موضوعات متنوعة

الأدب الياباني بعد الحرب العالمية الثانية: “حب محرم” نموذج

دعاء تيسير

“أليس الأوروبيون بقسوة روحهم هم مَن تنقصهم الرشاقة الضرورية لفهم الأدب اليابانيّ؟”.

بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً بدأ الأدب الياباني مرحلة إعادة تشكّل أو ولادة، وقف فيها الأدب كطفل يحاول المشي من جديد، وكان طفلاً كاملاً وجميلاً جمالاً آسيوياً خالصاً لا يختلط بشُقرة ولا زُرقة تامة.

كان لا يزال محافظاً على السّحرية السّردية الوصفيّة الأدبيّة الإبداعيّة، واللغويّة الشعريّة الإيجازية لكنه أضاف حينها جزئيّة ستختفي فيما بعد كلياً تقريباً حين يقرر التوجه إلى ما يحمله الأدب الغربيّ والفن الغربيّ ككلّ.

وهذه الجزئيّة بالضبط هي ما جعل الأدب اليابانيّ حينها أكثر الآداب إثارة للاهتمام عالمياً، حافراً له مكاناً مهماً في الأدب: تحليل الطريق النفسيّ والأدبيّ للكاتب خلال عمله وشخصيّاته مشاركاً القارئ تلمّسه واكتشافاته في العتمة.

مثلاً:

بعد أن كان الفنان اليابانيّ بطل الرواية قبل الحرب، يتسلّق جبلاً هائلاً ومتأبطاً لوحته الفارغة ومتأملاً السماء والجبال المحيطة والطبيعة الصخريّة الجبليّة في رحلته، متسائلاً في عقله عن مكمن الروح في الأشياء وصورتها التي قد تظهر بها،

عاد هذا الفنان بطلاً في الرواية بعد الحرب متأبطاً نفس اللوحة الفارغة ومتسلقاً نفس الجبل الهائل، متأملاً وجهه في صفحة السماء والعقبات الصخريّة المعنوية التي تجرح ساقيه القويّتين متسائلاً إن كان هناك روح فعلاً في داخله وإن كان لها حتى معنى كما هو مزعوم!

وبدلاً من أن يصل الفنان في الرواية الأولى إلى قمة الجبل ملتقياً معلمه الشيخ الجليل في موعد قديم بينهما، وفي خلفية معبد بوذيّ مهيب ليسأله بإجلال كيفية الإرتقاء بتعاليم الحياة،

يصل الفنان في الرواية الثانية إلى قمة الجبل ملتقياً صدفةً مالكة وديعة للحمام الشمسيّ الذي يزوره الأدباء والفنانين عادةً في الربيع، فتُصغي المالكة لتساؤلاته النفسيّة عديمة الأجوبة وعُقده الفلسفية العدَمية وقد وجدت نفسها في النهاية واقعة في حب كل نواقصه المشوّشة!

وبينما يُغلق القارئ الرواية الأولى على مشهد اللوحة المنعشة للروح، والتي رسمها الفنان بريشة عريضة يُظهر فيها خلفية طبيعية يتقدمها بريشة نحيلة فتى متأمل يرتدي كيمونو زاهٍ يتناسب مع ألوان الخلفية المتناسقة ويجلس الشيخ متأملاً لوحة تلميذه،

يُغلق القارئ الرواية الثانية على مشهد غرق في انتحار جماليّ مزدوج للفنان والمالكة العاشقة معاً، واللوحة الفنية اليتيمة المعلقة على السانِد تصوّر تقليداً للوحة الشهيد القديس سيباستيان!

ولا يفوت القارئ الفارق في الحشوة بين البداية والنهاية، الفنان الأول كان “هنا” بينما الفنان الثاني لم يكن هنا ولا هناك! والفارق ليس بين حياة الأول وموت الثاني، بل بين الحياة واللاموت!

في المراسلات بين كاواباتا الحائز على نوبل في الآداب وتلميذه ميشيما اللذان اشتُهرا بالضبط في الفترة التي تلَت الحرب، نجد ظلاً واضحاً ومرئياً لميشيما الذي جسّد نقطة التحوّل هذه في الأدب اليابانيّ.

يظهر ميشيما في الكتاب روائيّ أدبيّ واعد وشاب مفتون بالتفاصيل: بالأدب، والتحليل الأدبيّ، والنقد، والشجاعة، والشباب، والفكرة العدَمية للحياة، بالموت والعنف، بالجمال والوجود، وميشيما المفتون بقوة جسده!

“حين يقوّي المرء جسده، يبلغ أوج الشِّعر”.

وفيه أيضاً ميشيما الذي يعشق الشيء حدّ قتله، أو كما تقول الأسطورة اليابانية: يعشق الشيء حدّ أكله!

وفيه ميشيما القلِق، رغم كل ما يظهر عليه من قوة وثقة، من زواجه ومن طفلته الرضيعة التي لا تكفّ عن توزيع الابتسامات كلما رأت والدها، وعلى أطفاله بعد موته، وعلى إبداعه الذي لطالما جعله يمزّق الأوراق ويُعيد تحبيرها.

في “حب محرم” لميشيما، تبحث الشخصيات عن حقيقتها ورغباتها وميولها، وتدرس كل شخصية تأثيرها الخاص على الأخرى بكثير من التحليل والتركيز، بعضها بسحق قيمة الذات كلياً وبعضها بوضع الذات كبؤرة تركيز في وجوه الشخصيات الأخرى.

في الرواية، “شنسوكي” هو روائيّ شهير وعجوز ستينيّ وُلد بالقُبح وعاش بالقُبح، وكان يرى القدَر بعين مرآةٍ له تتربص وتفسخ علاقاته، خاصة المتعلقة بالنساء، كنسيج قماش رخيص.

يكتشف، بفضل وجوه الشخصيات النسوية الجميلة التي عرفها في حياته، أن غياب الجمال كلياً عن وجهه يعني بالضرورة أنّ هناك تناسب حضوريّ جماليّ يُفضي إلى حقيقة أن النساء أيضاً يغيب عنهنّ شيءٌ آخر ألا وهو الروح!

فيمتلكن بدلاً عنها إرادة جامدة تتكفّل بسير حياتهنّ وتصرفاتهنّ بلا معنى للروحانيّة ولا العاطفة التي لطالما وُصفن بها، ولا حتى في أنقى صورها كما الأمومة مثلاً.

وأنّ التعامل معهنّ يجب ألا يتجاوز صورة التعامل مع قطعة خشب أو قطعة لحم من جزّار، مجسم إرادة بلا حب ولا غيرة ولا علاقة معينة.

لكن.. تماماً في الوقت الذي يظنّ فيه “شنسوكي” أن جدار الحقيقة يقول بموته بنفس القُبح، يدرك بالصدفة أن الجدار لم يكن إلا ستاراً ثقيلاً سُرعان ما سيسقط كاشفاً عن “جمال” باهر.

فتقفز له تلك “الفكرة”، فالانتقام الآن بات ممكناً!

وتبدأ الرواية في التحوّل إلى تحليل، نفسيّ وفلسفيّ وأدبيّ، دقيق ومعقد مع سير الأحداث.

تحليل ما كان ليظهر مطلقاً في الرواية اليابانية قبل الحرب.

وإذاً، فالجمال المثاليّ الذي حاول “شنسوكي” تصويره في رواياته يتجسد الآن أمامه في “يوشي” التحفة الفنية التي ظهرت من خلف الستار، والقادرة فضلاً عن الانتقام، على اثبات نظريته المهمة:

التحفة الفنّية تولّد تجربة فريدة للمرء تسلبه حياته العادية وتجبره على عيش حياة ثانية لفترة زمنية محدودة، مثل فكرة الحياة الثانية التي تهبها أي رواية، ويسميها “شنسوكي” بالشكل الأدبيّ،

لكن هل يمكن مطابقة تأثير اللوحة الفنية بحدَث عاديّ من الحياة اليومية؟

يقول:
“تجربة التحفة الفنية وتجربة الحياة تختلفان شديد الاختلاف من ناحية وجود الشكل الأدبيّ أو غيابه. لكن، من خلال تجارب الحياة، ثمة ما يقترب كثيراً من الاختبار الذي تؤمّنه التحفة الفنية. إنه الانفعال الذي يسببه الموت.

نحن نعجز عن خوض تجربة الموت. لكن، بين وقت وآخر، يُقدّر لنا أن نختبر الموت. نختبر الموت من خلال فكرة الموت بحد ذاتها: موت الأهل، أو موت شخص عزيز علينا. باختصار، الموت هو الشكل الإبداعيّ الوحيد للحياة.”

يوضّح الاقتباس السابق فكرة ميشيما الغريبة التي تربط بين الموت والجمال.

أيضاً:

” ازدواجية الوجود هذه [الموت والحياة، الوجود والعدم] هي التي تقترب إلى اللانهاية، التحفة الفنية التي ترسم جمال الطبيعة.”

وهذا يعني عنده أن وجود الأشياء بالتالي يُثبت بغيابها:

“اثبات الروح بغياب الروح، اثبات الأفكار بغياب الأفكار، واثبات الحياة بغياب أي حياة. هذا في الواقع ما كانت عليه المهمة المتناقضة للتحفة الفنية.”

كيف إذاً سيستغل “شنسوكي” جمال “يوشي” للانتقام بتطبيق نظرية اللوحة الفنية؟

وفي نهاية الرواية كيف سينتهي هوس “شنسوكي” وهذيانه الشديد بالجمال والانتقام؟

وهل سيجد في ذاته، هو العجوز الستينيّ الذي خبر الحياة جداً في الواقع وفي الأدب وبكثافة، عمقاً مختلفاً لم تمنحه بعد سنواته الستين؟

وما نهاية “يوشي” بالضبط، هل سيبقى الجمال هنا مجرد حجر على لوحة شطرنج الانتقام والموت؟

أليس للجمال وجوداً آخر حقاً؟

سنجد أيضاً أفكار أخرى تحليلية يطول شرحها تُثبت على التحوّل سابق الذكر.

ويذكّرنا التحليل البارع جداً في الرواية بأسلوب كاتب آخر غربيّ من نفس الجيل وسيظهر بعد ميشيما: كونديرا.

لكنّ ميشيما سيخالف إيجاز كونديرا إلى تفصيل شديد وسيسمح للصبغة الشرقية الواضحة في رواياته بأن تطغى على التحليل: “في الشرق، يبدو الموت أوضح بكثير من الحياة.

وإذا بالتحفة الفنية [الشرقية]، نوع من الموت المشذّب، وهي القوة الوحيدة التي تسمح للحياة بالارتقاء.”

وفي مشهد لشخصية “يوشي” يصف الكاتب وجه الشرق بعد الحرب، متعباً خالٍ من التعابير، مشلول الأطراف، يحمل ذنوبه على ظهره، ورذائله الكثيرة فوق رأسه، يتاجر بالمخدرات ويسرق ويحتال بالمال وبالكاد يرى أين يضع رجله.

وعلى حدّ تعبيره: للأدب الياباني “نكهة” لا يدركها الغرب.

“لا يُشفى المرء في غالب الأحيان، من الفكرة المتسلطة إلا بعد أن يترجمها واقعاً، غير أن الشفاء من الفكرة لا يُلغي سببها.”

انتحر ميشيما عام ١٩٧٠م في انقلاب عسكريّ شهير.

ومن عباراته الأخيرة التي وردت في المراسلات:
“قد لا يكون عام ١٩٧٠ إلا مجرد وهم أحمق”.

“ما أخشاه ليس الموت، وإنما ما قد يصيب شرف عائلتي بعد موتي”.

“كل قطرة زمن تسيل تبدو لي ثمينة كجرعة نبيذ فاخر، وفقدتُ تقريباً كل اهتمام بالبعد المكاني للأشياء”.

حُمّل انتحاره معانٍ كثيرة.

فهل أراد ميشيما اثبات أفكاره القديمة بغيابها، اثبات نفسه بغيابها، أم التخلص من الفكرة المتسلطة؟! لكن.. :
“الانتحار سواء أكان لهدف شريف أم قبيح، هو فعل يرتكبه العقل بحق نفسه، ولا يترافق أي انتحار مع تفكيرٍ مفرط.”

كلمات مفتاحية لأدب ميشيما وحياته: النقاء، الكمال، الليل، الجمال، الموت، العدَم، الشباب، الشرق، اليابان، الأدب، الاكتشاف.

انتحر دازاي “المتشائم غريب الأطوار” قبل ميشميا بعدة أعوام، وانتحر كاواباتا المعلم بعد تلميذه بعامين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *