المدونة

شعراء تحت رحمة اللغو.

حذّر الفيلسوف اليوناني أرسطو مِن أنّ الكتابة نظماً لا تخلق شاعراً، مشيراً إلى أن امبيدو كلس كتب شعراً ولكنه يجب أن يُدعى فيزياوياً بدلاً من “شاعر” !

وهنا تحضر مقولة لدانتي: “أن الكلام بالنسبة للشاعر، كالحصان بالنسبة للجندي، فأفضل الجُند حريّ به أن يركب أفضل الجياد، وأفضل الكلام ما يلائم خير الأفكار؛ لخدمة موضوع فخم، كما يفهمه العقل المتسامي”.

وإزاء هذا المدّ اللافت المُتشاعر الذي ينساب في الصحف والمجلات الدورية، وكذا وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت منصّة تستقبل مئات الأبيات تحت ذريعة قول الشِّعر تستوقفك حالة مآل هذا الفن الشعري، وتجعلك تتساءل: هذا الانفلات والتجاسر على اقتراف المقول الشعري هل هو دليل عافية في المشهد الشعري؟ وهل لازالت جذوة الشعر مشتعلة ومتوهّجة كما كانت مع قامات شعرية تركت أثراً جمالياً خليقاً بالتذكُّر والخلود؟

لكنّ تأمّلاً واقعيّاً وفحصاً رصيناً يجعلك تصل لقناعة مفادها خواء هذا القول، وعدم أهليّته لإطلاق صفة الشعريّة عليه إذ ليس ثمّة دهشة أو انقصافة شعورية يُحدثها لديك حين تلقّيه، بل إنّه يُشعرك بحالة انطفاء شعوري وذوقي جرّاء كميّة الهذر الذي يلوكه بلا أي مُتعة أو لذاذة في تعاطيه.

لكن ما العمل و”الشِّعر” هو مخزوننا الحضاري إنّك لو أخذت دبّوساً -وفقاً للشاعر الكبير نزار قباني- وأدخلته تحت جلد أي مواطن عربي فإنّ سائلاً سحريّاً سوف يتدفّق. وهذا السائل ليس نفطاً.. ولا هو من مشتقات النفط، وإنما هو سائلٌ أخضر اللون، ذهبيّ الشُّعلة، أبديّ التوهّج، اسمه الشِّعر.

وقدرنا كشعب عربي محكومٌ بالشّعر، فهو موجود في كل تفاصيل حياتنا اليومية، في الأفراح، نقدّمه مكان الورد الأبيض والقرنفل.

ولعلنا نتّفق مع الناقد عقيل مهدي يوسف حين يشير ببراعة لافتة قائلاً: “وحيث يخون الإلهام الشاعر يتركه تحت رحمة اللغو، والسُّخف…”، ويشير في مقالة له بعنوان: “من يعتذر للشعر” إلى ما كتبه فيليب سيدني كتابه “اعتذار للشعر” فيقول: نشر في عام (1595) وهو يتهّم الآراء السائدة عن الشعر ويقول:

“إنه هبط من أعلى تقديراً للمعرفة؛ ليكون لعبة الأطفال المضحكة حتى استطاع البعض وتجرّأ على تشويه الشعر، الذي كان النور الأول الذي أضاء دياجير الجهل، وكأنهم يلعبون مع الشعر لعبة الأفاعي الخبيثة، التي تقتل عند ولادتها والديها!”

قد نتفق أو نختلف مع درايدن حين ينادي بالحرّية وبلا سلطة إرشادية عُليا في الأدب، بل الأساس هو ذوق العصر، وإسعاد الآخرين، ويؤكد على “المتعة” ليجعل ناحية ما في الناس أفضل، فالأدب فن لا تعليماً، أو هو لا يعلّم إلا عندما يسر.

لكنّ المحبِط في الأمر هو انطفاء ما تظنّه وميض إبداع وشرارة تجاوُز بعد قراءته وكأنّك معين الشعرية نضب بأفكاره ومغامراته وفضاءاته التخييلة وهو ما يستدعي في المقابل أسماء شعرية فذة ظهرت في سماء الشعر كومض لكنه خالد بخلود الشعر وجمالياته.

فحين يلوح الذاكرة قامة شعرية كرامبو، وتجد الدراسات تنكبّ على منجزه الشعري بعد قرن ونصف يتملّكك العجب، فهذا الشاعر لازال نصّاً لا يُستنفد، على مرّ الدراسات والأبحاث والسنين والأجيال العاكفة عليه، وهو ما دعا كاتب مقدمة ديوانه وترجمته إلى العربية رفعت سلام ليقول: لم تخطر الحماقة ببال أحد فيُعلِن-أو حتى يُضمر- أنه قال أو كتب كلمة أخيرة فيما يتعلّق بأيٍّ من تضاريسه -أي رامبو-.

ولعل مساحات الدهشة تزداد حين نعلم أن إنجازات رامبو الشعرية كانت في خمسة أعوام فقط فمنجزه الشعري اختصار للذات الأقصى والتكثيف الاستثنائي للطاقات والنفي الصارم للتكرارات والتشعبات، والحدة اللغوية القاطعة ونهب الزمن.

والسؤال:هل يمكن امتلاك العالم -بكل تضاريسه،وتحولاته، وتواريخه، وصرخاته وغنائه، ودمائه وحروبه في نصّ شعري؟

هو إذن النّص المستحيل.

 

الكاتب: عبدالله الحسني
المصدر: صحيفة الرياض
السبت 5 شعبان 1436 هـ – 23 مايو 2015م – العدد 17134

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *