المدونة

المكتبة مغلقة وصرنا يتامى.. تذوّقوا كنوز مئة وخمسين ألف سنة من القراءة

 

 

عالمُ أشباح أسود منهار، أماكنُ العبادة فيه مغلقة، ومتاجره محطّمة؛ ذلك هو الارتباك الإشكالي الذي يتسلّل نغمة حزينة لدى كاتبٍ/قارئٍ بحجم سيريل مارتينيز في روايته «المكتبة المظلمة»، لكنها نغمة ناقدة في الوقت ذاته استدعت السرد آليةً لنقل شظايا انفجار أزمة الكتابة، وبالتبعية أزمة القراءة، فمنذ الافتتاحية يضعنا في قلب الحدث معنوناً الفصل الأول بوصفه «قارئاً في خطر»، وأنّ كتاباً ما ينتظرنه هناك دون شكّ، فخبرته القرائية تعلمنا وتعلمه أن «الكتب تعرفنا أكثر مما نعرفها»؛ تلك الكتب التي نعشق تفاصيل لمساتها الساحرة: الأغلفة الناعمة البراقة، والغبار المتكوم على الأغلفة، والأغلفة القبيحة… لكن العنوان الذي يبحث عنه يختفي عنوةً، في انتظار حلول لحظته التي هي لحظة شرود أو انشغال القارئ… لم يظهر ذلك العنوان، وهنا بدأت الرحلة عنه في المكتبة الوطنية في المملكة أو الجمهورية لا فرق، المهم أنها المكتبة الوطنية ذات الكنوز الوفيرة… إنها رحلة تحقيق حلم كلاسيكية لإيجاد كتاب لم يقرأه بعد.
وبأسلوبه الساخر، يضعنا مارتينيز أمام تاريخ هذه المكتبة الذي هو تاريخ النظريات السياسية من الملكية إلى الجمهورية… ففي الملكية الأمر للملك، «هو من يأذَن بإنشاء مكتبة ملكية في مملكته… سيتلقّى تبرّعات بالكتب، وسيلجأ إلى المصادرة لو اقتضى الأمر، وسوف يستولي على وثائق الكهنة»، أما في الجمهورية: «فسوف يُؤمَّم الكنز… لا أحد يعلم ما الذي كان ليحدث لولا تدخل الرئيس المثقّف… الذي قرّر تشييد مكتبة عصرية… ها هو الرئيس يدشّن المؤسسة، ويضع حجر الأساس. وهكذا تمّ افتتاح المكتبة الكبرى؛ فحوّلت بذلك محطة قطارات بضائع قديمة إلى قطب اقتصادي حديث ولامع وجذّاب، وما إلى ذلك من النعوت المضنية، التي لا رابط يجمعها بالمطالعة العمومية، وإنما بأولئك الذين كانوا يعملون في المصارف والمؤسسات المالية».
في ظل هذا الاحتفاء السلطوي بالمكتبة والقراءة، أو -إذا أردنا الدقة- احتفاء السلطة بذاتها باستغلال المكتبة، يقتصر الألم على الكتب، الكتب التي تشيخ وتنفق تحت نظرات الرواد اللامبالية، التي تفضل الاطلاع على قائمة المشروبات والأطعمة. لم تكن تلك الكتب خداعاً بصرياً أو ورقاً للجدران، بل كانت كتباً حقيقية، لكنها في الوقت ذاته كتب ميّتة؛ إذ كيف يمكنك التعرّف إلى قارئ يشغله هاتفه ويحمل في يده مشروباً، فيما برج التراث المقدّس يملك حماية مشددة، ويغدو معيار الأكثر قراءة هو معيار الاختيار للقراءة، ولهذا كله دلالته الموجعة.
على أية حال أُقِيمت المكتبة، واحتفل الجميع بهذا الصرح، وباتت كلّ وسائل النقل من باصات وقطارات تؤدي إليها، وانتعشت المطاعم والدكاكين والحدائق والمنتزهات حولها؛ لكن كون المكتبة كنزاً وطنياً بقي مجرد شعار سياسي كاذب هدفه السيطرة على العقول واستغلال العشق البشري لأيّ شيء سياسياً.. إنه شعار يدفع إلى المغالاة والسخرية.
وهنا تبدأ لعبة السياسة، التي تفرض، بوقاحتها، أن يُرفع من قدر كتبٍ تتصدر عناوينها رأس الكاتالوجات، فيما ترفض إدراج أخرى لكونها، من وجهة نظرها، أقلّ قيمة، وهي، في الحقيقة، أكثر من يسبّب لها المشاكل، فتستثنيها ومن ثمّ تهملها، فكما في الحياة ثمّة مُقصَى ومهمَّش كذلك الكتب ثمة منها ما هو مقصى ومهمش…
وكما يتلاشى حلم البحث عن كتاب، يتلاشى حلم المكان القرائي، المكتبة، فهنا تتشظى أزمة الكتابة، ثم تتجسد في أكثر من شخصية في الرواية: شخصية «الكتاب الشاب الحانق» المجهول الهوية، وشخصية الكتاب المعاق، المهمَّشَين، ليشكلا علامتين سيميائيتين قام المؤلف بأنسنتهما، ليلملما، حواراً، كلَّ القضايا التي تثيرها أزمة الكتابة:
«أتظن أنك تعلم شيئاً عن حياة الكتب؟ أراهن أنك تتخيل الكتب سعيدة في المكتبة العظمى، وقد تم حفظها في ظروف مثالية.. أهذا ما تظنّه؟ أنت لا ترى الحقيقة. لا تعرف حجم المخاطر التي تحدق بالكتب، ولا تدري إلى أي مدى فصيلتنا مهدّدة بالانقراض».
«أنت وسيم وطيب، وأصابعك نظيفة؛ لذلك أنت قارئ حقيقي».
«أجفلتُ حين أخذني أحدهم بين يديه، وراح يطّلع على محتواي. كانت رائحة التبغ تتضوع من أصابعه، ونظرته حادة قوية، وكان يقرأ جيداً وسريعاً: كنت أمام قارئ كبير على ما يبدو».
هنا تأتي حكاية هذا القارئ الكبير المؤرخ، الذي اكتشف الشرَّ الذي كان هو يتجسّس عليه، فقرر الشرُّ قتله، فنبّهته أمينة المكتبة، فهرب معها، لكنه اختفى.. ليس الكتب وحدها تختفي فالقراء أيضاً يختفون.. ويبدأ البحث عنه في حكاية موازية أشبه بالعبثية.. وفيما الكلُّ يبحث عن ذلك المؤرخ القارئ، تظهر ابنته، بعبثيةٍ أيضاً، مهتمةً بأزمة من نوع آخر: «النصوص المتحوّلة جنسياً». بالنسبة إلى المؤسسات الأدبية، على الرواية أن تبقى رواية، والشعر شعراً، وإلا فالأدب إلى زوال، لكن، عموماً، الروايات الضخمة توفر سعراً أعلى من كتب الشعر.
في خضمّ هذه التجسيدات والأنسنة لكلّ شيء، تأتي المجموعة القرائية المفترضة التي تطلق تحذيراً بأنّ القراءة قد تمثّل خطراً محدقاً؛ «ففتحُ كتابٍ ما قد يعرضك إلى خطر الابتلاع، أو الزج بك في بؤرة ما»؛ فأصبح القراء «ينظرون إلى الكتب بشيء من الريبة، ولا سيما الكتب الأدبية، ليس لأنها تحمل قيماً غامضة تقوض السلم الاجتماعي فحسب، بل أيضاً لأن سلامة القارئ معها لم تكن مضمونة تماماً». لكن أزمة القراء كما سنكتشف تحيل على أزمة الذوق القرائي، وهنا تتجسد بوضوح رؤية الكاتب في روايته، فالقراء اليوم يريدون مكتبة تحقق لهم الترفيه لا كتباً نرجسية، وصعبة المنال، ومنعزلة عن الواقع، أو كتباً نخبوية وتافهة ودعيّة. قراءة الأدب لا تدرّ ربحاً؛ فما يعني القراء اليوم كتب توصلهم إلى الثروة، وتحقق لهم النشوة الجنسية، وتمكنهم من الفوز بمهنة أحلامهم، وحتى العثور على نصفهم الآخر، وتساعدهم في تعلم لغة أجنبية في عشرة أيام، وكتابة رسالة عزاء محتشمة، وقصائد بلسان الايموجي، وروايات من صفحتين…
لكن إدارة المكتبة لم تتجاهل رغبات القراء فحسب بل تتجاهل حتى وجود المكتبة، وتسير في خطّة رقمنة الكتب، فتأتي بالقراء المتعاقدين ذوي المعاطف والأحذية المتشابهة، الذين لم تكن القراءة تثير أيّ عاطفة لديهم: وجوههم باردة القسمات، لا أثر للضحك أو الدموع فيها، دون أيّ علامة قلق أو انزعاج، ولا حتى أدنى إشارة للحماسة والمتعة. وبعد ثلاثة أشهر من مسح الكتب رقمياً، غادر القراء المتعاقدون المكتبة عبر الأرصفة المظلمة. وبمحاذاة نهر كئيب، راحت أفكارهم نحو أشهر القراءة الثلاثة التي تركت فيهم أثرها الذي لا يمكن مغادرته هو أيضاً:
المكتبة مغلقة
وصرنا يتامى
تذوقوا كنوز مئة وخمسين ألف سنة من القراءة.
استمتعوا اليوم بلحظات القراءة؛ لأن مختبرات المكاتب الكبرى قرّرت إنهاء مسيرة الكتب الورقية، والتركيز على المواد الرقمية الخفيفة، ولأنكم ستغدون بعدها يتامى، وستغادرون العاصمة نحو الأحياء… وستشاركون هؤلاء القراء المتعاقدين رحلتهم، وقد اجتازوا مدينة أشباحٍ بلديتُها منهارة، وأماكن العبادة فيها مغلقة، ومتاجرها محطّمة؛ ثم ستدخلون معهم مدينة خالية أخرى، وستختبئون داخل منزل خرّبته الفيضانات. بعد ذلك ستجتازون قرى ريفية كئيبة، ومراعيَ محروقة، وبِركاً قذرة، وشواطئ كمصبّ الفضلات، وستصنّفون كاليتامى الكتبَ وترصفونها فوق رفوف من ألواح التحميل. افتتحوا الآن فضاءكم الوحيد من نوعه، المضياف، السهل الدخول، وأسّسوا مكتبتكم؛ المكتبة السوداء، وردّدوا نشيد القراء:
افتح عينيك جيّداً، وأنصت إليّ.
لن تعني لك أسماؤنا شيئاً
ننتمي إلى العائلة السعيدة
إلى القرّاء المجهولي الهويّة
نحن اليتامى
.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *