القول المأثور من كونفشيوس حتى تويتر.. مقاربة متعمقة لنوع أدبي له سحره

القول المأثور من كونفشيوس حتى تويتر.. مقاربة متعمقة لنوع أدبي له سحره

بقلم: محمد سليم شوشة

في رأينا أن كتاب (القول المأثور من كونفشيوس إلى تويتر) للمؤلف أندرو هيو الأستاذ المساعد بجامعة يال-نوس كوليج بسنغافورة من ترجمة الدكتور حمادة علي أستاذ الفلسفة بجامعة جنوب الوادي والصادر عن دار منشورات جدل عملا أدبيا وفكريا بالغ الأهمية لعدد من الأسباب والسمات الخاصة به سنفصل القول فيها، وقد بذل فيه جهدا كبيراً وأخرجه في صورة مميزة تجعله كما لو كان دراسة مكتوبة باللغة العربية برغم بعض المشكلات التي يمكن أن يستشعرها القارئ مثل إشكالية تضارب المصطلح الأدبي والفلسفي، والكتاب برغم تصنيفه في الأدب المقارن يمثل تجربة نقدية ثرية ويمكن تلقيه بوصفه كتابا فكريا أو فلسفيا أو حتى في تاريخ الحضارات، إذ يصبح التأريخ للقول المأثور مكافئا بصورة ما للتأريخ للحضارة أو لما وصلت إليه حضارة معينة من الحكمة والمعرفة والبلاغة والرغبة في تدوين معارفها وتداولها والاحتفاظ بها أو تخليدها أو اختبارها وإقامة جدل تأويلي وتفسيري حولها.

لقد قارب المؤلف تاريخ القول المأثور في الثقافات المختلفة وقارب تباينه أو اختلافاته بين الحضارتين الشرقية والغربية أو نقاط الاتفاق والاختلاف بينهما، فكما كشف عن الاختلاف الحتمي والطبيعي في القول المأثور نتيجة اختلاف الثقافات والحضارات بين الشرق والغرب، فقد قارب كذلك نسقيته والروابط التي جعلته شكلا واحدا أو صنعت منه روحا بلاغية واحدة ربطت ما هو إنساني وما هو نسقي ومنتظم فكريا ويمثل شكلا من الحكمة في العقل البشري.

وقد ذهب أندرو هيو بعيدا في مقاربة علاقة القول المأثور بالنسقية الفكرية والفلسفة والتراكم المعرفي في مرحلة ما قبل الفلسفة وفي مراحل الأديان السماوية أو مراحل التعاليم الصينية لكونفوشيوس وغيره من المعلمين والحكماء والآباء الروحيين والزعماء أو القادة، بمثل ما تنقل بأريحية وبالعمق ذاته نحو القول المأثور في الثقافة الغربية الوسيطة والحديثة وكذلك بعض حضارات الشرق الأوسط وبخاصة الحضارة العربية والإسلامية، وركز على بعض النماذج التي يراها من وجهة نظره مثالا عالميا للقول المأثور في القرآن الكريم(مثل ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، وحتى شهادة أن لا إله إلا الله، رآها نموذجا للغة المكثفة ذات الطابع الاستخلاصي الذي يظل خالدا أو يملك مقومات البقاء والانتقال من عقل إلى آخر بأريحية مطلقة.

ولم تكن مقاربته في الحقيقة مقصورة على المحتوى الدلالي والفكري برغم أهميتها الكبيرة، بل غلّب في كثير من الأحيان دور الناقد واللغوي الخبير بداخله، وقارب البنية والمحتوى الشكلي والسمات التكوينية والخصائص البنائية للقول المأثور وركز تحديدا على التكثيف، كما ركز كذلك على عمليات التلقي وحالات التأويل وتنشيط عقل المتلقي، أو ما توالد عن القول المأثور من أثر ثقافي وتأثير في البنى المعرفية للأمم والحضارات المختلفة، أي تأثير حضور القول المأثور في العقل الجمعي، فيما يمثل دراسة ثقافية متعمقة وتمثل تنبيها لخطاب في غاية التأثير والتعمق بامتداده الرأسي عبر التاريخ هو خطاب القول المأثور وركز على سلطته فيما يمثل إعمالا وتمثيلا عمليا ناعما لنظرية سلطة الخطاب لميشيل فوكو.

وفي تجربة هذا الكتاب المهم يصبح المتلقي أمام دراسة تتسم بالشمول والعمق، فالمسح الشامل للقول المأثور عند كونفشيوس وعند الفلاسفة والمسيح وفي الثقافة العربية الإسلامية في القرآن والسنة وبعض فلاسفة المسلمين مثل الفارابي وغيره، وصولا إلى العصر الحديث والفلسفة الغربية بثرائها وسياقاتها المتنوعة وتماوجاتها اللامحدودة تقريبا، ثم وصولا إلى عصر الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي وأثرها في السياسة أو في المعرفة أو الحكمة والفلسفة وخلخلة الرأي العام وغيرها من الآثار والتداعيات الواسعة أو اللامحدودة، فيما يمثل تنبيها مهما لمخاطر أنواع الخطاب وما يمتلك من سلطة وقدرة في كل العصر بما يجعله يحكم سلوك البشر وتشكيل العقل الجمعي وصياغته.

كما قارب المؤلف كذلك بنية القول المأثور الفنية واستكشف سماته أو خصائصه الأدبية عبر العصور والثقافات المختلفة، فهو حسب المؤلف: “إن القول المأثور من أدب الحكمة، بسيط في العادة، وعبارته منسوجة على نحو حسن، ومتوازية في الإيقاع، وهذا يجعل سردها واستدعاءها أمرا يسيرا”.

ويبدو أن المؤلف قد كان شغوفا بالقول المأثور في التراث الصيني تحديدا، حيث نال وقفة مطولة في الكتاب، قارب فيها أثر القول المأثور في الثقافة الصينية القديمة وأهميته بالنسبة للمعلم الروحي والقائد في تلك الحضارات والدويلات المتجاورة، ودوره في نقل التعاليم والأخلاقيات والخبرات وترسيخها، وتأثير القول المأثور في تكوين ما يعرف بالمدرسة الروحية أو الافتراضية إذ كانت سلطة المعلم هي المدرسة أو هي المؤسسة إن شئنا الدقة في التوصيف. فكأن القول المأثور هو ما كان يحرك البشر في بعض المراحل أو يتحكم في ذهنيتهم وكان يتحكم فيما يتحقق من حالات من النزاع أو التوافق أو غيرها من التحولات المختلفة في الثقافة الصينية التي غلب عليها الحكمة، وهي حكمة إن شئنا الدقة ارتكزت على الشعر الروحي والقول المأثور والتأملات النقدية والبلاغية لثقافة منحت اللغة قدرها ومكانتها وتقدير دورها في تشكيل الحضارة ورسم ملامحها.

وهكذا نجد أن المؤلف قد غاص عميقا في درس القول المأثور واستكشافه على المستويات التاريخية والسياقية واختلافه من حضارة إلى أخرى ومن عصر أو زمن إلى آخر، فقد كان القول المأثور اختزالا بصورة ما للثقافة التي يصدر فيها، وكذلك غاص في استكشافه على المستويين التركيبي والبلاغي، وفي التركيبي كان لمّاحا في استكشاف السمات اللغوية بمثل ما حاول استكشاف السرد وحاول أن يتفاعل تأويليا مع بعض الأمثلة والنماذج والأنماط من القول المأثور، بما هو متحقق فيها من التباين أو الاختلاف بين نماذج سلسلة تماما وذات طابع نسقي واختزالي للمعرفة والخبرات الإنسانية وأخرى ذات طابع تأملي فلسفي ربما لا يكون مطلقها نفسها واعيا تماما بكل ما فيها من دلالات ومعان. واستكشف المؤلف كثيرا من النماذج التي تتأرجح الدلالات فيها بين الخبرات الحياتية والتعاليم السلوكية والأخلاقية وبين أخرى فيها تأمل وجدل أو ديالكتيك بين التعبير والصمت أو بين الأرض والسماء، بين الفيزيقي والميتافيزيقي، وهكذا تتضح الوشائج ونقاط الالتقاء والارتباط والجذور الأولى التي تجمع بين القول المأثور والأقوال العقدية والدينية والروحية.

وتتجلى في القول المأثور اختزالات ليست أدبية فقط، لكنها بالأحرى فلسفية وروحانية كانت منحة اللغة للبشر ليسجلوا ما يدور في نفوسهم وداخل عقولهم حتى يتم تناقلها عبر الأجيال والأزمان، وسيشعر المتلقي أن القول المأثور وفق هذه المقاربة المتعمقة أقرب للغة تفرض نفسها على صاحبها أو أنها تجربة لغوية فوق كل لغة، فهي في المساحة البينية للشعر ولغة النثر والحياة اليومية أو لغة العبادة والتعاليم، ليكون القول المأثور في هذه المنطقة الوسطى التي تلتقي فيها كل هذه الأنواع الأخرى، ليكون مزيجا منها جميعا في بعض صوره وتمثلاته أو حالاته ونماذجه التي أنتجها الحكماء أو الفلاسفة ورجال الدين، فهي نصوص غير دينية ولكن لا يمكن نزعها وفصلها تماما عن النسق الديني والروحي العام الذي شكّل منبعا لكثير منها، وهي كذلك ليست نصوصا فلسفية خالصة، ولكن أيضا لا يمكن فصلها عن منابعها الفلسفة ودوافعها الأولى التي هي دوافع فلسفية لكنها تبدو أكثر عفوية وأكثر تحررا من المنهج والصرامة الفكرية.

أمينة مكتبة جيه بي مورغان امرأة سوداء في زمن العنصرية

لديّ اعتراف: أنا لست من محبّي المجاز التصويري الماضوي. بدءاً من فيلم نيلا لارسن الكلاسيكي مضى في عام 1929، إلى النسخة الأصلية من تقليد الحياة (فيلم من 1934، من بطولة فريدي واشنطن في دور بيولا الذي لا يضاهى؛ الفتاة الصغيرة التي أرادت أن تكون بيضاء)، وصولاً إلى رواية بريت بينيت لعام 2020 النصف المختفي، فإن فكرةَ شخص أسود يتمظهر كأبيض للهروب من سواده هي فكرةٌ تُشعِر… بالتعب والملل.

«في الأعماق، يريد كلّ السود أن يكونوا بيضاً». سمعت هذه العبارة في أحد صفوف علم النفس الاجتماعي تتكرَّر كما لو كانت حقيقةً بديهية، وهي ليست كذلك. في عدة مراحل من طفولتي، وبوصفي شخصاً بالغاً، أحببت فكرة أن أكون ثرية، لكن بيضاء؟ لا أستطيع تخيّل ذلك. لن أكون أنا.

وهذا، أساساً، هو جوهر كتاب أمينة المكتبة الخاصة، وهي رواية جديدة من تأليف هيذر تيريل (Heather Terrell) (وهي تَكتب باسم ماري بنديكت) وفيكتوريا كريستوفر ميوريه. كانت بطلتهما، بيل دا كوستا غرين، واحدة من أبرز النساء العاملات في عصرها. بصفتها أمينة المكتبة الخاصة للخبير المالي جي بي مورغان، تابعتْ ونظمتْ مجموعةً من الكتبِ النادرة، والمخطوطاتِ، والقطعِ الفنية، التي أصبحت مشهورة عالمياً.

تسجيلهم كبيض يسبّب انفصال الأسرة

ما لم يعرفه العالم أنّ بيل دا كوستا غرين كانت سوداء، أو، بِلُغةِ اليوم، ملوّنة. وُلِدت غرين في عائلة بارزة من سكان واشنطن الخلاسيين في عام 1883. كان والداها من المثقفين؛ حيث والدها، ريتشارد تي غرينر، كان أول أسود يتخرج في جامعة هارفارد، كما كان أيضاً رجلاً متحمّساً قضى حياته يضغط لأجل المساواة العرقية. قررت والدة غرين، جينيفيف فليت، أنّ المساواة العرقية لن تحدث في مدّة حياتها، ولهذا، بعد انتقال الأسرة إلى نيويورك، صرّحت بأن العائلة بيضاء في إحصائيّة تعداد ولاية نيويورك عام 1905. أصبحت هذه الخدعة سبباً لصَدعٍ كبير: انفصل والدا غرين، وعاشت عائلتها بعد ذلك بيضاء.

بيل ماريون غرينر صار اسمها بيل دا كوستا غرين، ودا كوستا يشير إلى جدة برتغالية مختلقة، وهو تفسير مناسب لبشرة بيل زيتونية اللون. (تُظهر الصورُ المعاصرة امرأةً جذابة يميِّزُها العديدُ من السودِ، على الفور، كقريبةٍ لهم؛ وتظهر أن الأشخاص البيض من العصر الذهبي كان خداعهم أسهل).

بيل تجتمع مع جيه.بيربونت مورغان

اعتمدت حظوظ العائلة بأكملها (مكان معيشتهم ومهنهم وكل شيء)، بشكل كامل، على هوية بيل البيضاء، كما كانت والدتها تذكِّرها باستمرار. عندما صارت صديقة لابن شقيق الخبير المالي جيه بيربونت مورغان، وقد كانا يعملان في مكتبة الكتب النادرة في برينستون، اقترح الشاب مورغان على عمّه أن يعتبر بيل أمينةً لمكتبته الخاصة. أثناء المقابلة، راقَ لمورغان شيءٌ شفَّ عن ذكاء الشابة، وروح الدعابة لديها؛ فتم تعيينها على الفور.

أصبحت بيل قوةً بذاتها، يتودّد إليها تجار الأعمال الفنية، ويتبنّاها أصحاب النفوذ الاجتماعي، وتوصف بأنّها محترفة أنيقة في وقت كانت فيه النساء العاملات نادرات.

عندما بدأ الاثنان العمل بشكل وثيق معاً، صار مورغان يثق في رؤية بيل وخبرتها، وكان يعي أن مجموعته، تحت عينيها الفطنتين، ستكون مجموعة متنوعة من النوادر لا يمكن إلا لرجل واحد فقط من أغنى أغنياء العالم أن يقتنيها. كان باستطاعة بيل أن تمدّ وتزوّد بما فُقد من ربطٍ مهم: السياق. وبالفعل، أصبحت مكتبة مورغان معروفةً بوصفها مجموعةً خاصة من الكتب النادرة والمخطوطات والفنون، التي تنافس المؤسسات العامة المرموقة مثل المتحف البريطاني. بصفتها كانت، حَرْفياً، وجهَ المكتبة، أصبحت بيل قوة في حدّ ذاتها، يتودد إليها تجار الأعمال الفنية، ويتبناها أصحاب النفوذ الاجتماعي، وتوصف بأنّها محترفة أنيقة في وقت كانت فيه النساء العاملات نادرات.

دفع الثمن لحياة جديدة

ولكن، كما أظهرت بنديكت وميوريه، كانت هناك تكلفة باهظة للحفاظ على تلك الواجهة؛ انقطعت بيل عن عائلتها المحبوبة في العاصمة. تقول: «بمجرد أن اتخذتْ أمي القرار بأن نعيش كالبيض لم يعد بإمكاننا المخاطرة». وبينما كان لديها العديد من العشاق (بمن في ذلك مؤرخ الفن الشهير برنارد بيرينسون)، لم تستطع الزواج من أحد:

«لقد عرفتُ دائماً أنّ العلاقة التقليدية، بسبب إرثي، لن تكون ممكنةً بالنسبة إلي… لأنّ الزواج يعني الأطفال، وهذا شيء لا يمكنني المخاطرة به. من دون البشرة الفاتحة لأقربائي، لم أستطع أبداً تحمل أن يولد لي طفلٌ ربما يكشف لونُ بشرته خداعي».

تقوم بنديكت، وهي بيضاء، وميوريه، وهي أمريكية من أصل أفريقي، بعمل جيّد في تصويرهما الحبلَ المشدود الذي سارت عليه الحسناء، وصراعها الداخلي من كلا الجانبين: الرغبة في التمسك برغبات والدتها والمضي عبر العالم كبيضاء، وتوقها إلى أن تظهر لوالدها أنّها فخورة بعرقها. وكما كانت لدى بيل وربِّ عملها، كانت لدى بنديكت وميوريه كيمياءُ فورية تقريباً، ونتيجةً لذلك أصبح سردُ الكتاب سلساً. وعلى الرغم من نفوري من المجاز التصويري الماضوي، بتُّ مشدودةً للكتاب.

بيل دا كوستا غرين ليست، الآن، في مقدمة وقلب قصة مكتبة مورغان، بل ستكون أكثر بروزاً عندما تحتفل المكتبة بالذكرى المئوية لتأسيسها كمؤسسة عامة في عام 2024، وهو أمر مناسب؛ حيث أقنعتْ جاك مورغان بالتبرّع بمكتبة والده المذهلة للمدينة. إنها هديةٌ تكرّم جيه. بي. مورغان وأحفاده، وأمينة المكتبة الخاصة، التي كانت عاملاً حاسماَ في نجاح مورغان.

بقلم: كارين غريغسبي بيتس

سنة حلوة يا أنتوني ترولوب! بعد أن أكمل ترولوب 200 سنة، جربوا القراءة لهُ. قد تستيقظوا من نومكم ضاحكين!

قد لا يكون أنتوني ترولوب، بشكل عام، جزءاً أساسياً من فهم الناس للأدب الفيكتوري؛ فهو لم يحقق النجاح الذي حقّقه آخرون أمثال ديكنز أو إليوت، ولكن لمّا كان بلغ مؤخراً ٢٠٠ سنة من عمرهِ، فقد ترونه على أختامكم البريدية على موائد الإفطار عمّا قريب. يبدو أنَّهُ الوقت المناسب لتشجيعكم على قراءته.

كتبَ ترولوب ونشرَ بلا كلل. كان يسيطر على المشهد الأدبي طالما أنّهُ يلاقي اهتماماً من الطبقات الوسطى المُنعّمة بالرفاهية، في أكثر أعمالهِ شعبيةً خلال ستينيات القرن التاسع عشر. تخيّل القراء شخصياته، وكتبوا عنهم كما لو كانوا أشخاصاً حقيقيين. وقد كان ترولوب صورة لحياة أرباب المهن الحرة وأصحاب الأراضي ممن يعترف الناس بهم ويثقون. كان ديكنز يبيع المزيد من نُسخ أعمالهِ باستمرار وهذه حقيقةًوكان لديه العديد من القُرّاء من الأُسَر الأقل ثراءً. وقد يُقال: إن كل من قرأ لترولوب قرأ لديكنز كذلك، ولكنليس كل قُرَّاء ديكنز كانوا من معجبي ترولوب.

تخصص ترولوب في الكتابة عن حياة الطبقات الوسطى والعليا، وجهود الأفراد للتصرف بأخلاقية في عالمٍ يتغير سريعاً؛ حيث يحقق الناس ثروات ويخسرونها، وتتم الزيجات مقابل المال أكثر منها لأجل الحب. لقد تم تحديث عالم جين أوستن إلى عالم السكك الحديد، والباخرات، والتلغرافات، وإصلاح النظام الانتخابي، والجدالات من أجل حقوق المرأة، والتمثيل السياسي للطبقة العاملة.

كانت الحياة حافلةً أكثر، وكانت القطارات تنقل الناس من أبعد المناطق الريفية إلى لندن كلّ يوم، جالبين معهم أزياء لندن، وأموال لندن، وجرائم لندن، وأفكار لندن إلى الريف. حتى في كنيسة إنكلترا، بدأت الأفكار الجديدة والطموح الاجتماعي والسياسي والسعي وراء الثروة تزداد وضوحاً بصورةٍ يومية

روايات ترولوب مسلية ومُشوَّقةً للغاية ومؤثرة في أحيانٍ كثيرة، ولكن،في جوهرها، ثمة مشكلةٌ أزليةٌ حول كيفية عيش حياةٍ هانئة في عالمٍ خطِر وشرير رُبما. تتساءل شخصياته باستمرار في حال كان بإرادتهم القيام بأفضل ما يمكنهم لأجل أنفسهم، فباستطاعتهم أيضاً فِعلُ أشياء جيدة لعائلاتهم وللإنسانية برمّتها.

نساء ترولوب

يتوق الشبّان والشابات إلى زواجٍ يُلّبي الرغبات المناقضة للعلاقات الغرامية، والإشباع الجنسي، والثراء، والاحترام الاجتماعي؛فالفكتوريون مُتهمون، غالباً، بتجاهل جنسانية الشخصيات، ورغمذلك، ابتكر ترولوب شخصية شابة أرستقراطية تقول إنها تودّ أن «تظفر» بشاب وسيم من أعضاء البرلمان. وشخصية ابنة مراهقة لعائلة محترمة تقول: إن الزواج، بالنسبة إلى الرجال، مثل شراء الجُبْن: يرغبون في تذوق العديد من القِطع قبل أن يشتروها

ينبغي أن تُقرأ روايات ترولوب بتبصُّر، وهذهِ عقبةٌ أمام شُهرتهِ اليوم؛ فرواياته طويلة، وتتطلب منا الاهتمام بكلّ درجات الفكر والمشاعر المحيطة بأفراد أُسَر الطبقة الوسطى أو العليا في الفترة ما بين 1850-1882. ولكن، إذا نظرنا إلى ما بعد تفاصيل هذه الفترة نجد أنّ ترولوب هو  الروائي الذكر الذي يمنح شخصياته النسائية أكثر الأفكار والطموحات قوةً.

إذ إنّ نساءه، على وجه العموم، ذكيات وذوات معرفة واسعة، في كثير من الأحيان، مثل رجاله. لا يمكنك قول هذا عن شخصيات نساء ديكنز، وثاكري، وميريديث، أو كولينز. ولكن، بطبيعة الحال، إنّ روايات ترولوب مكتوبة لتكون مقبولةً اجتماعياً كما يقول الفيكتوريين؛ حيث يمكن للأم أن تسمح لابنتها بقراءتها. وقبل كلّشيء، إنّ رواياته ممتعة. اقرأوا كلمة الأميرة الملكية، التي كتبت إلى والدتها، الملكة فيكتوريا، في عام 1858، قائلةً:

«أعجبتني رواية (صروح بارچستر) كثيراً؛ إنها تجعل المرء يضحك حدَّ البكاء؛ إنها حقيقيةٌ للغاية؛ لكنّي أظنها ماكرة ومثيرة إلى حدٍّ ما». 

ويُقال إن الكاردينال نيومان (شاعر ولاهوتي وفيلسوف وكاهنأنجيليكانيّ) استيقظ في الليل ضاحكاً على ما قد قرأه لترولوب.

من أين نبدأ القراءة لأنتوني ترولوب؟

رواية صروح بارچستر (1857) ممتازة للقارئ بوصفها بدايةً؛إنها عمل ترولوب المبكر. قد لا تكون مهتماً بسياسة حرم الكاتدرائية، لكن لا يزال هناك الكثير فيها لتستمتع به. رواية الدكتور ثورن(1858) ممتعة وسهلة القراءة على حدّ سواء. ورواية جواهر ثمينة هي الرواية المفضلة لظرافتها وإبداعها، وهي، بالمناسبة، الرواية التي ينتظر الرجل العجوز الأعمى في قصيدة تي.إس.إليوت «جيرونشن»المقتبسة جزئياً من الشاعر إدوارد فيتزجيرالدأن يقرأها «ولده» له.

تُشكِّل العديد من رواياته استفزازاً أكبر مثل رواية الطريقة التي نحيا بها اليوم (1874-1875)، وتُعدّ بمنزلة هجماتٍ متواصلة على مجتمع يسيطر عليه المال والمضاربات التجارية؛ إذ يمارس الأثرياء سلطة سياسية غير متكافئة. أما رواية رئيس الوزراء(1875-1876) فهي من الأعمال التي أُسيء فهمها إلى حدٍّ كبير، وهي حول التخلي عن السلطة من قبل سياسي أرستقراطي ثريّ يحب القيم القديمة، التي نشأ معها، لكنه، مثل مؤلفه، يريد للقوى السياسية والرفاهية أن ينتشرا على نطاق واسع بما يمليه عليه ضميره

لقد استصعب ترولوب أن يعيش حياةً هنيئةً حقيقية في عالم معطوب. من الصعب أن نعرف لماذا يعتقد الناس أن ترولوب رضخ للأمر، بشكلٍ مطلق؛  لأنه فهم عصره وضحك عليه. والحقيقة أنه تحول، بوساطة منتقديه، إلى شخص مُمتثل للأعراف والعادات ومنغلق، وذلك لأن العديد من منتقديه كانوا، شخصياً، مُمتثلين للأعراف والتقاليد، ومُنغلقين على مرّ السنين.

اقرؤوا ترولوب بذهنٍ منفتح، وتحلّوا بالصبر على الأسلوب الكتابيّ لعصر يعيش معظم أُناسه حياة مرفهة.اتبع الراوي فحسب، وسوف تجد طريقك عَبْرَ هذا العالم الثري جداً لهذا الروائي العظيم الذي عاش في منتصف الحقبة الفيكتورية

 

بقلم: ديفيد سكلتون

ترجمة: زينب بني سعد

وقفات تأملية مع رواية «الاستدارة الأخيرة» لأحمد الزمام

بطبعي لا أميل للروايات والنصوص الأدبية السطحية التي لا تعتمد على أفكار عميقة أو «تيمة» معينة تجمع شتات العمل الأدبي، وتجعلني أستحضر الكاتب كقيمة فكرية وفلسفية أثناء القراءة، وهذه – أي الأفكار والفلسفات- قد تكون متناثرةً في النص، ونقبل بها على هذا النحو ونتغاضى- على مضض- عن غيابها المحوري، فالأفكار الأساسية يصعب تحميلها بهذا الهم، وهو ما درجت عليه كثير من الروايات العالمية، ومع ذلك لا يمكننا تجاهل حقيقة أنَّ نجاح الكاتب في الانطلاق من أفكار رئيسة بهذه المواصفات؛ يعد إبداعًا وتوفيقًا يُسهِّل عليه إتمامَ العمل ومنحَـه الصفةَ الإبداعية، ولدينا أيضًا شواهدُ كثيرةٌ من الإبداع الروائي العالمي، نحا هذا المنحى كرواية «المسخ» لـ «فرانس كافكا» و»شيفرة دافنتشي» لـ «دان براون»، وعلى المستوى العربي، نراه في «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، واللص والكلاب لـ «نجيب محفوظ»، وغيرها كثير من الأعمال الإبداعية العالمية.

ذلك بالطبع ما وقَفْتُ عليه من اللحظة الأولى التي أمسكت فيها برواية «الاستدارة الأخيرة» للكاتب الكويتي المبدع، أحمد الزمام التي تقع في 424 صفحة من القطع المتوسط، عندما وجدتُـه ينطلق من فكرةٍ خلَّاقةٍ؛ تعتمد على جنس الإنسان وجندريته، والصراع الكبير المحتدم بين الجنسيين لفرض أجندتهما، وسعي كل واحد منهما لتهميش الآخر والقضاء عليه، وعدم اعترافهما بالفطرة السوية التي خُلقا عليها، بمقتضياتها التي تسندُ لكل منهما مهامَّ وواجبات وحقوقًا محددة، لا ينبغي تخطيها، فتصور لنا السردية عالـمًـا افتراضيًا تخيليًا أصبح أنثويًا وليس ذكوريًا، وتخلق صراعًا دراميًا كبيرًا تحت هذه المظلة، وهو التصور المبنى على أرقام متداولة تخشى من ازدياد أعداد الإناث مستقبلًا، مقارنة بعدد الذكور، وتأثير هذا البعد الديموغرافي على الحياة الاجتماعية للبشرية، ما دفع كاتبَنا المبدع لاستلال هذا البعد الواقعي؛ ومزجه بالخيال والانطلاق بنا في رحلة ماتعة، لتصور هذا العالم الجديد، الخاضع كليَّةً لهيمنة الإناث من خلال المملكة النسائية؛ التي بات فيها الرجل كمًّا مُهملاً يزدريه الجميع، وتطبق عليه الأنظمة الظالمة التي كانت تطبق على النساء وقت أن كان العالمُ ذكوريًا، بل وصل الأمر لمحاولة اجتثاثهم كلية، والإبقاء على عدد قليل جدًا يُستخدمون للتكاثر والإنجاب فقط، بالضبط كما يحدث في تدجين الحيوانات المستأنسة.

هذه الفكرةُ الخلاقةُ منحت العملَ قيمةً كبيرةً؛ خاصةً مع وجود راوٍ متكلمٍ ذكر، يعايش كل هذه الانتكاسة للفطرة الإنسانية، ويعاني الأمرَّينِ من اضطهاد الأنثى له، من خلال زوجة أبيه ومعلمته، وهو ما ينسحب بالتأكيد على كل الرجال بعد أن أصبحت العصمة بأيديهن، وأصبح القرار لهن، والجميل أنه أطلق السرد من انفراجة بسيطة في هذه العتمة التي أصبح العالم الافتراضي يعيشها، مستغلًا تنويرًا معينًا يسبق عادة التغيير الجذري ويهز أركان الواقع من جذوره، ليأخذنا برفقة هذا الشاب المشغول بالتاريخ وقد بات يتململ من الظلم الواقع على الرجال ما جعل غاية أمنياتهم أن يكونوا إناثًا.

هذه الرحلة الشيقة التي أجاد الراوي المتكلم في وصفها، متنقلًا بين الحِقب العمرية التي عاشها كطفلٍ وشابٍ؛ أظهرت لنا البعد الفلسفي الجميل، الذي تريد السرديةُ مناقشتَهُ بشكل إبداعي، تغيب عنه المباشرةُ والتقريرية، رغم اعتمادها على أفكار فرعية مهمة، تُصور – على سبيل المثال – العاطفة الأنثوية، وقدرتها على التحكم في قراراتهن، وكذلك الحدية المرضية التي عادة ما تتصف بها أغلب الإناث فسيولوجيًا؛ ويقلل من تأثيرها علمها وثقافتها وتحضرها، وكذلك وجود الرجل العاقل الذي يهذب كثيرًا من جنونها السلوكي وشطحاتها؛ إن كان زمام الأمر بيده؛ وكان بالمواصفات المثالية، ولم يكن الوجهَ الآخرَ لنفس العملة.

هذا الأثر السلوكي عادة لا يظهر مع استمرارية دورة الحياة الاجتماعية، التي تخفي كثيرًا من عيوبها، رغم التجاذبات والإشكاليات الداخلية، فكان الحل في مناقشة هذه الفكرة الجنونية سرديًا، من خلال البعد التخييلي، وخلق واقع افتراضي يحمل كل هذه المكونات ويفاقم من ظهورها وشيوعها، وبالتالي قلب الصورة، ووضع الأمر كله في أيدي النساء، ليظهر ما خفي من سلوكيات الأنثى المهيمنة، وترك هذه الحقيقة تتشكل تدريجيًا من خلال السياق الدرامي المتنامي، ودون أي تدخلٍ مباشرٍ من الكاتب، وقد اختار منح المشاهد – بمكوناتها المادية وغير المادية – القدرة على التعبير، وإيصال المفاهيم المستهدفة موضع النزاع، وتشكل رأي القارئ بطريقة غاية في الروعة، اعتمادًا على الصراع الدرامي الواقعي المحتدم في النص.

هذه الفكرة الإبداعية ستصل للمتلقي متى ما استطاع تجاوز البداية التي شابها شيء من صعوبة الفهم والاندماج معها، مما قد يصرف القارئَ العجولَ أو غيرَ الواثق بالكاتب والكتاب؛ لافتقارها إلى حد ما للاستحواذ الإبداعي، الذي يعد ركيزة أساسية في صياغة بداية الأعمال الكتابية الإبداعية، وكان حريًا بالكاتب الاهتمام به في المعالجة النهائية، طالما كان بصدد تدوين عمل كبير يشعر بقيمته، فالغموض والاستفهامات المحفزة للقارئ، والتشويق والإثارة وكل ما يتعلق بتجويد البداية المستحوذة؛ يعد سلاحًا ذو حدين، واللعب به قد يجرح النص أو يقتله، لذلك ينبغي توخي الحذر الشديد عند استخدامه خشية صرف القارئ عن المتابعة في حال لم يقنن هذا الاستخدام، كما ينبغي تأجيل إظهار قوة النص وقيمته في البعد الفكري والفلسفي، إلى ما بعد بناء علاقة جيدة بالقارئ ودفعه لمحبة العمل، وفي كل الأحوال لن نأتي بجديد إذا قلنا: إنَّ البدايات هي وقودُ النهايات، ولا يمكن لأي عمل إبداعي إهمال أي منها.

وإذا ما تجاوزنا هذه البداية المجهدة، سيفصح العمل عن قيمته الحقيقية وسيأخذنا معه في رحلة محفوفة بالجمال والإبداع، مُظهرًا لنا قدرة النص العجيبة والفائقة على التنقل بين المشاهد، من دون أي محددات شكلية، فالمشاهد متصلة في تدوينها – رغم انفصالها وابتعادها الزماني والمكاني وتعدد شخوصها وأصواتها – بطريقة غاية في الصعوبة، تجعلك تشعر وكأنك في دوامة لا تستطيع الخروجَ منها، مما يتطلب تركيزًا كبيرًا من القارئ، حتى لا يفلتَ أحدُ خيوطَ الحكاية من بين يديه، فالسارد أجاد التنقل برشاقة كبيرة بين عدة مشاهد تختلف أمكنتها وأزمنتها، وحتى شخوصها، والعودة في كل مرة للمشاهد الابتدائية بطريقة غاية في الروعة، وكانت تحمل شيئًا من التشويق، وذكاء النص وإن كانت تخلق مكابدة في الفهم والتتبع، قد لا يقوى عليها القارئ العادي إن لم تستهوِه الحكاية وتدفعه لتتبع أحداثها وتوقع نهاياتها، وفي كل الأحوال يمكننا القول: إنَّ السرد نجح في ضبط هذا التلقي بدرجة كبيرة للقارئ النخبوي، رغم إنَّ الخيوط كادت تفلت من بين يديه في بعض المواضع، فالمنهجية الكتابية التي اتبعت هنا مرهقة جدًا في الكتابة والتلقي على حد سواء، ما يجعلني أكاد أجزم أنها أرهقت الكاتب كثيرًا، ودفعته لإعادة حياكتها على هذا النحو الإبداعي المتحدي للقارئ، ولم تكتب هكذا من بدايتها، ولا أظنه إلا قد عانى الأمرين في ربطها بهذا الإحكام، والعودة لجزئياتها في كل مرة، والاستمرار في تسلسلها من دون انقطاع، لكنه في ما يبدو هاجس الإبداع، الذي استحوذ على الكاتب ودفعه لتعمد خلق صعوباتٍ معينةٍ والتلذذ بتجاوزها، وأظنه نجح كثيرًا في ذلك، وأصبحت سمة فريدة تميز هذا العمل، وتخلق قيمته الحقيقة على الجانب البنائي والأسلوبي بعيدًا عن الفكرة الأساس التي يناقشها.

غياب المحددات الذي اتسم به العمل شمل أيضًا أساليب السرد المختلفة وتقنياته بذات السلاسة، فلا تكاد تشعر بالتنقل بين الوصف الصريح، والتلغيز المبهم، وتعرية الوقائع وفلسفتها، والمونولوج الداخلي، والحوار، والتقديم والتأخير للنهايات والبدايات، وتعدد الرواة؛ وتنقلهم بين ضمير المتكلم بشقيه الأنثوي والذكري، والراوي العليم الذي بقي حاضرًا معهما حتى آخر قطرة من السردية، وكل ذلك يدفعنا للانبهار بقدرة الكاتب على خلق هذا المزيج الإبداعي التعددي، من دون ضياع النص من بين يديه، تاركًا لنا أنموذجًا فريدًا وأصيلًا للكتابة الإبداعية المتطورة جدًا.

= الوقوف عند التفاصيل الصغيرة كمنهجية إبداعية؛ نالت حقها أيضًا من الاهتمام في مجمل العمل، ويمكن رؤية ذلك في تنامي المشاعر بين السارد الأساس، وحبيبته «لورا» على سبيل المثال، وهو البعد الرومانسي الجميل الذي لم يُهمل رغم ثانويته وهامشيته، ووجدنا الكاتب يبدع في عرضه وتناميه واستيلاده من العدم بطريقة رائعة وجميلة وواقعية، تاركًا له المساحة السردية التي تتناسب مع حجمه واتصاله بالفكرة الأساس، لنشاهد على مكث ولادته الطبيعية ونموه ونضجه على نار هادئة، وهي الصورة المثالية للعلاقة العاطفية التي غالبًا ما تمر بفترة مخاض صعبة سواء أكانت ظاهرة موصوفة أم مضمرة تظهرها الأنساق المختلفة للعلاقة، ولقد نجح الكاتب بامتياز في رسم هذه العلاقة بالدقة المطلوبة، إذ إننا وصلنا إلى الصفحة الثمانين دون أن يظهر بشكل واضح نوع العلاقة التي تربط لورا بالبطل، بل إنَّ المصارحة الحقيقية بالمشاعر لم تظهر إلا في الصفحات الخمسين الأخيرة، وكانت إشارة خفيفة لا تتعدى المفردة أو المفردتين إذ إنَّ أغلب شواهد هذه العلاقة، بقيت مضمرة تتشكل داخل ذهن القارئ، وتنساق خلفها مشاعره، وتظهرها ابتساماته المتعددة، أثناء القراءة، والجميل أنَّ تلك اللحظات المسروقة من سياق الفكرة الأساس، لا تبتعد عنها بالمطلق إذ إنها جسدت اهتمامات مشتركة حول القلعة وما يحيط بها من غموض، وتعمد الكاتب توظيفها كمتضادات ترسم لنا الصورة الإنسانية المثالية التي لا يمكن استبصارها ووصول مغازيها العميقة بدونها، فانتك اس الفطرة السوية يحتاج إلى شاهد يظهره؛ تمثل في لورا والسارد المتكلم الأساس، فكلاهما حمل مشاعر معتدلة ومنصفة للجنسين تبتعد كلية عن الحدية التي غرق فيها الجميع تقريبًا، إذا ما استثنينا الشيخ الحكاء الذي مثل ضلعهم الثالث، واستلم زمام السرد معهما وأوكل إليه فك تشابك الحكاية وتمهيد الطريق نحو النهاية.

إن قيمة هذا العمل في بعده الفلسفي؛ لم يغيِّب الاهتمام باللغة الأدبية، بل كانت اللغة الأدبية ضمن أهم ما تميز به من خلال عدد كبير جدًا من الأساليب البلاغية والجمل البديعة والصور الشاعرية والأنسنة والتشيئة، يمكننا رؤية هذا الجمال في عدد كبير من المحطات كقول السارد ص182: «لم أكن أدري أنَّ الحياة ستصبّ جامَ قسوتها عليَّ. كانت لطيفة ودودًا بوجود أبي، إنّه الأمان الذي حرس الروح من كلِ ّ الشرور،» وقوله ص318: «ظلّت لورا تتضوَّر انزعاجًا طوال طريقنا»، وقوله أيضًا ص322: «أتذكَّر كيف ألقت بزخم أفكارها على الأرض ترسمها، وتضع لكلِّ احتمالٍ حدثًا من الأحداث، ولو كان ضئيلاً، وتوجد حلَّا لا يعرقل خطَّتها.» وقولها ص325: «صاح الحفيد بصوت مسموع حين اكتملت الاستدارة الأولى: «الأولى»، ثمّ راح الجمع من عشيرة مامي يعدّون معه عدًّا يفهمنا جميعًا أنَّ عليَّ الوقوف نهاية الاستدارة السابعة، ولكن، قبل لفظ كلمةٍ أغرب بها عن وجه الحياة،» وقولها ص 381: «يحين مجيء النعاس ساخرًا مع طلوع الشمس، ويعاركني الأرق، فيجعلني أضحوكته التي يتسامر عليها طوال الليل،» ولعلي أختم بعبارتين تستحق التمعن فيهما أتت أولاها في ص 398 قبل مغادرتنا بقليل وهي المحطة الكتابية التي تكثر فيها الأخطاء، وتتسم بالسرعة غير المنضبطة، بينما وجدنا السارد هنا لايزال محافظًا على انضباطية سرده، ولم يغب الجمال، وبقيت التفاصيل الصغيرة الإبداعية عنوانًا للمشهد تجلى كل ذلك في قوله: «لم أجد تعلَّة لطلبي ملابسَ نساء، غير أبي الذي خطر فجأة..» وكأن النص يتعمد وداعنا بمفردة جميلة نعبئ بها ذاكرتنا اللغوية كـ «تعلَّة» التي تعني علة أو سببًا يهرب به من استحقاق معين ويختبئ خلفه، وهو ما امتازت به هذه السردية باعتدال إبداعي دون اقتار أو تبذير، والقول الآخر أتى في ص 402 عند قوله: «لقد أصبت بإرهاق شديد، ويخُيَّلُ إليَّ أنّني أركض على أسطوانة التاريخ التي لا تنفكُّ تدور بلا توقُّف، مقاومًا السقوط إلى نهاية الحياة»، ليسحَرنا هنا بالتصوير الفني الإبداعي خلاف اللغة عند استخدامه أسلوبًا سرديًا، لا يخلو من الذكاء اللفظي والاحترام الشديد للمتلقي الجيد وصنع نهاية مدهشة، تربط القارئ بالعمل وتزيد من تعلقه به، فهذه العبارة على إيجازها الشديد وبساطتها، حملت معانيَ كبيرة وصورًا دقيقة، وهي تظهر لنا التاريخ المكتوب على هيئة برميل اسطواني يدور، وكاتبه يسير فوقه مما يرضه لخطر السقوط في كل لحظة، ويُشغله كثيرًا بمحاولة الحفاظ على اتزانه واستقراره فوقه، متأثرًا بعدة عوامل توشك أن تسقطه، منها دوران البرميل وتناسق حركة الجسد معها، والتأثير العقلي والهرموني، وأيضًا تأثير الرياح، ما ينعكس سلبًا على هيئته ويبطئ كثيرًا من تقدمه، وهذا بالضبط ما يحدث مع المؤرخ الذي تتنازعه أيضًا عدة عوامل كالحقيقة، وأهواء نفسه، ومشاعره الداخلية والخارجية، وكذلك القوة السياسية المهيمنة، فيتخبط بين كل هذه المؤثرات الشديدة في كتاباته التي يستشهد بها لاحقًا، ويتعامل معها المستفيدون منها وكأنها حقائق دامغة، بينما هي أبعد ما يكون عن ذلك.

أيضًا تجلى الاهتمام باللغة الأدبية، في طريقة صياغة الحوارات وتفردها وجمالها الأخاذ وبساطتها ومرورها العابر على السرد، من دون الشعور بها، حيث إنَّ حضورها كان بنفس الطريقة التي تحدثنا عنها سلفًا من غياب المحددات وعدم الاستقلالية ومزجها مع كافة العناصر السردية، حيث تظهر وتختفي فجأة، بالقدر الذي يتناسب مع الدور المنوط بها فقط، وبالقدر الذي يستحقه، وكان ذلك ظاهرًا في مجمل السرد لم يختلف كلية في كل الحوارات، حتى إننا بالكاد نشعر أنَّ العمل يتخلله أي حوار، كقوله ص 319: «كانت ابتساماته التي يرسلها بين الحين والآخر تثير استغرابي، ويخفيها عنّي كلَّما التفتُّ إليه. «ما الذي يسعدك لتبتسم هكذا؟!». «لا شيء». ثمّ ضحك ضحكة خفيفة، وأشاح بوجهه عنّي. «هل تكتم أمرًا؟!». «لا، فقط كنت أتذكّر جدّتي وطرافتها لأهوِّن على نفسي قليلاً شقاءَ المسير. »شقاء المسير؟!« أنت اقتطعت مسافات طويلة وشاقَّةً جدًّا منذ صغرك. لا، ليس الأمر كذلك». عاد يقهقه قائلاً: «هل نسيت ِ أنيِّ عدت من رحلة صيد قبل يومين؟». «أهذا ما أتعبك؟! لا أصدّق». ضحك.» وكما يلاحظ هنا أنَّ الحوار بسيط لا يخلو من الجمال وغياب المحددات، ولا يرهق السرد على الإطلاق، بل يمتزج معه بطريقة غاية في الجمال والسمو.

وشاهد آخر على تلك الحوارات الماتعة ما نطالعه في ص 332 في قوله: «ابتسمت. سألني الحفيد مشاكسًا: «ل ماذا هذه الابتسامة الآن؟». «قاسمتك ذاكرتَك التي تستعيد منها طرافة الجدّة». ضحك، ثمّ تنهد يقول: «أجل سأطمئنّ. لقد حملتكِ في صغركِ أمانةً من القلعة إلى جدّتي لتعودي إليها آمنة منتصرة». التزمت الصمت من دون أن أُشعره بأنَّني أسرُّ في قلبي شيئًا يبهجني، لا يعرفه أحد، وهو أمر جميل يصعب عليَّ إظهاره. هذا ما جعل للحبّ ألـمًا بالغًا. كانت تلك اللحظة الأخيرة المتردّدة التي أبت الرحيل هي الزواج به.» وهكذا نجد أغلب الحوارات – إن لم نقل جميعها – تصاغ بهذه الطريقة البسيطة والجميلة، وبهذا الاندماج الكلي في السرد من دون أي محددات لا شكلية ولا حتى كتابية، فقط ما يساعد على الانتباه لها وتمييزها كأسلوب كتابي مختلف امتازت به هذه السردية.

لفتني أيضًا في هذه السردية قدرتها على طرح الأفكار والفلسفات بطريقةٍ مبتكرةٍ وأصيلةٍ ومختزلةٍ، اعتمادًا على الخبرات المباشرة الموصوفة التي يظهرها السرد، بانت في أكثر من موضع وكان فيها إفصاح عن القدرات الفكرية والفلسفية التي يتحلى بها الكاتب واحتاجها العمل السردي، واستطاع توظيفها في جل المشاهد وإن كان أجملها في ظني مشهد تنصيب الملكة، باستداراته السبع، التي فيها إشارة واضحة لعنوان العمل، فالاستدارة الأخيرة إنما كانت الاستدارة السابعة، التي أعقبها تحدث الملكة أمام وفود العشائر، وهي التي لم تُخبـــَر بهذا الموقف مسبقًا ولم تُلقَّن أي كلمة من الكلمات التي كان عليها التفوهُ بها، فرغم الصعوبة التي عانت منها الملكة المتوجة والإحراج الشديد إلا أنها أدركت لاحقًا قيمته عندما تحدثت معها الجدة وأخبرتها بمغزى ما حدث في قولها ص 328 «لقَّنتني الجدَّةُ درسًا قويًّا لا يُنسى. تلك الورطة التي دفعتني إليها فعلتُها عمدًا لأصبح ملكة حرة، ومنها أملك الثقة التي لا يقدر أحد ٌ على انتزاعها منّي. أنا مدينة جدًّا لتلك الجدّة.» فكان في هذا المشهد تحديدًا أكثر من مستهدف فهمي وإدراكي، إذ يحيل القارئ إلى مدلولات الرقم سبعة الدينية والاجتماعية والفكرية، ويطلب منه ربطه بالحكاية المروية، كما يُظهر القيمة الحقيقية للزعامة السياسية التي تستحق بالفعل القيادة وهي التي تُلقِّنُ ولا تُلقَّن، وتُصدر الأوامر ولا تتلقاها، وكان في ذلك أيضًا تعريةٌ لأغلب القيادات السياسية التاريخية الهلامية، التي غالبًا ما تكون على العكس تمامًا من ذلك، وهو ما قالته السردية بطريقة غير مباشرة وترك الحدس للقارئ.

استطاع الكاتب تمرير فلسفاته وأفكاره تلك، من دون إخلال بالسرد، أو الوقوع في الإخبارية الممقوتة، أو تعالي النص ومثاقفته التي تضر كثيرًا بالتلقي الجيد للنصوص، كتلك الذكريات المسرودة على لسان عمته، التي لم تخلُ من بعض الأفكار الجميلة، كقولها في ص 175: « لا يمكن أحدًا يمتلك عقله أن يرمي بنفسه على هامش الحياة، ويقضي كلَّ وقته في الاستمتاع بلا عمل « وقولها: «موت الإنسان يكون بموت الطبيعة» – وكما يلاحظ- فقد كثف وأوجز في أسطر قليلة، ومرر أفكاره على لسان العمة، ثم عاد بعد ذلك بسلاسة عجيبة لسرديته الجميلة، وكان ذلك مما ميز السردية، حيث استطاع السارد إشعال فتيل التلقي بطرق متنوعة واستخدم الإيجاز الإيجابي، لاستنهاض قدرات القارئ العقلية، ودفعه للتفكير واستكمال الحلقات الناقصة، وفي ذات التوقيت بث ما يريد قوله من أفكار وفلسفات عادة ما تكتب الروايات الإبداعية من أجلها.

ومما ميز هذا السردية أيضًا؛ ابتعادُها كلية عن ذكر الأسماء، فالشخوص جميعهم رجالًا ونساءً كانوا نكرات غير معرَّفين، وبدا لي أنَّ هذا الأمر لم يكن عرضيًا وإنما متعمدًا، فالحكاية في أساسها قامت على الجزء الخفي من الإنسان، أي بواعث سلوكياته المضمرة ومشاعره الدفينة وغيب الظاهر، فلم يكن مهمًا معرفة اسم الملك الأول، أو الثاني، أو الثالث، أو حتى الرابع، رغم أهميتهم ومحورية حضورهم السردي، وكذلك الحال بالنسبة للنساء جميعهن، حضرن بأفعالهن وأقوالهن، وغابت أسماؤهن، أريد لهذا النهج الكتابي؛ تكريس الضوء وتسليطه على الفكرة الأساسية التي يتبناها النص السردي، وعدم تشتيت القارئ بأمور هامشية لا قيمة لها، ظهر ذلك في كل التقنيات السردية المستخدمة، فغابت أيضًا الحوارات والأوصاف المحددة والمستقلة، وتم تغييب الزمان والمكان الواقعيين الحقيقيين، فالنص اجتهد كثيرًا في دمج كل هذه العناصر والتعاطي معها ككتلة واحدة، وأظنه نجح في ذلك أيما نجاح، ما دفع القارئ لتكريس جهده في محاولة فهم التجاذبات النفسية العميقة التي تسردها الحكاية، وعدم الاهتمام بالنواحي الشكلية، بل لم يعد يهتم بالسارد نفسه الذي لم يستقر له قرار، والتوجه فقط باتجاه تفاصيل الحكاية الماورائية الدقيقة، التي يمكن اختزالها في الجدلية الكبيرة بين القيمة الإنسانية الحقيقية للرجال والنساء والتفاضل بينهما.

هذا التهميش المتعمد للأسماء، لا يتناقض مطلقًا مع ذكر اسم «لورا» الذي تردد كثيرًا، وكأن الن صَّ يستلها من بينهم، ويستخدمها كشاهد على الأنثى الحقيقية، بالمواصفات التي تؤهلها للنهوض بدورها في الحياة، من ذلك حفظ قيمة الرجل، وتثمين وجوده، وحاجة المرأة إليه، وممارسة دورها الأنثوي بالاعتدال المطلوب، من دون إفراط أو تفريط، كما بدا أنَّ السردية تعمدت زرع هذه السيميائية المهمة المفضية إلى الفكرة الأساس للعمل، التي سبق ونوهت عنها، بإظهار اسمها وحدها، وتغييب الرجل العَلَم، اعترافًا منها بأهمية المرأة وأنها عصب الحياة البشرية، وتعدُّ المصنعَ الذي يخرج لنا كلا الجنسين، ويؤهلهما للممارسات الحياتية المثالية، وهو ما يشير إلى اعتماد السردية في هيكلها البنائي، بتفرعاته المتعددة على فلسفات حياتية عظيمة، أجادت عرضها وإيصالها بطريقة حكائيةٍ مقنعةٍ جدًا.

ومما يلاحظ في هذه السردية أيضًا؛ كثرة استخدام النعوت غير الجيدة في التعريف بالبشر، شأنها شأن رواية «الحارس في حقل الشوفان» للكاتب الأمريكي «جيروم ديفيد» وكان ذلك خيارًا سرديًا ذكيًا بالفعل الهدف منه، إعادة الإنسان إلى همجيته التي تسبق تنويره وعلمه وتأديبه بالأديان السماوية؛ والخبرات الحياتية الإيجابية المكتسبة، في إشارة ذكية إلى حقيقة أنَّ انتكاس فطرة الإنسان السوية، وتبادل الأدوار بين الجنسين، نتيجتها الحتمية؛ الفوضى في كل مناحي الحياة، ولن ينهض به غير الجهلاء، ولقد نجح السارد بالفعل في رسم هذه الصورة في ذهن القارئ بحيث لم يكن واردًا تمجيده لهذه الحياة التخيلية التي يطالعها، حتى وإن كان في قرارة نفسه، مما يحيلنا لأهمية هذا العمل، وإظهار قيمته الفلسفة والفكرية، وقدرته على مناقشة أطروحاته بطريقة غاية في الإمتاع والإقناع.

امتازت هذه السردية أيضًا، باهتمامها بأدق التفاصيل لكل المشاهد، من الزمان والمكان الافتراضيين، والشخوص «مجهولي الهوية» بانفعالاتهم قبل حركاتهم وسكناتهم، وهي بالمناسبة مواصفات إبداعية لا يكتمل الجمال الكتابي والدرامي بدونها، وتعد ضمن مستهدفات الكتابات الروائية الإبداعية، ومع أنَّ العمل كما أسلفنا اعتمد البعد الفلسفي في السرد، بطرح بعض الأفكار الخارقة ومناقشتها، ومحاولة تشريحها وإقحام القارئ في فهمها وتناولها، وتحديد قراره منها، وهذه قد يكون فيها إغراق في الحديث الوصفي التشريحي، بعيدًا عن المشاهد، إلا أنه رغم ذلك؛ كان السرد دقيقًا في منح كل عناصر الإبداع ما تستحقه من اهتمام، وجدت ذلك حتى في المنهجية المعتمدة لزرع التشويق والإثارة في ثنايا النص، حيث لم تكن أبدًا مفتعلة، أو غير مقنعة، أو ظاهرة التوظيف، رغم قيمتها العالية واعتماد السردية عليها كمنهجية كتابية إبداعية، إذا ما نظرنا إليها من زاوية التلقي وحاجة النص الملحة إليها، لكنها رغم كل ذلك كانت تأتي في وقتها وفي أنساق كتابية غاية في الروعة، تزرع الابتسامة على شفاه المتلقي الجيد، وهو يرى السارد كالأب الحنون لا يغفل عن شيء من تفاصيل حياة أبنائه، رغم كثرتهم، وتباين طلباتهم واهتماماتهم، فيحيط كل ذلك بقدرته على العطاء واستعذابه النهوض بهذا الدور، بعدل مطلق ومحبة تكاد تغرقهم جميعًا.

= بقي القول إنَّ رواية «الاستدارة الأخيرة» هي محطة مهمة ضمن محطات الرواية العربية، ينبغي التوقفُ عندها، ودراستها بتمعن، وتستحق أكثر من دراسة نقدية أكاديمية، كونها تتمتع بالأصالة والتفرد، في جوانب متعددة، يأتي في مقدمتها تأكيد فكرة أنَّ الإبداع الحقيقي ليس عفويًا، وإنما صناعة عظيمة ينهض بها المبدع عندما تكتمل استداراته الإبداعية.

بقلم: حامد أحمد الشريف

المصدر: جريدة الجزيرة

رواية الأسير عصمت منصور عن غوانتانامو الإحتلال

بيني وبين الكاتب المغربي عبد القادر الشاوي صداقة تمتد إلى منتصف السبعينات وهو فتى غضّ، قبل أن يُسلخ من عمره أربعة عشر عاماً وراء القضبان إيماناً بقضية ووطن.

حين أطلق سراحه هو ورفاقه، ظهر إلى العالم الخارجي ليسترجع حريته، وفي الوقت وُلد كاتباً. ففي السجن كتب روايتيه الأوليين: “كان وأخواتها” (1986) و”دليل العنفوان” (1989). الشاوي (القُطب) كما يلقبه أصدقاؤه الخُلّص، ويتسمّون طوعاً مريدين، إنسان رقيق الحاشية، هادئ بطبعه، يضحك من عينيه، قد يتدفق، لكنه لا يزأر أو يثور، إلا لما ثار على نظام. لكن، إن فاه أحدٌ أو لمّح أن ما كُتب خلف القضبان هو (أدب سجن) تراه يغضب، لأنّ ما كتبه ورواه هو أدب كامل لا يجوز حصرُه بقيد.

أردت هذا مدخلاً لتقديم رواية باهرة ومؤثرة لأسير فلسطيني، قضى في سجون الاحتلال الإسرائيلي عشرين عاماً بعدما حكم عليه بالسجن المؤبد، ولطفت به الأقدار فتحرر قبلها. “الخَزنة” عنوان الرواية التي كتبها عصمت منصور (منشورات طباق، رام الله، 2023).

للفائدة، فإن “الخزنة” هو الاسم الذي يُطلق على سجن جلبوع الواقع في وادي هارود، عند سفح جبل جلبوع غربي مدينة بيسان. وهو أحد أكثر سجون الاحتلال تحصيناً ويلقب في إسرائيل بـ”الخزنة الحديدية” لتَحكُّم إجراءات صارمة ضد أي محاولة فرار فسُمِّيَ غوانتامو إسرائيل.

سيسهل عليّ اختصار حكاية هذه الرواية (من 167 صفحة قطع متوسط) موضوعاً وأحداثاً وشخصيات. معرفة هذه الأمور يستحسنه المتعطشون للحكاية، فلنبدأ بهم لننصرف إلى الأهم. يروي عصمت منصور جزءاً مما عاشه طيلة سنوات أسره، فقد تنقل في سجون آخرها الخزنة. هذا هو المكان والفضاء الذي سيحكي لنا عمّا عاش فيه أو بالأحرى اختار أن يقدم.

من البداية إلى النهاية هو معنيٌّ بسيرة رفاقه الأسرى، يعطيهم أسماء لا نعرف صحتها من افتراضها وإن ظهر لنا منها المعروف. معنيٌّ بوصف الفضاء السّجني، وظروف العيش فيه، أقسامه وغرفه وأثاثه وطعامه والمعيش العام للمحتجزين، في مواجهة سجّانيهم بسحناتهم وسلوكهم وجبروتهم.

أنت القارئ المتلهف للحكاية مدعوٌّ للصّبر قليلاً، تتعرف أولاً على هذا التقديم بمثابة الإطار العام يُعطاك تدريجياً قبل أن ينقلك الكاتب الروائي السارد إلى تجربة أسْر محددة، خاصة، هي المرويةُ في كتابه، ومطيّةُ ومطلبُ روايته، فلا رواية إلا بتجربة شخصية أو هي خبرٌ عام. سيسرد لنا التجربة من زاوية وضع أسير محدد هو رفيقه في القسم والغرفة التي تسع ثمانية أفراد.

إنه سامر الذي تربطه به علاقة نضالية متينة، فهو من كلفه وسلّحه ليقوم بعملية انتحارية قبل أن يلتقيا في (الخزنة) حيث يمضيان مع رفاق من تنظيمات فلسطينية مختلفة سنوات الحبس. يرصد السارد اللحظة الفارقة في حياة سامر عندما تنبت في رأسه فكرة الهرب وتتحول تدريجياً إلى مشروع. يبرره بمنطق أنه: “محظور على السجين أن يألف السّجنَ مثل السّجان” (19) لينجوَ من عذاب: “أن يتحول الأسير إلى شبح منسيّ وغيرِ مرئي” (23).

تشويق

من هنا شروع التحول، تنفيذ مشروع الهرب الذي يستغرق القسم الأوّل من الرواية. هنا تبدأ الأحداث والأفعال وتتعدد الشخصيات العاملة بين رصد موقع الحَفر وأدواتِه ومنفذيه وظروفه ومختلف ملابساته، وهو يتم عبر عملية تشويقية تحبس الأنفاس وتستدعي التوقعات لدى القارئ، سواء بين أوقات التنفيذ ومخاطر القصوى تحت رقابة صارمة من السجان والتذكير بالعقوبات في حالة الفشل بناءً على تجاربَ سابقة قام بها الأسرى. عندئذ سنستحضر جميعاً أفلاماً عالجت الموضوع أشهرها عملية الهروب الناجح من السجن الفدرالي الأميركي (ألكاتراس) الأشهر. نتابع يوماً بيوم وبالساعات والدقائق تواصل عملية الحفر داخل سجن الخزنة والمفاوضات بين تنظيمين فلسطينيين لتوحيد خطتهما بعد أن تبين أن كليهما بصدد مشروع واحد، انتهاءً بوقت الخروج من النفق حيث ستفشل ويلقى القبض على سامر ويفلت الرفيق السارد من قدّمه عليه في دور الخروج، سيلقى سامر فصولاً مروّعة من العذاب تَنتهك جسده وكرامته ولا يفنى.

تحمل رواية “الخَزنة” عنواناً فرعياً (الحب والحرية)، ذلك أن سامر عاش في فترة من أسره تجربةَ حبّ ضارية من أثر تعرّفه على زائرة فلسطينية منتدبة للدفاع عن الأسرى، وبعد تكرار جلساتهما ينجذبان لبعضهما البعض وتسكن المحامية (سهام) وجدانه ومخيّلته ويشعر رفاقه في القسم بتبدله وتنتابه مشاعر شتى متناقضة بين عاطفته واستحالة تحقيقها وهو المحكوم بالمؤبد، ليقرر بنفسه في ذروة اشتعال الحبّ بين الطرفين وضع نهاية قطعية وفجائية لهذا (الرومانس) الواقع في طيّ سياق الأسر وأحد عذاباته الأخرى، وبما يبقي للأسير بعض إنسانيته المفقودة. ينضم إلى التجربة العاطفية المتوهجة معاناة أخطر للأسرى حين يُقدمون على الإضراب عن الطعام، نعرف أنها احتجاجات تمّت في السّجون الإسرائيلية جرّاء قسوة المعاملة والحرمان من الضروريات ومنع الزيارات. نطّلع في الرواية على محنتهم ومعاناتهم موصوفة بدقة موجعة. ويعانق السارد الحرية كما ألمعنا تاركاً شخصيته، سامر وراء أسوار الخزنة البطل الأشرس.

هذا محكيُّ الرواية فقط، ويمكن سماع وقراءة مثله وأفدح من أمّهات الأسرى وزوجاتهم، وكذلك في نشرات ومدونات شخصية لمن تحرر منهم. وهي جزء من الصورة الكبيرة والمرعبة لما يتعرض له الفلسطينيون مقاومين وأفراداً عاديين من ضروب التنكيل وتُعدّ من أدبيّات السجون. أما الروائي، فهو إخراج هذه الصورة وإبرازها بوضع ذاتٍ بؤرةٍ فيها وجعلها مركز جاذبية وفعل وشعور، تنطلق منها وتمتد في محيطها وترتدّ إليها. هذا ما صنعه عصمت منصور الذي عرّفنا بنفسه من البداية أسيراً سابقاً يشكر من احتضنوه من أصدقاء بعد التحرير. ثم حافز الكتابة المتمثل في حادث الهروب الشهير من سجن جلبوع (في السادس من سبتمبر/أيلول 2021 تمكّن 6 فلسطينيين من حركة الجهاد الإسلامي وواحد من حركة فتح من الهرب عبر نفق حفروه بداخله)، فأعاده الحادث إلى تجربة أسره لذلك نوّه في العتبة: “جزء كبير من أحداث هذه الرواية وشخصياتها مستوحاة من قصص معاشة”(7). إنها، إذاً، معيشة، أي حقيقية، ومستوحاة، أي خضعت لصناعة، لإعادة تشكيل وتصوير ووضع على ألسنة شخصياتها خطاباً، بالمجمل إنها صياغة وإنجاز تخييل، وهذا ما تطمح إليه الرواية وينبغي أن تحققه.

يمثل الشوق إلى الحرية ووجود الإنسان بأداتها وداخلها والمثابرة لبلوغ المستحيل، منه الخروج من وراء أسوار منيعة، التيمةَ المركز لهذه الرواية، وتشبثَ الإنسان (= الأسير) بهذا الحق هو يقين سامر نقرأها لازمةً تتردد مونولوجاً من البداية إلى النهاية، منها مثلاً: “الإنسان لا يعرف سوى شيء واحد، أن يتوالد من ذاته، وأن يعيد بناء وترميم عالمه من جديد في كل مرة يسقط فيها. لا شيء سوى أنه هو والحياة والاستمرار أصبحوا شيئاً واحداً”(122). من رسوخ هذا اليقين ينسج منصور قصصاً تتوالد من بعضها البعض وهو يعبُر شخصيات السجن كل واحد يسلم خيط حكايته إلى الثاني، وقد تنقَّل بين السجون فنرى كيف حوّل المحتلُ البلاد إلى سجن كبير، ومعه نتبين إرادة الصمود وقوة التحدي الفلسطيني في مخاطرات الهروب لانتزاع الحرية. ولو قلنا إنه من البدَهي أن تمثل قيمة الحرية موضوع كل سجين ومطلبه وسرداً يُكتب عنه، أرد، نعم، إن بقي هنا حصراً، وعولج بتقريرية ومسلّمة، وفي “الخزنة” شيء مختلف.

إنه الحب يعزز التيمة المركزية ويفردها. إنه يفتح أسوار سجن جلبوع بدخول سهام من الخارج بين ذهاب وإياب. ويحرر روح سامر تخترق القضبان وترحل به، يخاطب رفيق الزنزانة: “لا أعرف يا صديقي إن كانت جميلة أم لا! لم أكن أرى امرأة، بل روحاً هائمة في فضاء الغرفة أصابتني في أعماقي” (113).

لم يعد أسير السجان الإسرائيلي يجرفه: “هذا الحبّ الذي يسيل مثل ينبوع صاف من حدقات عيوننا ويروي ظمأ روحينا” (123). ونبلغ ذروة الكتارسيس والحرية بأجنحته وسامر يبوح لنفسه لها مباشرة في إحدى زياراتها: “أنا أحبك قبل أن أراك.. خُلقت كي أحبَّك.. وانتظرتُك بصبر نبيّ.. وأيقنتُ أنك ستأتين أيضاً كيقين الأنبياء” (127). من نافل القول بعد هذا أن عصمت منصور سرد قصته مع قصص رفاقه وهي فردية ومتعددة في إطار بطولة جماعية وطنية في مواجهة محتل وعدو واحد، يمكن الانتصار عليه بإرادة التشبث بالحرية وفي ثناياها القدرة على التنفس والحلم بالعاطفة الأبدية أكبر من جبروت الاحتلال.

سرد عصمت منصور روايته ورسم فضاءها وأنطق مشاعر شخصياتها بمهارة العارف بصنعتها، وإن تخللتها فقرات خطاب مباشرة انسجمت مع محكيّها. طيلة السرد امتزج بشخصيته وتباعد، مستثمراً (ثقافته السّجنية) لو صحّ التعبير، ومستغنياً عن سيرته دمَجَها في سيرة رفيقه. لذلك، ولعناصر أخرى، فإن هذه الرواية بعوالمها ووقائعها وتجربتها كلها هي داخل السجن، لكنها أكبر من حبْسها في نطاق (أدب السجون) وهو خلافاً للمعتقد ليس كتابة ناقصة، هي تيمة بحكم وضع خصوصي وعندنا منه مئات النصوص عن زمن الاستعمار وحكم الدكتاتوريات. أليس لنا أن نتساءل بعد هذا: ماذا يمكن للسجين سياسياً أو غيره أن يكتب غير ما عاشه؟ منصور سُجن عشرين عاماً والشاوي أربعة عشر والفرنسي جان جيني أيضاً، ثلاثتهم روى ما عاش بالطريقة التي ناسبت استعداده، وهو هنا أدبي، ولم يملك حياةً أخرى ليرويَها، لذلك تبقى الطريقةُ، الشكلُ، الأسلوبُ أداة حاسمة في التصنيف، وكذلك الاستمرار في الكتابة. في المغرب نمتلك خزانة كاملة من المحكيات عمّا يسمى “سنوات الرصاص” وكذلك في شيلي والأرجنتين، وهذه أدب سجون. ومنصور عصمت وهبنا رواية واقعية ومتخيلة تفوق ما يكتب “الأحرار”.

المصدر: جريدة النهار العربي

«قتلى في بلاد العجائب» تفكيك عالم المتناقضات في النفس البشرية.

«قتلى في بلاد العجائب» يُحلِّق مرجان أوديك بالقارئ في رحلةطويلة يتردّد صداها في ثنايا الرواية فتثير بين أفراد الشرطة، الباحثين عن المشتبه فيهم، علامات استفهام كثيرة حول حوادث قتلغامضة.

ربما تكون الرواية هي النوع الأدبي الوحيد القادر على طرح أسئلةعن ماهية الحياة الإنسانية بحُلوها ومُرّها، وهي بذلك تمتاز عنغيرها من الفنون الأدبية الأخرى بأنها تتيح للروائي، بالإضافة إلىإمكانية الغوص في أعماق النفس البشرية والدخول إلى عوالمالإنسان بخيرها وشرها، الكشف عن حالة الشخصية المحوريةالمحمّلة بعُقَد نفسية ناتجة عن ضغوطات اقتصادية تعانيها داخلالمجتمع، وعلاقة ذلك بدلالة الفضاء المكاني، مسرح الجريمة، فيمحاولة منه لتأطير صورة المشهد المخيف والإفصاح عن الحالةالمضطربة للجاني الذي يسعى الى تقويض أسس وقواعد الأمنالمجتمعي من حيث كونها وحدة سيميائية تتحرّك داخل النظامالروائي السردي وتقود، في نهاية المطاف، الى الكشف عن وقوعالجاني تحت طائلة المسؤولية الجنائية أو إمكانية انتفاء المسؤوليةعنه.

يستثمر مرجان أوديك موهبته الأدبية وإحساسه بمختلف المشاعرالإنسانية في الكتابة عن أدب الجريمة؛ وذلك لما يحمله هذا الأخيرمن إثارة وتشويق وغموض وتعقيد في التفاصيل وتفاصيلالتفاصيل وفقاً لخيال كاتبنا عند تناوله للأحداث، وما يترتب علىذلك من استعراض لمسرح الجريمة وأساليب المجرم في إخفاء الأدلة، ومحاولات الشرطة المضنية في إماطة اللثام عن دوافع الجريمةوملابساتها عبر تقنيات علمية وراثية في علم الإجرام. فمسرحالجريمة الذي يشكل البنية الأساسية لنصنا السردي جاء ليعكسجغرافيا مكانية مخيفة أثَّرت تأثيرا مباشرا في إنتاج حزمة منالدلالات السلبية: الخوف، القلق، الفزع، المعاناة. هكذا يتشكل البعدالدلالي لمسرح الجريمة عبر السياق الزمني من حياة الجاني. كمايكشف مسرح الجريمة في هذا العمل الروائي عن خصوصية المكانالذي يحمل بين ثناياه آلام الفقد والخوف من القتل.

إن طبيعة العلاقة بين المكان والحالة النفسية لبطل الرواية، فرضتنفسها على القارئ وجعلته يغوص مع الكاتب في أعماق النفسالتي يمكن أن تدفع الإنسان الى ارتكاب أفعال اجرامية على مسرحلا فوضى فيه ولا صخب ويُخيّم عليه صمت كصمت القبورفأكسبته بعدا رمزيا جردت الضحايا من حولها وقوتها وجعلتهمينساقون الى حتفهم بأرجلهم. استطاع مرجان أوديك أن يطرحرؤيته عن نفس الإنسان غير السوي؛ إذ يشير عنوان الرواية إلىدلالة المكان المحورية «بلاد العجائب»، والدور الذي يؤديه المكان فيالسرد، إلى جانب شخصية الفتاة «أليس» التي استمر حضورهاعلى الرغم من اختفائها.

بطل هذه الرواية زوج فقد زوجته ومتّهمٌ بقتلها، ورجال الشرطةيبحثون عن قاتل هذه السيدة، وعن قاتل أوقتلة سيدات أخريات تمّ قتلهنّ في ظروف غامضة. يغوص الروائي الفرنسي مورجان أوديكفي أعماق النفس البشرية بدافع المغامرة لسبر أغوار أسرار هذهالجرائم، وأساليب المجرمين، وما يصاحب ذلك من عناصر تتعلقبالتشويق والإثارة؛ إذ تختلط مشاعر الخوف بالغضب، وذلك لجذبالقارئ وجعله متابعاً للقصة من بدايتها حتى نهايتها. ستختفيالسيدة ألِيس زوجة أندرسن المحامي المقيَّد في نقابة المحامينبباريس منذ ثلاث سنوات. كل الناس من حوله يطرحون نفسالسؤال: هل قتل أندرسن زوجته؟ يفقد أندرسن الذاكرة نتيجةلتعرضه لحادث قوي بعد أيام قليلة من اختفاء أليس. لمدة ثلاثسنوات وهو يحاول جاهدا استعادة ذاكرته. يتم رصد مبلغ كبيرمكافأة لمن يدلي بمعلومات عن الزوجة المختفية. يتسلَّم أندرسنرسائل نصية غامضة علي شكل أسئلة مشفرة تفيد بأن زوجته لاتزال على قيد الحياة. يستأجر الزوج المهموم مخبرا خاصا من أجلالبحث عن زوجته الشقراء التي أصبح اختفاؤها لغزا محيرا. موتعدد من الضحايا الأخريات اللاتي تم قتلهن أصبح أيضا لغزامحيرا. باءت محاولات الزوج في العثور على زوجته كما باءتمحاولات رجال الشرطة بالفشل وأصبحت محاولاتهم كمن يبحث عنقطة سوداء في غرفة حالكة الظلام. ما الذي حدث للزوجة؟ ألا تزالحية؟ أم أنها ماتت؟ وما علاقة اختفائها بوقائع مقتل نساء أخريات؟

استغل الكاتب أيضاً اختفاء هذه الشخصية عن الأنظار ليُعبّر، منخلالها، عن رؤيته حول ملابسات اختفاء فتيات أخريات ضمن مناخقاتم تحاول فكّ طلاسمه ضابطة شرطة سابقة، وتتداخل محاولاتهاالبائسة مع محاولات فاشلة لفريق من شرطة مكافحة الجريمة. ولأنرواية «قتلى في بلاد العجائب» تنتمي إلى عالم القصص الجنائيالواقعي شديد التعقيد، فقد استثمر الكاتب مجال أدب الخيالالإجرامي است ثماراً ذكياً من أجل أن تكون عقدة قصته لغزاً غامضاً تستدعي القارئ النموذجي القادر على فك شفراته.

من جانبه، يحاول كاتب رواية «قتلى في بلاد العجائب» تفكيك عالمالمتناقضات في النفس البشرية، وقد تمكن من أن يجول بالقارئ بينجريمة وأخرى؛ وهذا ما أضفى على الرواية نكهة خاصة جعلتمسرح الجريمة يمثل شكلاً من أشكال القبح، الذي يثير في القارئمشاعر الشفقة على الضحية، والنقمة على الجاني.

د.أيمن منير

المصدر: جريدة الجزيرة

العائق هو ما يجعل الرغبة أكثر وضوحًا وظهورًا .. من مذكرات إرنستو ساباتو

يوم الأحد، قبل المغادرة.

 

كانت الأمتعة جاهزة في وقت مبكر من الصباح. أشرب القهوة وألقي نظرة على الصحف. وقرابة الساعة التاسعة صباحاً، ستحلّق الطائرة التي ستعيدنا إلى بوينس آيرس.

وبعد ذلك، كما هو الحال في أوقات أخرى، حينما أشاهد الأخبار، أو أقرأ الصحف، أو أستمع إلى الناس؛ غالباً لا أفكر كثيراً فيما يُقال، ولكن فيمن يظل صامتاً؛ فهو من يقول أشياء كثيرة. أفكر في الكلمات التي لم تعد تردد على المسامع؛ مثل: التنفس، والخير، والتلقائية، واللامتناهي، والروح؛ تلك الكلمات التي استخدمناها في شبابنا على الأقل عند إهانتهم وانتقادهم، ولكن -رغم كل ذلك- كنَّا نقدرهم، وعرفنا وشعرنا بثقلهم وخطورتهم.

بعد ذلك، وخلال سنوات، يتم استعادة أحدهم، ولكن يعتريني حينها -في كثير من الأحيان- حزن لا يوصف، حزن يشوبه رعب؛ بأنهم لن يعودوا موجودين بين أيديهم لكي تتمكن الأجيال الجديدة من معرفتهم، ومعرفة وجودها.

 أرى أنهم اختفوا من الثقافة، بكل بساطة ليسوا موجودين.

هناك مثل هذا الاستبداد «للواقع» التاريخي، والسياسي، والاقتصادي؛ حيث لا يتم حتى توقع حدوده.

ومع ذلك يفتقر الإنسان اليوم، ربما كما لم يحدث من قبل في مجال الشعر الأسطوري الذي يحمي الوجود. أنا لا أشير إلى «الأفكار» بل أقصد أن أشير إلى وعاء يمتلئ بالحياة، ومؤامرة إلى أين تذهب بذرة الوجود، وعن كيفية إظهار ذلك. لا أعرف كيف أشرحها.

طالما أُلقيت اللوم على احتياجاتي إلى المطلقة التي تظهر من ناحية أخرى في شخصيتي. هذه الحاجة المُلحة تنفذ عبر حياتي كقناة أو نفق؛ مثل الحنين إلى الماضي، الذي لم أكن لأصل إليه أبداً. ربما تكون بعض الأشياء المُلحة، والعلامات غير المفهومة؛ مثل الضباب الخفيف في الأفق اللامتناهي، صامتة لمطالب الرجال.

حتى لآلام الرجال، حتى لآلام الأطفال.

لمحات تتساقط في المساء، لحظات من النشوة في نهاية عمل تتجاوزني، أو في مواجهة الهاوية. حنين لا يمكن تحمله من المفاهيم، ولكن بلا شك يقول ذلك، وقد أظهر له كل تجعد في جسدي، وكل تلجلج في نبرة في صوتي.

الحنين إلى الماضي هو شوق، ذكرى المشاعر اللامتناهية الموجودة في العالم. لا يمكنني شرح ذلك؛ لكن الذاكرة المتسقة بدت كأنها طريقة للوجود. نظراً إلى أننا لم نختبرها أبداً، فإننا نميلُ إلى وضعها في مرحلة الطفولة، ربما لإعطائها قسطاً من الراحة.

لم أستطع أبداً تهدئة حنيني إلى الماضي أو تسكينه، أو ترويضه، وأقول لنفسي إن هذا الاتساق كان وقتاً في طفولتي؛ كنت أتمنى لو كان ذلك، ولكن لم يحدث. كنت فتى شديد الحساسية، كما قلت بالفعل، وعرضة للمخاوف والشكوك وعدم اليقين. لذا إن الشعور بالحنين إلى الماضي بالنسبة إليّ هو شوقٌ لم يتحقق أبداً، ولاسيما هو ذلك المكان الذي لم أتمكن من الوصول إليه أبداً.

ولكن هذا ما أردنا أن نكونه؛ هذه هي أمنيتنا. إلى درجة أنكَ لا تستطيع أن تعيشها، إلى درجة أنك تصدق أنها خارج الطبيعة. إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن أي إنسان يحمل في نفسه هذا الأمل في الوجود، هذا الشعور بأن شيئاً ما مفقود.

 إن الحنين إلى الماضي هذا الشيء المُطلق يشبه خلفية غير مرئية، وغير معروفة، لكننا نقيس بها كل الحياة، وإلا فإننا نسميها «محدودة لوقت وزمان معلوم»، كما لا نسميها «محدودة» لامتلاك ذراعين فقط. هناك شيء داخلنا يرفض تقبل الموت. ربما، كل ما نفعله ضد هذه الأدلة، وقولنا «لا» هو «نعم» لذلك الشيء الآخر، ولذلك الانتماء إلى حياة بلا موت، من دون عنف كثير، ومن دون حروب… تلك الحياة التي هي صورة لطريقة حياة مغايرة للعيش، ولحياة أخرى، حتى لو كنَّا نعيشها فقط على الهامش أو في وضع سلبي. أفتقدها، وأشتاق إليها… وكذا أفكر في كافكا الذي قمت برسم عدة لوحات له! يبدو أن كل أعماله قد تخطتها تلك الأمنية فيما يعرف بالمطلق، وهي رغبة مدفونة تحت الوساطات التي يضعها النظام لتغطية أعماق الإنسان، والتي لن تجعل أحداً يؤمن بـــــــ«المطلقات» الدوجماطيقية  اليقينية. لكن لا شيء -في عمله- يمكن أن يمنع شخصياته من الاستمرار في التمني، وفي الاستمرار والتمسك بالأمل… ولا حتى الفشل.

ربما كافكا، مثله مثل أي شخصٍ آخر، قد وضع موضوع القرن العشرين بأنه: العقبة. وعلى الرغم من ذلك؛ مثل حجر في نهر، إن هذا العائق هو ما يجعل الرغبة أكثر وضوحاً وظهوراً. كالحجر في مجرى النهر.

 

 

 

مرّ من هنا ، قصة بعنوان : خدوش على ظهري ، غازي

قطّب الطبيب حاجبيه في ذهول، بدأ يتلمس أماكن الخدوش بحذر كي لا يؤلمني، لكنه آلمني جدًا، صرخت بقوة أوقعت القلم الموضوع على حافة الطاولة، قال: “لا بأس، سأكتب لك ورقة للمضمد، أريدك قويًا لتتعافى بسرعة”، نهضت دون أن أجيبه، ألبسني أخي ردائي الداكن لنخرج.

دخلنا غرفة التضميد التي حفظتها، سلّم المضمد عليّ كما يفعل غيره، تكفّل أخي بالإجابة هذه المرة: “أنا في عجلة، هل يمكنك إنجاز الأمر بسرعة من أجلي؟”، يفعل ذلك في كل موقف يكلمني فيه الناس، بعد ذلك عدنا إلى البيت ودخل معي، فلم يكن هناك مشوار ولا عمل ليُنجز، لكنه يعلم أني لا أحب الرد على الغرباء.

ظل ممسكًا يدي بقوة كما يفعل عادة، لا يحب الأمر كثيرًا، لكن أمي دائمًا تطلب منه ومن أخواتي ذلك، فحرارة جسمي إن غضبت لا تنخفض إن بقيت في نفس المكان، أحب أن أخرج دون إذن أو إخطار، لا أنوي العودة إليهم، لكنهم يجدونني في كل مرة.

دخلنا للبيت؛ فاستقبلتني أمي بذراعين مفتوحتين، تجاهلتها وذهبت لألعب سباق السيارات في المضمار الدائري البلاستيكي، لا أملّ هذه اللعبة أبدًا، بل لا أتركها إلا حين أحن للعبة الدوّامة المربوطة بحبل صغير، أو حين أجد كرسيًا قريبًا من الخزانة؛ فأصعدها وأقفز إلى الأرض، ثم أعيد الكرّة مرات ومرات، تألمت من بعض قفزاتي، لكن سعادتي فيه تشجعني لتكراره.

لم تكن تلك المرة الأولى التي يضربني بها أبي، في كل مرة يغضب مني؛ يكرر ضرباته القاسية حتى تصل لهذا الحد، وفي مناسبتين سابقتين زاد قوة ضرباته، فاستدعى الطبيب المحقق المناوب في المستشفى، وفي كلا المرتين يخرج بلا خطيئة، أوقّع ورقة يسمونها تنازلًا، أبي يأمرني بالتوقيع، أمي وأخي يصمتان، أما الضابط فيستمر بالإلحاح بصوت منخفض لئلا أفعل، لا أعلم ما الأمر، أكتب اسمي نهاية الورقة، فلا أرى ابتسامة إلا من أبي، ثم نخرج من تلك الغرفة، ونعود للبيت لتبكي أمي، ويغضب أخي.

أنا أتحمل جزءًا من اللوم، فحين يسألني الضابط لا أجيب، يظنني في البداية خائفًا من غضب أبي، يحاول طمأنتي بأن الأذى لن يمسني لو تكلمت، بل كان يقسم أن يحميني من أي سوء قد يطالني، كل هذا في سبيل وضع حدّ لما يسمّونه: (تعنيف الأبناء)، لكني لا أتكلم؛ لأني ببساطة لا أريد.

أنا أكره أبي، لا أدري لماذا لا يريد أن يفهمني، رأيته مرة جالسًا في الصالة؛ اقتربت منه وارتميت في أحضانه، أمسكت بيده الكبيرة، وضعتها على رقبتي من الخلف كي يتلمسها وينزل بلمساته إلى ظهري، يفعل ذلك إن كان مزاجه بخير، ونادرًا ما يكون كذلك، لكن في تلك المرة أمسك شعري بكلتا يديه وهزّني، بصق عليّ وصفعني، ثم قذفني بعيدًا عنه، لم أبكِ… فضرباته لم تؤلمني، أحسستها لمسات ثقيلة قليلًا، لكنها غير مؤلمة، نزل ماء من عينيه، أخفاه بسرعة ومسحه، صرخ في وجهي لأذهب إلى غرفتي، هذه المياه تخرج من عيني أحيانًا، لكني لا أصرخ في وجه أحد، أمي كذلك لا تصرخ، فقط أبي يفعل.

دخل عليّ الغرفة بعد دقائق، جلبه صوت التكسير والضرب إليّ، هكذا أفعل منذ كنت طفلًا، إما أن أحظى بما أريده، أو أكسّر كل شيء حولي، الأشياء في غرفتي لا تنكسر، بعكس تلك الموجودة في الصالة التي يُدخلون إليها الغرباء.

أضرب رأسي بالحائط وبالأرض، لا أتألم أبدًا، بل أراهم هم الذين يبكون من ضربي لنفسي، فأزيد الضرب كي ينتبهوا لي، يمسكوني بقوة ويتلمسون يدي وظهري وكل جسمي، أشعر بالراحة قليلًا، أصرخ بشدة إن لم يفعلوا ذلك.

حاول إمساكي ومنعي من الضرب، دفعته دون أن أنظر إليه وأسقطته أرضًا، يريد أن ينتقم لنفسه مني، لكنه لا يستطيع، أنا أضخم منه جسمًا، عمره كبير، وجهه مجعد ومرتخ، أما أنا فأستطيع حمل الكرسي بيد واحدة، وأدفع بعض الأغراض بسهولة.

تدخلت أمي أخيرًا، وساعدها أخي، صرختْ في وجهه: “ابنك توحدّي، افهم”.

 

الجمال والقبح .. الجمال هو الحقيقة

الجماليات المجسمة

في مقالةٍ نُشرت في الدورية الأدبية السياسية المراجعة الفصلية (Quarterly Review) لـ شهر نيسان/أبريل 1900، تتناول السؤال في مقالة تولستوي (Tolstoi) «ما هو الفن؟»، اغتنمتُ الفرصة لألمح إلى علم جديد في الجماليات أراه قادراً بالفعل على حسم بعضٍ من الحجج التي ساقها الروسيُّ الكبير، ويمكن أن يُظهر مصالحةً بين الفن والحياة تختلف عن استنتاجاته المتقشفة. يهدف موضوعُ الصفحات التالية إلى توصيف بعض هذه الميزات الجمالية الجديدة لتحديد المشاكل المختلفة في سعيٍ تدريجي لحلها، وللإشارة إلى المسارات الدراسية التي قد تفضي في نهاية المطاف إلى حلها.

لقد قلتُ إن هذه الجماليات جديدة، وعليّ أن أضيف أنها لا تزال أوّليّة ومليئة بفرضياتٍ غير مبرهَنة بعْد، وبثلّة حقائق تحتاج إلى أن تُربط بِصلةٍ جليّة مفهومة. لا يمكن للأمر أن يكون خلاف ذلك. وفي حين أن جماليات الماضي كانت، في الأساس، فرعاً من الفلسفة الاستدلالية الصرفة، التي تعتني بالأحرى بتماسك المنطق أكثر من اعتنائها بالتحقق من وجود الشيء، وهي لهذا تُعدّ فلسفة نظامٍ منهجي وعقائدي؛ إن جماليات اليوم، على نقيض ذلك، ليست كما يشرح كاتبٌ مفرد أنها ما ينتج عن اتفاقٍ عرَضي بين مختلف الطلاب، وأنها التقارب -الحتمي أكثر منه الفعليّ- بين أنواعٍ عدة من الدراسات. وسبب هذا الأمر أن المشكلات المتعلقة بالجمال والقبح، والمتعلقة بتلك الأنشطة الفنية، التي تزيد من مشكلات جمالياتِ أحدهما وتقلل من مشكلات الآخر -هاتين المشكلتين في الجماليات- تتم مقاربتها من جهتين، ومن مجموعتين من الباحثين الذين غالباً ما تجهل مجموعتهما وجودَ المجموعة الأخرى، وغالباً أيضاً ما يجهلون المسائل ذاتها التي يضيّقونها، في ما بينهم هم وشركائهم المجهولين لهم، لتصبح وجوداً قطعياً محدداً.

هذه الدراسات غير المترابطة، التي تتجمع بشكلٍ لا واعٍ في العلم الجديد للجماليات، هي نفسها حديثة وغير ناضجة. إنها دراساتٌ تشمل، على التوالي، علمَ العقل، الذي لم يَفصل نفسَه عن الفلسفة العامة إلا مؤخراً فقط، وأيضاً مختلفَ العلوم التي تتناول مقارنةَ الشكل الفني وأصلَه وتطورَه، وهي لا تزال تعتمد على دراسات الأعراق البشرية الإثنوغرافيا ودراسة المجتمعات والثقافات البشرية الأنثروبولوجيا من ناحية، وعلى علم الآثار وما يسمى خبرة التذوق من الناحية الأخرى. ومن ثم من المهم معرفة أن الموادَ اللازمة لعلم الجماليات،

 

التي خلّفها الماضي لنا، موجودةٌ كحقائق متفرقة، وملاحظات جزئية وفرضيات غير مكتملة، مبعثرة في أعمال الفلاسفة مثل “أفلاطون” و”أرسطو” و”كانط” و”شيلر” و”شوبنهاور” و”سبنسر” من جهة، ومن جهة أخرى، في أعمال متخصصين في بعض فروعٍ فنية محددة مثل “وينكلمان” و”موريللي”، أو في أعمالِ مرافِعين عن قضيةِ فنان معين مثل “راسكين” في «الرسامون الحديثون» (Modern Painters)، و”نيتشه” في «قضية فاغنر» (Wagner Case). وإلى جانب هذا، تتبقى كمية كبيرة من الحقيقة والنظرية القابلة في المحصلة للتطبيق على جمالياتٍ في كتبٍ حول الأطفال والبدائيين والمختلّين، وكل الأدب بأكمله الذي يمثله، بما يثير الإعجاب، الأساتذةُ “إرنست جروس”، و”يرجو هيرن”، و”هنري بلفور” أما فيما يتعلق بالأساليبِ التي سيتم توظيفها، والمقارباتِ التناظرية التي ستُتّبع، بل الأسبابِ الكامنة وراء هذه الظاهرة قيد النظر، فسيتم تعلّمها بشكل أساسي من علماء الأحياء، وعلماء النفس، وطلاب التطور العقلي والجسماني، الذين يسيئون، في أغلب الوقت، فَهمَ وجود الجماليات ذاته، أو يزدرونه.

الهدف من ورقة البحث الحالي هو إظهار بعض النقاط التي تنحو لتلتقي عندها كل هذه الدراسات المنفصلة، على أملِ أن تسهم محاولةُ رسمِ المجال الملتبس للجماليات في تعريف حدوده ومساراته، ومن ثم في تطويره المنهجي الشامل.

……..

تتضمن المشكلة الأولى لعلم الجمال تعريفاً للصفة التي تأخذ منها هذه الدراسة اسمَها؛ وتعريفاً للدراسة نفسها. لا نحتاج إلى أن نشقّ على أنفسنا، أكثر مما نفعل مع مسائل تاريخية أخرى، بمغامراتِ كلمة «الجَماليّ aesthetic»، وتحوّلِها من صفةٍ فلسفية مرتبطة بالإدراك إلى صفةٍ حالية ترتبط بالفن (art) وبالجميل (beautiful). ولكن من المهم أن يقرر المرء في ما إذا كان ينبغي أن يعدَّ الكلمةَ، تبعاً للاستخدام الخاطئ لها حالياً، صفةً تشير إلى الفن  (art)أو صفةً تشير إلى الجمال (beauty)؛ فاستخدامُ المعنَيين لهما تناوباً قد ساهم، لدى معظم الكتّاب، بدرجة لا يستهان بها، في تشويش هذه الأسئلة المعقدة أصلاً. لَئِن كانت صفة «الجَماليّ aesthetic» تُطلَق على «ما له علاقة بالفن»، وتعني كذلك «ما له علاقة بالجمال beauty»، فيجب، إذاً، تحديد المفهومَين وسلسلة لاحقة بهما من المناقضات الذاتية. لا يمكن لأحدٍ، على سبيل المثال، إنكار أن المسرحية والرواية والشعر هي، بشكل عام، من طبيعة الفن، لكنّ أحداً لا يمكنه إنكار أنه يوجد فيها كلها، إضافة إلى ما يستميل رغبتنا إلى الجمال، ما يستميل أيضاً مطالبَ مختلفة تماماً في النفس البشرية، مثل مطلب النشاط المنطقي، ومطلب إشباع الرغبة الأخلاقية، وكل ما هنالك من تحفيزٍ عاطفي، من الأجلف إلى الأرفع؛ ناهيك عن مطلب التعبير عن الذات، والبناء، والصنعة الماهرة. كل هذه المطالب، المتضمَّنة في كل شكلٍ من أشكال الفن، هي بطبيعة الحال مَطالب للسعادة والمتعة، لكنّ بعضَها لا يتناغم مع إنتاج الجمال وتصوره، بل مع القبح.

 الآن، إنْ كانت صفة «جَماليّaesthetic » مرادفة لـ «فنيّ artistic»، وتستحضرُ أيضاً دلالة ما هو «جميل beautiful»، فسوف يتم الخلط والتشويش بين متعة الفن وبين المتعة المستمدة من الجَمال (beauty). سيصل الأمر بنا إلى المغالطة التي تقول إن الجمال يعتمد على الوضوح المنطقي، أو المهارة الآلية، أو اللياقة العملية، أو الأهلية الأخلاقية، أو الدقة العلمية، أو الاهتمام المسرحي؛ أي فعلياً الجمال الذي له كل الصفات ما عدا صفة عدم القبح. وبهذا إن صيغة كيتس (John Keats) -«الجمال هو الحقيقة، والحقيقة هي الجمال»- إما أنها تحدّ من معنى الحقيقة وإما تُوسّع معنى الجمال ليشمل الكثير من العناصر غير الجميلة إطلاقاً. إن استعمال عالِم الجماليات لكلمة «جميل beautiful»، لأيّما ميزة في العمل الفني تشعره بالإشباع والرضى، هو السبب الرئيس إلى الآن في أن مشكلةَ الجمال والقبح قد سُلبتْ احتيالاً من أي دراسةٍ تُناسب أهميتها وصعوبتها. لذلك من الضروري العاجل، كخطوة أولى في كل مجال الجماليات (aesthetics)، أن تكون هناك تعبيرات منفصلة للتعبير عما «يتعلق بالفن art»، و«عمّا يتعلق بالجميلbeautiful »؛ ونظراً إلى أننا نمتلك مسبقاً صفةً مفهومة على التمام وهي صفة «فنيّ artistic»، إذاً هناك ما يكفي من الأسباب التي تحدونا لنُفرد للصفة الأخرى «جَماليّ aesthetic» تسميةَ ظاهرةِ الجمال وأيضاً القبح؛ إذْ إنّ له علاقة ارتباطٍ وثيق اللزوم بهذه الظاهرة، بدلاً من تعقيد بحوثٍ هي مسبقاً كثيرة التعقيد بسبب التغيير الحاصل في المعاني أو إدخال كلمات غريبة غير مألوفة.

ربما تبدو المناقشة الآنفة مجرد نزاعٍ حول المصطلحات، بَيد أننا سنجد أن الحال ليس كذلك، وأن تعريف كلمة «جَماليّaesthetic » يقدم دليلاً على جملةِ سؤال «ما هو الفن، وما علاقة الجميل (beautiful) بالفن؟» سنجد أن مطلب الجمال (beauty) هو الذي يؤهل جميع المطالب الأخرى، التي قد تسعى إلى الإشباع من خلال الفن، ومن ثم إنه يوحّد، بوصفه عاملاً مشتركاً في الاختلاف، بين كل الغرائز والأنشطة غير المتجانسة التي تذهب لتؤلف الفروعَ المختلفة للفن.

في الوقت الحاضر استُبدل هذا الرأي من الجميع بنسخةٍ من النظرية التي تطرّق إليها أولاً “شيلر”(Friedrich Schiller) في عمله “رسائل حول الجماليات”، ثم أعاد إحياءها السيد “هربرت سبنسر” (Herbert Spencer)، والتي تنص على أن الفن يتمايز عن التوظيفات الأخرى للنشاط البشري لكونه نوعاً من اللعب. تنسحبُ نظريةُ “اللعب” هذه على جميع فروع الفن المختلفة، لكنها تركز بشكل خاص على الفروع الأدبية وتتجاهل، كقاعدة عامة، تلك الفروع التي يكون فيها الجمال متحداً مع المنفعة، وتربط ُبين الفروع بخاصيةٍ مشتركة هي التأمل المنزّه عن الحرص، أما حقيقةُ هذا الزعم، سواء كانت صحيحة أم خاطئة، فهي أن هذه الفروع لا تخدم أي هدفٍ عملي بل تشكل نوعاً من العطلة في الحياة. وأضاف السيد سبنسر إلى نظرية “شيلر” عن الفن، بوصفه نوعاً من اللعب ويستمد قيمته من تحرره من أي حرص، فكرةَ أن الفن، مثله في هذا مثل جميع أشكال اللعب الأخرى، هو نتيجة لتخزين الطاقة التي لم تجد تنفيساً لها بطرقٍ أخرى، لكنّ الفرضية المحدِّدة «لغريزة اللعب» هذه، والتي يكون الفنّ فيها مجرد واحدٍ من تجسيداتها، تغاضت عن حقيقةِ أن جميع الأعمال الكفؤة تقريباً، وبالتأكيد كل الأعمال الإبداعية، مهما توجهت إلى غاياتٍ عملية، لا بدّ أن تعتمد على فائضٍ من الطاقة، وأنها -تقريباً في كلٍّ منها- تحضر المتعة المختصة بالصرف المحسوب لمثل هذه الوفرة في الطاقة.

ولأن البروفيسور جروس ليس فقط أحد أبرز علماء الجماليات(aesthetics)  الأحياء، بل هو أكبر سلطة مرجعية لما يخص اللعب  (Play)وفق هذه الطريقة، فإنه قد أضرّ كثيراً بنظريته الخاصة في الفن، أقصدُ عندما اضطر، في كتبه المتميزة حول لعب الإنسان ولعب الحيوان، إلى الاعتراف بأنه لَمِن الخطأ التحدث عن أية «غريزة لعبٍ» بهذه الطريقة، وأن اللعب ليس نشاطاً محدداً، بل هو مجرد نمطٍ من الأنماط قد يُقضى فيه كثيرٌ من الأنشطةِ البشرية أو معظمها؛ ولذلك رفض البروفسور جروس صيغة “الفن بوصفه لعباً” في نظرية السيد سبنسر. بَيد أنه بعد أن ألغى الفكرة السبنسرية عن “فائض الطاقة”، قام ببساطة بالعودة إلى نظرية “شيلر” القائلة إنّ الإمتاعَ المستقى من الفن يرجع إلى خاصيةٍ تميز جميع أنواع اللعب الأخرى، وهذه الخاصية هي الإحساس بالحرية أو العطلة.

لكنّ هذا بالتأكيد قلبٌ للترتيب الصحيح للحقائق، فنحن لا نستمتع باللعب لأن اللعبَ يجعلنا نشعر بالحرية، بل على العكس، نحن نحصل على متعةٍ أكبر وأكثر صفاء أثناء اللعب؛ لأننا أحرارٌ في التوقف وإجراء تغيير؛ أي فعلياً نحن أحرارٌ في فِعل ما لا نستطيع فعله أثناء العمل. لقد أجرى البروفيسور “جروس” نفسه، في صيغة لا تُنسى سنعرض لها تواً، ربطاً بين الإمتاعِ الخاص الذي يُسعى له عبر الفن وبين نشاطٍ مختلف تماماً عن اللعب وفق ما تَقدّم. وآمل أن أبيّن أن التعارضَ، الذي أقامه “شيلر” بين السكينة والراحة في الفن من جهة، وقسوة الحياة من جهة أخرى، هو بعيد كل البعد عن أن يكون من الأساسيات. آمل، بما أعانتني عليه بعضُ فرضيات الأستاذ “جروس”، أن أطرح أن الحالةَ الجمالية هي نقيض ذلك؛ إذْ إنها حصيلة كل أفعال الانتباه الصحية المستمرة والمتكررة؛ وأن الفن ببساطةٍ، وبعيداً عن إقصائنا عن الإحساس الحقيقي بالعيش، ينتقي ويكثف ويضاعف حالات الصفاء التي مُنحنا منها عينةً نادرة جداً، وقليلة جداً، ومختلَطة للغاية، في سياق حياتنا العملية العادية.

وهنا يحضُرنا مرة ثانية التمايز بين لفظتَي فنيّ(artistic)  وجماليّ (aesthetic)، وضرورةَ تخصيص المصطلح الثاني لوصف انطباعاتنا حول الجمال والقبح؛ إذْ بعد أن وجدنا أن التوظيفَ الفني لبعض الملَكات لا يمكن له أن يتمايز إنْ سميناه لعباً، سنجد أن أرقى الأعمال الفنية قد أُنتجت عندما وُظفت الأنشطة التعبيرية والمفيدة والمنطقية وغيرها من الأنشطة في أقصى توظيف عمليّ لها، ومع إقصاءٍ حتى لكل ديكور الزخرفة، ما قد يفسَّر كزوائد طُفيلية من اللعب على العمل. لا يوجد لعبٌ عندما يحسّن الخزّافُ أو المهندسُ المعماري شكلَ إناء أو مبنى إلى أن يصل إلى ما نسميه جميلاً (beautiful)؛ ولا عندما يرتب كاتبٌ جُملَه، أو قاطعُ حجارةٍ نقشَه، بطريقةٍ لا نتعلمها فحسب بل نشعر بالسرور في سيرِ التعلم. وإنْ كان التحررُ من الاعتبارات العملية داخلاً، دونما ريب، في مثل هذه الصناعة، التي تجعل الأشياءَ الضرورية جميلةً، فإن تلك الحرية ليست هدفاً لهذه العملية الفنية، بل هي شرطها الضروري؛ إذْ نحن لا نتصرف بحريةٍ من أجل التمتع بالحرية، بل نمتع أنفسَنا لأنه حدثَ أن كنّا أحراراً لنفعل هذا.

لذلك، إذا أعطينا مسمى الفن لكل محاولةٍ من هذا القبيل تضيف صفة أخرى إلى جانب صفة المنفعة على الأشياء المفيدة أو الأعمال المفيدة، فهناك، إذاً، طبيعة مشتركة يتمايز بها الفن عن جميع الأنشطة الأخرى، سواء في العمل أم اللعب. وهذه الطبيعة المشتركة، التي تجعل اللعبَ أحياناً فنياً، وأحياناً أخرى تجعل العملَ فنياً، والتي إنْ غابتْ فسيؤدي غيابُها إلى إقصاء اللعب والعمل على حدٍّ سواء خارج فئة الفن (art)، هي بالضبط ذلك الطابع القائم بذاته الذي أرغب في أن أخصص له كلمة «جماليّ aesthetic». إنْ نحن تفحصنا جميعَ فئات الفن، بغض النظر عن هدفها الرئيس، سواء كان بناءَ شيءٍ مفيد، أم شرحَ شيءٍ مهم أو تسجيلَه، أو التعبيرَ عن عاطفةٍ، أو إشباعَ رغبةٍ، أو فعلَ شيءٍ ما سواء كان عملياً أم غير عملي، مفيداً أم مؤذياً، فسنجد أن تحقيق هذا الهدف الرئيس يتمايز من خلال محاولةِ تجنب القبح قدر المستطاع، وتحقيقِ أكبر قدر ممكن من الجمال (beauty) الذي تسمح به الظروف الخاصة. ربما يكون المبنى أو الآلة المطلوبة خرقاء في أجزاء منها لا شك؛ وربما يكون الشخص المراد رسم صورته قبيحاً بالطبيعة؛ والحقيقة المراد توصيفها ربما مثيرة للاشمئزاز؛ وربما تكون الغريزة التي تبغي الإشباع وحشيةً أو بذيئة؛ ورغم ذلك، إنْ كان المبنى أو الآلة، أو الصورة، أو الوصف، أو الرقص، أو الإيماءة، أو الثوب، سيؤثر فينا بفنيّته، فلا بد بالضرورة أنه يمتلك، بدرجة أو بأخرى، الميزة الخاصة بما يكون جميلاً (beautiful). وفي حالة العكس، حيثما لا يكون مطلبُ الجمال (beauty) واضحاً جلياً، وحيثما لا توجد محاولة لإحلال الجميل محل القبيح، في الخط مثلاً أو في الفراغ أو اللون أو الصوت أو الكلمات أو الحركات، هناك لا تنطبق كلمة فنيّ (artistic)، بل تستخدم بدلاً منها عباراتٌ مخالفة لها في التمييز، مثل عبارة بارع تقنياً، أو معقول منطقياً، أو مناسب عملياً، أو مقبول حسياً، أو مثير عاطفياً، أو يستحق الثناء أخلاقياً، أو أي من النعوت الأخرى التي تصف جدارةَ العمل البشري أو اللعب البشري. الفن، إذاً، هو إظهارٌ لأية مجموعةٍ كانت من الملَكات، وتعبيرٌ عن أية غريزةٍ كانت من الغرائز، واستجابةٌ لأية حاجةٍ كانت من الاحتياجات، وهو كفوء بأية درجة كانت؛ أيْ بمعنى أنه منضبط وقابل للإضافةِ إليه وتعديلِه أو انعطافِه، في طاعةٍ لرغبةٍ منفصلة تماماً عن أي من هذه، ممتلكاً أسبابه الخاصة ومعاييره الخاصة ومقتضاه الخاص؛ حيث رغبته هي الرغبة الجمالية (aesthetic). أما الميزة التي تلبي هذه الرغبة الجمالية فهي ما نسميه الجمال (Beauty)؛ أما الصفة التي يجتنبها أو يقلل منها فهي القبح (Ugliness).

نأتي الآن إلى المشكلة الرئيسة الثانية في مسألة الجماليات: ما الجمال (Beauty)؟ أَهو صفة محددة بعينها، يسعى الجميعُ إليه قاطبة بدرجة أو بأخرى، ويدركونه، أم الجمال مجرد التعبير عن علاقات متغيرة معينة، عن علاقات ملائمةٍ أو تجديدٍ أو تقليدٍ، وهكذا دواليك؟ يستمر عدد من المتخصصين في الجماليات، كتفسيرٍ كلي أو جزئي، في القول إن الجمال هو تكيف مرئي لغاية مقصودة سواء كانت بشرية أم إلهية. نجد هذه الفكرة موجودة ضمناً، على سبيل المثال، في إصرار “راسكين” فقط على الضروريات المفيدة والعملية في العمارة. ورغم ذلك، إن هذا التفسير له القليل من المصداقية الفلسفية، وقد تم دحضه سابقاً وبشكل معمق من قِبل “كانط”، وللتذكير فقط إنه مَن أسهمت قدرتُه على التمييز والحكم مساهمةً مهمة في مجال الجماليات. هناك شرح آخر للجمال يخلط بينه وبين المهارة الفنية أو الوضوح المنطقي، اللذَين يحتاجهما الجمالُ ليظهر؛ وهناك فكرة أخرى تتكرر بشكل أكثر خفية ضمن التوجه مؤخراً لجعل سهولة الإدراك ليست شرطاً للجمال، بل معادِلاً للجمال وتساويه؛ فعملية التعريف بالصورة مثلاً أو التمثال، وفق مثل هذا التبسيط للخطوط والأسطح المستوية، لكي يصبحا مفهومَين بسهولة بمثل هذا الترتيب، تعني كأننا نجعل الصورةَ أو التمثال يدفعان لنا ثمن فهمنا لهما. ومن الصعب للغاية تفادي هذه النظرة الخاطئة حالياً؛ حيث توجد في أقصى درجات الفهم الفني دقة بين المشتغلين بالجماليات.

أما الفكرة البديلة، أي حتى يكون الشيءُ جميلاً تجب علاقة فريدة قائمة بذاتها بين الأشكال المنظورة والمسموعة وبيننا نحن أنفسنا، فيمكن استنتاجها من المقارنة بين الأعمال الفنية مِن أنواعٍ وفتراتٍ ومناخاتٍ مختلفة؛ إذْ إن مثل هذه المقارنة ستُظهر أن نِسَباً محددة وأشكالاً ونماذجَ وتكوينات تميل نحو التكرار حينما لا تعيق الفنَّ رغبةٌ واعيةٌ تتعمد التجديد. سوف تُظهر مثل هذه المقارنة أن الجنسَ البشري يفضل دائماً أن يكون أثاثه وحاجياته المنظورة، مثلاً، مجسِّدةً لبعض ميزات خاصة من التناظر وعدم التناظر، ومن التوازن، وأيضاً تأكيد جانب على آخر؛ وهو دائماً، عند التصرف بشكل عفوي ومن دون تَفكّر، يعدّل الأشكالَ التي يوفرها الواقعُ له، أو توحي بها المتطلباتُ العملية إلى أن يطابقها مع أنماطٍ متكررة محددة. مثل هذه الدراسة المقارِنة، التي بدأت للتو في أيامنا هذه (والفضل يعود جزئياً إلى التسهيلات الميكانيكية مثل صبّ قوالب الأشكال والتصوير الفوتوغرافي)، يجب أن تصبح جوهر علم الجماليات كله. لا يمكن إلا لدراسة عمل الفن أن تجيب عما ينضوي تحت اسم الجمال، وما ميزات الشكل الرئيسة التي تعتمد خاصية الجمال عليها. وإلى أن نعلم هذا، سنستمر في التكهنات المبهمة أو حتى غير المجدية للفلاسفة السابقين حول الكيفية والسبب اللذَين يؤثر بهما الجمالُ فينا بالمطلق، وسنستمر في التخمينات العشوائية لنقاد الفن حول الأسلوب الذي تأتّى فيه الحصول على مثل هذا الجمال.

اعتمدت هذه الدراسة المقارنة للفن –أي مقارنة فئة بفئة، عمل بعمل، تفصيل بتفصيل- حتى الآن، بشكل أساسي، على المحاولات التي بُذلَت للتأكد من هوية مؤلّفي الأعمال الفنية الفردية، على سبيل المثال، محاولات علماء الآثار من نوع “جوستاف فيلهلم فورتفانغلر” (Gustav Wilhelm Furtwängler)، و”جوزف لوي” (Josef Löwy)، و”ويكو” (Wickow)، ومحاولات ذواقة الرسم من مدرسة “موريللي”. ومن ناحية أخرى، كان مما ساعد هذه الدراسة بشكل كبير هو الدراسات والتوضيحات، التي قام بها عدد قليل من الفنانين العمليين، مثل النحات “أدولف فون هيلدبراند” (Adolf von Hildebrand) في كتابه (حول الشكل النحتيّ)، ومثل “راسكين” نفسه، ليس فقط في كتاباته، بل في الرسوم البيانية والرسوم التوضيحية التي أضافها كتكملةٍ مساعِدة لكتاباته.

من المحتمل أن يتم رفد هذه الدراسة للبنية الحقيقية للعمل الفني، عاجلاً أم آجلاً، ليس فقط بالمقارنة المنهجية للشكل كما يوجد في الفن -فن الحائك أو الخزّاف أو صانع الأسلحة، وبالقدر نفسه فن المهندس المعماري أو الرسام- وكما يوجد في العمل، رفيعاً كان أم متدنياً، بل أيضاً عبر مقارنة الشكل الموجود في الأجسام الواقعية والشكل المعدّل بالفن أو «البعيد عن الأشكال الواقعية». في أرقى المنحوتات، من العصور القديمة والقروسطية، لا تؤدي العضلات، على سبيل المثال، دوراً وفق النظام الحركي الواقعي، فالكثير من حقائق بنية الجسم يجري الابتعاد عنها لمصلحة البحث عن سطحٍ وكتلةٍ تروقان للفنان. وبطريقة مشابهة، يتعارض منظور؛ أي تكوين الصور العظيمة مع تكوين المنظر الواقعي؛ وعلى هذا النسق، تُجعَلُ الأشكالُ الحيوانية والنباتية متناظرة وإيقاعية ومنسجمة مع المقتضى الجمالي الذي يمكن رؤيته على حد سواء في صنع السلال من عملِ البدائيين، وأيضاً في المنحوتات القوطية من عملِ نحّاتي الحجارة.

 لقد استخدمتُ أكثر من مرة تعبيرَ “المقتضى الجمالي” (aesthetic imperative). بطبيعة الحال هذا المقتضى يكون مضمراً ضمناً في كل التقاليد الفنية، ويوجه ممارسةَ كل حِرفيّ وكل مدرسة فنية، بل حتى لو تمكنا من أن نترجم إلى مصطلحات منطقية؛ أي إلى كلمات مفهومة، ذاك غير المنطوق به، وتلك الخيارات التفضيلية التي لم تجرِ صياغتها، والتي يخضع لها كل فنان ويطيعها، عظيماً كان أم قليل الشأن، فسنعرف وقتئذٍ بدقةٍ ما هو الجميل وما ليس بالجميل، وأين تكمن الميزة الأساسية لكل عملٍ فني وكل مدرسة، لكن لأنّ الممارسةَ الفنية هي التعبير الخاص والوحيد للجمال، ولأنّ الأسبابَ التي تحدد مستوى الحِرفيّ تنبع بالضرورة من اللاوعي –طالما أننا نربط الوعي بالمنطق والكلمات- فإنه لا يمكن أن نواصل دراسة ماهية الجمال إلا بالأساليب العلمية للمقارنة والحذف. نستطيع أن نرمز لهذه الطريقة، وأن نجعل منها مثالاً بتطبيقها على الفن البصري، فنأخذ صورة فوتوغرافية لموضوع واقعي، وصورة أخرى معدّلة فنياً لهذا الموضوع نفسه، ثم نمحو ونضيف ونعدّل في الصورتين إلى أن تصبح كلتاهما متشابهتين، باتّباع نظام التحليل والتوليف العملي نفسه وتطبيقه على مختلف أنواع الأعمال ودرجات تَميزها؛ فنحدد من خلال هذا الحذف والدمج ما الذي يمثل ما نسميه “جمالاً”، ومن ثم نتثبت من صحة استنتاجاتنا عن طريق المقارنة المعالَجة إحصائياً لـلأشكال الفنية المتكررة، التي ستُثبت قبولَها عالمياً حال وجود انتظامٍ متماثلٍ في تكرارها.

 ولكن ما السبب الذي يجعلنا نفضّل ترتيباً محدداً للخطوط والألوان والأسطح والأصوات، ناهيك عن الكلمات؟ الجانب النفسي من الجماليات، واعتماده المتبادل على كل أسئلة العلوم العقلية، يبدأ بهذا السؤال الذي سيكون تعبيره العلمي كالآتي: ما هي أولاً حقائق الوعي، وما هي ثانياً العمليات الفيسيولوجية، التي تترافق مع الرضا والإشباع من أشكالٍ معينة لكونها جميلة وتكمن وراءها، وتترافق مع عدم الرضا من أشكال أخرى معينة لكونها قبيحة؟

 هذه المسألة، التي حلها النهائي مشروطٌ، بشكل طبيعي، بتقدم علم النفس عموماً -لا شك- تطرح نفسها مجدداً فيما يتعلق بكل نوع من الفن، وكل حرفة تنطوي على مسائل الجمال والقبح. بَيْدَ أنّ هذه المسألة معقدةٌ للغاية في الأدب بفعل اهتماماتٍ أخرى، منطقية وعاطفية وعملية، تؤلف القسم الأكبر مما هو جزءٌ فقط من الفنون جميلة؛ وتحجب وضوحَها مسائلُ تفصيلية لم يتم تفحص أيٍّ منها بشكل صحيح، وتتعلق بالعمل المباشر للكلمات. حتى جماليات الموسيقى -إنْ أمكن القول- لا تزال في حالة أكثر تخلفاً بسبب الصعوبة الكبيرة في المراقبة الذاتية والخلط الذي لا يُرتجى منه خيرٌ في المصطلحات المستخدمة. لذلك، وعلى الرغم من قيمة أشخاص مثل “ستومبف”(Stumpf)  و”هانسليك” (Hanslick) و”دورياك”(Dauriac)، لم ألحظ كثيراً من التقدم منذ التحليل البارع للراحل “إدموند جورني” (Edmund Gurney)، الذي دحض عملُه العظيم (قوة الصوت) كل ما وجِد من التفسيرات، لكن دون إحلالٍ لأية تفسيرات جديدة محلها. على أنّ الفنون الجذابة للعين قد أثبتت طواعيةً أكثر للتحليل النفسي، فقد خضعت أكثر بكثيرٍ للفحص العلمي بفضل الخبراء المتذوقين، وعلماء الآثار، وعلماء دراسة المجتمعات والثقافات البشرية. وفيما يتعلق بهم، من الممكن بالفعل أن تظهر المسارات الرئيسة التي تتحرك وفقها الملاحظةُ والفرضيةُ؛ أي الاتجاه الذي سيكون ملزِماً لكل فئات فلسفة الفن بأن تذهب فيه.

حكايات “هدى جعفر” عن الحاجة لامتداد السينما فيما تكتب

حكايات “هدى جعفر” عن الحاجة لامتداد السينما فيما تكتب

بقلم: عبير اليوسفي

 

في إحدى المقالات التي كتبتها الناقدة السينمائية هدى جعفر، اقتبست جملة جاءت في رواية الإيطالي إيتالو كالفينو: “هل كنت سأكتب جيدًا لو لم أكن موجودًا؟”، لتسقطها على شغفها تجاه الكتابة السينمائية منذ حديثها عن نفسها أرادت هدى أن نقرأها بعيدًا عن محاولات تقييمها بصفتها امرأة يمنية اكتسحت الكتابة عن السينما وترتدي الحجاب الأسود في وقت لم يكن اليمن يهتم بهذه الصناعة، ويفتقر لهذا النوع من الكتابات، ونجحت في ذلك. مؤخرًا، أعلنت عن صدور مجموعتها القصصية، التي حملت عنوان “اليد التي علقت المرآة” عن دار جدل، ويعد هذا الإصدار الأول لها. تأتي المجموعة في سبع قصص قصيرة، تنوّعت في شخوصها وعناصرها ومواضيعها، رغم غلبة المصير المأساوي للشخصيات.

منذ القصة الأولى، وعند المشهد الأول، تلتقط ذاكرة الكاتبة السينمائية، فتأثيرها حاضرٌ في التفاصيل الصغيرة التي تواجدت. تستفتح المجموعة بـ”الباب وأنا وعنايات أبو سنة”، لتشدّ انتباهك نحو الدمية القطنية والسجادة الأصفهانية والمسرح الحاضر بجريمته، التي أفزعت طفلة ذات خمس سنوات، في مشهد كان وقعه مضحكًا على المشاهدين، بينما فتحت السكين المستقرة في منتصف جسد الراقصة البابَ نحو الأسئلة: “هل يكون الحضور عن طريق الغياب؟ أين ذهبت عنايات أبو سنَّة بعد السكِّين التي اخترقَتها؟ من أيِّ باب انسلَّت؟ في أي قصة كانت قبل هذه القصَّة؟ لماذا سمح المشاهدون للضحك بأن يأخذهم بعيدًا عن جثة الجميلة المقتولة؟”.

يظهر اليمن بحقائقه الواقعية ومجتمعه الخانق، في ثلاث حكايات وثلاث مدن مختلفة. الأولى صنعاء في “حديث الساعات” وجبالها فج عطان ونقم، وأحياؤها وبيوتها، وفتاة يمنية ترقص على أنغام أبو بكر سالم وتحاول فهم علاقتها بالزمن غير المستقر حين قادها عملها لمصادفة امرأة مجهولة تطالبها بسرد القصة التي تخصها. ليمتد السرد من نهار صنعاء حتى فجرها وينتهي بتساؤلها عن العلاقة مع الزمن “اليوم الغريب الذي انتهى بقصةٍ عن ساعةٍ قديمةٍ، صنعاء التي ابتلعت ساعتي، أو صنعاء التي ألقمتها ساعتي، أنا وصنعاء، من مِنَّا أوقف ساعة الآخر؟”. ثم تدرك حالما تطأ قدمها خارج المنزل، أن لا شيء سيعود كما كان، فثمة تغير في زمنها، لتقلب تلك الليلة مسار حياتها، وتصبح الساعات المعلقة على الحائط هي الشيء الوحيد الذي يؤكّد حقيقة ما حدث.

على خلاف مدينة صنعاء وزمنها الحاضر، ظهر مجتمع القرية بزمنه القديم في قصة “شعرة على صحن العالم” بمدرجاته الزراعية، وبيوته الحجرية ولهجته البسيطة. استردت الكاتبة واقعية حياة الريف من تفاصيل صغيرة ارتبطت به، ونجحت في تصوير تفاصيل المرأة الريفية التي تعمل في الأرض عبر جليلة “كانت جليلة قوية وجميلة، لها عينان صغيرتان، وأنف أخنس، وفلجة بين الأسنان، وبشرة لم تغيرها الشمس بسبب الكُركم الذي تفرده على وجهها كل يوم، وقد انسابت خصلات شعرها المتعرِّج البُنيِّ من تحت غطاء الرأس”. ومن الشطر الشمالي الذي يقع تحت حكم الأئمة الزيدية، تنتقل البطولة بكل خفة إلى عدن، التي تقع تحت حكم الإنجليز، المنفتحة على مختلف الجنسيات، وشهقة “علي” عند اللقاء الأول: “وعندها رأيتُ الله؛ رأيتُ بحر عدن. وفي تلك اللحظة بالذات من حياتي، في تلك الثانية التي شهدَتْ عيناي الموجات العالية تضربُ الصخور، شعرتُ بيدٍ تكسر كلَّ الأشواك داخلي”.

يختزل السردُ التغيراتِ السياسيةَ والمجتمعية التي شهدتها عدن وحروبها الداخلية وتأزم العيش فيها، ممّا دفع عليًّا للهروب منها، لينتهي مشهده الأخير داخل دكان.

تتلاشى القرية في ذاكرته لتحل عدن مكانها بتفاصيلها التي استوقفته “بنايات نظيفة متجانسة الألوان من خمسة وستة وسبعة طوابق، شوارع عريضة مُعبّدة، دكاكين تبيع كل شيء من البِسباس (الفلفل) الهَرري، وحتى السيارات الأوروبيَّة، شوارع وأزقة يرتدي الناس فيها ملابس مختلفة عن الزقاق المُجاور: فساتين إنجليزية، سواري هنديَّة، فُوطًا يرتديها الرجال حول خواصرهم تزينها مربعات كثيرة، طواقي زنجبارية، بنطلونات من أقمشة سميكة، كعوبًا عالية تدق الشوارع طوال اليوم، ملابس إفريقية فاقعة، دروعًا شفافة تكشف خصور النساء الدقيقة، وشومًا بدويَّة على الجباه والذقون. عدن كانت بلادًا لكل شيء، وأنا كنتُ في قلب هذا الكُلّ”.

لا تغيب السينما عن الذكر، فقد ظهرت في مشهدين ضمن معجزات عدن الكثيرة، وأهمّها “البحر والسينما”؛ الأول عن تجربة “علي” حين دخلها للمرة الأولى، والآخر مشهد بكائه بخيبة أمام سينما “هريكن”. يختزل السردُ التغيرات السياسية والمجتمعية التي شهدتها عدن وحروبها الداخلية وتأزم العيش فيها، مما دفع عليًّا للهروب منها، ينتهي مشهده الأخير داخل دكان، ودون أن يدرك أنّها الليلة المأساوية، يقرر إعداد الزربيان الذي امتهن صنعته في عدن.

في “صلاة مسعود”، تقابلك تعز بعتبة منزل عاقل الحارة، والقطط الخمسة التي تلتهم بقايا الطعام، أربعة رجال يناقشون الحدث المهم، ومسعود أمام المرآة يتساءل: “ما الذي جعل حَلَمة النهد هذه تنبتُ فجأةً على جبينه!”، تتضح لك معالم المدينة بسوق الشنيني والمجلية وشارعها ٢٦ سبتمبر أو شارع الحب الذي يضج بقصة “جبهة مسعود”. وبعد أن سعى في الأرض بحثًا عن علاج لتلك الحلمة البارزة، يقترح الشيخ طه على مسعود أن يغطيها بقطعة قماش، كون “جسد المرأة عورة” وجبينه تتزين بحلمة لأنثى لذا وجب سترها، لكنه يقرر كسب المال عن طريقها بالتقاط الصور معه. يشتهر مسعود بحدثه الغريب، وبين التساؤل إذا ما كانت تلك حلمة رجل أم أنثى، يسيل الحليب ذات يوم ليؤكد أنوثتها، ويجد مسعود نفسه يُلقمها لطفلة ألقيت في القمامة بعد أن جرته العجوز “جمالة”، ثم يأتي الحدث الذي أفزعه ليدرك أنّه الحلمة لم تكن فقط للأطفال المنبوذين، بل للرجال الذين ليس لهم إمكانيات لمس امرأة.

“تعز غافية في إشفاقٍ ككلبٍ ينتظر كرم سيِّده، تعز تأتي بإقدامٍ كسيّدٍ يعرف أنَّ عبيده وكلابه في انتظار كرمِه، المدينة تنظر إلى مسعود من علٍ، مسعود ينظر إلى الأشياءِ من جبينِه لأول مرَّة في عمره الذي تجاوز الأربعين، ما هذه المدينة التي تقتر على كل شيء، لكنَّها تمنح حَلَمة فائضة عن الحاجة؟!”، في اللحظة التي تصالح مع وجودها على جبينه واعتبرها جزءًا منه لا يحتاج إلى التغطية، يختفي ويظل الناسُ يتناقلون مصيره المجهول.

جاءت هذه الحكايات عن حاجة امتداد السينما في كتاباتها، مما جعلها تمتاز في إطعام عملها نصوصًا ذات مشاهد تصويرية بديعة.

ما يميز أسلوب هدى جعفر، هو أنها كونت علاقة وثيقة مع القارئ في نبش ذاكرته للمدن والأماكن والأغنيات، وملامسة أزماته الداخلية عبر شخوصها، فضلًا عن نجاحها في وصف أبسط الأشياء التي تستدعي الحنين. وصفت الروائح وأعطتها صورة شاعرية، كالضيفة الخضراء التي لها رائحة الكتب المهجورة، والحقيبة الزرقاء التي لها رائحة الهجران، والبيت الذي له رائحة القماش الذي لم يجف جيدًا. كما أنّ للمدن روائحها؛ وصفت رائحة عدن، “الأبخرة المُتصاعدة من قدور الطبخ التي تحمل نكهات البصل، والبهارات، واللحوم، والسميد، والسكر، فكانت رائحة عدن، تطيرُ حتى تترسخ في ذاكرة الغيم وقمم الجبالِ، حيث كان يقف والداي ذات يوم”، وكانت رائحة تعز تفوح من الجبن البلدي، “الرفوف الخشبية مشبعة برائحة اللفَح المُستخرج من أمعاء صغار الماعز، الهواء بارد، وجبل صَبِر يبدو من بعيد، كظهر رجلٍ يغادر مطأطئ الرأس؛ لأنَّه فضَّل تفحُّص الأرض على تأمل السماء”.

عودة إلى مقالها المنشور على مجلة المدنية، صرحت عن شغفها في اختيارها الكتابة عن السينما، بأنه “نتيجة لإشباع حاجة بداخلي”، وربما جاءت هذه الحكايات عن حاجة امتداد السينما في كتاباتها، ممّا جعلها تمتاز في إطعام عملها نصوصًا ذات مشاهد تصويرية بديعة. وقد تبدو الكتابة مع شخص يمتلك هذا الشغف، خاليةً من التعقيدات، فاستدعاء تفاصيل المكان يأتي من ذاكرة أتقنت التقاط الأحداث اليومية، ممّا خلق الواقعية على الشخصيات حتى يخيل أنك تقرؤها وتراها، وكما هي شخصيات نجيب محفوظ التي عاشت في ذاكرة أعماله، تعيش فجر وبدور وعلي ومسعود في ذاكرة قارئ هدى جعفر.

 

المصدر: مع خيوط