تحولت البشرية تحولاً كبيراً حينما اعتمدت الكتابة وسيلة للثقافة، وكانت الشفاهية هي الوسيلة المطلقة، وجاءت الكتابة لتحتل المركز الأول ثقافياً وتزيح الشفاهية إلى الهامش، وحدثت مرحلة وسط فيما بين الشفاهي والكتابي، وهي مرحلة التدوين حيث جرى رصد المنطوق وتحويله إلى مكتوب (مدون)، ثم انفتح الزمن للكتابة لتصبح الورقة والقلم محل اللسان والذاكرة، ومر زمن طويل تعودت فيه الثقافة على هذه الوضعية، حتى جاء زمن الفضائيات، وهو زمن ورث كل التحولات المرحلية في الإذاعة والسينما، ومرحلة التلفزيون الأولى، ومن هذه الوراثة جاءت ثقافة الصورة لتعلن تحولاً كبيراً آخر في حياة البشر، وهو التحول الثاني تاريخياً وحضارياً من بعد حدث الكتابة التي أزاحت الشفاهية، ولا شك أن ثقافة الصورة قد أعادت كثيراً من خصائص الشفاهية في المباشرة والسرعة والتفاعلية، وغيرت من أنظمة الاستقبال التي رسختها الكتابة، فالكتاب صامت ومطلق، والمؤلف في الكتاب سلطة متعالية، بينما القارئ للكتاب سلبي وهو مجرد مستقبل سالب، وليس بينه وبين المؤلف صلة من أي نوع فهو لا يراه ولا يسمعه ولا يستطيع محاورته، ومعظم المؤلفين هم أموات أو بحكم الأموات من حيث غيابهم المطلق، والكلمة في الكتاب هي صورة جامدة، وهذه مفارقة كبرى مع الشفاهية حيث إن الكلمة الشفاهية حية وقابلة للتبدل والتغير والتفاعل، ويكون المستقبل فيها إيجابياً وفعالاً، مع اشتراك لغة الجسد في صناعة الرسالة وصياغة التواصل، وفيما بين الشفاهية والكتابية تحولت الأنماط الثقافية ومالت لمصلحة الكتابة وقيم النص المكتوب، وتولد عن ذلك أعراف ونظم معرفية منها وجود الوسطاء بين المؤلف والقارئ وهم الناشرون والموزعون من جهة، ومن جهة أخرى جاء وسطاء آخرون من الشراح والمفسرين والنقاد وعارضي الكتب، وهم فئات شكلت مهناً ثقافية كبرى على مر التاريخ.
وسط هذا كله جاءت الصورة لتقدم ثقافة مختلفة تلغي فيها – أول ما تلغي – وظيفة الوسطاء، فالصورة تأتي مباشرة ولا تحتاج إلى شارح ولا مفسر ولا مترجم، ولكنها تكتفي بقيمها المباشرة، وهي قيم تفاعلية وحية وإيجابية، والمستقبل فيها يتفاعل عبر العين والأذن مباشرة وتلقائياً، وهي تعيد له موروثه الأنثروبولوجي القديم في المشافهة ولغة الجسد والتفاعلية.
هذا أمر، ومعه أمر مصاحب وهو ظهور رسائل الجوال ورسائل الفضائيات، وشاشات الإنترنت، وهي كلها صيغ ثقافية جديدة تتيح فرصاً خيالية للناس لكي يمارسوا أنواعاً متجددة من الوسائل المعرفية الرخيصة أو حتى المجانية، مع ما فيها من حرية مطلقة وسرعة في الاستقبال واختصار للوقت والجهد وتوفير للمال.
ومن المهم هنا أن نقول إن هذه صيغ ثقافية ومصادر للمعرفة تكشف أن القراءة التقليدية عبر الكتاب ليست هي المعيار على ثقافة مجتمع ما أو عدم ثقافته، وكما كانت الثقافة الشفاهية قادرة على خلق شاعر عبقري مثل امرئ القيس ولم يقصر به عجزه عن القراءة والكتابة، فإن ثقافة الصورة تستطيع أن تخلق أجيالاً مثقفة ثقافة عصرية، وهي ثقافة نوعية ومتطورة بكل تأكيد، وإن اختلفت بالضرورة عما هو متعارف عليه تقليدياً في تعريف المثقف. والصورة كتاب أيضاً مثلما هي مصدر ثقافي لا يقل ثراء عن الكتاب بمفهومه التقليدي، وهي لذلك من أهم مصادر التثقيف، ولن نشك بكونها مصدراً مهماً وفاعليته عالية جداً ولها من الأثر أضعاف ما للورقة المنقوشة بالكلمات الجامدة.
المقارنة الثقافية
أشير هنا إلى عدد من التصورات الواهمة التي تعري حواراً كهذا الحوار حول سؤال القراءة عربياً، وهي كالتالي:
أ – تجري المقارنة مع الغرب عادة وتجري الإشارة إلى ظاهرة الكتب الأكثر مبيعاً في الغرب، وهذا أمر يتم من باب التبكيت على العرب حينما تجري مقارنة الأرقام، والحق أن ظاهرة الكتب الأكثر مبيعاً في الغرب ليست علامة على القراءة الجادة، ولكنها علامة على المكاسب المادية وعلى الاستهلاك السطحي للكتاب، وتلك النوعية من الكتب هي كتب ساذجة وبسيطة وليست كتباً في المعرفة ولا في الثقافة العليا ولا في الثقافة الجادة، وهي إلى الاستهلاك وصناديق النفايات أسرع منها إلى العقول وكثيراً ما يترك الناس هذا النوع من الكتب على كراسي الانتظار في المطارات وعلى مقاعد الطائرات والقطارات للتخلص منها بعد التسلي بها لساعات، وهي كتب تباع عادة في أكشاك المطارات ومحطات السفر بعامة، وتصاحب الجرائد اليومية في مواقع بيعها، أي أنها كتب يومية كالجرائد اليومية، ولغتها ومستواها هي لغة الصحافة ومستوى الصحافة، وهذه مسألة لا بد من الأخذ بها وقت المقارنة، لكيلا نخلط بين الجاد والبسيط.
ب – حينما نقارن بين العرب والغربيين في مسألة الكتب، فلا بد أن نستذكر وضع وحالة الكتب المسماة بالأكثر مبيعاً وهي التي تكون عادة في رأس المقارنة، وكذا لا بد أن نستذكر الحال الاجتماعية الغربية، وهي حال انفرادية، والفرد هناك هو كون قائم بذاته، ويندر التفاعل الاجتماعي المباشر بين البشر، وإذا ركب المرء في طائرة أو في قطار وحافلة فإن الصمت يعم بين الركاب ويندر أن يدخل راكب وآخر في محادثة تقطع عليهما مشوار السفر، ولهذا يلجأ الناس للكتب البسيطة والمسلية لتزجية وقتهم كبديل عن المحادثة، وهذا ما صنع موضة الكتب الأكثر مبيعاً، بينما الطبع الشرقي هي تزجية الوقت في الأحاديث بين الناس المتعارفين وغير المتعارفين، وإذا جمع الناسَ عندنا مكان نشأت بينهم لغة في التخاطب والتواصل مباشرة، وهذه حالة تمييز بين مجتمع وآخر فرضت عند الغربيين شراء الكتب الميسرة لقيام أسبابها الاجتماعية والحياتية، بينما لم تنشأ عندنا نفس الأسباب، فاختلفت الحالة هنا عن هناك، وليست المسألة مربوطة بحب الكتب وحب الثقافة، وليس في نوعية الأكثر مبيعاً ثقافة ذات شأن، وهي – فحسب – ضرورة اجتماعية.
وفي المقابل فإن التخاطب بين البشر هو ضرب من ضروب التبادل الثقافي والمعلوماتي مثلما هو إمتاع وتسلية وتزجية وقت، وهو عندنا من نتائج التفاعل البشري بينما يطلبها الأوروبيون عبر الكتب إذ لم تتيسر لهم عبر البشر.
ج – لا شك أننا نضج بالشكوى من تراجع مقام الشعر بين الناس، والأمة الشاعرة لم تعد تعير الشعر مكانة عليا كما كانت في سابق أزمنتها كلها، وهذه ظاهرة لا تخصنا وحدنا، ولقد جرى قبل بضع سنوات أن قامت جامعة أوكسفورد بإلغاء كافة عقود النشر المتفق عليها سلفاً مع عدد من الشعراء الإنجليز وتحملت الجامعة غرامات الإلغاء، وذلك لأن دار النشر الجامعية الخاصة بالجامعة لاحظت عزوف القراء عن الشعر مما حول المنشورات الشعرية إلى مكدسات في مستودعات الجامعة، وكانت الخسائر هنا كبيرة مع فقدان الدور الطليعي للجامعة في نشرها لأعمال لا تسويق لها، وهذه قصة كبيرة ومشهورة تكشف عن التغيير الثقافي الهائل وعن مبلغ خطورته مما أدى بالجامعة إلى تصرف جريء كهذا. ونحن هنا نقول ذلك للتعرف على الوضع الكوني بعامة كيلا نظن بأنفسنا وثقافتنا ظنوناً غير واقعية ونكون مهولين أكثر منا باحثين وملاحظين.
التفاعل الثقافي
من الملاحظ ثقافياً أن الناس قد تجاوبوا مع ثقافة الصورة بصيغة عريضة وسريعة ومغرية، وهذا مؤشر على ما تضمره النفوس من مخزون أنثروبولوجي للحس الشفاهي لدى البشر، وكأن البشر كائنات شفاهية أكثر منها أي شيء آخر، وهذا ما يجعلنا نأخذ بعين النظر ما كان الناس يمارسونه وقت سيطرة الكتاب حينما كان الوسيلة الأهم في تداول المعرفة، وكانت الممارسات تجري دوماً لتحويل الكتاب إلى مادة صوتية، عبر تحويل الروايات إلى مسرحيات ممثلة، وإلى أفلام مصورة، وعبر الأمسيات الشعرية والمحاضرات والندوات والنقاشات حول الكتب، وكان الناس يكتشفون فروقاً جذرية في فهمهم للمكتوب حينما يتحول إلى منطوق أو مصور، ولقد كان هذا مؤشراً إلى العلاقة الذهنية بين البشر والصوت، وبين البشر والصورة الحية، وكون هذا أكثر مدعاة للفهم والتفاعل.
ولذا فإن الصورة المتلفزة حينما جاءت لتعم الكون الاستقبالي لاقت استجابة سريعة وتفاعلية معها حتى صار ذلك بمثابة العودة إلى الأصل الثقافي البشري، وتحول التواصل بين الناس ومصادر الثقافة ليأخذ هذه الصيغة الحديثة للشفاهية، وهذا تطور يجري ضد مصلحة الكتاب.
وإن كنا نقول بهذا فإننا نعززه بالقول إن ثقافة الكتابة لكي تحافظ على قدراتها التنافسية لا بد لها أن تتمثل خصائص ثقافة الصورة، وهي خصائص واضحة المعالم، ومنها المباشرة والسرعة والتلوين والدقة والإثارة، وهي سمات تفاعلية نجحت مع النصوص التي تنطوي على هذه الصفات أو بعضها، ولقد كنا نشهد كيف أن محمود درويش يستقطب حضوراً كاملاً في كل مرة كان يلقي فيها أمسية شعرية، وذلك لما في خطابه من خصائص تشبه سمات وخصائص الصورة، وسنقول شيئاً من هذا عن أمسيات الشعر الشعبي، والاحتفاليات الثقافية، والروايات، وهي صور ثقافية متحركة، عرفها ما يسمى بالوعاظ الجدد واستثمروها بمهارة جاذبة، وهذه كلها أمثلة واقعية تكشف أن ثقافة الصورة تحفز الاستقبال لأنها تحفر باتجاه رغبات قديمة مخبوءة داخل النفس البشرية في حنين الذات باتجاه إلى الجذر الإنساني العميق في المشافهة والمحادثة والتفاعل الحي ومباشرة الفعل، مما يفرض علينا التفكير بصدق عن مصادر المعرفة ونوعية المعرفة، وكيفية توصيلها، وليس للكتاب إلا أن يلعب لعبة التغشيش، فيسترق النظر للصورة ويحاول أن يحاكي بعض خصائصها لكي يبقي على موقعه بين الناس.
وليس بالصعب أن نتذكر أن أمسيات محمود درويش تحظى بحضور جماهيري كبير معظمه ليس من أهل التخصص الشعري الحداثي، ولو كانوا كذلك لرأيناهم مثلاً عند أدونيس، والذي يمكن أن نقوله هنا هو أن نصوص درويش ترتبط ارتباطاً عضوياً بالصورة الحية للحال الإنسانية الفلسطينية، وهي صورة تحضر فيه ومن حوله حتى صار يجسدها حتى في نصه الذاتي والغزلي، ويحيط به وبشعره هذا الحس الحيوي المتفاعل عقلياً وعاطفياً حتى ليكون صورة متحركة وفعّالة في النص وفي الناس.
وسنرى أيضاً مثالاً آخر مع الشعرالشعبي الذي يستقطب جماهير عريضة ليس لنا أن نحصرها بالثقافة الفصيحة، وهذا الشعر ينهل من اليومي ومن الصورة المغناة والأرشيف الأسطوري للذاكرة الشعبية، وهو ذو تركيبة شفاهية وصوتية تقوم على التفاعل والحركات التمثيلية ولغة الجسد وتستحضر الشارع اليومي والمباشر بصورة تلقائية.
وهذا يفضي بنا إلى وضع تصوراتنا مرة أخرى نحو الثلاثية الإصطلاحية: (يسمع) (يقرأ) (يبصر)، وما تحمله كل واحدة منها من بعد ثقافي وحضاري وتحولات مرحلية كبيرة وعميقة الدلالة، حيث تتولى البشرية تبديل علاقاتها مع ذاتها ومع محيطها حسب الوسيلة الثقافية المستخدمة، مما يشكل تنويعاً في المصادر الثقافية. ولسوف أقف وقفات على عدد من الكتب التي حققت مبيعات عالية بمثال عربي ومثالين أمريكيين للتعرف على خصائص ظاهرة الأكثر مبيعاً وأبعادها، وذلك في مقالات تأتي بعد إجازة الحج – إن شاء الله -، وفيما بين ذلك سأقدم مقالتين تخص أمور الكتاب والاستقبال الثقافي.
-المؤلف: د. عبدالله الغذامي
-المصدر: جريدة الرياض: الخميس 29 اكتوبر 2009م – العدد 15102