سلام التميمي
من أجل فرجينيا وولف
لقد قيل أحياناً إن فرجينيا وولف في أهتمامها المُعلن بالوعي بوصفه ” هطولاً لا ينقطع من الذرات اللاتحصى ” وفي توكيدها على ظاهرة التأمل الذاتي الذي يدوم برهة قصيرة, قد عزلت نفسها عن التيارات الرئيسة في الحياة الحديثة, ورواية ” بين الفصول ” قد بعثت هذه الفكرة, فقد قال عدد من النقاد أنهم وجدوا في كتابها الأخير دعماً جديداً للفكرة الغربية التي مفادها إن مؤلفته فنانة عظيمة ولكنها في الوقت نفسه فنانة لا قيمة لها, وهذا القول المُتناقض يعترف بصعوبة إكتشاف أي جريان درامي خلال كل صفحاتها ذات الومضات الواهنة أو أي تطور للأحداث الجلية الصريحة التي تتناول قيماً ذات إهتمام واسع لدى الناس في الوقت الراهن, ولكن على الرغم من أن رؤياها للهالة اللامعة للواقع لقد حيرت كثيرين ممن سحرتهم هذه الرؤيا في الوقت نفسه, فربما تكون روايتها ” بين الفصول ” قادرة على أن تجتذب عدداً من القراء إلى مقربة منها, وذلك بإن تعرض لهم أن التأمل الذاتي في رواياتها ليس غريباً غرابةً مقصودة ولا هو تأمل ذاتي تقوم هي بتعظيم شأنهُ من غير إحساس نقدي, وكذلك تعرض لهم هذه الرواية إن فرجينيا وولف تقوم فعلاً بالربط بين الفردية الذاتية والنظام الأجتماعي .
تبدو روايتها الأخيرة ” بين الفصول ” عملاً بارزاً في سلسلة أعمالها الكاملة, فأنها تُعالج مُعالجة قديرة بعضاً من أشد المواد المُعاصرة صعوبة وإلحاحاً معاً, وإن إعادة النظر في أعمالها الأولى, وهي إعادة تحث عليها هذه الرواية, لابد أن تكشف من داخل لمعانها شيئاً مُشابهاً لهذه القوة الحادة التي نجدها في روايتها الأخيرة, وأهتمام فرجينيا وولف بالحساسية لم يكُن غرقاً في هذه الحساسية وضياعاً فيها, فلقد حاولت أن تحكم على أهواء العقل الواعي بذاته بوصفِهِ حقيقة تاريخية, أي على أنهُ ثمرة عصر النهضة والعصر الرومانسي بل ربما كان أيضاً نمواً لا يمكُن تفسيره لشيء جاء في أوانه, وقد نظرت فرجينيا وولف في هذه المُعطيات المُحيرة الموضوعة على الطاولة من قبل كثيرين من أولئك المشغولين بالمشكلات الأجتماعية والسياسية .
وفي رواية ” أورلاندو ” تلك الفنتازيا الدينامية حول روح التاريخ الإنكليزي, أظهرت فرجينيا وولف وعياً بالتحول والتخصص في إستجابة العقل للمحيط الدائر حوله, وفي رواية ” السيدة دالاواي ” قامت وولف بدراسة شمولية ساخرة بشأن الحساسية الحديثة, وذلك على مستويين, مستوى إنغمار السيدة دالاواي المحمي ذي الأمتيازات, وعلى مستوى العائد من الحرب المصدوم بفعل القنابل وتفسخه الشديد, ورواية ” بين الفصول ” تدمج هاتين الثيمتين الموجودتين في كل من رواية ” أورلاندو ” ورواية ” السيدة دالاواي ” وتستكشف أبعد منها المكانة الشخصية والأجتماعية لبعض الناس الإنكليز في أيام أندلاع الحرب العالمية الثانية .
والقضايا المطروحة في الرواية الأخيرة قضايا جديدة, فالآن لاتوجد السيدة دالاواي وأمثالها في مُنجاة من صدمات الحرب, سواء المباشرة منها أم غير المباشرة, وإذا ما كانت هذه عسيرة على أن تتحمل من مثل حساسيات راقية فتاريخ إنكلترا هذا أذن قد يكون وصل محطته النهائية, وقد ينهار أورلاندو أو إذا ماكان لإنكلترا أن تبقى وتصمد, فإن روحها اذن قد تمر في تبدلات أشد حده حتى من التحول من الذكورة إلى الأنوثة الذي عاناه أورلاندو في بداية القرن الثامن عشر, ألا إن رواية ” بين الفصول ” أبعد ماتكون عن الدلالة على إن مثل هذه التعديلات ستزيل الحركة الحرة لتداعي الأفكار وتيار الوعي, وعلى الرغم من إن أهواء السيدة دالاواي الفكرية تظهر داخل جَو حطمتهُ الحرب وإن السلام المؤمل قد لا يستطيع أن يُعيدها إعادة كبيرة, فإن هذه الأهواء الفكرية تأخذ تلوينها من المحيط وأنها لتبدي وظيفة متطورة للذكاء الذي لايحتمل أن يتهاوى تحت ظروف سياسية وإقتصادية جديدة, مهما يكُن الأنتقال بين العهدين مؤلماً, وهذه الذبذبة في الخيال وهذا الوهج في الوعي يُشار إليهُما على أنهما خصيصتان إنسانيتان تثيران بفعل التمثيل الإضافي الذي يقوم بهِ سيبتيموس في الرواية, وإن مصيره نقيض مصير السيدة دالاواي لسبب صدفة أحدثتها الظروف, غير إن المزاجين ينتميان إلى المعدن ذاته, وإذا كانت فرجينيا وولف قد شكت في قدرة أي من هذين الطرازين من البشر على البقاء بوصفهُما شخصيات, فلا أهمية لأي شيء يحدث للأفراد المُحيطين بهما ولا للتغيرات التي مرت على طبيعتهُما وإذا كان لدى فرجينيا وولف مخاوف بإن الأرض سيرثها جنس جديد من الناس الذين يتحركون تحركاً ميكانيكياً, بحيث يكون مُعتذراً أن يؤثر فيهم أية مؤثرات سوى تلك المسموح بها والمؤثرات المُقننة المشهود عليها, وبحيث يصبحون عديمي القدرة على التجوال الفكري, فلابد أنها وضعت تلك المخاوف جانباً, وقامت والقنابل تنهال على إنكلترا بكتابة شهادتها الأخيرة .