سلام التميمي
يُعتبر تولستوي أحد الأعمدة الذهبية السبعة التي يقوم عليها صرح الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، وهؤلاء السبعة الكبار هم: بوشكين، وليرمنتوف، وغوغول، وتورغنيف، ودوستويفسكي، وتولستوي، وتشيخوف.
ولتولستوي أهمية عالمية، وتأثير عالمي واسع، يتجاوز حدود وطنه روسيا، فرومان رولان يؤكد أن أوروبا لم تسمع صوتاً كصوت تولستوي، كما يقول: إن طيبة وعقل هذا الإنسان العظيم وصدقه الفريد جعله مرشدي الأمين في فوضى عصرنا الأخلاقية. ويقول الأديب الفرنسي البارز، أناتول فرانس، إن تولستوي هو المعلم المشترك لأدباء أوروبا. أما الأديب الألماني توماس مان، فيؤكد أن قوة فن تولستوي تتخطى كل المقارنات. كما أن أدباء عالميين كباراً مثل جورج برنارد شو، وستيفان زفايغ، وثيودور درايزر، وغيرهم يعترفون بتأثير إبداع تولستوي في نتاجهم الفني.
وكذلك فإن تولستوي بدوره كان يسعى لأن يوطد على شتى الأصعدة ولمختلف الأغراض مكانة عالمية وصلات عالمية، فكانت له صلاته الأدبية مع عديد من أدباء العالم المشهورين، كما كانت له صلاته الفكرية والروحية مع مصلحين كبار أمثال المهاتما غاندي ومحمد عبدة، إضافة إلى صلاته على الصعيد التعليمي التربوي مع عديد من رجال التعليم والتربية الشعبية (على الطريقة التولستوية أو مايماثلها من المدارس التعليمية الشعبية).
إن واقعية تولتسوي الانتقادية تمتاز بشدة إيغالها في أعماق الواقع، والتصوير الفني الصادق للحياة، وتحري الحقيقة البسيطة دونما تزويق، كما تتميز إلى ذلك بتعمقها في العالم الداخلي للإنسان في حركته وتطوره وبقوة التحليل النفسي، وتصوير ديالكتيك الروح البشرية، وتطور الإنسان ضمن مجتمعه وعصره وبالانتصار الكلي للإنسان أينما كان.
ويوضح مؤلفا كتاب (( مدخل إلى الأدب الروسي في القرن التاسع عشر))، د. حياة شرارة و د. محمد يونس، أن أدب تولستوي يعتبر قمة تطور الواقعية الكلاسيكية (يقصدان الانتقادية) في الأدب العالمي، إذ لم يسبق للأدب العالمي قبله أن تعرف على التناقض الصارخ بين بذخ الطبقات العليا للمجتمع الاستغلالي، وبين الفقر والظلم الذي تعانيه الجماهير الفقيرة بتلك القوة المركزة، والدقة والصرامة التي يتميز بها أدب تولستوي، ويقولان أيضاً إن سر القوة العملاقة للواقعية الروسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يكمن في قدرتها الخارقة على كشف الطبيعة الاجتماعية – السياسية لروسيا القيصرية آنذاك، حيث تزايد الاستغلال الرأسمالي وأشتد مستنداً إلى بقايا الظلم العبودي وبشاعة النظام البوليسي القيصري الذي كان يؤجج في الجماهير شعور الحقد والغضب والاحتجاج، وتولستوي أحد أبرز أعمدة الواقعية الروسية قد عرَّى ذلك المجتمع بشكل لا نظير له في روايته ((البعث))، وينمو المبدأ الجمالي للواقعية عضوياً عند تولستوي إلى جانب واجبها الاساسي – الخلق الفني لحقيقة الحياة. الحقيقة هي البطل الرئيسي والمفضل لدى تولستوي، إذ بدونها ليس هناك جمال في الفن، وينسجم التصوير الفني الصادق للحياة كلياً عند تولستوي مع التوغل العميق في العالم النفسي للإنسان، وتمتاز واقعية تولستوي بشموليتها في كشف العالم الداخلي للإنسان في حركته الدائمة، وانسيابه في تغييراته وتناقضاته، إن تولستوي يرسم حياة بطله الروحية والأخلاقية والنفسية ضمن قانون التطور الديالكتيكي الذي تخضع له مراحل التطور الأجتماعي.
إن ما يقوله الباحثان اللذان كتبا أطروحتيهما في إبداع تولستوي، صحيح إلى حد بعيد، فإن واقعية تولستوي كانت قمة الواقعية الانتقادية، كما أن التغلغل في العالم الروحي والنفسي للإنسان كانت سمة من سمات واقعية تولستوي، إضافة إلى حلولها الأخلاقية (وذلك لعدم تفهم هذا الأديب للثورة واندفاعه نحو المفهوم التجريدي ((للحقيقة الاخلاقية الازلية))، وتعليقه الآمال الكبيرة على ((المملكة الإلهية)) داخل النفس البشرية). والحق، أن إبداع تولستوي الواقعي – الانتقادي كان محكوماً بقوانين اجتماعية موضوعية، لم تسمح له أن يلتحم بتيار الثورة الشعبية الاشتراكية، فإن اشتراكيته ظلت فلاحية، طوباوية، وظل تولستوي ((مرآة للثورة الفلاحية الروسية))، وتجسيداً للتعبير الأصدق عن ذهنية الفلاحين الروس ومطامحهم وتطلعاتهم.
إن الواقعية الملحمية، النفسية، التي امتاز بها إبداع تولستوي، قد وضعته مع دوستويفسكي في مصاف أبرز كتاب الواقعية الانتقادية في العالم أجمع، لقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر (وخصوصاً في إبداع تولستوي ودستويفسكي) أرحب انفتاح على دواخل النفس الإنسانية، وعالم الإنسان الروحي، الأمر الذي أسفر عن كشوف غاية في العمق في ظواهر وتطورات النمو النفسي للإنسان وثرواته الروحية وتكامله القيمي والأخلاقي، وترك تولستوي تأثيره في الأدب السوفيتي (في إبداع غوركي، شولوخوف، أيتماتوف) وفي إبداع عديد من الأدباء العالميين الكبار في أوروبا والولايات المتحدة، وتأثر بإبداعه وكشوفاته الواقعية العديد من الأدباء الواقعيين العرب المعاصرين .