كُره أنتمي إليه – قصة قصيرة من كتاب للعلاقات تاريخ انتهاء
لا أعرف كيف أبدأ، حتى في شيء بالغ البساطة، مثل أن أكتب مقدمة لقصتي لا أعرف، مجرد كلمات لا أجيد ترتيبها، لكن لا داعي لكل ذلك، فأنا لا أكتب لتعجب بي، ولا لكي تحبني، أو حتى لتتقبلني على ما أنا عليه، بل لتكرهني كما يكرهني الجميع.
لطالما كنت سيئًا في كل شيء، ليس شيئًا واحدًا فقط؛ فأنا لا أضع يدي على أمر ما وأجيد فعله، لا يستطيع والديّ الاعتماد عليّ، حتى حين يطلبان مني الذهاب لشراء شيء ما، أنسى ما ذهبت لشرائه قبل أن أصل، محاولات كتابتي لطلباتهم تبوء بالفشل؛ إذ أنسى حتى أنني كتبتها، نعم، أنا غبي لهذا الحد كما كان يردد والديّ على مسامعي طوال الوقت.
في المرحلة الابتدائية من دراستي، أعدت سنوات في الفصل ذاته؛ السنة الأولى أعدتها ثلاث مرات قبل أن أنتقل للسنة الثانية بعد أن تجاوزني أقراني بمرحلتين دراسيتين، وهل تجاوزت السنة الثانية مباشرة؟ ببالغ الأسى لا، أعدت السنة الثانية مرتين، وفي بقية الفصول، كان المعلمين قد يأسوا مني، فأصبحوا يدفعوني في السنة الثانية أو ما بعدها، وقد ساعدتهم في ذلك؛ إذ أدركت أن لا سبيل لي إلا بالغش، وقد بدأت أتجاوز السنوات الدراسية دون أن أعيدها ببعض الدرجات من المعلمين هنا، وببعض من الغش هناك.
لم يكن لدي أصدقاء، زملاء الدراسة؟ كيف أعد أيًا منهم صديقًا أو حتى زميلًا إن كانوا أصغر مني بسنوات؟ وفي حال بدأت أصادق أحدًا منهم، ينجح هو وينتقل لفصل آخر بينما أرسب أنا لأكون في فصل مع طلاب جدد أصغر مني، ليس بالعقل طبعًا.
أما البقية فكانوا يرفضون أن أكون صديق لهم، لا ألومهم، فكيف يحب أحد شخصًا فاشلًا في دراسته، لا أصدقاء له، لا يحبه والداه، ويفضلون أخاه الأكبر عليه.
لن أتذمر بالطبع، فأنا أستحق كل ما يحدث لي، كيف لوالدي ألا يحبون أخي الأكبر أكثر مني؟ هو الذي بسببه، لطالما استدعت المدرسة أبي لأجل تكريمه، بينما أشاهدهم أنا من صفوف الطابور الصباحي الأخيرة.. في الحقيقة لا ألوم حتى والدي يومها حين تجاهلني تمامًا بعد نهاية التكريم، بعد أن تمشى مع أخي الكبير في ساحة المدرسة، وما إن لمحني قادمًا إليهما حتى قبّل رأس أخي وغادر مسرعًا قبل أن أصل إليه.
نعم لا ألومه أبدًا، فكيف يسمح برؤية من في المدرسة – التي كَرّمت ابنه الناجح والمتفوق الذي يفتخر به – بأن تشاهده مع ابن آخر له، فاشل مثلما كنت، سيء التصرفات مثلما أفعل دائمًا، لا يستحق الحب منهم، وبوقوفه معه يمحو صورته اللامعة مع من رَفع رأسه بتكريمه للتو.
أنني أبذل مجهودًا كبيرًا في كل شيء، ما ينهيه أخي في دقائق أمضي فيه ساعات؛ في الدراسة أقضي ساعات في صفحات معدودة بالكاد أتجاوزها، لقد يئست أمي من محاولاتها معي، تحاول تلقيني الدروس متذمرة على إعادتي لها في كل مرة، وحين يكثر ترديدي لجملة واحدة لا أكاد أتجاوزها، تصفعني على رأسي صارخة: «كم مرة أعدت عليك هذا البيت؟ هذه القطعة؟ كم مرة شرحت لك هذه المسألة؟ انظر لأخيك؛ يذاكر دروسه بنفسه، يحفظ بنفسه، لم أساعده إلا في السنوات الأولى فقط، بينما أنت تجاوزت المرحلة الابتدائية وما زلت أساعدك فيها».
لم أعد أطلب منها شيئًا، وقد ارتاحت هي من همي، أصبحت تجد الوقت الذي كانت تضيعه على دروسي في وقت لمشاهدة مسلسلاتها وزيارة صديقاتها.
المعلمون، لكم أكره المعلمين، ويا لضعفي وقلة حيلتي أمامهم، فحتى حين أخبرت والدي عن ذاك المعلم الذي قام بضربي، بمفردي، من بين كل الطلاب في الفصل؛ لأنني لم أجب عن سؤال واحد، سؤال واحد تكرر عدم معرفته لكثير من الطلاب معي، إلا أنه قال: أنني الأكبر بينهم، وقد درست المادة قبلهم، وأكثر منهم، ومع ذلك ما زلت مغفلًا، وكان رد أبي حينها بأن قال: أنني أستحق ذلك، ويا لصبر وتحمّل المعلمين لي، فلو كان مكانهم لما تحمل رؤيتي لعامين متتاليين.
لذلك توقفت، توقفت عن إخباره، توقفت عن أن أطلب منه أي شيء أحتاجه، إلى أن توقفت عن المحاولة لكي أكون أخي في أعين والديّ.
يكفي ابن واحد يفخرون به، وأنا سأقف دومًا في آخر الصف، متابعًا مديحهم له، وأصفق معهم حين يصفق الجميع له، أخي الأكبر، الابن البكر لوالديّ، الذي سبقني وأخذ كل الحب والاهتمام منهما، لا أعرف إن كان هناك متّسع في قلوب الوالدين إلا لمحبة ابن واحد فقط، كل الحق لهم إن كان كذلك، هو الأولى بمحبتهم لا أنا، هو الأولى بأن يأخذ كل الاهتمام لا أنا، هو من يستحق أن يرافق والدي في كل المناسبات التي يذهب إليها، هو من يستحق أن تردد والدتي اسمه فخرًا بإنجازاته، وحتى في بكائه من أمر يحزنه، هو من يستحق المواساة لا أنا، أنا الذي لطالما بكيت دون أن يواسيني أحد، ولا حتى في المرة التي جاءت فيها أمي ورأتني أبكي، وكان كل ما قالته هو أن أنام وسوف يذهب كل ذلك الحزن، نعم، أنام، النوم الذي يريحني حتى اليوم التالي، لأعود من جديد للبكاء، البكاء وحدي، البكاء على فشلي، وضعفي، وتخلفي، ووقوفي في آخر الصف، حتى لو حجب ذلك عني رؤيتي لمسرح التكريم الذي لم أنله يومًا، لماذا أرى ما لا يمكنني الوصول إليه؟ مكاني هنا، في آخر الصف، في آخر الاهتمام، وآخر تفضيل والديّ.