فلسطين.. يحرِرها الأدب العربي!
طالما سألني الكثيرون عن فائدة الأدب العربي، وعن وقع أثره في حياتنا -عامها وخاصها- وإن كانت أهميته بالغة لهذا الحد الذي يجعلني أهتم به كل الاهتمام، فما الذي يضيفه الأدب إن لم يكُن هو إضافة زائدة علينا؟ أليس كل مكتوب في النهاية هو تعبير عن نفس صاحبه فقط؟ وتجسيدٌ لتجربة خاضها، أو شعورٍ استشعره حتى فاض؟
وما الداعي لأن يكون الحبر على الورق فنّا، له ضوابطه، وأهدافه؟ أولسنا جميعًا نجيد الكتابة؟ وما جدوى الصفحات التي تُكتب في قضية كفلسطين الهوى والهُوية؟ أيحرر الكتاب وطنًا، وهو الذي لا يقوى على الصمود في وجه الرياح! وهل تنصت آذان التاريخ لما يكتب حقًا، أم أننا نحفر الكلمات على جداول المياه؟
في معنى الأدب
ارتبط وجود الأدب بوجود الإنسان؛ فمذ بدأ الإنسان يكتشف الكون، ويعرف خباياه، نشأت لديه رغبة في نقل هذه المعرفة إلى غيره، وكان الأمر يسيرُ بدايةً بالإشارات، ثم المُشافهة، إلى أن ظهرت الكتابة، ورأينا المصري القديم، ينحت قصصه على الأحجار، أو يرسمها على الحائط، أو يدونها في مخطوطات البردي؛ ليحفظ مكانه في التاريخ، ويسطر حياته كما كانت، بما لا يترك مجالًا للشك، من هنا يمكننا أن نلمس خيط بدايتنا، كان الأدب ولازال صورة حقيقية لحياة البشر في زمن معين، بعيدًا عن مجلدات التاريخ، وسقطات المؤرخين الكبرى، فمفتاحك الأول لتعرف عن الماضي أكثر، هو الأدب، فيه تجد واقع الحياة، ثقافية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، حتى الواقع الفني تلتمسه في الأدب.
منارة الأدب العربي
مع تكتل المُجتمعات الحديثة، تباين الأدب أشكالًا، فهذا أدبٌ روسي تقرأ فيه لميخائيل ليرمنتوف، وليو تولستوي، ودوستويفسكي، وهذا أدب إنجليزي فريد، وهذا أدب عربي، يتوج بلغة القرآن، ذات المرادفات الكثيرة، والبلاغة العالية، والانتشار الواسع، منه الأدب الأندلسي، والعباسي، والحديث، وأسماء واسعة كثيرة، تؤرخ كل فترة عاشها المسلمون، في صورة فنية مقبولة. أن تقرأ كتابًا مضى على كتابته نحو خمسين سنة، فهذا يعني أنك اجتزأت قطعة من الزمن واحتفظت بها لنفسك.
رواية “زمن الخيول البيضاء” صور فيها “إبراهيم نصر الله” النكبة، والمأساة الفلسطينية بداية من الدولة العثمانية وحتى تسلم اليهود فلسطين من الإنجليز (مواقع التواصل )
فلسطين في عيون الأمة
مذ وقعت نكبة العام ١٩٤٨م، تحركت أقلام للدافع عن فلسطين قضيتنا، تاريخيًا وفكريًا، فخُطّت الأشعار، وغُلّفت الكتب، وغدت الكتابة عن فلسطين واجبا تتحمله الأمة، وأثار الكتاب في هذا الصدد، معانٍ كثيرة، فترددت على آذان الناس ألفاظ الأمة والهُوية والحضارة والمُقاومة، والاحتلال، نعم! كانت ولاتزال فلسطين صحوة تجمعنا من جديد حول معنى الأمة التي تقف وتبني ذاتها، وتمكن لأفرادها ثقافيًا وعلميًا، فلسطين الحرة وحدها من أصّلت للهُوية مكانتها في عقول الشباب حديثًا، وهي أيضًا التي وقفت أمام العبرية المتفحشة في أرضها، بسلاح اللُّغة العربية، وفنونها، وآدابها.
فلسطين القصيدة
الشعر محطة أدبية قريبة من الناس، وسلاح المُقاوم العربي في وجه تزييف التاريخ، وطمس الحقائق، وتغييب العقول؛ انطلاقًا من هذا المعنى جرى سيل الشعر العربي في تحرير فلسطين، تحريرها في العقول من قيود العجز والتأخر التي نصبها لنا المُحتل وصغاره. فرأينا محمود درويش الذي استل قلمه في وجه الاحتلال، فجالت قصائده الآذان كلها، وترددت أبياته التي تنصر الحق، وتجسد معاناة الفلسطيني في كل صباح منها:
آهٍ يا جُرحيَّ المُكابِر
وَطني ليسَ حقيبة
وأنا لست مُسافر
إنّني العاشقُ، والأرضُ حبيبة
ويقول أيضًا:
أسمِع يا صَديقي ما يُزلزل الأعداء
أسمعهُم من فجوةٍ في خيمةِ السماء :
“يا ويلَ مَنْ تنفست رِئتاه الهواء
مِن رئةٍ مَسروقة!
يا ويلَ مَن شرابه دِماء!
ومَن بَنى حديقةً ترابّها أشلاء
يا ويلَه من وردها المَسموم!”
وكان لنزار قباني إضافة يقول فيها:
يا قدسُ، يا منارةَ الشرائِع
يا طفلةً جميلةً مَحروقةَ الأصابِع
حزينةٌ عيناكِ، يا مدينةَ البتول
يا واحةً ظليلةً مرَّ بها الرسول
حزينةٌ حِجارةُ الشوارع
حزينةٌ مآذنُ الجوامِع
هكذا كتب الشُعراء وغيرهم كُثر لنصرة فلسطين، من كل أنحاء العالم الإسلامي، تربطهم الهُوية، وتجمعهم الأمة صفًا واحدًا على هوى فلسطين التي تسكننا لا نسكن فيها، كتبوا ليحفروا الحقائق بأقلامهم في ذاكرة التاريخ، ليحفظوا عهدهم بفلسطين، وينصروها ما كانت أقدامهم على الأرض، سلامٌ عليهم، وقلبٌ لهم.
كتبت رضوى عاشور روايتها “الطنطورية” التي تسرد فيها معاناة قرية الطنطورة، الرواية تمزج في سطورها بين الوقائع التاريخية من ناحية والإبداع الأدبي من ناحية أخرى، في صورة فريدة.
فلسطين الرواية
كُتبت روايات كثيرة، جسدت واقع يوميات الفلسطيني وما يعانيه في وطنه، تصور كيف امتزج الضدان، الموت بحب الوطن، ورُسمت صورة الصمود في عكا رُغم الحصار، والمُقاومة في غزة، وشجر الزيتون، وبرتقال يافا، وقسمات الشيوخ التي تحوي بداخلها الحق، وورود الجدات، وخبزهن، ولعبة الشهيد التي يلعبها أطفال غزة وحدهم، ومعاناة لا تنقطع، فرأينا رواية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني والتي تطرح فلسفات عميقة حول معنى الوطن والهُوية وتعبّر بواقعية عن معاناة يومية، لا يلقي لها العالم بالًا، عن بكاء الطفل في أرضه، وموت الشاب في وطنه، عن سلب الحق من أهله.
منها ما يقول: “أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله”. “فلسطين ليست ذكريات، بل هي صناعة المُستقبل”.
وجاء مريد البرغوثي بروايته “رأيت رام الله” ليضخم في عيوننا المأساة التي تتجدد مع كل شروق للشمس؛ إذ نقاط التفتيش والوجوه الإسرائيلية البغيضة، وفوهات البنادق التي لا تُنكس، وحال الأسرى والمُرابطين، وشجاعة الشهداء في لحظاتهم الأخيرة. منها ما يقول فيها: “الاحتلال الطويل الذي خلق أجيالًا إسرائيلية ولدت في إسرائيل ولا تعرف لها وطنًا سواها، خلق في الوقت نفسه أجيالًا من الفلسطينين الغرباء عن فلسطين، أجيالًا وُلِدت في المنفى ولا تعرف من وطنها إلا قصته وأخباره.”
وكتبت رضوى عاشور روايتها “الطنطورية” تسرد فيها معاناة قرية الطنطورة الواقعة على الساحل الفلسطيني جنوب حيفا؛ تعرضت هذه القرية عام ١٩٤٨ لمذبحة على يد العصابات الصهيونية، تتناول الرواية هذه المذبحة كمنطلق رئيس لتتابع حياة عائلة اقتلعت من القرية، وحياتها عبر ما يقرب من نصف قرن إلى الآن مرورًا بتجربة اللجوء في لبنان، الرواية تمزج في سطورها بين الوقائع التاريخية من ناحية، والإبداع الأدبي من ناحية أخرى، في صورة فريدة.
وكتب إبراهيم نصر الله روايته “زمن الخيول البيضاء” صور فيها النكبة والمأساة الفلسطينية بداية من الدولة العثمانية وحتى تسلم اليهود فلسطين من الإنجليز، دعّم فيها بالأدلة التاريخية كل ما يخص القضية، ليس فقط عبر المجلدات والمراجع التاريخية، وإنما ذكر المسكوت عنه في القضية وما رواه كبار السن ولم يذكره التاريخ، منها ما يقول: “إذا خسر اليهود فإنهم سيعودون إلى البلاد التي أتوا منها، أما إذا خسرنا نحن، فسنخسر كل شيء”.
لا أعرف كيف وهنت عزائمنا، وارتعشت أيدينا، لنكون لهؤلاء تبعًا؟ يبقى السؤال دائمًا قيد التفكير “متى ستُسعفنا الحقيقة لتحرير فلسطين كلٍ منا”؟
هذه الروايات بعض مما كُتب نُصرة لقضيتنا الأولى -قضية فلسطين- وتحريرها بعيدًا عن التزييف والتهميش المُتعمد، فالأعمال باقية لن تزول مهما تقدم الزمن، وستظل حاملة في طياتها الحقيقة التي جسدها أبناء فلسطين أنفسهم، ووقع هذه الأعمال في حلتها الأدبية العالية على العقل، تجعلك شريكًا رئيسًا في معاناة الفلسطيني اليومية، وتُريك الأحداث من نافذة واسعة، وتضعك على الطريق الصواب، طريق المُقاومة حتى آخر نفس.
المقاومة الثقافية
جميع ما سبق يندرج تحت مُسمى “المُقاومة الثقافية” التي نحن في حاجة شديدة إليها؛ إذ هي دعامة رئيسة في الحرب التي يديرها الاحتلال ومؤيدوه علينا كل يومٍ؛ ليهدموا مبدأ يجمعنا، أو يُشتتوا فكرة نحاول تنفيذها. يؤلمهم أن نعرف، أو أن نقرأ، وقعُ هذا الأمر عليهم كبير؛ فهم يعلمون أننا متى قرأنا وفهمنا قضيتنا حقًا وعرفنا قدر تاريخ أمتنا، لن نتفرق، بل سيجمعنا الهدف، وتوحدنا القضية، ولذلك ليس أسعد منهم عندما يروننا غرقى في بحار الجهل والتخلف، يقتل بعضنا بعضا، وضرورة المُقاومة المُسلحة لا تقل عن ضرورة المُقاومة الثقافية لهذا الاحتلال الغاصب؛ فهم يحشدون الدبابات والبنادق ليأخذوا ما ليس بحقهم، فما الداعي من أن يدافع صاحب الحق عن أرضه بشتى الوسائل!
عن فلسطين كلٍ مِنّا
بعيدًا عن سياج المُحتل الإسرائيلي الغاصب، بعيدًا عن بنادقه التي سيلقى حتفه بها يومًا ما، هناك.. في وطن كلٍ مِنا -نحن المُسلمون- ثمة مُحتلٌّ، خائن يحكمنا، يتواطأ مع انتهاكات المُحتل، ويُطأطئ له الرأس باسمًا، لا أعرف كيف آلت بنا الحال، ليحكمنا بعض الرعاع والجبناء والخونة! لا أعرف كيف وهنت عزائمنا، وارتعشت أيدينا، لنكون لهؤلاء تبعًا! يبقى السؤال دائمًا قيد التفكير: “متى ستُسعفنا الحقيقة لتحرير فلسطين كلٍ منا”؟
الكاتب: محمد الخشاب
المصدر: الجزيرة