لماذا نقع في الحبّ؟ ستندال يتحدث (عن المراحل السبع للرومانسية)

يُعتبر الحب أحد أكثر المواضيع خصوبة في الأدب والموسيقى وجميع الفنون. كان كورت فونيغوت يعتقد أنه يُسمح للإنسان بالوقوع في الحب ثلاث مرات فقط خلال حياته. وقد وُصف الحب بأنه يتطلب شجاعة، ويُعتبر وسيلة للتعافي من الأحزان، وأفضل وسيلة للحد من الندم. بالنسبة لتشارلز شولز، مبتكر شخصيات الفول السوداني، فإن الحب ببساطة يجعل الحياة أكثر جمالًا. لكن ما هي الطريقة التي يؤثر بها الحب على القلب بالضبط؟

في عام 1822، قام الكاتب الفرنسي ماري هنري بييل، المعروف بلقب ستاندال (23 يناير 1783 – مارس 1842)، بتأليف عمله “عن الحب”، الذي يعد دراسة خالدة تهدف إلى تحليل المشاعر الإنسانية بعمق وبطريقة عقلانية. وقد تم اكتشاف هذا العمل مرة أخرى بفضل إشارة عابرة في مذكرات سوزان سان، التي اشتهرت بتعبيرها الساخر: “لا شيء غامض، لا علاقة إنسانية. إلا الحب.”

انطلق ستيندال في بناء جسر فني يربط بين “الحساسية العميقة والتحليل البارد”، حيث ابتدأ بتصنيف الأنواع الأربعة الأساسية للحب:

هناك أربعة أنواع مختلفة من الحب:

1. الحب الرومانسي. هذا هو شعور الراهبة البرتغالية، ومشاعر هيلويس تجاه أبيلارد، وحب قائد فيسيل، وحب دركي سينتو.

2.الحب المهذب الذي نما في باريس حوالى عام 1760 يظهر في مذكرات وروايات تلك الحقبة، مثل مذكرات كريبيلون ولوزون ودوكلو ومارمونتيل وشامفورت والسيدة ديبيناي.

لوحة مزخرفة، تمتزج فيها الألوان الوردية مع الظلال، حيث لا يوجد مكان لأي شيء غير لطيف على الإطلاق – لأن ذلك يُعتبر انتهاكًا للأخلاق والذوق الرفيع والدقة. الرجل المثقف يعرف مسبقًا كل القواعد التي يجب عليه اتباعها في مراحل هذا النوع من الحب، والذي غالبًا ما يبدو أكثر رقيًا مقارنةً بالحب الحقيقي، لأنه يخلو من العواطف أو المفاجآت، ويكون دائمًا مدروسًا. إنه يمثل صورة مصغرة هادئة وجميلة مقارنة بلوحة زيتية لأحد أفراد عائلة كاراتشي؛ بينما الحب العاطفي يأخذنا بعيدًا عن مصالحنا الحقيقية، فإن الحب المؤدب يحترم دائمًا تلك المصالح. ومن المؤكد أنه إذا أزلنا الغرور، فلن يتبقى الكثير من الحب المؤدب، ولا يستطيع الشخص الضعيف أن يدفع نفسه للأمام.

3. الحب الجسدي هو مغامرة فريدة، كأنك في رحلة صيد مثيرة، حيث تقابل فتاة من قرية ريفية، جميلة كزهرة تنمو بين الأشجار، تسرع بخفة ورشاقة عبر الغابة. إن هذا النوع من المتعة هو بمثابة الشعلة التي تضيء درب العواطف، ومع أن قلبك قد يكون جافًا وكئيبًا، فإن هذه اللحظة هي البداية الحقيقية لحياتك العاطفية، حيث تتفتح الأبواب أمامك في سن السادسة عشرة.

4. الحب المدفوع بالغرور. معظم الرجال، خصوصًا في فرنسا، يسعون لامتلاك امرأة أنيقة كما يمتلك المرء حصانًا رائعًا، كنوع من الرفاهية التي تناسب الشباب. الغرور إذا تم إبرازه قليلًا أو تم تحريكه بشكل طفيف، يمكن أن يؤدي إلى إثارة الحماس. في بعض الأحيان، قد يكون هناك عشق جسدي، لكن هذا ليس دائمًا، وغالبًا ما تفتقر المتعة الجسدية. كما قالت دوقة شولن: “لا تتجاوز الدوقة الثلاثين في نظر البرجوازي”، ويتذكر حاشية الملك العادل لويس الهولندي امرأة جميلة من لاهاي، لم تستطع مقاومة سحر أي دوق أو أمير. لكن وفقًا لمبادئ التسلسل الهرمي، كان يتم إرسال دوقها بعيدًا بمجرد وصول الأمير إلى البلاط، مما جعلها تشبه رمزًا للأقدمية في السلك الدبلوماسي!

أكثر أشكال هذه العلاقة المملة سعادة هو عندما تتزايد المتعة الجسدية مع مرور الوقت، مما يؤدي إلى ذكريات تشبه الحب. هناك شعور بالجرح في الكبرياء وحزن في الرضا؛ وكأن الخيال الرومانسي يسيطر عليك، مما يجعلك تشعر كما لو كنت مريضًا بالحب وحزينًا، لأن الغرور دائمًا ما يتنكر في شكل شغف عظيم. ومع ذلك، هناك أمر واحد مؤكد: بغض النظر عن نوع الحب الذي يولد الملذات، فإنها تصبح حية وذكرياتها تجذب الانتباه، فقط من لحظة الإلهام. في الحب، على عكس معظم المشاعر الأخرى، يكون تذكر ما حصلت عليه وما فقدته دائمًا أفضل مما يمكن أن تتوقعه في المستقبل.

أحيانًا في الغرور – الحب، أو العادة، أو اليأس من العثور على شيء أفضل، يؤدي إلى صداقة من النوع الأقل جاذبية، والتي ستتباهى حتى باستقرارها، وما إلى ذلك.

على الرغم من أن المتعة الجسدية تعد شعورًا طبيعيًا ومعروفًا للجميع، إلا أنها تعتبر ذات أهمية أقل لدى الأشخاص الحساسين والعاطفيين. فإذا تعرض هؤلاء للسخرية في غرف الرسم أو تأثرت مشاعرهم بمؤامرات العالم، فإنهم يكتسبون فهمًا لملذات لا يمكن الوصول إليها من قِبل أولئك الذين يسيطر عليهم الطمع أو المال فقط.

بعض النساء النبيلات والحساسات لا يفهمن مفهوم المتعة الجسدية، حيث نادراً ما يختبرنها. بل يمكن القول إن شعور الحب العاطفي قد طغى تقريباً على ذكريات الملذات الجسدية.

يوجد رجال يعتبرون ضحايا لأهواء الكبرياء المدمرة، مثل كبرياء ألفيري. هؤلاء الرجال، الذين قد يظهرون قساوة نتيجة لخوفهم المستمر مثل نيرون، يميلون إلى الحكم على الآخرين بناءً على معاييرهم الخاصة. لا يمكنهم الاستمتاع الجسدي إلا من خلال قسوة يمارسونها على رفقاء متعتهم، وهذا ما يمنحهم شعوراً زائفاً بالأمان.

بدلاً من تحديد أربعة أنواع فقط من الحب، يمكننا الاعتراف بوجود ثمانية أو عشرة تمييزات. قد تتنوع طرق الشعور كما تتنوع طرق الرؤية، ولكن الاختلافات في المصطلحات لا تؤثر على الحجج التالية. كل نوع من أنواع الحب الذي سيتم ذكره لاحقاً يمر بمراحل الولادة، والحياة، والموت، أو يصل إلى الخلود وفقاً لنفس القوانين.

في فصل بعنوان “عن نشأة الحب”، يوضح ستيندال كيفية تطور الحب. ومن الجدير بالذكر مفهومه للتبلور، الذي يعتبر نوعًا من الجنون، حيث صورت سيلفيا بلاث هذا المفهوم بشكل رائع. فالمثالية الإسقاطية تدفعنا إلى رؤية أحبائنا بطريقة تجعلنا نغمر إنسانيتهم الكاملة في نسخنا الرومانسية الانتقائية للواقع.

إليكم ما يحدث في الروح:

1. الإعجاب.

2. تفكر، “كم سيكون من الممتع أن تقبّلها، أن تقبلك،” وهكذا…

3. الأمل. تلاحظ كمالها، وفي هذه اللحظة يجب على المرأة أن تستسلم حقًا، من أجل المتعة الجسدية القصوى. حتى أكثر النساء تحفظًا يحمر وجههن خجلاً في هذه اللحظة من الأمل. العاطفة قوية جدًا، والمتعة حادة جدًا، لدرجة أنهن يخونن أنفسهن بشكل لا لبس فيه.

4.يبدأ الحب كفجر جديد، حيث يتجلى في لحظات من السعادة واللذة، حين تلتقي الحواس جميعها في تناغم ساحر. إنه الإحساس العميق بالمشاركة والامتزاج مع كائن محبوب، يجلب لك الفرح ويرد لك الحب بالمثل.

5. تبدأ مرحلة التبلور الأولى. إذا كنت متأكدًا من مشاعر امرأة تجاهك، فإنك ستشعر بالسعادة في تقديم آلاف المزايا لها، وستكون ممتنًا بشكل لا نهاية له. في النهاية، قد تفرط في تقديرها بشكل مبالغ فيه، وتراها كهدية نزلت من السماء، غير معروفة حتى الآن، لكنها بالتأكيد لك.

اترك حبيبك مع أفكاره لمدة أربع وعشرين ساعة، وهذا ما سيحدث:

في مناجم الملح بمدينة سالزبورغ، يتم إلقاء غصن شتوي جاف خالٍ من الأوراق في أحد المناجم المهجورة. وبعد مرور شهرين أو ثلاثة، يُستخرج هذا الغصن مغطى برواسب لامعة من البلورات. الغصن الأصغر، الذي لا يتجاوز حجم مخلب طائر القرقف، يصبح مزينًا بمجموعة من الماس المتلألئ، مما يجعل من المستحيل التعرف على الغصن الأصلي.

العملية التي أطلقت عليها اسم التبلور هي تجربة عقلية تستخرج من الأحداث المختلفة دلائل جديدة حول كمال الحبيب.

تستمع إلى مسافر يتحدث عن بساتين البرتقال المنعشة بالقرب من البحر في جنوة خلال فصل الصيف: آه، ليتك تستطيع أن تشعر بهذه البرودة!

[…]

تنبع الظاهرة التي أطلقت عليها اسم التبلور من طبيعة الإنسان، التي تجعلنا نشعر بالسعادة وترسل الدم إلى أذهاننا. كما ترتبط هذه الظاهرة بالشعور بأن مستوى المتعة يعتمد على كمال الحبيب، بالإضافة إلى فكرة “إنها لي”.

ستيندال يوضح مفهوم التبلور من خلال تشبيه بصري، حيث تمثل مدينة بولونيا اللامبالاة بينما ترمز روما إلى الحب الكامل. يبدأ المسافر رحلته من بولونيا، حيث يكون غير مبالٍ، ثم يتنقل عبر أربع مراحل من التبلور: الإعجاب، والاعتراف، والأمل، والبهجة، لينتهي به المطاف في روما وهو محب، بعد أن زادت بشكل كبير من مزايا المحبوب. يُقال إنه رسم هذا المخطط على ظهر بطاقة لعب أثناء توجهه إلى منجم الملح في سالزبورغ.

هذا ما يحدث بعد ذلك لتثبيت الانتباه:

6. يتسلل الشك إلى قلب العاشق. في البداية، تثير عشرات النظرات أو بعض التصرفات الأخرى آماله وتؤكد مشاعره. ولكن، بعد أن يتجاوز الصدمة الأولى، يبدأ في الاعتياد على حظه الجيد، أو يتصرف بناءً على فكرة مستمدة من العدد الكبير من النساء اللواتي يمكن الفوز بهن بسهولة. يبدأ في طلب المزيد من الأدلة الإيجابية على الحب، ويسعى لتعزيز قضيته بشكل أكبر.

يُواجه الشخص الذي يبدو واثقًا جدًا تجاهلاً أو برودة أو حتى غضب. في فرنسا، هناك نوع من السخرية يوحي بأنه يُقال له “تظن أنك أفضل مما أنت عليه بالفعل”. قد تتصرف المرأة بهذه الطريقة إما لأنها في مرحلة التعافي من شرب الكحول وتخضع لمتطلبات الحياء، التي قد تخشى أنها أساءت إليها، أو ببساطة بدافع الحكمة أو المغازلة.

يبدأ العاشق في فقدان ثقته في الحظ السعيد الذي توقعه، ويقوم بتحليل أسباب أمله بطريقة نقدية.

يحاول تعويض ذلك من خلال الانغماس في ملذات أخرى، لكنه يدرك في قرارة نفسه أنها لا تعني شيئًا. مما يؤدي إلى شعوره بالخوف من وقوع كارثة كبيرة، فيبدأ الآن بتوجيه انتباهه بالكامل. وهكذا تبدأ:

7. التبلور الثاني هو عملية يتم فيها ترسيب طبقات من الماس تُظهر أنها “تحبني”.

طوال الليل الذي يلي ولادة الشك، يمر العاشق بلحظات متكررة من الشك القاسي، ثم يحاول تهدئة نفسه بقوله: “إنها تحبني”، ليبدأ في إدراك سحر جديد. لكن سرعان ما تهاجمه مشاعر الشك مرة أخرى، فيتجمد في مكانه. ينسى أن يتنفس، ويهمس: “لكن هل تحبني؟” بين الشك والفرح، يقتنع العاشق المسكين بأنها قادرة على منحه سعادة لا يستطيع العثور عليها في أي مكان آخر على وجه الأرض.

إن تميز هذه الحقيقة، والطريقة للوصول إليها، مع وجود تحديات كبيرة من جهة، ورؤية للسعادة التامة من جهة أخرى، هو ما جعل التبلور الثاني أكثر وضوحًا بكثير من الأول.

يتأرجح عقل العاشق بين ثلاث أفكار:

1. إنها مثالية.

2. إنها تحبني.

3. كيف يمكنني الحصول على أقوى الأدلة الممكنة على حبها؟

أكثر اللحظات ألماً في الحب خلال الطفولة هي عندما تدرك أنك كنت مخطئاً في شيء ما، مما يستدعي تدمير كل ما بنيته من أحلام. يبدأ الشك في التبلور في ذهنك ويتسلل إلى مشاعرك.

على الرغم من ذلك، لا يُعتبر التبلور أمرًا سلبيًا بالضرورة. في الحقيقة، يشير ستيندال إلى أنه قد يكون العنصر الأساسي في مرحلة التعلق في الحب، كما حددتها عالمة الأنثروبولوجيا البيولوجية هيلين فيشر بعد حوالي قرنين من الزمن.

يضمن التبلور الثاني استمرارية الحب؛ حيث تشعر أن الخيارات المتاحة أمامك تقتصر على كسب حبها أو فقدان الحياة. إن الفكرة القائلة بالتوقف عن الحب تبدو غير منطقية عندما تكون قناعاتك ثابتة في كل لحظة، فتتحول الأشهر إلى عادة. وكلما كانت شخصيتك أكثر قوة، تضاءلت الرغبة في التذبذب.

[…]

تستمر عملية التبلور طوال فترة الحب تقريبًا دون انقطاع. وتتمثل هذه العملية في أنه كلما كانت هناك مشكلات بينك وبين شريكتك، تقوم بتكوين صورة مثالية وهمية. من خلال الخيال فقط، يمكن أن تبدو شريكتك مثالية. بعد لحظات القرب، تخف حدة المخاوف المتكررة عبر حلول أكثر واقعية. لذلك، فإن السعادة لا تبقى على حالها، فهي تجدد نفسها يوميًا، كما لو أن كل يوم يحمل زهرة جديدة.

يعتمد تحليله العقلاني للحب على نوع من التحذير المطمئن، حيث يقر بالفكرة الشائعة بأن الحب ليس شيئًا يمكننا التحكم فيه أو التخلص منه. “كما ذكر ستيندال:

الحب يشبه الحمى التي تظهر وتختفي دون أي ارتباط بالإرادة. هذا يميز الحب الهادئ عن الحب العاطفي. إن جاذبية الحبيب ليست مجرد مسألة تقدير شخصي، بل تعتمد أحيانًا على الحظ. وأخيرًا، لا يوجد عمر محدد للحب.

يُقال إن الحب في مراحل متأخرة من العمر يكون عادةً أكثر عمقًا واستمرارية مقارنةً بالحب في سن الشباب.

بالنسبة للأطفال الصغار، يظهر الحب كأنه نهر واسع يجرف كل ما في طريقه، مما يجعلهم يشعرون بوجود تيار مستمر. وعندما يصل الشخص الحساس إلى سن الثامنة والعشرين، يبدأ في فهم أن السعادة التي يمكن أن يحصل عليها من الحياة تأتي من الحب؛ ومن هنا يبدأ صراع عميق بين الحب وفقدان الثقة. يتشكل هذا الصراع ببطء؛ لكن أي تجربة تنجو من صعوبتها الشديدة، حيث تواجه الروح أخطر التحديات، ستكون أكثر إشراقًا واستمرارية بكثير من تجارب فتاة في السادسة عشرة، التي لا تعرف سوى السعادة والفرح. وبالتالي، فإن الحب في المستقبل سيكون أقل بهجة، ولكنه سيكتسب عمقًا عاطفيًا أكبر.

 

أورانوس رواية العوالم الشاسعة اللا نهائية

يُعد مارسيل إيميه، الكاتب الشعبي في القرن العشرين، من أصحاب القدرة النادرة على رسم صورة الحالة الإنسانية بدقة. كان يدرك الوحشية الهائلة في النفوس البشرية وضعف الإنسان – بل ضعف يتجاوز ذلك في بعض الأحيان… ومع ذلك، لم يُدن الإنسان أبدًا. في رواية أورانوس التي نشرت عام 1948، يحكي الكاتب بروح الدعابة عن معاناة قرية فرنسية في زمن ما بعد التطهير؛ وهي رؤية تختلف كثيرًا عن الخطابات الرسمية.

«أنا لا أدعي أنكم منافقون، لكن هناك عصور يصبح فيها القتل واجبًا، وأخرى تأمر بالمنافقة. إن العالم مصمم بشكل متقن. الإنسان يمتلك بداخله مواهب لن تزول.»

ليس كما لو أن قريتهم، التي دُمرت ثلاثة أرباعها جراء قصف عند التحرير، خرجت سالمين من ويلات الحرب وأربع سنوات من الاحتلال الألماني. إذ اضطر كل سكان بلومونت، سواء كانوا مثقلين بضميرهم أم لا، إلى أن يشقّوا طريقهم في فرنسا المُحررة والمطهرة جزئيًا. فلا أحد هنا نسي الإعدام العلني لخبير اعتبره خائنًا، حيث تم تثقيب عينيه قبل إجباره على الركوع حول القرية. ففي الصحف والمراسم الرسمية، تبدو الحقيقة لا جدال فيها: الفرنسيون، تحت قيادة الجنرال ديغول، قاوموا ببسالة وهزموا نذل النازي ومتعاونيه غير المستحقين. لكن في خفايا البيوت، تبدو الحقيقة أكثر تعقيدًا… وهذا هو الفارق تحديدًا بين الخطاب الرسمي والرواية غير الرسمية التي يُثيرها مارسيل إيميه.

آرشامبو، وهو مهندس يحظى باحترام زملائه، وإن كان محترمًا أقل بين أبنائه، لا يخفي موقفه: فقد آمن بفائدة التعاون مع المحتل، ولا زال يؤمن به “قاسيًا كالحديد”. ومثل كثير من سكان بلومونت، كان من أنصار مارشال، “دون صخب”، لكن ليس بدرجة تدعو للتوبيخ عند التحرير. لذا، يشاهد آرشامبو بإنزعاج مشهد النظرات الزائفة والابتسامات المتملّقة من زملائه الوطنيين، الذين هم ليسوا أكثر مقاومة منه ولكنهم حريصون على الانضمام إلى روح العصر الجديد. ويلاحظ، مع زيادة انزعاجه، أنه يُظهر نفس ميوله متى ما احتاج الأمر لإخفاء آرائه الحقيقية، فيكتفي بالصمت أو بهزة رأس أو ابتسامة توحي بلا لبس للطرف المقابل بأنه يتماشى مع الرأي السائد.

ولا بدّ من الإشارة إلى أن الوقت ليس مناسبًا للتفاخر في قرية يعيش فيها النشطاء الشيوعيون في قمم أخلاقهم ومستعدون للإبلاغ عن أي مواطن يرتكب حتى أدنى مخالفة. وفي خضم هذه الأفكار، وأثناء عودته إلى منزله ذات مساء، يُوقفه في فناء عمارتنا رجل يعرفه على الفور: ماكسيم لون، الموظف السابق في مصنعه والذي عمل أثناء التعاون لصالح صحف تفتخر بانتمائها لقضية هتلر. محكوم عليه بالإعدام حكمًا اعتباريًا، ومطلوب ومطارد، يطلب ماكسيم لون ملاذًا. آرشامبو، مدفوعًا بالشفقة ومضطرًا للظروف، يمنحه مأوى… فليكن ما يكن.

في الوقت نفسه، تدور النقاشات بنشاط في مقهى Le Progrès، حيث يبدو صاحب المقهى ليوبولد، الذي يستهلك اثني عشر لترًا من النبيذ الأبيض يوميًا، معجبًا بمسرحية راكسين منذ أن أصبح الأساتذة يعقدون دروسهم في مقهاه بعد هدم الكلية. وإذا شك البعض في نزاهة صاحب المقهى في زمن الحرب والسوق السوداء، فإنه يدعي براءة نفسه، حيث “وظّف يهوديًا كعامل تقديم”. والدرريون يعلمون، رغم ذلك، بأن هذا الشخص كان ابن أخيه الذي لم يكن يهوديًا… ولكن لا بأس، فكلٌ يرتب أموره كما يستطيع ليلعب ورقة المقاوم منذ البداية.

في بلومونت، يُخترع الناس القصص أو يتباهون بها، أو إن لم يتوفر لهم بديل، يصمتون. خاصةً إذا كانوا على مقربة من أذن ناطق بنشاط سياسي من اليسار المتطرف. هؤلاء يأتون في صور متعددة: جوردان، الشيوعي المتعصب، وران غينيه، العضو الوفي للجنة الفرعية المحلية للحزب الشيوعي، أو حتى فرومنتان، الاشتراكي النضالي، الذي يحلق فوق معاصريه في سماء الأفكار السياسية، “مفتون بالخطوط الكبرى والمخططات والأفكار العرضية”. ومنذ تدمير أجزاء من القرية، اضطر هذا التجمع البشري إلى تقاسم المساحات – حيث على بعض العائلات أن تتشارك شققها مع الذين دُمروا وتشاطر واقع الجوار الجديد الذي غالبًا ما يكون مزعجًا.

تحت اختبار الزمن: الرواية التي تثير الجدل

رُوِيَت مبكرًا جدًا، والرواية تثير الضيق. الأسطورة لدى فرنسا الغاليسية، المُطهرة من عناصرها “النجسة” بدأت تتشكل، لكن مع Uranus، جاء مارسيل إيميه ليفتت آثار الإجلال الوطني.

بجرأة، يُعيد إيميه فتح الجرح الذي لا يزال ينزف… ويُذكر بروح الدعابة بدلاً من الحدة أنه لا وجود لرواية بالأبيض والأسود.

لقد أظهر مارسيل إيميه من قبل براعته في الكتابة الروائية قبل الحرب العالمية الثانية، لكن الحرب الأخيرة بدون شك منحتَه مادة أدبية لا تُقدر بثمن. فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي، كان يستمتع برسم قسوة العلاقات الإنسانية على خلفية الانقسامات السياسية (كما في La Jument Verte، حيث كان المحافظون والجمهوريون “يضربون الحديد” في زمن البُولونجية)، ولم يكن ليحلم بأفضل من ذلك.

 نشرت الرواية مبكرًا جدًا، مما أثار استياء البعض. بينما بدأ الأسطورة الخاصة بفرنسا الغاليسية، الخالية من “عناصرها النجسة”، تظهر، جاء مارسيل إيميه مع أورانوس ليضعف قوة التأليه الوطني. بتحدٍ، يُعيد فتح الجرح الذي لا يزال موجودًا… ويُذكر بروح الدعابة وليس بالدقة اللاذعة أنه لا يوجد سرد يُقدم الأمور بأبيضها وأسودها.

كما تُشير الرواية، فإن المقاومات والمشاركات في التعاون لم تكن إلا سلوكيات هامشية. ففي البداية، كان الهدف الأساسي هو البقاء على قيد الحياة قبل الانخراط في السياسة. لكن هذه النظرة المذلة للفرنسي المتوسط السلبي – بل المستسلِم – استغرقت وقتًا لتبرز وتُحدث تشققات في أسطورة المقاومة الفرنسية. ولم تتصدَّ هذا التصور حتى بعد نحو عشرين عامًا من الحرب، بفضل هجمات متكررة من قِبل مؤرخين وصحفيين غاصوا في الأرشيفات؛ إذ أحدث عرض الفيلم الوثائقي Le Chagrin et la pitié (الذي سُمح بعرضه على التلفزيون عام 1981 فقط) تحولًا صارخًا في الرواية الرسمية وصدم الجمهور بشدة. من خلال تسليط الضوء على التناقضات في سلوك الفرنسيين تجاه المحتل، بادر إلى بدء مرحلة تاريخية جديدة، تُعرف بـ”الذاكرة المكسورة” كما أسماها المؤرخ هنري روسو.

في رواية Uranus، لا يقول مارسيل إيميه الكثير غير ذلك – بأسلوب أكثر رصانة – حين يعبِّر بلفظيات آرشامبو:

«كانت تلك الموجة من المنافقة، التي كنت أظنها ستجتاح فرنسا، قد اتخذت الآن في عيني أبعادًا رائعة. سواءً زعمت الصحافة بأكملها أنها تتجاهل حقيقة وجود ملايين الأفراد ممن يحملون هذا الرأي، أو قَلَّصت عددهم إلى بضع عشرات الآلاف من الحمقى والخونة؛ كان هذا بمثابة كذبة عملاقة.»

مدح الضعف

ومع ذلك، ولضمان ألا ينغمس القارئ الذي ليس مولعًا بالسياسة، لن نخوض في تفاصيل الجدل التاريخي حول نظام فيشي. فكلمة السياسة بالنسبة لمارسيل إيميه تُستخدم في المقام الأول كذريعة لرسم الحالة الإنسانية، وعنصر ديكور يُثري المواقف والحوارات، وهو الفن الذي يتقنه الكاتب. شخصياته تتحدث ببساطة، مستخدمة لغة يومية تبدو وكأنها تنبع من فم ممثل مثل غابان أو بورفيل… (والتي ستتناسب تمامًا مع أداء ديبارديو ومارييل، في تجسيد شخصيتي ليوبولد وآرشامبو في فيلم أورانوس للمخرج كلود بيري). هذا الكلام الشعبي، الذي يمتزج فيه “مظهر المتعجب بملامح ورقية” مع “نوع من قزم كوازيمود المُنهَك من الإدمان على الكحول”، أبقى دائمًا مسافة بين مارسيل إيميه وزملائه. لقد وُصف بأنه فظ جدًا ولم ينكر يومًا ارتباطه بحركة أدبية، فلم يُقبل خلال حياته من قبل محترفي الأدب، وبعد وفاته بعشر سنوات، تعرض لهجوم شرس من المؤرخ باسكال أوري الذي اتهمه – في مقال نشرت صحيفة Le Monde – بتبنيه “لأناركية الازدراء، التي تسخر من الحالة الإنسانية بنظرة خالية من اللين وتتزين بقناع ساخر”.

ومن الظلم أن يُنتقد مارسيل إيميه على أنه يحتقر الإنسانية؛ ما لم نُلقي اللوم أيضًا على فلوبير القاسي الذي يهاجم شخصية تشارلز بوفاري ويثقل صفحة تلو الأخرى على فريدريك مورو في L’Education sentimentale. وإن كان يرسم صورة لضعفنا وركوننا وخياناتنا المخزية، فإنه غالبًا ما يغفر تلك الزلات.

فمثلاً، يفقد جان غينيه، الشيوعي المتزمت، توازنه أمام ذراع وردية لفتاة صغيرة، ويأمل ابن مونغلات الفظة، المتعاون الذي لا يُصلح، في فتح محل أحذية مع تلك الفتاة، أو يبوح المتعصب جوردان في رسالة إلى “أمه الصغيرة الحبيبة” بمخاوفه في انتظار موجة ثورية جديدة.

يرى بعض القراء أن رواية أورانوس تأتي كمحاولة لإعادة تأهيل خفية لنظام فيشي، من خلال شخصيات مارشالست مسموعة ينمّي إليها الكاتب مودة. ويعتبر باسكال أوري من بين المنتقدين الذين يرون في الرواية “إدانة ساخرة لعملية التطهير”، في حين يرى مارسيل إيميه نفسه مُكتفيًا بوصف فترة قاسية على أهله، عندما يكون الخطأ الوحيد لهم هو ضعفهم وقلة بطولة تصرفاتهم. كما أنهم لا يغفرون له – بحسب نقاد آخرين – نشره خلال الحرب في صحف متعاونة مع الألمان، رغم أنه لم يُظهر يومًا تعاطفًا مع حكومة فيشي؛ فقد كان ينشر فيها أخبارًا أو خواطر عابرة. ولا يغفرون له أيضًا نضاله، إلى جانب جان أنوي وفрансوا مورياك، للحصول على عفو لبراسياش عام 1945. وفي برنامج إذاعي على إذاعة فرنسا كولتشر عام 1991، دافع ميشيل لوكيور، الذي كتب مقدمة ونظم نشر أعمال مارسيل إيميه ضمن سلسلة “La Pléiade”، عن الكاتب الذي اُتهم بكل اللوم – لاسيما اتهامه بـ”الأكل من كل صحن” – من قبل صحفية تبدو بريئة زائفًا:

«لو كنت نجارًا أو بائع زجاج، كان بإمكانك الاستمرار في حياتك دون أن يؤثر ذلك على السياسة. أما إذا كنت صحفيًا، فكل ما تبقى هو الصحف المتعاونة.»

كان لا بدّ من العمل، باختصار. وإنما يجب على قرّاء مارسيل إيميه أن يهتموا بعمله الأدبي الجليل، الذي تركه لنا، والذي تُعَدُّ أورانوس بلا شك إحدى القطع الرئيسية فيه.

«ما هو مخيف حقًا ليس زخم الأفكار مع كل أخطائها وتشوشها. الخطر الحقيقي يكمن في بؤس واختناق العقول.» كما يقول مارسيل إيميه.

عن فلسطين رؤية تحليلية

عن المؤلفَين

إيلان بابيه ونوام تشومسكي، وهما اثنان من أبرز العلماء والمفكرين، تعاونا لإنتاج العمل اللافت “عن فلسطين”. ويجلب كلا المؤلفين ثروة من الخبرة والمعرفة إلى النقاش، مما يُثري السرد بمنظورَيهما المتميزَين حول الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

إيلان بابيه، مؤرخ إسرائيلي، يشتهر بتحليله النقدي لتاريخ إسرائيل الحديث. وُلِد في مدينة حيفا، وقد دأب بابيه على تحدي السرديات السائدة، خاصة تلك المتعلقة بقيام دولة إسرائيل عام 1948. وقد أكسبه بحثه المكثف والتزامه الصريح بكشف الحقائق التاريخية شهرة دولية، مما جعله شخصية بارزة في مجال دراسات الشرق الأوسط.

أما نوام تشومسكي، فهو عالم لغويات وفيلسوف وناشط سياسي بارز، وناقد ثابت لسياسة الولايات المتحدة الخارجية، ومدافع عن العدالة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وُلِد في فيلادلفيا، ويمتد تأثيره الفكري إلى ما هو أبعد من علم اللغة، ليشمل مجموعة واسعة من التخصصات. وقد جعلته انتقاداته للإعلام والسلطة corporatية والسياسات الحكومية شخصية محورية في الأوساط التقدمية حول العالم.

ويُعد التعاون بين بابيه وتشومسكي في “عن فلسطين” اتحادًا بين عقلين بارعين يجمعان خبرات متكاملة. فمعرفة بابيه الدقيقة بتاريخ إسرائيل، إلى جانب الرؤى الجيوسياسية الواسعة لتشومسكي، تخلقان تآزرًا يُضفي عمقًا وتفصيلًا على تحليلهما للقضايا المعقدة المحيطة بفلسطين.

وفي مسيرتَيهما، واجه كلا المؤلفين انتقادات وجدلًا بسبب آرائهما الصريحة. فقد واجه بابيه، على وجه الخصوص، ردود فعل عنيفة داخل إسرائيل لتحديه الرواية التقليدية المتعلقة بتأسيس الدولة. كما أن انتقادات تشومسكي لسياسة الولايات المتحدة الخارجية جعلته شخصية مثيرة للجدل، رغم أن تأثيره كمفكر عام لا يزال قويًا.

ويأتي كتاب “عن فلسطين” كثمرة لالتزام مشترك من بابيه وتشومسكي بالانخراط في تعقيدات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ولا يُعد تعاونهما مجرد مسعى أكاديمي، بل يعكس إيمانًا مشتركًا بقوة المعرفة في تعزيز الفهم، وفي نهاية المطاف، الإسهام في إيجاد حل أكثر عدلًا وإنصافًا للقضايا العالقة في المنطقة.

التحريف التاريخي والنكبة:

يتناول الكتاب موضوع “التحريف التاريخي”، من خلال تحدي السرد التقليدي المحيط بالنكبة، أي التهجير الجماعي للفلسطينيين أثناء تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948. وتتمثل مساهمة إيلان بابيه في هذا السياق في إعادة فحص دقيقة للوثائق التاريخية والشهادات، كاشفًا عن رواية أكثر تعقيدًا وغالبًا ما تكون مزعجة للأحداث. يُقارن بابيه بين اكتشافاته والرواية الصهيونية السائدة، مقدّمًا منظورًا يطعن في الأعراف الراسخة.

أحد الجوانب المحورية في مراجعة بابيه التاريخية هو تركيزه على دور “التطهير العرقي” في نشأة إسرائيل، حيث يجادل بأن تهجير الفلسطينيين لم يكن مجرد نتيجة للحرب، بل كان جهدًا ممنهجًا ومتعمدًا لإنشاء دولة ذات أغلبية يهودية. ورغم أن هذا المنظور مثير للجدل، إلا أنه أثار نقاشات مهمة داخل الحقل الأكاديمي التاريخي، إذ يختلف بشكل جذري مع التفسيرات الصهيونية التقليدية للنكبة.

وبالمقارنة مع مؤرخين آخرين مثل بني موريس، فإن نهج بابيه يمثل انحرافًا حتى عن “المؤرخين الجدد” الذين، رغم مراجعتهم لبعض السجلات التاريخية، لم يستخدموا دائمًا مصطلح “التطهير العرقي” لوصف أحداث عام 1948. يناقش الكتاب هذه التفسيرات المختلفة من خلال طرح مساهمة بابيه المميزة في هذا الجدل المستمر حول النكبة.

دور الفاعلين الدوليين ومسألة العدالة:

يستكشف بابيه وتشومسكي موضوع التدخل الدولي في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، من خلال تحليل أفعال القوى والمؤسسات العالمية. وينتقدان بشدة دور الولايات المتحدة، مشيرين إلى دعمها الثابت لإسرائيل وما يترتب على ذلك من آثار على السعي نحو العدالة في المنطقة. وتتمثل مساهمة تشومسكي في هذا السياق في تحليله الأوسع للسياسة الخارجية الأمريكية، من خلال وضعها في سياق توازنات القوى والمصالح الجيوسياسية.

يتناول الكتاب مفهوم “عملية السلام” ودورها في تكريس الوضع القائم، حيث يرى المؤلفان أن هذه العملية، التي تديرها قوى دولية نافذة، غالبًا ما تكون ستارًا يُخفي الأسباب الجذرية للصراع. ينتقدان اتفاقية أوسلو والمفاوضات اللاحقة، ويؤكدان أنها فشلت في معالجة القضايا الجوهرية المتعلقة بالعدالة وتقرير المصير الفلسطيني.

وعلى خلاف بعض الأكاديميين الذين يتبنون رؤى أكثر دبلوماسية، فإن نقد بابيه وتشومسكي ينبع من تحليل أعمق لبنى القوة واختلال التوازن في العلاقات الدولية. وبدلًا من الاكتفاء بالمناقشات السطحية حول مفاوضات السلام، يقدم الكتاب فهمًا عميقًا للتحديات التي تفرضها القوى الجيوسياسية أمام تحقيق العدالة للفلسطينيين.

مفهوم الصهيونية وتطوره:

يناقش الكتاب أيضًا موضوع الصهيونية من خلال تتبع تطورها التاريخي وطبيعتها المتغيرة. يستعرض بابيه وتشومسكي التاريخ المعقد للصهيونية منذ بداياتها الأيديولوجية وحتى تجسيدها في إقامة دولة إسرائيل. وتبرز مساهمة بابيه في نقده لطبيعتها الإقصائية وتأثيرها على الشعب الفلسطيني.

يركز الكتاب على التوتر الكامن بين فكرة “إسرائيل الديمقراطية” والطابع الديني أو الإثني للدولة، مقابل مبادئ الحكم الديمقراطي. يرى بابيه أن المشروع الصهيوني منذ بدايته كان يحمل عيوبًا جوهرية لا تزال قائمة بل تعمقت مع الوقت. هذا الطرح يختلف عن التفسيرات المعتدلة التي تحاول التوفيق بين الطموحات القومية الصهيونية والقيم الديمقراطية.

وعند مقارنته بمفكرين مثل أ.ب. يهوشوع أو عاموس عوز، الذين يميلون إلى موقف تصالحي أكثر تجاه الصهيونية، فإن بابيه وتشومسكي يقدّمان تقييمًا نقديًا يدفع القارئ إلى التساؤل حول الأسس التي يقوم عليها المشروع الصهيوني. يتجاوز طرحهم مجرد استعراض تاريخي، إذ يقدمان فهمًا معاصرًا لانعكاسات الصهيونية على الصراع المستمر.

دور الإعلام في تشكيل التصورات:

يتناول بابيه وتشومسكي دور الإعلام في الصراع، من خلال تحليل نقدي لكيفية تشكيل السرديات الإعلامية للرأي العام. يطرح تشومسكي، الناقد الإعلامي المعروف، مفهوم “صناعة القبول” لتوضيح كيف تساهم وسائل الإعلام في إسرائيل وحول العالم في بناء رواية معينة. يستعرضان كيف يؤثر تأطير الإعلام للأحداث على الرأي العام، وبالتالي على القرارات السياسية.

من الجوانب المهمة التي يتم تناولها، تصوير العنف والمقاومة؛ حيث يرى المؤلفان أن الإعلام غالبًا ما يصور المقاومة الفلسطينية على أنها إرهاب، بينما يتجاهل العنف البنيوي للاحتلال. وتوفر أفكار تشومسكي، المستندة إلى كتابه المشترك مع إدوارد هيرمان “صناعة القبول”، أساسًا لفهم كيفية استمرار التحيزات الإعلامية في دعم بنى السلطة القائمة.

وبالمقارنة مع التحليلات السائدة لتغطية الإعلام، فإن نقد بابيه وتشومسكي يقدّم عدسة نقدية للقارئ للتشكيك في تأطير الإعلام للصراع. يشجّع الكتاب القراء على أن يكونوا أكثر وعيًا وانتقائية في استهلاكهم للمعلومات، وعلى التفكير في تأثير الروايات الإعلامية على الخطاب العام حول النزاع.

تحديات وإمكانيات النشاط الأكاديمي:

من الموضوعات الأخرى التي يناقشها كتاب عن فلسطين دور المثقفين والأكاديميين في الدفاع عن العدالة والتغيير. يتأمل كل من بابيه وتشومسكي، بصفتهما أكاديميين، في التحديات والإمكانيات التي يطرحها ما يمكن تسميته “النشاط الأكاديمي”. يناقشان المسؤوليات الأخلاقية التي تقع على عاتق الباحثين في مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان، وضرورة التحدث علنًا ضد الظلم.

تضفي تجارب بابيه الشخصية، بما في ذلك المضايقات التي تعرض لها داخل إسرائيل بسبب آرائه، بعدًا واقعيًا لهذا الموضوع. فهو يؤمن بأهمية أن يتجاوز الأكاديميون حدود الجامعة ويتفاعلوا مع المجتمع، مسلطًا الضوء على الواجب الأخلاقي المتمثل في قول الحقيقة. أما تشومسكي، فتعكس التزامه الطويل بالنشاط السياسي هذه الفكرة من خلال حديثه عن التداخل بين العمل الفكري والسعي لتحقيق العدالة.

وبالمقارنة مع النظرة المحافظة التي ترى أن الأكاديمي يجب أن يكون محايدًا ومنفصلًا عن القضايا الاجتماعية، يدعو بابيه وتشومسكي إلى أن يستخدم الأكاديميون معارفهم للمساهمة في التغيير الإيجابي. يحفّز هذا المحور القرّاء على التأمل في الدور المحتمل للبحث الأكاديمي في التصدي للمظالم البنيوية، والدعوة لحل عادل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

تشومسكي حول فلسطين:

تعكس مساهمة نعوم تشومسكي في عن فلسطين التزامه الطويل بالتحليل النقدي والنشاط السياسي. فهو يستند إلى خلفيته في اللسانيات والنظرية السياسية ليقدّم رؤيته الفريدة في قضايا الصراع.

يُرجع تشومسكي الصراع إلى دعمه الأوسع لتحليل السياسة الخارجية الأمريكية، حيث يرى أن الولايات المتحدة دعمت إسرائيل دائمًا سياسيًا وعسكريًا، مما ساهم في تكريس الوضع القائم. هذا يتماشى مع تحليلاته العامة لبنى القوى العالمية ودور الدول المهيمنة في رسم السياسات الجيوسياسية.

يتناول تشومسكي “عملية السلام” وما يرى أنه حدودها وفشلها. ينتقد مفاوضات أوسلو معتبرًا أنها لم تُعالج القضايا الجوهرية كالعدالة وتقرير المصير للفلسطينيين، مؤكدًا أن المصالح الجيوسياسية تقف عائقًا أمام الحلول الجذرية.

كما يناقش دور الإعلام في تشكيل فهم الناس للصراع، حيث يطبّق نظريته حول “صناعة القبول” موضحًا كيف تساهم التغطيات الإعلامية في تصوير الفلسطينيين كمعتدين بينما تُخفي عنف الاحتلال البنيوي.

وفيما يخص الصهيونية، يقدّم تشومسكي تقييمًا نقديًا لتطورها التاريخي ومآلاتها، متسائلًا عن مدى توافقها مع المبادئ الديمقراطية. ويرى أن طبيعتها الإقصائية تسببت في تفاقم معاناة الفلسطينيين.

بابيه حول فلسطين:

إيلان بابيه، المؤرخ الإسرائيلي، يقدم صوتًا مميزًا في On Palestine، من خلال تركيزه على مراجعة التاريخ وتفكيك الروايات السائدة.

يعتبر محور المراجعة التاريخية للنّكبة جوهريًا في مساهمته. إذ يفحص الوثائق والشهادات التاريخية بعناية ليكشف عن سردية معقدة، يرى فيها أن التهجير كان ممنهجًا لا عرضيًا. ويُعد استخدامه لمصطلح “تطهير عرقي” نقطة محورية أثارت نقاشًا أكاديميًا واسعًا.

ينتقد بابيه الصهيونية كمشروع إقصائي، ويُحلل تطورها وآثارها طويلة المدى على الفلسطينيين. يذهب أبعد من الطروحات المعتدلة ليقدم قراءة معاصرة لجذور الصراع.

يناقش أيضًا دور القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة، في تطورات الصراع، معتبرًا أن عملية السلام لم تعالج القضايا الأساسية بل ساهمت في إخفائها.

ويسلّط الضوء على تجربته الشخصية كمثقف مُلاحق داخل إسرائيل بسبب آرائه، مما يعزز من دعوته لدور فاعل للأكاديميين في المجتمع.

ردود الفعل على الكتاب:

أثار كتاب عن فلسطين نقاشًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية والسياسية والجماهيرية. فقد نال الثناء من قبل مؤيديه الذين أشادوا بتحليله العميق ومراجعته الجريئة للتاريخ وتقديمه لرؤية جديدة للنّكبة والصراع المستمر.

لكنّه أيضًا تعرض للانتقاد، خاصة من أنصار الرواية الصهيونية التقليدية الذين اعتبروا أن الكتاب ينطوي على تحامل ضد إسرائيل ويفتقر للتوازن، وهو ما يعكس الانقسام الأيديولوجي العميق المحيط بالقضية.

وجد الكتاب جمهورًا مهتمًا بالرؤى البديلة، خاصة بين من ينتقدون التغطية الإعلامية السائدة للصراع. لكنه واجه في المقابل مقاومة وربما رقابة في بعض السياقات السياسية، خصوصًا داخل إسرائيل، حيث يُنظر إلى مضمونه كتهديد للروايات الرسمية.

وتعكس ردود الفعل هذه الطبيعة المستقطبة للصراع وصعوبة إيجاد حوار منفتح ونقاش دقيق في سياق كهذا.

الطيور تسقط ميتة

تحتل الطيور في عناوين الروايات مكانة خاصة كرمز للغموض أو لما لا يُفهم. فهي تموت في البيرو، أو تختبئ لتموت، وتمنح عند دافني دو مورييه وهتشكوك عنوانًا جنسيًا للتهديد والجريمة. إنها ضحايا أو جلادون، نادرًا ما تكون غير ذات دلالة. حمامة باتريك زوسكيند ليست سوى عين كاشفة ومقلقة.

يعطي فيكتور بوشيه لروايته المذهلة عنوان لماذا تموت الطيور، بدون علامة استفهام. فالعنوان ليس سؤالاً، ولن يقدم الكتاب تفسيرًا. إنها طيور سقطت من السماء، هكذا ببساطة، طيور ميتة سقطت بالآلاف على شواطئ النورماندي خلال بضعة أيام، وهذا الحدث هو ما يدفع الراوي لبدء تحقيقه. مرور الخبر بصمت تقريبًا في وسائل الإعلام، ونسيانه بسرعة دون أن يثير تساؤلاً، يغرق الراوي في حالة من عدم الفهم على مستويات متعددة. خصوصًا أن أول “مطر من الطيور الميتة” حدث في بلدة نورماندية قضى فيها طفولته، حيث لا يزال والده يقيم.

الراوي يحمل اسم فيكتور بوشيه، ويمكننا أن نفترض بشكل معقول أن ذلك نوع من المزج بين الذاتي والمتخيل. اسم “بوشيه” له أهمية خاصة في الرواية، وسنعود إليه لاحقًا. والراوي يشترك على الأقل مع المؤلف في نفوره من كتابة أطروحته، التي يشعر بالملل منها. ملاحقة الطيور الميتة تشكل تحقيقًا أكثر إثارة بكثير. ها هو أخيرًا هدف يمكن السعي إليه، طريقة لانتشال نفسه من الركود، لاستعادة زمام مصيره. فالراوي يعيش مرحلة اكتئاب، انفصل عن صديقته، وأسرته مفككة بالكاد تعطي أخبارًا. طالب في باريس، يجد نفسه على متن رحلة نهرية مخصصة للمتقاعدين، متجهًا إلى النورماندي. فركوب القطار لم يكن ليحمل المعنى ذاته: لفهم سر المطر الغريب من الطيور الميتة، عليه أن يتبع مجرى نهر السين. التفسير لا بد أن يكون على الضفاف.

يسير فيكتور بوشيه بعكس التيار في اختياره لهذا الدافع السردي، إذ يجعل الراوي ينزل مع النهر ليصل إلى الجذور. الرحلة بطيئة كما هو حال الرحلات النهرية، تتخللها محطات ثقافية ووجبات مشتركة مع ركاب غرباء، لطفاء أحيانًا ومزعجون أحيانًا أخرى. كونه الشاب الوحيد وسط كبار السن، يشعر الراوي بانفصاله عن المجموعة، لكنه في الوقت ذاته جزء من رحلة تدفع الجميع في نفس الاتجاه، ولو لأسباب مختلفة.

السين، بمنعطفاته وميله الطفيف، يشكّل الصورة المثلى لرحلة باحث عن أسرار الموت الغامض. هذه ليست جريمة على النيل مع محقق لا يخطئ، بل هي موت في نهاية السين مع محقق متردد، حزين وتائه. وكان من السهل، انطلاقًا من هذا الوضع، أن يكتفي الكاتب بسرد الرحلة بهدوء، وأن يرصد مجموعة المتقاعدين في مغامرتهم، ويكرر الكليشيهات عن جيفرني وروان. لكن فيكتور بوشيه يتجنب كل هذه الفخاخ ببراعة. فيغادر الراوي المجموعة في محطة روان، ليعود إلى كبار السن الحقيقيين في حياته: المجنونة مادلين التي تهذي في الكاتدرائية، ووالده الذي يمضغ في منزله ببونسكور – موقع أول سقوط للطيور – فكرة انحدار فرنسا.

يقدّم فيكتور بوشيه رواية شديدة الحساسية، تتنازع فيها الاستعارة مع حبكة أوسع وأكثر تركيزًا في آن. الهدف الأول – لماذا تموت الطيور – لا يتغير، لكنه يكشف شيئًا فشيئًا عن تساؤل أكثر حميمية: لماذا تموت الأشياء؟ لماذا انفصل الوالدان؟ لماذا غادرت الحبيبة تاركة فقط بضع كلمات مقتبسة من ميشو؟ تعود ذكريات الطفولة ومشاعرها: غطاء السرير المرسوم عليه تان تان يركض خلف قطار، شجارات الوالدين في السيارة والطفل محاصر في المقعد الخلفي، غثيان البحر على متن قارب والده وانتظار الوصول للميناء.

حساسية الرواية لا تقوم على التباكي، بل على إشارات ثقافية موزونة، تستند إلى خلفية حضارية يونانية. الأب هو أوليس من الأقاليم، والراوي لا يملك سوى دفتر “كليرفونتين” كدرع يسجل عليه ملاحظاته بدقة، يرسم عليه أحيانًا مخططات أو يسرد كلمات تصف شعوره كطفل لوالدين مطلقين، وكطالب دراسات عليا هارب، وعاشق مرفوض.

فالمرء إما باحث أو ليس كذلك. والراوي قد تدرب على التحقق من المصادر، على البحث واستكشاف النصوص. في يوم مضطرب، بعد أن غادر الرحلة النهرية وبكى بين أحضان حبيبته، ينغمس في حياة وأعمال فيليكس-أرشميد بوشيه، الذي يحمل اسمه. وهذه، على الأرجح، أكثر أجزاء الرواية إثارة ودهشة. نترك للقارئ متعة اكتشاف الخلاف بين بوشيه وباستور حول نظرية “الخلق التلقائي”. ومرة أخرى، تلتقي القصة الشخصية مع الاستعارة – هذه المرة العلمية. آه، لو كان بإمكاننا أن نولد من لا شيء! لكن النظرية دُحضت في وقتها، والنسب الذي كان يُرجى أو يُتخيل، تبين أنه خادع.

تتخلل الرواية إشارات أخرى كثيرة، ترسم مسارًا أدبيًا وتاريخيًا. توقّف الأب في غيرنزي، جزيرة نفي فيكتور هوغو. اسم بوشيه الذي ربما ألهم فلوبير في خلق شخصية “بيكوشيه”. فلوبير وببغاؤه. فيليكس-أرشميد بوشيه الذي عمل على تأليف كتاب عن الطيور. كل شيء يتداخل بسلاسة ووضوح وتحكم تام. حتى الإشارة إلى حملة ماو لمحو الطيور الصينية للقضاء على المجاعة. صحيح أن ظاهرة سقوط الطيور غذّت نظريات المؤامرة، لكننا نعرف كيف ولماذا تموت الطيور وتسقط بهذا الشكل الجماعي أحيانًا. يكفي جولة قصيرة على الإنترنت لاكتشاف الجواب.

لكن فيكتور بوشيه لا يعطينا حلًا لهذا اللغز في روايته. لأن ما بدأ به لم يكن سوى نقطة انطلاق خادعة. النهاية التي يصل إليها مختلفة، أكثر إنسانية، وأكثر حساسية. لماذا تموت الطيور رواية أولى ناضجة، مليئة بالعاطفة. رواية بعيدة عن الاستعراض، لا تعتمد على الموضات أو التصنع، بل تقول بصدق ما نحن عليه: كائنات ضائعة قليلاً، تبحث في ما يسقط من السماء عن مبرر لحياة تزحف على الأرض.

‏رحلة في عوالم حميد الرقيمي: قراءة في عمى الذاكرة

‏رواية مخيفة، فيها من الحب والحرب ما يكفي لتبقى عالقًا، متقرفصًا بين أروقتها حتى آخر ورقة. وأنا أقرأ مستهل صفحاتها الأولى، شعرتُ أنني في مواجهة تتطلب شرفة هادئة ونفسًا عميقًا، وربما جاهزيةً مكتملة الأركان للدخول إلى عالمٍ طويل، وهذا ما حدث بالفعل. في تلك اللحظة، لم يكن لي إلا أن أُسلم أشرعتي لحميد، حيث تودي بي قريحته. كنتُ مطمئنًا على نفسي، وفي رفاهيةٍ وأنا أتنقل مع شخصيات روايته، أعيش معهم غربة المكان، وخوف المستقبل، وقلق الأسئلة المبتورة.

‏الريبة التي توشحت “سالم المجهول”، دفء الجد الذي ملأ رأسه جنون البشرية كلها، صدفة “عبده حمادي” وحياة كوخه الذي احتضن الشتات والتيه والشرود الطويل لـ”يحيى” القادم من اللا شيء، كوخٌ تسربت من خلاله الكثير من الحيوات والكثير من الآمال إلى قلبه، وجعل منه لافتًا وملفتًا لزملائه، ولـ”يافا” تحديدًا، الفتاة التي كسرت في فمه جمود الريف، ليصبح عاشقًا مشدوهاً متلهفًا، صخبُ حنينه يلوي شوارع صنعاء حتى انتهى به القدر، مع تفاقم تخوم الحرب في المدينة، إلى اقتناء حماقة لا يغفرها الزمن: الانتقال إلى يافا التي تسكن شملان، الملتهبة بالصراع والموت، للاطمئنان عليها فحسب، متجاهلًا فكرة ما قد يلحق به وبـ”النبيل عبده حمادي” من قذيفة أو رصاصة طائشة قد تمحو وجودهما إلى الأبد، وهو ما حدث بالفعل. إذ اعترض جنونهما طريق “يافا” التي نزحت إلى المجهول، فيما قذيفةٌ وزعت جسد “عبده حمادي” إلى أشلاءٍ صامتة، دون أن يوحي شيءٌ منها بقوام رجلٍ كان يمشي على الأرض.

‏وأنا أقرأ براعة حميد في عمى الذاكرة، وقفتُ مراتٍ عدة متعجبًا من طراوة هذا الرجل، وعلاقته مع اللغة والكلمة، وكيف يكتب بهذه الغزارة إلى درجة يخال إليك وأنت تقرأه أن قلبه ليس إلا محبرةً تضخ الكلمات والأحاسيس التي تهوي بك إلى عالمٍ لم تكن تتوقعه. لا أنكر أنني عشتُ وشاطرت شخصيات عمى الذاكرة أرواحهم العليلة، وألم الهجرة والبقاء خارج الحدود، بعد أن خذلهم الزمن داخل البلد، وكيف أرغمتهم صيرورة الحياة على بدء رحلة جديدة من الضياع والموت المؤجل.

‏ثلاث ليالٍ وأنا أقرأ حميد، وفي كل لحظة تزداد لوعتي التصاقًا بما كتب، وبما سيكتبه أيضًا. حميد الرقيمي كاتبٌ من النوع الذي ما إن تقرأه حتى يلقي على كاهلك مسؤولية المواصلة، حتى وإن كانت الوجهة إلى أوروبا والطريق شائكًا بالموت. سيربّت على كتفك بجنون السطر الأول، ويمسك بيد قلبك ليعبر بك صحاري طويلة، ويجبرك على الغرق دون أن تشعر بذلك. ولا تفسير لهذا أكثر من كونه حميد الدهشة، والمنجم الطويل الذي ينبض أدبًا وقصيدة.

‏رواية ماتعةٌ للغاية، وهذه الثالثة لحميد الرقيمي التي أقرؤها بشغف، بعد حنين مبعثر والظل المنسي.

‏خالص التوفيق، يا حميد الخصال..!

‏بقلم: عتصم الجلال

المزاوجة بين الواقع والخيال في المجموعة القصصية “عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي ”  للكاتبة السعودية “رجاء البوعلي”

المزاوجة بين الواقع والخيال في المجموعة القصصية “عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي ”  للكاتبة السعودية “رجاء البوعلي”

بقلم:  حامد أحمد الشريف

من المعلوم أن الخيالَ ركنٌ رصينٌ في الإبداع لا يكون إلا به، مهما تعددت أوجهُهُ أو تغيرت المهارات التي يعتمد عليها، وبقدر اتساع هذا الخيال يكون حجم الإبداع، وذلك يعنى أن قيمة المهارة ترتبط طرديًا بكمية الخيال التي عجنت به وأبعدته عن الواقعية، ويُستثنى من ذلك المهارةُ التي تقترن قيمتها عادة بمدى تطابقها مع الواقع ، كالمدرسة الواقعية في الفنون التشكيلية، وكذلك رسم الوجوه “البورتريه” أو الكتابات الواقعية كالسير الغيرية والتاريخ ونحوِهما، ولكن يعيب كلَّ ذلك؛ عدم القدرة على توظيف المهارة واستخدامها لإيصال أفكار وفلسفات الفنان أو الكاتب نفسه، إن لم يكن صاحب المهارة قادرًا على مزج الخيال بالواقع، وبالتالي افتقارها للمغازي والأعماق المثرية، واقتصارها على قيمة جمالية سطحية لا تدوم طويلًا، أي إن إحياء المهارات وتدسيمها واستدامتها يقترن على الدوام بالخيال.

ذلك ما يدفعُنا للقول بشكل مبسط إن الخيال هو التفاصيل الجديدة التي يشتغل عليها المبدع ويحطم بها الأغلال ويمنح من خلالها قيمةً إضافية للواقع الـمُحاكَى، وهو بهذا الوصف يمنح المبدعَ القدرةَ على قول كلمتِه الفصلِ واستظهارِ أفكاره وفلسفاته وتوظيف مهاراته لإيصال صوته، بينما لا يكون له ذلك في حال كان الواقع مستحوذًا على مهارته واستكان تحت جدرانه.

وحتى لا نبتعد كثيرًا نخصص حديثنا عن الكتابة الإبداعية فنقول إن الكاتب المبدع هو من يستطيع تضميخ كتاباته بفلسفاته وأفكاره وإخراجها من السطحية، مستخدمًا الخيال كوعاء يحقق له كلَّ ذلك، ومن هنا ظهر أدب السرد بكافة أشكاله وألوانه، أي إن نسبة الخيال تشكل قيمة حقيقية للقطع النثرية والشعرية أيضًا، ترتفع قيمتها بازدياد نسبته وتنخفض بانخفاضها ويستثنى من ذلك السير الذاتية التي تستغني إلى حد ما عن الخيال، وتعتمد على عواملَ أخرى في استظهار قيمتها، وإن كان بعضهم يعتقد أن الانتقائية في سرد الواقع، وتسليط الضوء على مفاصل معينة، واستعادته بعد فترات انقطاع زمنية طويلة، وكذلك التفسيرات والتأويلات والاستشهادات الممنهجة، تُعد جزءًا من الخيال الذي يمنح مثل هذه السرديات الواقعية قيمة تخييلية إضافية، خلاف أن الفضائحية والقيمة الحكائية العالية تمنحها قيمة مؤقتة تدفع للقراءة الأولى وتختفي بعد ذلك أو تقل، ما يغنيها إلى حد ما عن الخيال المحض في صياغتها الكتابية، وفي الأمر تفصيل أكبر لا يعنينا في هذه الوقفة.

وبالعودة إلى قيمة الخيال والواقع للمرويات السردية، نجد أنهما صنوان لا ينفصلان فأي منهما لا يستغنى عن الآخر، فالسرد لا يقوم بدون واقع معين ينطلق منه، والواقع لا قيمةَ له بدون الإضافات التخييلية، وإن كان ذلك جانب تنظيري قد لا يؤمن به بعض المبدعين؛ ممن استطاعوا تدوين سرديات واقعية إبداعية تصف تجربتهم الحياتية ويكاد ينعدم فيها الخيال، من دون اختلال قيمتها الحكائية، واستدامة حضورها في أذهان المتلقين، ويمكننا تلمُّسُ ذلك في مرويات الكاتب المصري المبدع إحسان عبدالقدوس وكذلك الكاتب المصري المبدع إبراهيم أصلان، وغيرهما من المبدعين الذين استطاعوا تدوين الحكاية الواقعية كما هي بدون تصرف في وقت منحوا كتاباتهم قيمة كبرى من خلال تضمينها لأفكارٍ ومغازيَ عميقة وفلسفات، استنطقوها في وصفهم المجتزئ وجعلوا من كتاباتهم تلك أنموذجًا للكتابة الواقعية الراقية التي تُخضع الواقع لسلطان الخيال، وتوظفه لإيصال مستهدفات الكاتب القيمية بطريقة مقنعة ومقبولة، وبالتالي فهي لا تبتعد كثيرًا عن الأدب السردي الخيالي إن لم تتطابق معه.

إن هذه القيمة التي حفلت بها كتابات إحسان عبدالقدوس وإبراهيم أصلان وغيرهما من المبدعين العالميين – رغم واقعية مروياتهم وعدم تقيدها باشتراطات القصة- ، شكلت تحديًا كبيرًا لأقلامهم نجحوا في تجاوزه، بينما أخفق كثيرون عند استنساخهم لهذه التجارب الإبداعية، فظهرت كتاباتهم سطحية ممجوجة لا قيمة لها، ولعل ما أعان هؤلاء المبدعين الأوائل على تجاوز هذه الصعوبة؛ خبراتهم الحياتية الكبيرة، واعتناقهم كثيرًا من الأفكار الفلسفية المتجردة، وامتلاكهم ناصية اللغة، وحرفيتهم الكتابية العالية، وقدرتهم الحكائية المميزة التي منحتهم القدرة على نقل الواقع بهذه الطريقة الصعبة، وهم يتعمدون إهمال الخيال، أو لنقل تقليل نسبته مع الاحتفاظ بقيمة كتاباتهم.

الآن يمكننا تركُ كل ذلك والذهاب باتجاه كتابنا “عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي” للكاتبة السعودية المبدعة “رجاء بالعلي” الصادر عن منشورات جدل في مائة واثنان وستون صفحة من القطع المتوسط، ولقد اضطررت لتدوين هذه المقدمة الطويلة، لإيصال الفكرة التي منحت هذه المجموعة القصصية المكونة من خمس عشرة قصة قصيرة قيمتها الحقيقية على الأقل من وجهة نظر شخصية، وكان أكثر ما ميز هذه المجموعة خلطُها بين القصص الخيالية المعتادة والقصص الواقعية السيرية التي تظهر فيها الكاتبة بشحمها ولحمها وفكرها وفلسفتها المباشرة، وإن كانت مجرد إضاءات على مواقف معينة تعرضت لها الكاتبة وسردتها كما هي بواقعيتها، ويمكن حصرها في قصص “عاملتي الأفريقية” و”شقة في الملحق الأخير” و ” عشرة أيام في مركز عين قسيس الإنجيلي” وكذلك القصة الأكثر أهمية “عيني على نعش” و”سيدة المكتب الجديدة”، وإن كانت نسبة الخيال الموظف قد ارتفعت في هاتين القصتين، ولم تكن كالحكايات الواقعية في الثلاثِ الأُوَل.

وبالعودة للقصص السيرية الواقعية الخمس نجد أنها تشابهت في إهمالها للخيال إلى حد ما، وتقليلها من حضوره، ونقلت لنا واقعًا معينا عاشته الكاتبة وأخبرتنا بكل تفاصيله الدقيقة، وكان يمكن لنا تناولُه ضمن أدب السيرة، وإن كانت مقتطفات وليست حياة كاملة وهذه الخاصية الشذرية بالمناسبة لا تخرجها من أدب السيرة، فالسيرة الذاتية إنما اتصفت بهذه الصفة من خلال سردها للوقائع الحقيقية وتجنيبها للخيال ولا يشترط في ذلك أن تكون طويلة أو قصيرة أو أنها تمثل الحياة كاملة أو جزءًا منها، وهو ما نقلته لنا هذه الحكايات الخمس، بداية مع العاملة المنزلية التي وصفت لنا الكاتبة تجربتها معها كاملة من وقت حضورها حتى مغادرتها، واتخذت نفس الأسلوب في وصف حياتها في السكن الجامعي بكل تفصيلاته وعلاقاته المضطربة، وختمت هذه المرويات السيرية بحكايتها الطويلة نسبيًا عن تلك الأيام التي قضتها في لبنان من خلال مركز مسيحي انخرطت فيه مدة عشرة أيام. ويمكن إضافة قصة “عيني على نعش” التي أسهبت الكاتبة من خلالها في التحدث عن والدها ومنحته القيمة التي يستحقها وجددت إيمانَنَا بمقولة “إن كل فتاة بأبيها معجبة” وكانت قد فردت لها مساحة كبيرة للحكي تقدر بسبع عشرة صفحة ولم يتفوق عليها غير قصة “عشرة أيام..” التي وردت في خمس وعشرين صفحة.

إن قصة “عيني على نعش” وكذلك القصة الأخيرة “سيدة المكتب الجديدة” يمكن اعتمادهما كحلقة وصل بين الواقعي والمتخيَّل، فحكمها يختلف إلى حد ما عن بقية القصص الواقعية، إذ إن نسبة الخيال في “عيني على نعش” ترتفع إلى حد ما بداية من العنوان الذي لم يذكر الوالد يرحمه الله صراحة وإنما استخدم عنوان تخييلي له دلالاته السردية ويستخدم عادة في القصة القصيرة الإبداعية، بما له من إشارات سيميائية ذات قيمة كبيرة تبتعد به عن الواقع، رغم ارتباط الحكاية بذكرى موت الوالد، وبالتالي استطاعت منحه مساحة تأويلية أكبر، وأحضرت حاسة النظر لتأكيد هذه المغازي العميقة التي يحتملها العنوان، وهي بذلك قد وظفت الخيال في السرد، طالما أنها استطاعت دفعنا للتفكير في الحالة الوجدانية والفكرية والفلسفية، التي غالبًا ما نعيشها ونحن ننظر لأي نعش، حتى لو لم يكن لنا علاقة بالراقد بداخله، وأتت الحكاية بعد ذلك وجدانية، تعبر بالفعل عن علاقتها بوالدها بكل تفصيلاتها، بينما كانت الحكاية الأخيرة “سيدة المكتب الجديدة” حلقة وصل بين الخيال والواقعية في متنها، عندما استلهمت الكاتبة تجربتها الشخصية في قيادة فريق العمل، بوصفها الأنثوي، وأخذتها لأبعاد تخيلية وإن بنسب معتدلة حتى توصل مستهدفات القصة الفهمية بعيدًا عن تجربتها الشخصية، حيث إن التفاصيل لم تكن كلها واقعية رغم اتكائها على الواقع، وهي مزاوجة جميلة بين الواقع والخيال.

وبالعودة للحديث عن الواقع غير المتخيل الذي استطاعت الكاتبة نقله بطريقة أدبية ماتعة وحافظت على استدامة حضوره في وجدان القارئ وحاكت من خلاله أدب عظماء السرد العربي الواقعي، فنحن نتحدث عن الثلاث القصص الأولى، وإن تفاوتت قيمتها فهي تبلغ أوج عظمتها في القصة التي ظهرت في غلاف العمل، ونقلت لنا الواقع كما هو بدون حضور الخيال، إذا ما اعتمدنا على الصراع الموصوف والحدث المتوالد خلال عشرة أيام، فكل الأحداث والصراعات واقعية بتفاصيلها الزمانية والمكانية وبشخوصها من بدايتها حتى نهايتها، ولكن حصافة الكاتبة حضرت هنا، من خلال منحها قيمة إضافية من دون المساس بهذه الثوابت الواقعية فكان تداخلها في السرد بالتأويلات والإشارات وتوظيف المواقف في إيصال كثير من أفكار وفلسفات الكاتبة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فكانت هذه المساحة الواقعية غنيةً جدًا بهذه التجاذبات الفهمية، التي أظهرت إبداع الكاتبة وجعلتنا لا نكاد نفرق بين الواقع والخيال، أي أنها استطاعت الجمع بين الواقع غير الموظف والمواقف التخيلية الموظفة، لإظهار بصمة الكاتب وإيصال أفكاره، وهذا المزج الفني شكَّل قيمةً حقيقية لهذه القصة تحديدًا، فبتنا نتعامل معها كأنها خيال صرف، ونحن نقف على المغازي العميقة والرسائل التي تريد إيصالها في كل منعطفاتها السردية، وتوظيفها لضمير المتكلم بطريقة تحاكي الروايات الإبداعية، في وقت نعجب من واقعيتها وسردها لأحداث عايشتها بالفعل، وكان ذلك نجاحًا كبيرًا للكاتبة استطاعت من خلاله المزج بين الواقع كقيمة تثير فضول المتلقي وتخاطب غرائزه المعرفية كما أسلفنا، وفي ذات التوقيت توظف هذا الواقع لقول ما تريد بطريقتها التخيلية، وهي تجربة ثرية تستحق السرد والتناقل بقيمتها الواقعية، عندما نجد كثيرا من المحاذير الاجتماعية تم تجاوزها، كانتقال فتاة سعودية مسلمة من بيئة محافظة للعيش في دير مسيحي بمفردها وما يترتب على ذلك من تجاوزات تتعلق بهذا الانتقال، إذا ما ربطناه بالأيديولوجية الدينية الرافضة لهذا التمازج غير المؤطَّر، بين الثقافة المسيحية والثقافة الإسلامية، وكان يمكن للكاتبة الاعتمادُ على هذا الواقع فقط لمنح الحكاية قيمةً كبيرة، ولكنها كما ذكرت سابقًا وظفته بطريقة رائعة لإيصال فلسفاتها باستخدام ضمير المتكلم الحكاء، الذي يبحر في التأويل والتفسير وحديث النفس ويتجاوز الواقع كثيرًا، بهدف إيصال رؤية الكاتب.

هذا النجاح الكبير الذي وقفنا عليه في الأيام العشرة حضر، وإن بنسبة أقل في قصة “العاملة” وكذلك قصة “الشقة” فكلتا هاتين القصتين نُقلت غالبًا بدون تدخل كبير من الكاتبة، واكتفت باستخدام أسلوب الاستفهام المعزز للمعاني المستهدفة، وترك فهمها لحصافة القارئ، وبالتالي انحصر تدخل الكاتبة في بث هذه الاستفهامات وتركها بدون إجابات محددة، مما قلل من قيمة الخيال وحصره في أضيق نقطة ممكنة، في وقت لم تفقد تلك الحكايات قيمتها، نظرًا للأسلوب الكتابي الأخاذ المعتمد على تقنية السرد الحكائي الجميل، الذي يعتمد على استحضار القارئ وتشويقه وإثارته وإمتاعه ودفعه للمتابعة بغض النظر عن أصل الحكاية، وهو الأسلوب الذي ينبغي أن يكون عليه السرد بالفعل، عندما يقل تأثير المتن الحكائي المتخيل والواقعي، وتنحصر أهمية المروية في أسلوبيتها البديعة، وبالتالي فإن هذا العمل يعد أنموذجًا يحاكي الكتابات القديمة التي نهض بها أسلوبها الكتابي البديع وفاق خيالها ومتنها الحكائي الواقعي.

إن حديثنا عن هذه القصص الواقعية الخمس بدرجات واقعيتها المختلفة ونِسَب الخيال المتدنية لا يمنعنا من الحديث عن بقية القصص الخيالية العشر؛ التي ارتفعت فيها نسبة الخيال بشكل كبير، واختزل الواقع كما جرت العادة في نقاط ضوء بسيطة، ينطلق منها السرد ويتحول لبقعة ضوء كبيرة تحتضن صراعًا معينًا وشخوصًا وأزمنةً وأمكنةً وأسلوبًا كتابيًا ينسج كل ذلك، ويرفع من قيمة تلقيه في المنظور الخيالي، وبالطبع نجحت الكاتبة في كل ذلك وبتنا نطالع قصصًا قصيرة متخيلة مكتملة الأركان لا ارتباطَ صريحًا بينها وبين الكاتبة، وهي المواصفات التي يشترط وجودها للتعامل مع القصة كجنس أدبي، يحمل هذه المواصفات وكان بوسع الكاتبة الاقتصارُ على هذه القصص العشر فقط، وإصدارها في مجموعة قصصية، لكنها أرادت بالفعل أخذنا معها لتبيان قيمة الخيال المتذبذبة، وعدم قدرته على إسقاط الحكاية والتقليل من قيمتها في حالة انخفاض نسبته، طالما كان القلم بأَيدٍ إبداعية أمينة، فكان المزج بين هذين النوعين من القصص مقصودًا بالفعل، حتى لا ينظر للقصص الواقعية على أنها عجز عن الخيال وسطحية في التناول، واستخدامها أيضًا في إظهار قيمة قلم الكاتبة وقدرته على منح المروية الواقعية قيمة إضافية اعتمادًا على الأسلوبية لا المتن الحكائي التخييلي، وذلك يشير بوضوح إلى أن هذين النوعين من القصص لم يأْتيا اعتباطًا، وإنما بقرار من الكاتبة بهدف خلق قيمة معينة للعمل.

في هذه القصص العشر الخيالية تم تناول بعض الصراعات الناتجة عن أحداث معينة، تستلزم ردود أفعال مختلفة تخلق لنا حكاية ما، كقصة “جاثوم الحب” التي أتى عنوانها بعيدًا كليًا عن متنها الحكائي، عندما ارتبطت الحكاية بإجراء عملية جراحية لإزالة ورم خبيث من المخ وتسليط الضوء على فترة الإفاقة التي تعقب استعادة الوعي بعد التخلص من تأثير جرعة المخدر الكبيرة، وهي الفترة التي عادة ما يحجز المريض في غرفة مخصصة لهذا الغرض تسمى غرفة الإفاقة ولا يسمح لأقربائه وأصدقائه بالتواصل، خشية تجاوزه في الحديث وفضحه بعض أسراره، والجميل في هذه الحكاية أن الكاتبة لم تنظر إليها من هذه الزاوية، وإنما منحت المريض اللاقط الصوتي، وسمحت له بالتعبير عن الحالة الذهنية والوجدانية التي يعيشها، إلى أن يحين خروجه من هذه الغرفة، وهي بالفعل فترة متخيلة ذات قيمة كبيرة لوقوعها بين عالم الوعي واللاوعي، وبالتالي لا يمكن وصفها بطريقة واقعية ويكون الخيال هو الوسيلة المثلى لدخولها وتوقع المونولوج الداخلي، الذي يدور داخلها وهو حوار مهم جدًا نظرًا لصدقه وتخلصه من كل التأثيرات التي تفسده فيما لو كان في العالم الواقعي، ما يعني أن الكاتبة استطاعت باقتدار امتطاء صهوة الخيال ووصلت بواسطته إلى الأماكن التي يستحيل أن يصل إليها الواقع.

  هذه الفكرة التي اعتمدت في صياغة قصة “الجاثوم” تكررت أيضًا مع بقية القصص التخيلية، باعتماد الخيال مَرْكبًا يتم الانتقال بواسطته للمناطق التي لا نصلها بأقدام الواقع، رغم حاجتنا لسبر أغوارها، والوقوف على تفاصيلها المغيبة، كقصة “متعة” التي أوقفتنا على المشاعر المتقلبة التي تنتاب المطلَّقة بعد حصولها على صك طلاقها، استطاعت الكاتبة هنا توظيفَ الخيال لفضح الواقعية المزيفة التي تسلط الأضواء على سعادة المطلقة إن تم الأمر وفق رغبتها، أو الحزن والألم إن كرَّسَ ظلمَ الزوج وخذلانه لها، فنجدها من خلال هذه الحكاية تغوص في حادثة الطلاق، وتستظهر المتناقضات التي تحفل بها، عندما تجمع بين النقيضين؛ السعادة والتعاسة، في قلب صاحبته، لتنطلق من لحظة التنوير هذه للأخذ بأيدينا وإطلاعنا على الإحساس الصادق الذي تعيشه المرأة بعد قرار كهذا، وبالطبع استطاع الخيال النهوض بهذه المهمة على أكمل وجه، وهو ينقل المونولوج الداخلي الذي تعيشه امرأة مرت بنفس التجربة وترك له إيصال المشاعر الحقيقية والتأثيرات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية المواكبة، والتشابك المجتمعي مع هذه الحالة، وصولًا لدهشة النهاية الرائعة التي لخصت لنا المعاناة الحقيقية التي تعيشها المرأة وهي تعتقد أنها تخلصت بقرار الانفصال من كل أحزانها وحانت لحظة الفرح التي تنتظرها في وقت قد يحدث فيه العكس.

هذا الخيال قادنا أيضًا لسبر أغوار أحد المواقف المهمة، التي قد يعيشها أحدنا عند وقوع حريق يقضي على كل ممتلكاته المادية، ويستبقي له أرواح عائلته، فمثل هذا المشهد غالبًا ما يوصف من خلال القيمة الإنسانية الثمينة الباقية، ويتم تجاهل الخسائر المادية التي يمكن تعويضها، وهي حقيقة بالفعل، لكن الخسائر المادية لها قيمتها أيضًا، وتأثيراتها الحياتية المهمة، فأراد خيال الكاتبة من خلال قصة “الحريق” أخذنا معه للتعرف على هذا الإحساس الذي ينتاب الإنسان غالبًا عندما تستعيده تفاصيل الحياة وتهزه قيمة مفقوداته المادية، ولا يسمح له الواقع بالتعبير عن هذا الإحساس طالما نجا الإنسان الأكثر أهمية بكثير، وقد أجادت الكاتبة بالفعل في كشف هذا الموقف، مستخدمة مركب الخيال الذي طاف بنا على تلك المشاعر الصادقة التي يصعب التصريح بها.

         الخيال أيضًا قادنا في قصة “وجه الليل” ليُجَدِّف بنا وينقلنا لشاطئ شبه مقفر لا تصله مراكب الواقعية بسهولة، عندما حدثنا عن الفراغ العاطفي الذي تعيشه المرأة عند إعطاب شريكها الرجل وفقده للأهلية الزوجية، وكتمها لهذه المشاعر في صدرها إما اعتدادًا بأنوثتها أو تماهيًا مع حيائها أو هروبًا من عقدة ضعفها أو بسبب عدم جدوى الحديث عنها عند غياب الحلول الممكنة، كان الخيالُ وسيلتَنا للدخول لهذه المنطقة المحظورة، واستطاعت الكاتبة باقتدار التعبير عن هذه الأحاسيس المغيبة لأنثى لا يمكن فصلها عن عاطفة جياشة تعد سر حياتها، والجميل أن الخيال قادنا هنا للوقوف على صراع من نوع مختلف عندما وقعت بطلة الحكاية في شراك عاطفة مضطربة غير واضحة المعالم لا تحقق قيمتها المفترضة كأنثى مرغوبة، بسبب تقدم عمر زوجها وعدم قدرته على الحركة وعجزه التام عن ممارسة دوره الإنساني كزوج، في وقت جمعتهما الاهتمامات المشتركة المتعلقة بإبداعاتها الكتابية التي تحيله إلى صديق مقرب لا يمكن الاستغناءُ عنه، ولعجز الواقع عن إظهار هذه المشاعر؛ أتى الخيال ليعبر بصدق عن إحساس هذه الأنثى، التي جربت المشاعر الحقيقية بوجود زوج سابق وأبناء أحبتهم، قبل أن يقضي الموت عليهم جميعًا ويغيبهم من حياتها وتستبدل بهم هذه الحياةَ البائسة.

الخيال أيضًا نقلنا معه إلى منطقة وعرة عادة لا يطرقها الواقع عند وقوفه على انجذاب أنثى محافظة لشاب يستهويها، ولا يرتبط معها بعلاقة، ولا يمكنها الإفصاح عن هذه المشاعر لأي سبب كان، وهو إحساس موجود بالفعل تشعر به أغلب الفتيات؛ لكنه لا يظهر عادة للعلن؛ انسجامًا مع فسيولوجية الأنثى المتمنِّعة رغم رغبتها، وكذلك استحالة مبادرتها بإبداء مشاعرها حفاظًا على كرامتها، خشية أن تُصْدمَ بشاب قد لا يقيم وزنًا لمشاعرها، أو تحسبًا لأي ظرف لا يسمح لهذه العلاقة بالنضوج والوصول إلى النهاية الطبيعية المرتقبة، أتى الخيال هنا ليصطحبنا معه ويقول كلمته، بعد أن تجرد من كل المحاذير المعيقة عن الإفصاح ، وأطلعنا على تلك المشاعر المغيبة التي تعيشها الأنثى في كل حين وتحترق بداخلها، في رحلة ماتعة قضيناها مع قصة “رسائل كوب الشاي”.

في قصة “عُطب أمومي” كان الخيال مضمرًا داخل النص، عندما اكتفت الكاتبة بسرد حكاية كاملة عن الإشكالية التي تعاني منها تلميذات المدارس، وهي التي تقودنا في نهاية الحكاية لمعرفة أن سوء الوالدين أو الأم تحديدًا يتسبب في السوء الكبير الذي نراه من هؤلاء التلميذات ونحاسبهن عليه بينما الأَوْلى محاسبة الأم والأب فالأبناء نتاجهم السيِّئ أو الجيد.

الخيال في قصة “هرة” أخذ بعدًا مختلفًا عندما ترك لنا متابعة حكاية واقعية اعتيادية عن أصحاب القناعات المتفلِّتة، ممن يروجون للنسوية، أو ممن يتصادمون مع المجتمعات المحافظة في قناعاتهم السلوكية البعيدة عن أي ضابط أخلاقي أو ديني، لنجد الخيال قابعًا يترصدنا في قفلة الحكاية المدهشة حتى يوصل لنا الرسالة أو العمق الذي تستهدفه هذه الالتقاطة، عندما بين لنا أن هؤلاء المنحازين لأفكارهم الشاطحة غير الواقعية عادة ما يسقطون في أول المنعطفات، ويتخلون عن هذه القناعات، ويمكننا اكتشاف ذلك من خلال مراقبة سلوكياتهم الواقعية بعيدًا عن تنظيرهم، وأتى الخيال ليطلعنا على هذه التناقضات من خلال قفلة الحكاية، متوقعًا قدرتنا على الغوص في أعماق النص، وعقد مقارنة بين هروب بطلة الحكاية من الإشكالية التي تعاني منها إناث القطط في انشغالها بالذكور، وجَلَدِها في البحث عنهم ومعاشرتهم بدون أي ضابط، مما دفعها لاستئصال رحم قطتها المسكينة التي كانت تمارس الحياة بالفطرة التي خلقها الله عليها، في وقت قاتلت من أجل قبول هذه التصرفات البوهيمية من الفتيات وتحريضهن عليها رغم أنها منافية للفطرة، وكأن الخيال يريد إفهامنا أن أصحاب الأفكار التصادمية يعودون عنها إذا تماسَّت مع مصالحهم.

وفي قصة “مونامور” أو الحب العميق والرومانسية اللطيفة، نجد أننا في منطقة محرمة يصعب أن يسردها لنا الواقع السيري، فذهبت الكاتبة باتجاه الخيال كي تطلعنا على واحدة من قصص الحب العذري عند بداية نشأتها في قلب طفلة ترى في أحد أقاربها حلمها المستقبلي، وتصف لنا ذلك الشعور الذي عادة ما يلازمها إلى أن يُقضى عليه فيموت أو يدفن حيًا، عندما تقودنا تصاريف الحياة لاختيار البديل الممكن بدلاً من المستحيل المتاح.

وأيضًا في قصة “سلام أمي” يأتي الخيال مضمرًا، فيترك للمتلقي الوصول إليه، مع متابعته لحكاية واقعية اعتيادية، تخبرنا عن النزاعات المذهبية التي يزرعها ويقودها الكبار، ويقع في حبائلها الصغار، وكانت فلسفة الكاتبة عميقةً جدًا، تتخطى المشهد الموصوف فأركان هذا المشهد وهم الأطفال والأمهات؛ يمكن اعتبارهم المجتمع بكل مستوياته، إذ إن المرجعيات الدينية يمكن أن تكون هي الأم المحرضة، والأطفال يمكن أن يكونوا الأتباع بكل مراحلهم العمرية، وهذا ما لا يمكن الإفصاح عنه بالحكايات الواقعية، ويكون الخيال منقذًا لنا من هذه الإشكالية ويمكنه قيادة المشهد للمستهدفات الفهمية من دون أي محاسبة.

وأخيرًا في قصة “المشهورة” تأخذ الكاتبة بأيدينا لتطلعنا على الفرق بين المظهر والجوهر، وتطلب منا عدم الاغترار بالزخرفات الشكلية، التي يلجأ لها البعض مخفيًا الحقيقة التي يعلمها بعض القريبين منه، وكأنها تريد لنا عدم الاحتكام للواقع المشاهَد، الذي عادة ما يخفق في إظهار الصورة كاملة، وأن علينا استكمالها بأنفسنا، من خلال إشغال الخيال، وتوظيف قدراتنا العقلية، لاستكمال النواقص التي لا تكتمل الاستفادة الحقيقية بدونها، وهذا جانب مهم من المعرفة الإنسانية لا ينهض به الواقع المزيف عمدًا، ويأتي الخيال ليفضحه ويعيد ترتيب المشاهد بشكل صحيح ومقنع.

وخلاصة القول: إن أهم ما يمكن التقاطه من هذه المجموعة القصصية خلاف قيمتها الكتابية وأسلوبيتها الرائعة وتشويقها وإثارتها ومتعتها، هو مقاربتها بين الخيال والواقع، في تلقي المشاهد اليومية، وتقريرها بأن استفادتنا الحقيقية تقتضي هذه المزاوجة الإبداعية بين الخيال والواقع، وأنه وحده القادر على إعادة رسم المشاهد الواقعية بما يتناسب مع مستهدفاتها الفهمية.

     المصدر: جريدة الجزيرة

البرج المقلوب: الفلسفة في صميم الواقع

‘البرج المقلوب’: الفلسفة في صميم الواقع

الكاتب العراقي كه يلان محمد يبحث في كتابه في الظروفِ إعلان موتِ الفلسفة بعد أن صار العلم بديلاً لها.

غنوة فضة – دمشق – يبحث الكاتب العراقي كه يلان محمد (1981) في كتابه “البرج المقلوب” مكتبة جدل 2024، في دور الفلسفة في عالمنا المعاصر؛ عالمِ التطور العلمي. والكيفية التي جعلت دورها على المحك، والظروفِ التي دفعت لإعلان موتِ الفلسفة بعد أن صار العلم بديلاً لها.

وأشار إلى رأي الباحث والفيلسوف الأميركي جون ديوي (1859-1952) في قوله: “إن كلمتي الديمقراطية والعلم أسدلتا الستار على مهنة الفلسفة”. ينطلق الباحث نحو الأحاديث التي تقول بوصول الفلسفة إلى دربٍ مسدودٍ، مؤكداً بأنَّ كل ما يدور على هذا الصعيد لا يعدو عن كونهِ افتراضاً خاطئاً؛ وهو هنا يشير إلى تصدي برتراند راسل لمحاولات تشيع الفلسفة في مقبرة التاريخ من خلال رصده لتوالي الإصدارات الفلسفية، والمناقشات والأطروحات التي تبحث في شؤونٍ حياتيةٍ راهنة، وقولهِ بعدم صوابية الاعتقاد بموت الفلسفة، مشيراً إلى أن ذلك يدفع للتساؤل حيال السعادة، وكذلك حيال قلقِ المكانة لدى الفرد في عالم اليوم، وخوفه من المستقبل، وتجلياتهِ لمفهوم الحب أيضاً..

من هنا يتطرق محمد إلى ما قدمهُ الكاتب السويسري آلان دو بوتون (1969) الذي يعدّ نهجهُ بمثابةِ عيادةٍ فلسفية؛ وذلك عبر استخلاصه آراءَ الفلاسفةَ وسِيرهم، وتقديمها كوصفةٍ للتهدئة من حدة انفعالاتِ المرءِ في عالمٍ تحوّلَ إلى سوقٍ كبيرٍ. لذا فإن التغيرات التي حجبت وظيفة الحواس والتفكير، جعلت الواقع يفرضُ حاجات فكرية عدة، فضلاً عن خطر عودة التيارات العنصرية، وهو ما يجعل من الفلسفة عزاءً وحيداً، وضرورة لا محيد عنها.

وفي هذا السياق، يشير مؤلف “كهف القارئ” إلى التزام الباحث المغربي سعيد ناشيد (1969) بالميثاق الفلسفي الذي يفندُ انعدام الصلة بينه وبين الحياة الواقعية، ذلك أنه وجد في دراسة الفلسفة أهميةً من خلال قدرتها على تعزيز الإرادة لمواجهة أكثر ظروف الحياة قسوة. وإذا غاب هذا الهدف؛ فإن متابعة الفلسفة تصبح مضيعة للوقت. لكن ناشيد في الوقت ذاته، يشير إلى أن معظم دارسي الفلسفة يعيشون وهم امتلاك المعرفة؛ ويطلق عليهم لقب “ضحايا ثقافة النصوص” ما يعني عدم إدراكهم وظيفة الفلسفة على مستوى الحياة الواقعية، وهو هنا لا يريد إلغاء تجارب المتصوفة والحكماء، ولا إضافاتهم للتراث الإنساني. لكنه يجد أن تلك الممارسات لا تعوّضُ عن مهمة الفلسفة في الإرشاد إلى إعمالِ الفكرِ، وتعميق الفهم لمحدداتِ السلوك البشري.

هكذا يستمر كه يلان محمد في بحثه عن دور الفلسفة في مواجهة أزمات الواقع. وفي فصلٍ آخرَ من كتابهِ، يبدأ بمقولة “مع الفلسفة وليس ضد الدين” يشير إلى أن العلاقة بين الفلسفة والدين لم تكن علاقةً وديةً؛ وعلى الرغم من وجود محاولاتٍ لرأب الصدع بين الاتجاهين على غرار ما كان يصبو إليه ابن رشد (1126-1198)، إذ وَجد أن قراءة النص الديني والتبصرَ بهِ يتطلب الانفتاح على الفلسفة البرهانية، وإلا فإن الفهم سيكون مبتوراً وبعيداً عن المقاصد النصية. إلا أن الأمر تعدى في العلاقة بين الفلسفة والدين لإقامة المحارق للفلاسفة بمباركة رجال الدين المتواطئين مع السلطة. ربما كان يُراد من هذا المناخ المثخن بالصراع للقول بأن الفلسفة والإلحاد وجهان لعملة واحدة “فمن ينشر الحكمة الفلسفية لن يكون إلا ملحداً بالضرورة” وفي هذا الكلام يقول الكاتب محاولةٌ للتضليلِ والتلاعب بالعقول، لأن معظم الفلاسفة كانوا معارضين للقشور والمظاهر الاستعراضية في الدين وتطويعه لمآرب شخصية، ومحاولات توظيفه كغطاءٍ للأنظمة السياسة.

هكذا يُظهرُ الكاتب الفلسفة بجوهرها الذي لا يعدُ بعالمٍ خالٍ من الأزمات، وتسودهُ تطلعات الإنسان الساعي إلى السعادة، بل إن دورها في الخروج بالعقل من منطقة الكسل. ويكون ذلك حين تغادرُ الفلسفةُ برجَهَا العاجي، وتستعيدُ روحها السقراطية. حينها تمسي شأناً حياتياً، قبل أن تكون مفاهيم مجردة أو فعلاً يخص النخب. هكذا تكتسب الفلسفة قيمتها؛ عندما تفتح الطريق للتأمل، وتستوحي الحكمة من معطيات الواقع، وحركة الزمن، وتحمي العقول من البلادة والوهم. ولا يتوقف الكاتب عند علاقة الفلسفة بالفكر والواقع، بل يتعداه لدراسة علاقتها بالفن، وعلاقة الفن بالواقع من جهة أخرى، فالفن يبلغ مدى أكثر عمقاً بكثير من تلك التي تبلغها الفلسفة بفضل المخيلة الفعالة؛ ويُدرِجُ في سبيل ذلك أمثلة؛ كروايات سارتر مع شريكته دي بوفوار، ويعدها نموذجاً حياً للصوت الوجودي الذي يُكسب العمل الفني صلابته، أما تلك القيمة النفعية والأداتية؛ فهي تفسدُ الروحَ في العمل الإبداعي، وتغرقُ الكاتبَ في وهم تغيير المجتمع. لذا لا يمكن أن تكون الفلسفةُ بديلاً عن الأدب، ولا يصح العكس أيضاً، بل يتقاطعُ كلاهما في الرغبة بالخروج بالإنسان من ضيق الاهتمامات المادية نحو رحابة التفكيرِ وتذوقِ الافتراضات في المخيلة.

المصدر: ميدل تيست

«وما صاحبكم بمجنون»… من التبعية إلى عظمة الجنون

«وما صاحبكم بمجنون»… من التبعية إلى عظمة الجنون

بقلم: أ. منور الشوا

قد يكون أمراً معقداً اليوم أن يُفتح النقاش على إشكاليات الدين والعقل والعلم والمجتمع… لكن الحال الذي وصل إليه العالم العربي والإسلامي يستدعي البحث عن رسالة بشرية عظيمة تنسجم وعظمة الرسالة السماوية، رسالة تستند إلى معادلة التأمل والنظر والتمييز والتأويل والتعقل والطمأنينة واليقين… لكن قد يكون العلاج فارغاً ووهمياً ما لم يكن هناك تشخيص للحالة… يطرح الكتاب الكثير من الموضوعات المثيرة للجدل لكنها في الوقت ذاته مثيرة للأسئلة، والأسئلة نقطة بدء رحلة الوصول إلى الحضارة… لكنها رحلة لا شك محفوفة بالمخاطر، ومحطاتها ليست للانتظار أو الاستراحة، بل دعوة حرة من الكاتب لتَشارُكِ الأفكار وإثارة التفاعل…

– في المحطة الأولى «الإنسان في مأزق التبعية»، يناقش المؤلف القيود التي صنعها الإنسان بنفسه لنفسه ولمن هم حوله، ثم نسج في داخله خيوط رهبة التحرّر منها فوجد نفسه أسير الخمول العقلي… وبدأ من ثم رحلة استعادة الوعي، في مقابل آفات التناقل العشوائي، وتولية الأشخاص القداسة.

ففي الشأن الديني، يعيش الإنسان، اليوم، فوضى التناقل الخاطئ، وبناء المفاهيم العشوائية والسير عليها، لكن المشكلة ليست في الدين، بل في صنّاع الخطاب الديني، فالخطاب الديني الذي ينتزع ملكية الإنسان لإيمانه وعقله وعلمه هو خطاب ينتج التطرف، ويجبر على تطبيق ظاهر الدين دون بثّ روح الإيمان، بمعنى الاستلاب الإنساني.

في أصل الدين الإسلامي، مثلاً، الإيمان لا يعني التسلط، والرسول لم يأتِ ليتسلط على أمته، بل الإيمان طمأنينة، أما خلق المرجعية ومن ثم صناعة التبعية فتلغيان قيمة الوجود الإنساني، فإذا كان الدين للناس جميعاً فمن الذي منح أحدهم الوصاية عليه دون غيره من البشر؟

اجتماعياً، تواجهنا معضلة قوّة التوارث بين الأجيال، ويثير المؤلف جزئية من هذا التوارث الذي امتد من الجاهلية إلى الآن، وأعني به تحقير أنواع من العمل؛ لقد سخر العرب مثلاً قديماً من الصنّاع والمهرة والحرفيين، وما يفاجئك أن هذه السخرية ممتدة إلى اليوم، في شبه الجزيرة العربية على الأقل، وهم (الصنّاع والحرفيين) من أعمدة بناء المجتمعات. هذا العمل أولاَ.

ثانياً العلم، فلم يولِ العرب العلمَ الأهمية التي يستحقها، إن لم نجرؤ على القول إن العلم اقتصر إلى حد ما عندهم على العلوم الشرعية.

 ناهيك عن سيطرة السلطات القبائلية القائمة على الأعراف الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية، والإشكالية الاجتماعية ما بين البادية والحاضرة، ما أدى إلى شلل الحراك الاجتماعي: فلا حراك مهني، ولا حراك مكاني، ولا حراك اقتصادي، ولا حراك فكري، كل ذلك أصابه الشلل في ظل نظام المجتمعات القبلية والطائفية.

– في المحطة الثانية يقف المؤلف على صراع العقول في ملحمة العقل التي لن تنتهي، فناقش أولاً المفاهيم والواقع، وأهم هذه المفاهيم مفهوما الحرية والأخلاق في ظل اختلاف الثقافات، وتعددية الثقافات في البيئة الواحدة، والتفاوت في مستويات الإدراك، والاشتراك اللفظي في اللغة ذاتها، والانفعالات، أو التواصل بين لغتين. وكذلك مفاهيم الإسلام، والعقل، والعلم، ومفاهيم الجهاد والخلافة والدعوة والعدل… كل ذلك في ظل الجدلية الأزلية أو الصراع الأزلي بين منظومتين: منظومة الدفاع عن الإسلام خوفاً من جر المجتمعات المسلمة إلى الهاوية والضلال والخروج عن الشريعة الإسلامية، ومنظومة الدفاع عن مفاهيم يجب تطبيقها لأنها تسهم في الحفاظ على المبادئ الإنسانية!

فمن جزئيات هذا الصراع الصراعُ القديم الجديد بين العقل والنقل، فمنذ وقت مبكر اتخذ المجتمع العربي والإسلامي الأول موقفاً معادياً للفلسفة، فنذكر مثلاً ما تعرّض له ابن حزم الأندلسي من نقدٍ لتعلمه المنطق،

ولم يسلم الغزالي أيضاً من الانتقاد لتعلمه الفلسفة، إضافة إلى ما حل بالمعتزلة الذين قدموا العقل على النقل

ومن جديد نحن أمام جدلية أخرى وصراع آخر بين منظومتين؛ منظومة تريد تحديد دور العقل في مقابل الدين ومنظومة تريد تحديد دور الدين في مقابل العقل.

العمليات الإدراكية تنقسم إلى قسمين رئيسيين: الإدراك الحسي، والإدراك العقلي، ويتحقق الإدراك العقلي بالمعرفة، أما العقل النظري (التأمل والتدبر والتفكير، وهي العمليات العقلية التي تتحقق في وجود الحواس)

فهو المرحلة التي تؤهل للوصول إلى العقل العملي.

من بين هذه العمليات العقلية يقف المؤلف كثيراً عند التأمل، «فهو العملية التي تخلو من أيّ تأثيرات مسبقة في العملية العقلية، و التأمل مرحلة تقود إلى اليقظة العقلية في المقام الأول. إذاً، التأمل يولّد الدهشة التي يتمتّع بها العقل؛ إنه كضربة توقظ الإنسان من سبات الوعي».

وانطلاقاً من هذا االتأمل يرصد المؤلف ثلاثية الحياة: العقل، والعلم، والإيمان، فيبدأ بفلسفة الإنسان الأول ودينه، مؤكداً أنّ للفلسفة جذوراً دينية: «عند البحث عن علاقة الإنسان الأول بالدين والفلسفة، سنواجه فكرة الإنسان الأول التائه»، وهذا الإنسان الأول، بطبيعة الحال، هو آدم عليه السلام، طارحاً من جديد الصراع بين منظومتين؛ منظومة الإله الواحد ومنظومة الآلهة المتعددة، ليجد «أن فكرة وجود إله هي فكرة إنسانية سليمة وطبيعية في تكوينها»، ويناقش في سبيل ذلك براهين العقل وأدلة العلم والدين على وجود الإله ووحدانيته التي يجد أنها «مهمشة عند بعض الفلاسفة والعلماء، ما يجعلها بسيطة عند بعض المؤمنين ومعقّدة عند بعضهم الآخر»، فـ«بعض العلماء التجريبيين يحاولون… بطريقة غير عقلانية، نفي مُحدث للكون؛ أي نفي خالق له. إنهم ينفون الخالق لعدم رؤيته، وهذه الحجة (عدم رؤية الخالق) لا صحة لها، فالقوانين لا يمكننا رؤيتها؛ لأنها ليست مادة، إنما هي تعمل وفق مُحدث لها».

لكن يبقى السؤال المهمةَ الدائمة التي لا تموت ويصعب على الضعفاء تنفيذها. السؤال هو بداية الحقيقة التي دائماً ما يواجهها الإنسان التقليدي بضعف، رغم أنّ السؤال هو أحد الطرق للوصول إلى الإيمان وإلى اليقين، إلا أنه متهم، على الأغلب، بأنّه شكّ، وأهم الأسئلة النصية الدينية، كما نقرؤه في القرآن الكريم، السؤال في عقل النبي إبراهيم، عليه السلام، بتراتبيته التي تستحق حقيقة الوقوف عندها: نظر، فتأمّل، فتفكير، فسؤال، فاطمئنان، فتحقيق يقين.

– في المحطة الثالثة يقف المؤلف على قضية المرأة أمّ الإنسانية، فوجود المرأة من وجود الإنسان، لكننا إذا ما دخلنا إلى عالم المرأة المليء بالتعقيدات والمغالطات، فسنواجه العديد من الخيارات المصطنعة لحلها ومعالجتها للخروج من مآزق فكرية ومجتمعية وثقافية، لا تتطابق مع الواقع فعلياً، بل صُوِّر لنا تطابقها. ويبدأ ذلك من فكرة أصل النشأة وأبعادها، التي تنطلق نصياً من استبدادية الرجل التي تعزز دائماً قصة خلق المرأة من ضلع الرجل، وهي قصة توراتية، لكن ذلك لم يقتصر على النص الديني، بل ربما سبقته الفلسفة في ذلك، فالمرأة عند أرسطو، مثلاً، ليست سوى صورة مشوّهة من الرجل، ووجودها وجود عارض.

من قصة الخلق ينطلق إلى قصة الخطيئة أو المعصية، فكما ذكر سفر التكوين، المرأة هي من تسببت في معصية آدم، ومن ثم طردهما من الجنة، ما يرسخ دوماً فكرة أن الرجل هو الكائن الأول وأن المرأة كائن ثانوي ليس مستقلاً.

واستمراراً وتأكيداً لاستبدادية الرجل تم تحويل قوامة الرجل إلى قانون اجتماعي عاشت المرأة في ظله في مكانة حائرة ما بين التسليم بالتأويلات الدينية وقوانين المجتمع المتوارثة وبين البحث عن مكانتها خارج حدود جغرافيتها ومجتمعها فلم تسلم عندها من آفة الاغتراب عن هنا وهناك.

تاريخياً، كانت المرأة في العصور الأولى تمارس دورها في الحمل والولادة، أما الرجل فلم يهتم بالنسل والديمومة،

ثم فطن الرجل في العصر الحجري الحديث، بعد استقراره، إلى أهمية النسل، وأصبح يقدس مكانة المرأة المنجبة، وبعد التطور الفكري والاجتماعي والنهضة الحضارية، التي ابتدأت مع مرحلة الزراعة، ظهرت عقيدة عبادة الأم، فتولت المرأة قيادة البشرية حتى ارتقت إلى مكانة سامية مقدسة، وأصبحت الإله المعبود. إلا أن هذا العصر الذهبي لم يدم طويلاً بالنسبة إلى المرأة؛ فبعد قرون من تلك المكانة السامية للمرأة، تستمر محاولة الرجل في إضعاف المرأة على الدوام لنيل مكانة أعلى.

ارتبطت المرأة ارتباطاً وثيقاً بالجنس في المعتقد الذكوري، حتى كُرِّس ذلك في معتقدها كذلك. إن هذه المفاهيم الجنسية المُعادة صياغتها عبر العصور دون إخلال بالفكرة وتفسيرها، بقيت مستمرة بتوارث المعتقدات؛ حيث وأد الإناث الذي يرى المؤلف، كما يرى بعض المفسرين، أنّ له بعداً تعبدياً تحوّل عند البعض الآخر من المفسرين إلى العامة من الناس على أنه طقس اجتماعي تمارسه العرب خاصةً في زمن الجاهلية خوفاً من العار فحسب.

فلسفياً، سادت نظرة المجتمع اليوناني إلى المرأة على أنها كائن ثانوي دون اعتبار لوجودها بوصفها إنساناً له كيانه، فيما الفلسفة اليونانية لم تفعل شيئاً بهذا الخصوص… روسو أيضاً يراها كائنا ضعيفاً عليه أن يخضع للرجل. الفيلسوف فردريك نيتشه يكره النساء كثيراً، وعلاقته بهنّ محدودة، ويؤكد أن الروح الحرة لا تعيش مع المرأة. الفيسلوف آرثر شوبنهاور يرى أنّ النساء لم يخلقنَ للأعمال الفكرية والإبداعية، إنما للأمومة وحسب، ويقول إنّ النساء خلقنَ من أجل استمرار الجنس البشري فحسب.

– في محطته الرابعة والأخيرة يصل المؤلف إلى عظمة الجنون، لكنه ليس الجنون المقدس ولا الخبيث، بل الجنون المرتبط بالفكرة، الجنون العبقري، الجنون الذي يصنع التغيير، الجنون الذي لا يخلو من رسالة، فـ«ما الهدف الذي يريد الإنسان تحقيقه في هذه الحياة؟ ما الرسالة التي تختلف اختلافاً كلياً عن الأهداف التي يريد تحقيقها الإنسان؟ وأين موقع هذه الرسالة التي يحملها الإنسان، ويعمل عليها قبل أن ينشرها في حياته؟».

إن المثل الأعلى لهذه الرسالة هنا هو رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {ومَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ}.

«إن معاناة الرسول كانت معاناة الصراع مع الأفكار والمعتقدات، الصراع مع مجتمع بأكمله يحمل ثقافته المتوارثة… كان صراعه لتغيير وإصلاح المجتمعات، وما تحمله من أفكار ومعتقدات ومفاهيم وعادات وتقاليد وسلوكيات لا تليق بالإنسان. رسالة لم يهتمّ بأبعادها وعمقها الكثيرُ من الناس، وأُخذت على أنها تقف عند حدّ العبادة وتطبيق الشريعة فحسب، رغم أن الأخلاق والقيم الإنسانية هي جلّ ما جاء في هذه الرسالة… وهذه الرسالة يقدر الإنسان العاقل على أدائها، كلّ إنسان على وجه الخليقة، فهي لا تقتصر على المسلمين فحسب، بل تمتد إلى عامة البشر من جميع الديانات.

إن قرّاء ومفكري ومثقفي المجتمع هم الرسل؛ هم قادة المجتمعات الحقيقيون، الذين عليهم أن يعملوا على تطبيق فكرة الإصلاح والتغيير في مجتمعاتهم وتسويتها، هم المسؤولون الآن عن هذا الخلل في المجتمع.

إن الجنون تهمة تغيّر العالم، فالأفكار التي تتولد من عقولنا ليست وهماً نحلم به، وننادي بتحقيقه ونرفع شعاراته المزيفة، علينا النظر إلى الواقع كما يجب، وأن نستغرق في التفكير في كيفية إحداث تغييره. إننا قادرون على حمل أمانة هذا العالم وتغييره إلى الأفضل».

 

 

فلسفة البيت في «عمر مستأجَر» للشاعرالسوري ياسر الأطرش

فلسفة البيت في «عمر مستأجَر» للشاعرالسوري ياسر الأطرش

 

بقلم: د. سعاد العنزي

 

 

 

تمتلك فلسفة البيت مكاناً مركزياً بالنسبة للمنفيين والمهاجرين، بسبب الحروب والمآسي الإنسانية المتكررة في العصر الحديث. حتى إن كان تاريخ الفلسفة – حسب البعض- لم يشتغل على موضوعة البيت، لأن الفلاسفة اهتموا بالفضاء العام والمدن الفاضلةِ والمقاهي والمتاحفِ، وكل الأماكن الخارجية على حساب فكرة البيت. أما في الفلسفة المعاصرة، فقد التفت إلى البيت، على نحو مغاير، فلاسفة مثل الفيلسوف والناقد الفرنسي غاستون باشلار في كتابه المعنون «جماليات المكان»، إذ يعطي البيتَ -بيت الطفولة تحديداً- أولوية مهمة في عرضه لأحلام اليقظة وتجلياتها في الأدب والشعر تحديداً، ويصل إلى أن البيت يجسد هوية الإنسان، وأن اتحاد البشر مع بيوتهم الأولى هو اتحاد مع ذواتهم وذكرياتهم الأصيلة. يقول باشلار:

«البيت جسد وروح، وهو عالم الإنسان الأول». (غاستون باشلار 1984). أما الفيلسوف الإيطالي إيمانويل كوتشيا الذي ألف كتاباً عنوانه «فلسفة البيت» فإنه يتخذ من تجربته الشخصية وتنقله بين منازل كثيرة – تصل إلى ثلاثين بيتاً في باريس – منطلقاً لتحليل فكرة البيت، وعلاقة الإنسان الحميمية بينه وبين الأشياء في البيت، والوقوف أمام فكرة التشظي وعدم الإمساك بمعنى ثابت للبيت. إن كان اهتمام الفلاسفة بالبيت متأخراً نسبياً، فإن للشعر والأدب علاقة حميمية خاصة منذ القدم مع البيت، ولاسيما في أدب ما بعد الاستعمار، حيث تبنى كثير من الشعراء فكرة البيت، ولمحمود درويش كثير من القصائد التي تلتقط صوراً كثيرة للبيوت التي فقدت أصحابها، وللبيوت التي تحمل ذاكرة شخوصها، وتسجل تفاصيلها على جدرانها. يقول درويش:

مدينته لا تنام، وأسماؤها لا تدوم. بيوت تغيَر

سكانها. والنجوم حصى.

وخمسُ نوافذ أخرى، وعشر نوافذ أُخرى تغادر

حائط

من خلال التركيز على التفاصيل اليومية في البيت والمدينة أثناء الحرب، انتقل درويش، كما يشرح شكري الماضي، من أيديولوجية السياسة إلى أيديولوجية الشعر، من خلال تبني قضايا إنسانية مختلفة بدلاً من اختيار التركيز ببساطة على أجندة معينة مثل القضية الفلسطينية. (الماضي، 2013). تتضح أيديولوجية الشعر هذه أيضاً في قصائد الشاعر ياسر الأطرش، الذي قرر أن يتبنى قضاياه وقضايا شعبه المهجر شعرياً ومن خلال منهجه الإنسانوي الذي يلتقط تفاصيل المنفى بعمق وبتحليل فلسفي عميق في مجموعته الشعرية «عمر مستأجر».

 

من البيت إلى المنفى

تمثل تجربة المنفى عند الشاعر السوري ياسر الأطرش واحدة من التجارب الإنسانية اللافتة، إذ تتحول الحياة كلها بكل تفاصيلها إلى «عمر مستأجر»، عنوان المجموعة الشعرية. إن المنفى والاغتراب عند ياسر الأطرش يشكلان أبعاداً متعددة، وليس لهما شكل واحد ثابت. ولعل أول صور هذا المنفى هي صورة قديمة جداً ترتبط باغتراب المثقف المستنير عن مجتمعه، المثقف الإصلاحي، الذي يبحث عن تغيير مجتمعه نحو الأفضل، وهذا ما يطرحه في أحد حواراته عندما سُئل عن تجربة المنفى قائلاً: «قديم جداً، منفاي كان وما زال في داخلي.. غريباً كنتُ في أهلي ومجتمعي وبلدي، إنها غربة المثالي الذي يقاتل طواحين الهواء، يريد الأنقى والأصلح، وهذا هو المستحيل الاجتماعي.. وعلى غربتي تلك؛ كنت ابن أهلي البار، وابن مجتمعي، لم أتعالَ ولم أعتزل ولم أخاطب الناس من علٍ، حتى بعد نضج تجربتي ونيلي قسطاً من الشهرة.. ولعل في البيت الشعري الآتي ثمة حل لهذه المعادلة:

فأنا ابن أهلي، وفاءً/ وأنا ابن منفاي، انتماءً».

إن الحديث عن المنفى والاغتراب والشتات عند الشاعر يستدعي بالضرورة الحديث عن البديل الآمن، وهو البيت الدائم، بدلاً من البيت المستأجر، وهذا الذي تحاول مجموعة الشاعر السوري المعارض للنظام السوري السابق أن تقوله بعد الدخول في تجربة المنفى.

تنطلق مجموعة ياسر الأطرش «عمر مستأجر» من البيت والحميمية والروابط الأسرية المتينة، وتدرج تجربته في المنافي، المنفى تلو الآخر حتى تفقد كل شيء ويتحول الشخص ذاته إلى إنسان آخر. يسرد الشاعر سيرة الاغتراب هذه في المجموعة في نص بعنوان «ياسر الغريب»:

كنت مثلكم تماما

قبل أن يقطع الحطاب حياتي إلى نصفين

ياسر العادي.. الذي مات

وياسر الذي ينطقون اسمه بصعوبة

في بلاد لا تعرف أهله.. (المجموعة الشعرية)

ولأن البيت كما يقول باشلار: «هو ركننا في العالم. إنه كما قيل مرارا، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى» (باشلار). تبرز الثيمة الأساسية في المجموعة الشعرية، في صورة البيت الذي فُقد، وقرار الشاعر أن يرمم جراح فقده بالشعر، ويستعيد مأساة الفقد من البدايات حتى الوصول إلى الذوبان والتلاشي في المنافي.

نجد ياسر الأطرش، وبعد الثورة السورية تحديداً، يأخذ المنفى عنده شكلاً آخر، يأخذ معنى الابتعاد عن الوطن الأم، والابتعاد عن الأم والحنين إليها، والابتعاد عن البئر الأولى للشاعر قبل أن يتحول إلى شيء آخر. إن الأرض والبيت والهوية لها دلالات خاصة في أدب ما بعد الاستعمار، والحروب والإزاحة والشتات كلها مفاهيم تركز على الرموز الدالة على العلاقة الوثيقة بين البحث عن الهوية والبيت، وهذا ما يفككه الشاعر في نصوصه الشعرية. يكشف الشاعر أوجاع المنفى والاغتراب والفقد والحنين إلى الوطن، والبيت، والأم، والانتماء بنصوص شعرية تجمع بين الشكلين العمودي، والشعر الحر، بين التقليدية والحداثة، وكأنه يقول أنا هنا وهناك، شكلاً ومضموناً. تبدأ رحلة الشاعر مع المنفى من خلال فقد الحضن الأول وهو الأم والأسرة، فيبدأ بقصيدته يعرض مفهوم البيت عندما يقول: «البيت أمي همهمات أبي ولمة أسرتي». إن تكرارَ ذكر الأم في المجموعة الشعرية، واتحاد صورة الأم مع البيت هما محاولة لاسترداد الزمن الضائع، وترميم جراح الروح بعد الفقد، وهذا ما يقف عنده باشلار في دراسته سابقة الذكر، إذ يفسر ارتباط صورة البيت بالأم قائلاً: «حين نحلم بالبيت الذي ولدنا فيه، وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط في ذلك الدفء الأصلي، في تلك المادة لفردوسنا المادي. هذا هو المناخ الذي يعيش الإنسان المحمي في داخله. سوف نعود إلى الملامح الأمومية للبيت. وأود هنا، عابرا، أن أؤكد امتلاء وجود البيت. أحلام يقظتنا تقودنا إليه. أن الشاعر يعرف جيدا أن البيت يحمل الطفولة ساكنة بين ذراعيه» (باشلار).

لكن الشاعر الذي يفلح أحياناً في استعادة التفاصيل السعيدة مع الأم، يفشل أحياناً أخرى في استعادة صورة البيت الآمن، لأن بيتاً من دون أم لا يعادله شيء سوى الوحدة والنفي والاغتراب. ويعلن الشاعر لاحقاً عدم قدرته على العودة للبيت، لأنه فقد رائحة الأم، ويؤكد غربته وضياع خريطة الطريق. يقول الشاعر:

رائحة أمي:

يا أمي

لماذا تركت ابنك وحيدا؟

يا أمي أنا غريب

ولا أعرف طريق العودة إلى البيت

مذ فقدت أثر رائحتك!

إن فقد الشاعر للرائحة، رائحة الأم، يعني انقطاع الحبل السري الذي يربطه بالبيت والأرض والوطن، ويعني انفصاله عن البيت، والاغتراب في المنافي الشاسعة، بخلاف شعراء يتذكرون أوطانهم وتربطهم الرائحة بأوطانهم. في استكشافها لقوة الرائحة، في كتابها «التاريخ الطبيعي للحواس» Natural History of the Senses تناقش ديان أكرمان Diane Ackerman أنه بين جميع الحواس، فإن هذه هي الأكثر ارتباطاً بالذاكرة البشرية: «ليس ثمة أمر لا يُنسى أكثر من الرائحة. تنفجر الروائح بهدوء في ذاكرتنا مثل الألغام الأرضية المؤثرة المخبأة تحت كتلة من السنوات نمت عليها الأعشاب الضارة. اصطدم بسلك تعثر من الرائحة فتنفجر الذكريات جميعها مرة واحدة. رؤية معقدة تقفز من الشجيرات».

إن الرائحة هنا هي رائحة الحب والاهتمام والمودة والترابط، والبيت لا يعني شيئاً من دون وجود الأم. وهنا الشاعر يفقد أهم الروابط التي تعيده إلى البيت، وهي رائحة الأم. بعد ذلك تتحول ثيمة فقد الأم إلى شيء آخر يرتبط بالخزي والعار، وتتحول صورة الأم إلى صورة الوطن والشرف وقيم الرجولة المفقودة في نص «خزي». يعبر هذا العنوان عن صورة المرأة الوطن، وأن أي خسارة للوطن هي فقدان للشرف والرجولة والكرامة:

يا أماه

لا تبتئسي إن فجر الظلام عليك

وإن أبناؤك بلعوا الخزي وخافوا حتى قولة: آه..

يا أماه

حق حليبك لا يحفظه إلا الله..

يقف الشاعر في قصيدة «البيت»، وهو عندَه الوطنُ الأصغر للإنسان، حيث يرسم صورة البيت ويشيد حوله كل دلالات البيت العاطفية والنفسية والاجتماعية، ما إن يفقده الإنسان حتى يفقد جزءاً أصيلاً من روحه، فيقول في مطلع القصيدة:

البيت حين يغادر السكان

يبكي

لم يعد سكنا ولا في قلبه «أهلا وسهلا»

يشير النص السابق إلى تعطل الزمن، وتوقف تفاصيل الحياة، لأن استمرارية الحياة والسكن في المنزل قد تعطلت. وهذا ما يبينه باشلار قائلا: «المكان هنا هو كل شيء حيث يعجز الزمن عن تسريع الذاكرة. الذاكرة -أي أداة غريبة هي – لا تسجل استمرارية واقعية، بالمعنى البيرجسوني. إننا عاجزون عن معايشة الاستمرارية التي تحطمت» (باشلار). يقوم الشاعر هنا بأنسنة الجماد، والإشارة إلى حزن وبكاء البيت على سكانه، وتحوله من شيء ذي قيمة رمزية إلى لا شيء، فيفقد معناه. إن هذا النص المكثف يحيل إلى محاولة فهم السبب الذي يجعل السكان يغادرون، وهل كل مغادرة هي مغادرة حزينة مؤلمة تجعل البيت يبكي؟ من الواضح أن البيت يُهجر، ويصبح خاليا من البشر بسبب مغادرة السكان القسرية من الوطن بإشارة للإزاحة والشتات كنتيجة من نتائج الحروب، التي تفرق شمل الأسر، وتقودهم إلى المنافي والخيام كما يوضح الشاعر:

وقد كنت عند الشام طفلا مدللا

أقيل بنعماها وأجني وصالها

إلى أن رمتني بالرحيل أظافر

من السم والأحقاد شدت نصالها

فضقت بوسع الأرض ما جئت قرية

وجدت بها أهلي ونفسي وآلها

على لغتي العمياء ألقي مواجعي

أكلم نفسي كي أصون جلالها

يمثل البيت في حالته الطبيعية كل صور السعادة والبهجة: (ضجة الأطفال/سهد العاشقين/ جزالة الآباء/ حرص الأمهات على الأثاث) وإن من يفقد بيته، وطنه ومأواه، فإنه يفقد أي ديمومة واستقرار، وستكبر المنافي في داخل المنفيين الواحد تلو الآخر:

البيت هو الدائم / المقهى هو الشيء العابر (البيت ضرته المقاهي)

البيت مأوى السر

نسكن فيه نحن ومن نريد وما نريد من الهواجس

والخيالات الغريبة والرؤى والخوف

تتشكل هنا صورة البيت متمثلة بالأمن والأمان، والارتباط بالمكان، الذي يعكس أرواح البشر، وأسرارهم، وانكساراتهم. البيت، المكان الذي نكون فيه حقيقيين وعفويين وصادقين مع أنفسنا. البيت، هو المرفأ الآمن للهوية والروح مثلما يحلل كتاب الفيلسوف كوتشيا، سابق الذكر، الذي «يقدم تحليلات حول النحو الذي نتملك من خلاله أماكنَ سكنها أشخاصٌ غيرنا قبلنا، والطريقة التي نحول فيها سطوح الجدران والأرض، والمساحة الخاصة بشكل عام، إلى ما يشبه المرآة التي تعكس شخصياتنا وأهواءنا وهوياتنا» (العربي الجديد). وفي نص «يا رب بيتا» تبرز صورة البيت أيضاً مرتبطة بالأم، فمن يفقد أمه، يفقد البيت والحضن والأمان، ويكرر بكاءه:

يا رب لا أم ألوذ بحضنها

فمن الذي يحنو عليّ إذا بكيت؟

يا رب بيتا أنت تعلمه

فما في الأرض بيت..

يبين النص السابق فقد الشاعر فكرة الثبات والاستقرار في فقد السكن بسبب عدم وجود محطة أساسية يستقر فيها، فما إن فقد البيتَ الأول والأمَ، يصبح العالم كله منفى كبيراً. وهنا لا بد من التفريق بين السفر والمنفى، كما يقول إيان تشامبرز Ian Chambers ببلاغة: «إن السفر يعني التنقل بين المواقع الثابتة، موقع المغادرة، نقطة الوصول، معرفة خط سير الرحلة. كما أنه يشير إلى عودة نهائية، عودة محتملة إلى الوطن. إن الهجرة، على العكس من ذلك، تنطوي على حركة لا تكون فيها نقاط المغادرة، ولا نقاط الوصول ثابتة أو مؤكدة».

إن الشاعر بعد هذه المنافي المتعددة، والغربة، وكل تجاربها المريرة التي تُفقد الإنسان إنسانيته، وبهجته، وطمأنينته، يقرر أنه لن يعود إليه بعنوان القصيدة الصريح «لن نعود أبدا» كما كان، بسبب كل العوامل والتحديات التي حولته إلى صورة آخَر. في النص:

نذهب إلى نهايتنا واثقين

نحصي «اليوروهات» التي سوف نمنحها

وكم سنة نحتاج لنجمع ثمن بيت في الوطن الذي هربنا منه!

وعندما نشتري ذلك البيت

لا نعود إليه أبدا

بل يعود الشخص الغريب الذي صرناه..

إن الهوية الإنسانية تتشكل وتتلون في المنفى، ولا يستطيع المرء أن يحافظ على معنى واحد للهوية، بل تكتسب الهوية معنى ملتبساً ومختلطاً. يشير إدوارد سعيد في كتابه «الثقافة، الإمبريالية» إلى الهوية غير الثابتة والمتعددة وغير المستقرة. (Said, Culture and Imperialism, p. 470.) مثلما يقول Karkaba «إن الهوية، لديه، في حالة دائمة من التقدم، تتذبذب بين الاختلافات، تتحول إلى ما يتجاوز الفكر المانوي، وتخضع لعملية تحد لا نهائية. (Ch. Karkaba, p. 92.) «إن الهوية قابلة للتغيير، وليست بمنزلة أمر مُعطى في أي وقت من الأوقات» (J. Stratton and V. Devadas, 2010). من خلال الرؤى السابقة يتضح أن صورة البيت، بعد تجربة المنفى، تتغير وتتحول، كما تتحول هوية الشاعر نفسه وتصوراته للحياة والبيت، فالشاعر ياسر الأطرش بدءاً من البيت الأول، البيت الذي تشكل وتكون فيه الشاعر، الحضن الأول المرتبط بالأم ارتباطاً وثيقاً، وكل نداء للأم هو نداء للعالم، للطفولة المفقودة. من هنا نجد باشلار يربط بين صورتي البيت والأم: «في دراستي للأمومة أوردت البيتين الرائعين التاليين لميلوز حيث تتحد صورة الأم بصورة البيت:

أنادي يا أمي. وأفكاري منصرفة إليك أيها البيت.

بيت فصول الصيف المظلمة الحلوة، بيت طفولتي» (باشلار)

وفي الجزء الأخير من المجموعة، يقدم الشاعر فكرة العُمر المستأجَر الذي يحمل عنوان المجموعة «عمر مستأجر»، مشيراً إلى أنه بعد البيت الأول والحضن الأول تتحول تفاصيل الحياة إلى عمر مستأجر مؤقت في المنافي:

في البلاد التي تكره الغرباء

لا تثق بجدران بيتك المستأجر..

لا تعر أحلامك.. ولا ذنوبك!

تتحول صورة البيت عنده، بسبب الغربة والابتعاد عن الارتباط الأول من بيت الذكريات ومأوى الأسرار إلى بيت لا تثق بجدرانه لأنك غريب في بلاد تكره الغرباء، لن تجد فيها من تشاركه الأحلام ولا الآثام. والعمر المستأجر يشير إلى الحياة المهددة بالمخاطر في كل حين، وكأن المرء يستأجر عمره من قاتلي الأحلام، وتجار الحروب وسماسرتها، ويفقد أي معنى ثابتاً للوطن، والبيت، والشرفات. وها هو يقول في نص «أغاني الشرفات»، وتغدو كل تفاصيل الحياة عابرة ومستأجرة:

أجلس على الشرفة فجرا

هذي الشرفات كلها مستعارة وعمياء

فهي لا تطل على وطني..

ختاما، يمثل المنفى ثيمة تضرب أوتادها بعمق في تجربة الشعراء العرب الذين عايشوا أنواعاً من النفي في بلدانهم. وبالطبع لم ينظروا للمنفى نظرة نمطية ثابتة، بحيث قدم الشعراء العرب تصوراً مغايراً للمنفى التقليدي عند شعراء العربية في بدايات النهضة العربية أمثال أحمد شوقي والبارودي والجواهري، الذين لم يتعاملوا مع المنفى بمرونة، بل برفض شديد وانتماء وحنين دائم للوطن. أما شعراء العرب اليوم، وبعد المرور بمناف كثيرة فرضتها الحروب والثورات، فقد قدموا رؤية مختلفة للمنفى ترتبط بأفكار مجموعة من الفلاسفة ما بعد الحداثيين مثل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الذي يركز على تفكيك الحدود الفاصلة بين الأضداد: المرأة والرجل، المنفى والمنزل، الانقسام والوحدة. لا توجد فكرة ثابتة لأي صورة، الأمر الذي يجعلنا نقرأ صورة البيت والوطن عند الشعراء العرب وتحولاته من شيء ثابت صلب إلى فكرة صعبة بعيدة المنال.

المصدر: جريدة القدس

كُره أنتمي إليه – قصة قصيرة من كتاب للعلاقات تاريخ انتهاء

    لا أعرف كيف أبدأ، حتى في شيء بالغ البساطة، مثل أن أكتب مقدمة لقصتي لا أعرف، مجرد كلمات لا أجيد ترتيبها، لكن لا داعي لكل ذلك، فأنا لا أكتب لتعجب بي، ولا لكي تحبني، أو حتى لتتقبلني على ما أنا عليه، بل لتكرهني كما يكرهني الجميع.

  لطالما كنت سيئًا في كل شيء، ليس شيئًا واحدًا فقط؛ فأنا لا أضع يدي على أمر ما وأجيد فعله، لا يستطيع والديّ الاعتماد عليّ، حتى حين يطلبان مني الذهاب لشراء شيء ما، أنسى ما ذهبت لشرائه قبل أن أصل، محاولات كتابتي لطلباتهم تبوء بالفشل؛ إذ أنسى حتى أنني كتبتها، نعم، أنا غبي لهذا الحد كما كان يردد والديّ على مسامعي طوال الوقت.

   في المرحلة الابتدائية من دراستي، أعدت سنوات في الفصل ذاته؛ السنة الأولى أعدتها ثلاث مرات قبل أن أنتقل للسنة الثانية بعد أن تجاوزني أقراني بمرحلتين دراسيتين، وهل تجاوزت السنة الثانية مباشرة؟ ببالغ الأسى لا، أعدت السنة الثانية مرتين، وفي بقية الفصول، كان المعلمين قد يأسوا مني، فأصبحوا يدفعوني في السنة الثانية أو ما بعدها، وقد ساعدتهم في ذلك؛ إذ أدركت أن لا سبيل لي إلا بالغش، وقد بدأت أتجاوز السنوات الدراسية دون أن أعيدها ببعض الدرجات من المعلمين هنا، وببعض من الغش هناك.

  لم يكن لدي أصدقاء، زملاء الدراسة؟ كيف أعد أيًا منهم صديقًا أو حتى زميلًا إن كانوا أصغر مني بسنوات؟ وفي حال بدأت أصادق أحدًا منهم، ينجح هو وينتقل لفصل آخر بينما أرسب أنا لأكون في فصل مع طلاب جدد أصغر مني، ليس بالعقل طبعًا.

 أما البقية فكانوا يرفضون أن أكون صديق لهم، لا ألومهم، فكيف يحب أحد شخصًا فاشلًا في دراسته، لا أصدقاء له، لا يحبه والداه، ويفضلون أخاه الأكبر عليه.

   لن أتذمر بالطبع، فأنا أستحق كل ما يحدث لي، كيف لوالدي ألا يحبون أخي الأكبر أكثر مني؟ هو الذي بسببه، لطالما استدعت المدرسة أبي لأجل تكريمه، بينما أشاهدهم أنا من صفوف الطابور الصباحي الأخيرة.. في الحقيقة لا ألوم حتى والدي يومها حين تجاهلني تمامًا بعد نهاية التكريم، بعد أن تمشى مع أخي الكبير في ساحة المدرسة، وما إن لمحني قادمًا إليهما حتى قبّل رأس أخي وغادر مسرعًا قبل أن أصل إليه.

  نعم لا ألومه أبدًا، فكيف يسمح برؤية من في المدرسة – التي كَرّمت ابنه الناجح والمتفوق الذي يفتخر به – بأن تشاهده مع ابن آخر له، فاشل مثلما كنت، سيء التصرفات مثلما أفعل دائمًا، لا يستحق الحب منهم، وبوقوفه معه يمحو صورته اللامعة مع من رَفع رأسه بتكريمه للتو.

 أنني أبذل مجهودًا كبيرًا في كل شيء، ما ينهيه أخي في دقائق أمضي فيه ساعات؛ في الدراسة أقضي ساعات في صفحات معدودة بالكاد أتجاوزها، لقد يئست أمي من محاولاتها معي، تحاول تلقيني الدروس متذمرة على إعادتي لها في كل مرة، وحين يكثر ترديدي لجملة واحدة لا أكاد أتجاوزها، تصفعني على رأسي صارخة: «كم مرة أعدت عليك هذا البيت؟ هذه القطعة؟ كم مرة شرحت لك هذه المسألة؟ انظر لأخيك؛ يذاكر دروسه بنفسه، يحفظ بنفسه، لم أساعده إلا في السنوات الأولى فقط، بينما أنت تجاوزت المرحلة الابتدائية وما زلت أساعدك فيها».

  لم أعد أطلب منها شيئًا، وقد ارتاحت هي من همي، أصبحت تجد الوقت الذي كانت تضيعه على دروسي في وقت لمشاهدة مسلسلاتها وزيارة صديقاتها.

  المعلمون، لكم أكره المعلمين، ويا لضعفي وقلة حيلتي أمامهم، فحتى حين أخبرت والدي عن ذاك المعلم الذي قام بضربي، بمفردي، من بين كل الطلاب في الفصل؛ لأنني لم أجب عن سؤال واحد، سؤال واحد تكرر عدم معرفته لكثير من الطلاب معي، إلا أنه قال: أنني الأكبر بينهم، وقد درست المادة قبلهم، وأكثر منهم، ومع ذلك ما زلت مغفلًا، وكان رد أبي حينها بأن قال: أنني أستحق ذلك، ويا لصبر وتحمّل المعلمين لي، فلو كان مكانهم لما تحمل رؤيتي لعامين متتاليين.

  لذلك توقفت، توقفت عن إخباره، توقفت عن أن أطلب منه أي شيء أحتاجه، إلى أن توقفت عن المحاولة لكي أكون أخي في أعين والديّ.

   يكفي ابن واحد يفخرون به، وأنا سأقف دومًا في آخر الصف، متابعًا مديحهم له، وأصفق معهم حين يصفق الجميع له، أخي الأكبر، الابن البكر لوالديّ، الذي سبقني وأخذ كل الحب والاهتمام منهما، لا أعرف إن كان هناك متّسع في قلوب الوالدين إلا لمحبة ابن واحد فقط، كل الحق لهم إن كان كذلك، هو الأولى بمحبتهم لا أنا، هو الأولى بأن يأخذ كل الاهتمام لا أنا، هو من يستحق أن يرافق والدي في كل المناسبات التي يذهب إليها، هو من يستحق أن تردد والدتي اسمه فخرًا بإنجازاته، وحتى في بكائه من أمر يحزنه، هو من يستحق المواساة لا أنا، أنا الذي لطالما بكيت دون أن يواسيني أحد، ولا حتى في المرة التي جاءت فيها أمي ورأتني أبكي، وكان كل ما قالته هو أن أنام وسوف يذهب كل ذلك الحزن، نعم، أنام، النوم الذي يريحني حتى اليوم التالي، لأعود من جديد للبكاء، البكاء وحدي، البكاء على فشلي، وضعفي، وتخلفي، ووقوفي في آخر الصف، حتى لو حجب ذلك عني رؤيتي لمسرح التكريم الذي لم أنله يومًا، لماذا أرى ما لا يمكنني الوصول إليه؟ مكاني هنا، في آخر الصف، في آخر الاهتمام، وآخر تفضيل والديّ.