعد أن ينفخ فيها الشاعر من روحه، ويهبها الكثير من نفسه ويودعها مشاعره وأحاسيسه. والروح هي من تصنع تجربة الشاعر على الحقيقة، لا مجرد نظم الأبيات وإبداع التراكيب، ومن تلك الروح ستتوالد علاقات جديدة بين الكلمات وتتسع الرموز وتتجاوز حدودها الأولى. ويصبح الـتأثر والتأثير متبادلا بين الشاعر وقصيدته، وكلما تجذرت الروح في المعني الشعري تعمقت التجربة الوجودية في ذات الشاعر وفي شخصيته. وما يدل على أثر الشعر في شخصية الشاعر هو نظرته المختلفة للوجود بكلّيته وبأجزائه، فيرى في الموجودات معنى قد لا يراه غيره، ويلتقط فكرته من شيء لا يأبه له سواه.
-الكتابة مشروع أدبي متكامل، كيف يتعامل عبدالله ناجي مع هذا المشروع؟
تختلف الكتابة الأدبية من مشروع إلى آخر، ومن تجربة إنسانية أو اجتماعية إلى ثانية، وحتى في المشروع الشعري على سبيل المثال تتنوع طريقة تعاملي مع القصيدة، هناك نصٌ شعريٌ يكتب نفسه في اللحظة ذاتها، وينتهي بانتهائها، ويبقى عليّ تنقيحه ومراجعته، على أن هذا النص لا يمحنك فرصة المراجعة كثيرا، فغالبا ما يجئ مكتملًا كأنما انفتحت بوابةٌ من مكان ما، ودفع عربة القصيدة عدد من الشياطين أو الملائكة ثم اختفوا بعد ذلك واختفت معهم تلك البوابة. وهناك قصيدة تتشكل على مراحل وتتخذ سلما شعريا ترقى فيه وتأخذ كامل وقتها في البناء والتجلي. ويتجدد تعاملي مع الشعر غالبا في لحظات ذلك التجلي والفيض. أما في السرد فيختلف التعامل عطفا على اختلاف الفن والمشروع الأدبي والاستعداد النفسي والتهيؤ الداخلي، ففي الرواية يتطلب المشروع استعدادا نفسيا وذهنيا كبيرين، لا ينتهي بانتهاء مرحلة الكتابة، ويبدأ قبل الدخول فيها بكثير، فهناك التخطيط الذهني للمشروع، ورسم الهيكل العام للرواية، وتحديد الشخصيات الرئيسة التي بها يبدأ ويقوم العمل، وقبل ذلك الإمساك بفكرة أو حدث أو حكاية تنبثق منها باقي الأحداث والفصول والشخصيات، ثم يتحول المشروع إلى هاجس وحلم وواقع يعيش معي طيلة مدة إنجازه سواء كنت جالسا إلى طاولة الكتابة أو كنت أمارس حياتي بكل تنوعاتها، يظل المشروع هاجسي ويتمدد في وجداني ويحدد لي العديد من اختياراتي في الحياة، فكأنما تتجول شخصيات الرواية معي وتعيش واقعي.
-الكتابة الإبداعية تكشف عن احترافية أدواتها، فما الأدوات التي يعتمد عليها عبدالله ناجي في الكتابة؟ وهل تختلف أدواته في الشعر عنها في الرواية؟
اللغة والخيال، لا أنفك أحلّق بهما في سماوات الكتابة الإبداعية بشقيها الشعري والسردي، ولا وجود لفن كتابي على حقيقته من دون هذين العنصرين، فهما أكثر من كونهما أداتين من أدوات الكتابة، ومع ذلك فهما أكثر ما يكشف عن احترافية الكاتب وسر جمال النص، وبطبيعة الحال والتجربة تأتي أدوات أخرى بعد ذلك لتساهم في إبداع تلك الكتابة والتجربة الأدبية، في الرواية مثلا تعجبني كثيرا لعبة الزمن، وتعدد المسارات الزمنية كما في ” حكايتان من النهر ” أو الانطلاق من لقطة الختام لتكون هي فاتحة الرواية كما في منبوذ الجبل، أو تكثيف الزمن ظاهريا وتمديده في المونولوج النفسي لشخصيات الرواية كما في حارس السفينة. أيضا هناك أداة مهمة اعتمد عليها كثيرا في رواياتي وهي في الأساس جزء من تكويني، تعميق النص من خلال أحداثه وشخصياته، وهذه الأداة تقودني إلى أداة أخرى وهي الترميز والذي يفتح مجالات للتأويل وتعدد القراءة، حدث ذلك معي جليا في حارس السفينة وماتزال إلى الآن تُقرأ بصيغ جديدة ومختلفة على الرغم من مرور خمس سنوات على صدورها. وبعض تلك الأدوات تعتمد عليها القصيدة كالترميز والاعتناء بالعمق النفسي للنص الشعري، ولكن نِسب الحضور والخفوت أو الغياب تختلف من نص إلى آخر ومن الشعر إلى الرواية.
-الحكاية هي جوهر السرد وفلسفته، وقد تحدثت عن تجربتك معها في عدد من مؤلفاتك. هل يمكن أن تحدثنا عن علاقتك بالحكاية، وبشكل خاص عن رواية“ حارس السفينة”؟
ما حدث معي في حارس السفينة أستطيع اعتباره حالة حكائية أو سردية فريدة، لم تتحدد المعالم السردية للنص ولا هيكله أو حتى شخصياته وفكرته، إلا حين الوصول في الكتابة إلى كل حدث أو فصل أو شخصية، أما قبل تلك اللحظة فكانت التجربة مرهونة لزمن الحكي/الكتابة، حتى إنني جعلت الاهداء تعبيرا عن جوهر السرد فيها “إلى الآخر الذي تقمصني ذات غياب وأملى عليّ هذه الحكاية، ولم يكن مني سوى الكتابة”. كانت عملية الحكي تسير بي حيثما تشاء في كل جلسة كتابة، وكنت منقادا لمشيئتها إلى أن اكتملت الرواية في اثنى عشر جلسة، وهي عدد مقاطع الرواية، امتلكت جوهر هذه الراوية قبل كتابتها بأربع أو خمس سنوات وظل يتقلب في وجداني حتى جاءت لحظة الكتابة وتدفق الحكي في ثلاثة أشهر فقط. ففي حارس السفينة لم أحاول خلق الأحداث أو تكوين الشخصيات أو بناء الأفكار من قبل، كما في روايتيّ منبوذ الجبل وحكايتان من النهر، ففي كل رواية كنت أعيش مع الحكاية قبل وأثناء وبعد الفراغ من الكتابة، أشاطرها أفكاري وتشاركني ليلي ونهاري، وترحل بي إلى عوالمها وأزمنتها، أصادق أبطالها، وشخصياتها الهامشية كذلك، وأغوص داخل نفوسهم، أما حارس السفينة فقد عشت مع السفينة فقط وبحثت عنها طيلة السنوات الخمس التي سبقت الكتابة، ثم جاءت القصة متتابعة كأنما كان هناك من يرويها لي فصلا فصلا في تلك الجلسات الكتابية، وكنت أتشوق لكل جلسة حتى تكتمل القصة في وجداني وعلى الورق معاً.
-أيهما يحضر بقوة في تجربة عبدالله ناجي: الكتابة الشعرية أم الكتابة الروائية؟
الكتابتان حاضرتان بقوة في تجربتي، ولا أبالغ إن قلت بأنهما غير منفصلتين من الأساس، فالشعر رواية الوجود، والرواية قصيدة الحياة، والإنسانية أنست بالأرض والمكان فحكت وروت، وتعلقت بالوجود فشعرت وتجلت. أكون شاعرا حينما يجتاحني الفيض العرفاني أو الوجودي، وأصبح روائيا عندما أركض في طرقات مدينتي، ولكن ذلك لا يقيم سدا منيعا بين التجربتين أو الكتابتين فلا وجود للأخرى إن وجدت الأولى ولا وجود للركض إن جاء الفيض، بل الجمع بينهما ليس مستحيلا، وهو كذلك غير مفهوم بشكل دقيق، وأفضّل ألا أفهمه. على أن أعيشه وأشعر به وأمارسه. وإذا شئت أن أبحث عن مفهوم يقف بي على الحالة تلك فسأصل إلى الفن.. الفن الذي حوّل هذا الكائن من مجرد مخلوق إلى إنسان. فبالفن -نقشا ورقصا وكتابة ونحتاج تأكد وجود الإنسانية.
-لكل شاعر تعريفه الخاص للشعر، فما هو الشعر في نظر عبدالله ناجي؟
قلت ذات مرة وأنا أحاول تعريف الشعر: الشعر مفردة ملغومة، ومحاولة تفكيكها أو تعريفها خطأٌ فادحٌ، فكل محاولة لتعريف الشعر هي محاولة غير مأمونة المعنى ولا مضمونة النتيجة. الشعر مبثوث في هذا العالم لكنه يفلت منا حال تعريفنا له، الشعر روح الكون، فماهي الروح؟ لا يمكننا تعريف الشعر من خارجه، إذ جل ما نفعله ونحن نقوم بهذه المحاولة هو الوقوف على الشكل والحالة، لن نعرّف الشعر إلا باقترافه ووحدها القصيدة قادرة على ذلك، ولكن القصيدة وهي تفعل ذلك لا تُعري لنا سوى نفسها بينما تخفي داخلها جوهر الشعر.. فالشاعر الأصيل حال التباسه بالكائن الشعري تتجلى له القصيدة فيظنها الشعر كله، وهي الشعر كله في لحظتها تلك، غير أنه وبعد زوال ذلك التجلي لا يجد بين يديه سوى قصيدته أما الشعر فيبقى ذلك المجهول العظيم، نعيشه ولا ندركه.
-من خلال تجربتك في الكتابة والإلقاء، ما الصفات التي اكتسبتها خلال مسيرتك الإبداعية؟ وهل ترى أن لهذه الصفات دورًا في إثراء المشهد الأدبي والثقافي من وجهة نظرك؟
الكتابة هي المرحلة الأولى في طريق التجربة الإبداعية ويليها الإلقاء بطبيعة الحال، ومن قبلهما تعلو القراءة كبساط معرفي يحملهما في سماء الإبداع، هذا هو السلم الأدبي الذي أتاح لي ككاتب اكتساب العديد من الصفات، تأتي الإجابة على سؤال: أين سأضع قدمي في المرحلة القادمة من تجربتي وأين أقف الآن إبداعيا؟ من أهم تلك المكتسبات، فمن دون الحضور تأليفا ونشرا أو قراءة وإلقاءً لن يقف الكاتب من تجربته موقفا صحيحا، وستظل نظرته غائمة ومسيرته غير واضحة المعالم، فكل كتاب أو لقاء معرفي أو تماس مع القرّاء هي بمثابة كشوف في رحلة الأدب، ورصد للمنجزات والمراحل ومحطات الطريق.. وكل ذلك يصب تلقائيا في إثراء المشهد الأدبي قراءة وتحليلا ونقدا ومداولات إبداعية، وتلاقحا للأفكار وتوليدا للتجارب الأدبية. وصفة أخرى أدين للتجربة الإبداعية في اكتسابها إلا وهي صقل المهارات الكتابية واكتساب رؤية عميقة للأشياء والوجود بشكل عام، وكذلك اكتساب أسلوب أدبي خاص بي، فالتراكم الإبداعي يصنع بصمة للكاتب يُعرف بها، وتتجلى أكثر عندما يكتمل مشروع الأدبي.
-متى ترى أن الكتابة تصبح مشروعًا مكتملًا؟ ومتى تعتبر مشروعًا مهزومًا أو غير مكتمل؟
الاكتمال بالنسبة للمشروع الكتابي لا يعترف بالكم وعدد الكتب والإصدارات أو اللقاءات، فقد يكتمل المشروع في كتابين أو ثلاثة، وذلك عائد إلى عمق التجربة ونضوج الرؤية واكتمال أدوات الكاتب لغويا ومعرفيا وإنسانيا وتقديمه لتجربة إبداعية حقيقية، لا مجرد تدوين لما يخطر في البال مع حرفة أدبية جميلة، ويبدأ المشروع بالوضوح عند امتلاك كاتبه لصوته الخاص، ويتعمق بتجذر الكتابة الإبداعية في تربة التجارب الإنسانية والذاتية وتصدير رؤية خاصة بالكاتب عن الحياة والموجودات والمعاني المجردة والحسية. وليس عليه أن يخوض في كل شيء حتى يكتمل مشروعه، أو يكتب في الأشياء العظيمة فقط، وإنما ينطلق من ذاته في النظر إلى الأشياء، حتى أصغر الأشياء، قد تتحول في يد المبدع إلى إبداع أخاذ إذا كُتبت بصدق وتجربة عميقة مع تميزٍ في أدواته الكتابية. عدا ذلك قد يهبط بمشروعه إلى الفشل ثم الاندثار، وتصبح الهزيمة هي الخيار المتاح والخروج بمشروع غير مكتمل، لا يدل على صاحبه ولا يشير إليه.
-لكل كاتب نصائح وممارسات تثري تجربته الإبداعية، فما أبرز النقاط التي ترى أنها تسهم في احترافية الكتابة، سواء في الشعر أو الرواية؟
بالنسبة لي كانت القراءة هي الممارسة الأجدى لإثراء تجربتي الإبداعية، والقراءة سبيل لاكتشافات عدة منها الموهبة الكامنة في الأعماق، إذ القراءة تحفزها على الظهور ثم تمنحها مكانة سامقة في عالم الأدب، وهي كذلك إحدى بوابات الخيال الأدبي الخصب، ورافد لامتلاك مهارات وتقنيات كتابية جديدة. يلي ذلك ويتبعه غالبا لقاء الأدباء والمبدعين من كل فن، فالنقاشات الأدبية والثقافية والاحتكاك بالتجارب المبدعة ستثري تجربته وترفع من احترافية كتاباته. وثمة ممارسة أو نصيحة أخرى أجدها مهمة في احترافية الكتابة، وهي أن يخلق الكاتب طقسا خاص به للكتابة، فمجرد الدخول في طقسه ذاك تتداعى إليه عوالم قصيدته أو روايته ويدخل بكامل تجليه في تجربته الإبداعية، ومع تكرار التجربة يتكون ارتباط نفسي بين الكتابة وطقسها، إلى حد أن الكلمات والمعاني والأفكار تشعر بحرية تامة في مناخها الكتابي فتتشكل في ذهن الكاتب باحترافية عالية.. فاحترافية الكتابة مثلها مثل غيرها من الفنون والمهن تتأصل وتتجدد بالممارسة الدائمة، والبحث الجاد عن فضاءات ثرية تأخذ بتجربته الإبداعية إلى الأجمل..