كُره أنتمي إليه – قصة قصيرة من كتاب للعلاقات تاريخ انتهاء

    لا أعرف كيف أبدأ، حتى في شيء بالغ البساطة، مثل أن أكتب مقدمة لقصتي لا أعرف، مجرد كلمات لا أجيد ترتيبها، لكن لا داعي لكل ذلك، فأنا لا أكتب لتعجب بي، ولا لكي تحبني، أو حتى لتتقبلني على ما أنا عليه، بل لتكرهني كما يكرهني الجميع.

  لطالما كنت سيئًا في كل شيء، ليس شيئًا واحدًا فقط؛ فأنا لا أضع يدي على أمر ما وأجيد فعله، لا يستطيع والديّ الاعتماد عليّ، حتى حين يطلبان مني الذهاب لشراء شيء ما، أنسى ما ذهبت لشرائه قبل أن أصل، محاولات كتابتي لطلباتهم تبوء بالفشل؛ إذ أنسى حتى أنني كتبتها، نعم، أنا غبي لهذا الحد كما كان يردد والديّ على مسامعي طوال الوقت.

   في المرحلة الابتدائية من دراستي، أعدت سنوات في الفصل ذاته؛ السنة الأولى أعدتها ثلاث مرات قبل أن أنتقل للسنة الثانية بعد أن تجاوزني أقراني بمرحلتين دراسيتين، وهل تجاوزت السنة الثانية مباشرة؟ ببالغ الأسى لا، أعدت السنة الثانية مرتين، وفي بقية الفصول، كان المعلمين قد يأسوا مني، فأصبحوا يدفعوني في السنة الثانية أو ما بعدها، وقد ساعدتهم في ذلك؛ إذ أدركت أن لا سبيل لي إلا بالغش، وقد بدأت أتجاوز السنوات الدراسية دون أن أعيدها ببعض الدرجات من المعلمين هنا، وببعض من الغش هناك.

  لم يكن لدي أصدقاء، زملاء الدراسة؟ كيف أعد أيًا منهم صديقًا أو حتى زميلًا إن كانوا أصغر مني بسنوات؟ وفي حال بدأت أصادق أحدًا منهم، ينجح هو وينتقل لفصل آخر بينما أرسب أنا لأكون في فصل مع طلاب جدد أصغر مني، ليس بالعقل طبعًا.

 أما البقية فكانوا يرفضون أن أكون صديق لهم، لا ألومهم، فكيف يحب أحد شخصًا فاشلًا في دراسته، لا أصدقاء له، لا يحبه والداه، ويفضلون أخاه الأكبر عليه.

   لن أتذمر بالطبع، فأنا أستحق كل ما يحدث لي، كيف لوالدي ألا يحبون أخي الأكبر أكثر مني؟ هو الذي بسببه، لطالما استدعت المدرسة أبي لأجل تكريمه، بينما أشاهدهم أنا من صفوف الطابور الصباحي الأخيرة.. في الحقيقة لا ألوم حتى والدي يومها حين تجاهلني تمامًا بعد نهاية التكريم، بعد أن تمشى مع أخي الكبير في ساحة المدرسة، وما إن لمحني قادمًا إليهما حتى قبّل رأس أخي وغادر مسرعًا قبل أن أصل إليه.

  نعم لا ألومه أبدًا، فكيف يسمح برؤية من في المدرسة – التي كَرّمت ابنه الناجح والمتفوق الذي يفتخر به – بأن تشاهده مع ابن آخر له، فاشل مثلما كنت، سيء التصرفات مثلما أفعل دائمًا، لا يستحق الحب منهم، وبوقوفه معه يمحو صورته اللامعة مع من رَفع رأسه بتكريمه للتو.

 أنني أبذل مجهودًا كبيرًا في كل شيء، ما ينهيه أخي في دقائق أمضي فيه ساعات؛ في الدراسة أقضي ساعات في صفحات معدودة بالكاد أتجاوزها، لقد يئست أمي من محاولاتها معي، تحاول تلقيني الدروس متذمرة على إعادتي لها في كل مرة، وحين يكثر ترديدي لجملة واحدة لا أكاد أتجاوزها، تصفعني على رأسي صارخة: «كم مرة أعدت عليك هذا البيت؟ هذه القطعة؟ كم مرة شرحت لك هذه المسألة؟ انظر لأخيك؛ يذاكر دروسه بنفسه، يحفظ بنفسه، لم أساعده إلا في السنوات الأولى فقط، بينما أنت تجاوزت المرحلة الابتدائية وما زلت أساعدك فيها».

  لم أعد أطلب منها شيئًا، وقد ارتاحت هي من همي، أصبحت تجد الوقت الذي كانت تضيعه على دروسي في وقت لمشاهدة مسلسلاتها وزيارة صديقاتها.

  المعلمون، لكم أكره المعلمين، ويا لضعفي وقلة حيلتي أمامهم، فحتى حين أخبرت والدي عن ذاك المعلم الذي قام بضربي، بمفردي، من بين كل الطلاب في الفصل؛ لأنني لم أجب عن سؤال واحد، سؤال واحد تكرر عدم معرفته لكثير من الطلاب معي، إلا أنه قال: أنني الأكبر بينهم، وقد درست المادة قبلهم، وأكثر منهم، ومع ذلك ما زلت مغفلًا، وكان رد أبي حينها بأن قال: أنني أستحق ذلك، ويا لصبر وتحمّل المعلمين لي، فلو كان مكانهم لما تحمل رؤيتي لعامين متتاليين.

  لذلك توقفت، توقفت عن إخباره، توقفت عن أن أطلب منه أي شيء أحتاجه، إلى أن توقفت عن المحاولة لكي أكون أخي في أعين والديّ.

   يكفي ابن واحد يفخرون به، وأنا سأقف دومًا في آخر الصف، متابعًا مديحهم له، وأصفق معهم حين يصفق الجميع له، أخي الأكبر، الابن البكر لوالديّ، الذي سبقني وأخذ كل الحب والاهتمام منهما، لا أعرف إن كان هناك متّسع في قلوب الوالدين إلا لمحبة ابن واحد فقط، كل الحق لهم إن كان كذلك، هو الأولى بمحبتهم لا أنا، هو الأولى بأن يأخذ كل الاهتمام لا أنا، هو من يستحق أن يرافق والدي في كل المناسبات التي يذهب إليها، هو من يستحق أن تردد والدتي اسمه فخرًا بإنجازاته، وحتى في بكائه من أمر يحزنه، هو من يستحق المواساة لا أنا، أنا الذي لطالما بكيت دون أن يواسيني أحد، ولا حتى في المرة التي جاءت فيها أمي ورأتني أبكي، وكان كل ما قالته هو أن أنام وسوف يذهب كل ذلك الحزن، نعم، أنام، النوم الذي يريحني حتى اليوم التالي، لأعود من جديد للبكاء، البكاء وحدي، البكاء على فشلي، وضعفي، وتخلفي، ووقوفي في آخر الصف، حتى لو حجب ذلك عني رؤيتي لمسرح التكريم الذي لم أنله يومًا، لماذا أرى ما لا يمكنني الوصول إليه؟ مكاني هنا، في آخر الصف، في آخر الاهتمام، وآخر تفضيل والديّ.

 

الصرخةُ ضد «الكراهية» تعني دعوة إلى العمل

 

أصبحت الكراهية منبوذاً سياسياً في الديمقراطيات الليبرالية. وسواء تمّالتعبير عنها بالكلام، أم جرى تطبيقها في سلوكٍ إجرامي يومي، أم نُظِر إليهاعلى أنها وقود للإرهاب والتطرف، تُعدُّ الكراهيةُ رذيلةً وشراً وتهديداً. في الخطاب العام، تُنسب الكراهية عادةً إلى الآخر (مجرمين، أعداء، غرباء،إرهابيين)، والصرخةُ ضد «الكراهية» تعني دعوة إلى العمل: إحصاءات جديدة أو تفصيلية أكثر، بنود قانونية للتجريم أو لتعزيز العقوبة، تدريب للشرطة والدفاع عن حقوق الإنسان. على كل حال، إنّ نتيجةَ التحريض الفعال ضدّ تهديد الكراهية المتصوَّر يعني التعبئة والتحشيد، و، في كثير من الأحيان،يعني بسط سلطة الدولة. يبدو أن الكثيرَ من العمل الأكاديمي حول الكراهية يشترك في الافتراض الأساسي أنّ الكراهيةَ سيئةٌ، وأن العالمَ سيكون مكاناًأفضل من دونها. لكننا نحن نشكّ في أنّ كل الكراهية سيئة، ونصرّ على أن محاربة الكراهية تحتاج إلى تمحيصٍ نقدي. هذه هي الفكرة الأساسية وراء كتابنا الكراهية والسياسة والقانون: تصوراتٌ نقدية حول مكافحة الكراهية، الذي صدر من مطبعة جامعة أكسفورد في 2018. كان هدفناتوسيع النظرة العلمية لكيلا تشتمل على الكراهية فحسب، بل على محاربة الكراهية أيضاً. وهذا يعني بدء استكشافٍ نقديٍّ ومناقشةٍ نقدية للافتراضات،والمُثلِ العليا، وجداولِ الأعمال الأساسية وراء المكافحة الحديثة للكراهية: ماالافتراضات المعيارية، والجذور الأيديولوجية، والوعود، والحدود، و-ليسأقلها-النقاط العمياء، في الحرب الحديثة على الكراهية؟ متى أصبحت محاربةُالكراهية مشروعةً، ولماذا؟ ما الذي نقصده عندما نقوم بتأطير عملٍ ما، أو تعبيرٍ ما، فنقول إنه ينضح بالكراهية؟ كيف يرتبط الاستخدامُ الحديث والعام لمصطلح «الكراهية» بالتاريخ الأطول والأوسع لمفهوم الكراهية؟ ما الذي يكون على المحكّفي العلاقة الصعبة بين الكراهية والديمقراطية الليبرالية؟ تحقيقاً لهذه الغاية،يفتح الكتاب أربع مساحات للاستكشاف.

منظور تاريخي

لم تكن الكراهية دائماً شراً تجب محاربته، ولم تكن الكراهية والديمقراطية دائماً على خلاف إحداهما مع الأخرى. في الكتاب، يشرح باحث اليونانية واللاتينية القديمة، ديفيد كونستان (David Konstan)، كيف أنه في أثينا الديمقراطية القديمة، وفي روما الجمهورية، عُدَّت أشكالٌ محدّدةٌ من الكراهية ملائِمةً اجتماعياً ومرتبطةً بعداوةٍ شرعية، وليس بمرض اجتماعي. العاطفةُ،التي كانت تُعدُّ دافعاً للنزاع الاجتماعي المثير للمشكلات هي الحسد (الفثونوس phthonos)، وليست الكراهية (ميسوس misos). قد يكون الفهم الكلاسيكي للحسد مثيراً للاهتمام ليس لأغراض المقارنة التاريخية فحسب؛ بلأيضاً لفهمنا اليوم لجرائم الكراهية أو التحيّز. إن النظر عن كثب في الحسديشجّعنا على أن نتعامل بجدّية أكبر مع مشاعر الظلم أو الخزي أو الإذلال،التي قد تكون عاملاً في العديد من جرائم الكراهية. بالتركيز على تاريخ تصنيف فئة «الكراهية» في ديمقراطياتنا الحديثة، يوضح عالم السياسة إريك بليش (Erik Bleich) أن التركيزَ السياسي والقانوني الحالي على الكراهية هو، إلى حد كبير، نتاجُ تراكمٍ تدريجي لقوانين وسياسات محددة ناشئة عن المخاوف من العنصرية على مدى أكثر من 50 عاماً. يشير هذا المسار إلى أنّالعنصرية –بغض النظر- لا تزال هي المثال للكراهية، وهذا يؤدي باستمرار إلى بناء فهم الجمهور للكراهية على أنّها نوعٌ محدّد من الشر.

تكوين فكرة عن الكراهية

ما المعرفة حول الكراهية، التي يحتاج إليها الأشخاص المنخرطون في مكافحة الكراهية؟ على قدر المستطاع يمكن للمرء أن يقدر تقديراً، وإلا فكيف سنحاربها؟ لكنّ معظم الدراسات حول جرائم الكراهية وخطاب الكراهية لا تبدو مهتمّةً كثيراً بالتفكير المفاهيمي المتعمِّق والمفصَّل. ربما يتعيّن على المرء أن يحتمل الإرجاعَ والإحالةَ إلى «الكراهية» في الخطاب العام والسياسي. قد يُمنح خطابُ الكراهية منحاً لأجل ضمانِ انتباه وسائل الإعلام، ولأجل إقامةِتحالفات سياسية بين جهاتٍ فاعلة ومنظماتٍ لن تكون مترابطة من دونه. لكن وفقاً للعديد من العلماء، إن ما هو على المحكّ في مكافحة خطاب الكراهية وجرائم الكراهية ليس الكراهية «بعينها»، بل هو تلك الهيكليات من تحيزٍوترتيبٍ هرميّ للسلطة غير مشروع، وتمييزٍ عنصري. ومن ثَمَّ، يدعو بعض العلماء إلى تغيير المصطلحات واستخدام تعبيرات مثل: خطابِ تشهيرٍ وتلويثٍللسمعة، أو جريمةِ تحيز. هذا الرفض لاستخدام مصطلح الكراهية، باعتباره غير ملائم، يخدم غرضاً مهماً هو لفت الانتباه إلى التضمين البنيوي لخطاب الكراهية وجريمة الكراهية، وأن هذا التضمين هو السبب في جعلهما طبيعيَّيْن،وجعل طابعهما يتفشى في جهاز النظام. ورغم ذلك، إن صرف النظر عموماً عن وجوب التفكير بتوسعٍ بشأن الكراهية فيه تسرّع كبير للغاية. يعيد الفيلسوف توماس برودهولم (Thomas Brudholm) النظرَ في كتابات أفلاطون وأرسطو، موضحاً أنّ هناك إرثاً طويلاً من عَدِّ أشكالٍ معينة من الكراهية تحيزاً أو متلازمةًمرضية، وأيضاً من النظرِ إلى الكراهية (وربما ما زال بالإمكان رؤيتها هكذا) على أنها استجابةٌ عاطفيةٌ عادية تجاه شرٍّ متصوَّر تتجاوب مع أسبابٍ، وتقبل الضبطَ طالما لا ينقاد الأشخاص الكارهون، دائماً أو حتمياً، لاستهلاك أنفسهم بكراهيتهم هذه. تحلل عالمةُ النفس نيزا ياناي (Niza Yanay) الكراهيةَ على أنها مجموعة معقدة ومتناقضة للغاية من تشوق ورفض، واشمئزاز ورغبة، وهذه المجموعة تعمل على مكافحة الكراهية من داخل نزعات ورهاب المصالحومن تحتها. ومن هنا تبرز الحاجة إلى فهم أعمق لازدواجية الكراهية،وعلاقتها الدقيقة المعقدة بالحب، لإيجاد استجابةٍ ضد الكراهية تكون دقيقةًبما فيه الكفاية في الديمقراطيات الليبرالية. أخيراً، يوضح الباحث القانوني إريك هاينز (Eric Heinze) كيف تظهر الكراهية بوصفها مفهوماً قانونياًفي خضم محاولةٍ تستهدف أشكالاً من مواقف عدائية غير مشروعة لا يمكن استيعابها داخل إطار قانون مكافحة التمييز العنصري. ورغم ذلك، إن استهداف مثل هذه المواقف، من خلال قوانين للخطاب، يضع الدولةَ الديمقراطية الليبرالية على خلافٍ مع التزامها بتجنب الإجراءات العقابية لوجهات النظر. وهكذا، الدولة تسير دائماً على حبل مشدود في سعيها لتنظيم المواقف قانونياً.

الاستجابات ضد الكراهية

يتعرض الناس، في جميع أنحاء العالم، للعنف والتخويف بسبب وضعهم أو انتمائهم إلى مجموعات معينة، ومثل هذا الأمر كان يجري على مرّ العصور،لكنَّ ما يميّز الخوفَ الحديث من الكراهية ليس العنفَ أو المضايقة في حد ذاتيهما، بل تفسيرُ العنف على أنه نوع محدّد من المشكلات الاجتماعية،وإدخالُ مجموعةٍ متنوعة من الاستجابات القانونية والسياسية لحلّها. ما نسميه الاستجابات على الكراهية (التجريم، وتعزيز العقوبة، ومقابلات الضحية والجاني، واستطلاعات الضحايا، والحملات العامة، والتعليم… إلخ) هو عملُكلٍّ من الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية. في كلتا الحالتين، ردودُ الفعل هذه على الكراهية مرتبطةٌ، بشكل معقد، بقيم ومبادئ المجتمع المستجيب. وعلى هذا النحو، تخبرنا هذه الاستجابات شيئاً مهماً عن الأسس المعيارية للديمقراطيات الليبرالية؛ مثلاً، ما يتعلق بالعدالة الجنائية، والتسامح، والمساواة، والحريات الأساسية. من الواضح أن إحدى الاستجابات البارزة كان التجريم والعقاب،لكنْ هل التجريم هو الحلّ المناسب، وإذا كان الأمر كذلك فهل العقوبات المشددة هي أفضل الطرق؟ يسعى فصلان (من تأليف الفلاسفة إيه آر داف (A R Duff)، وإس إي مارشال (S E Marshall) والعالِم المتخصّص في الجريمة مارك والترز (Mark Walters)) إلى سدّ الفجوة الحاسمة بين تأكيد ظلمالكراهية من جهة، والاندفاع إلى التجريم والمعاقبة من جهة أخرى؛ وهي فجوةغالباً ما يتمّ تجاهلها، أو الارتجال في معالجتها في الخطابات الحالية المناهضة للكراهية. من الواضح أنّ هناك أيضاً استجابات أخرى ضدّ الكراهية سوى الآليات القانونية للمساءلة الجنائية الفردية. تطرح عالمةُ الاجتماع بيرجيت شيبلرن جوهانسين (Birgitte S. Johansen) مشكلة حكمة ترويجالتسامح (كفضيلة ليبرالية كلاسيكية) بوصفه ترياقاً مضاداً للكراهية، وتطرح المنظِّرة السياسية ميهايلا ميهاي (Mihaela Mihai) حجةَ مزايا الفن لدىالعمل على التصرفات الجمعية الظاهرة والعدائية بلا تبصّر.

الكراهيات الديمقراطية

أخيراً، كان طموحنا مع الكتب هو أيضاً سبر النقاط العمياء محتملة الوجود في قانون وسياسة مكافحة الكراهية الحالية. وبالتحديد، من خلال التساؤل عمّا إنْ كان هناك وجود لشيءٍ مثل كراهيةٍ ديمقراطيةٍ ليبرالية، وإنْ كان الأمر كذلك فكيف يتبدّى؟ يجيب مؤرخ الأفكار ميكيل ثورب (Mikkel Thorup)عنهذا السؤال من الناحية المفاهيمية، من خلال التحقيق في القواعد النحوية المختلفة للعداوة الناشئة عن الديمقراطية بوصفها نظاماً سياسياً يستبدل بالكراهية مثالياً عدمَ التوافق، ويستبدل بالعدو المنافسَ، ويستبدل بالعنف التصويتَ والاقتراعَ. الفكرةُ، التي تكوّن مفهوم الذات الديمقراطية، هي أن العنفَ هو الشرُّ، الذي قد تنقذنا الديمقراطية منه، وأنّ العنفَ موجودٌ في هذا العالم بسبب الآخرين غير الديمقراطيين والمليئين بالكراهية فحسب. يجيب فصلٌ آخر عن السؤال تجريبياً، من خلال استقصاءِ ما إذا كانت الدول الديمقراطية الليبرالية ترتكب، في واقع الأمر، ما تزعم أنها تحاربه بوصفه «كراهية». تجادل الباحثة القانونية كاثرين أبرامز (Kathryn Abrams)بأن هذا، في الواقع، ما تفعله ولاية أريزونا بالضبط في ظلّ نظام «إنفاذ القانون عن طريق الاستنزاف» المنتشر ضدّ المهاجرين، الذين ليس لديهم وثائق شرعية. تُظهر القضية كيف يمكن لملامح محددة من كراهية الدولة أن تصبح قانونيةًبسهولة عندما لا يتمّ اعتبار الأفراد أعضاءَ في النظام السياسي، وعندما تتدثرالكراهية بخطاب المخاوف بدلاً من العدائية.

لقد أصبح تبنّي روحِ مناهضةِ الكراهية، ومواجهةِ خطاب الكراهية وجرائم الكراهية، طرقاً تحدِّد بها الدولُ الليبرالية والديمقراطية أعداءها، وتُعرّف عن هوية نفسها. ورغم ذلك، إن محاربة الكراهية ليست واضحة بلا لبس، ولا تمر من دون تكلفة. فكما أشار الباحث القانوني روبرت بوست (Robert Post)،في ملخصه الختامي، إن التحشيد لمفهوم الكراهية، باعتباره المنظار الذي تُعالَج وفق رؤيته قضايا مثل التحيز والتمييز العنصري، يُحتمل أن يفتح باباً لإقصاء الجناة المرتكبين: «باسم التسامح، يجري تحريم وإقصاء المذنبين بارتكاب جرائم الكراهية؛ نضعهم خارج دائرة “الحوار الممكن”. إن خلق جرائم الكراهية لا يطهر المجتمع من الكراهية، بل، بدلاً من ذلك، يعيد توجيهَكراهيةٍ ديمقراطيةٍ نحو مرتكبي جرائم الكراهية». هل نحن، في قتالنا للكراهية،نخاطر بإقصاءٍ مليء بالكراهية للآخرين المكروهين من وسطنا؟ لا يقدم الكتابُإجابةً عن هذا السؤال الصعب، لكننا نأملُ دعوةَ وإثارةَ النقاش حول العلاقات الصعبة بين الكراهية والسياسة والقانون.

الكواكبي استسقى طبائع الاستبداد من كتاب الطاغية

[ 1 ] الكواكبي والاصلاح الإسلامي

لقد تطور الفكر الاصلاحي عند «عبد الرحمن الكواكبي» (1271 ـ 1320هـ/
1855 ـ 1902م) في مرحلتين أساسيتين بينهما ترابط واتصال من جهة، وافتراق في المكان والزمان من جهة أخرى. وهما المرحلتان التي اعتنى الكتاب والباحثون بدراستهما والتوقف عندهما باهتمام باعتبارهما من المحطات الرئيسية في حياته وحركته الاصلاحية، وفي تطور خطابه وفكره الاصلاحي.
وقد وجد هؤلاء الدارسون سهولة كبيرة في إمكانية التعرف على سيرته وحياته، وعلى فكره وحركته. بعكس ما وجده الدارسون والمؤرخون من صعوبات كبيرة في التحقيق عن سيرة السيد «جمال الدين الأفغاني» وكتابة تاريخ حياته وحركته الاصلاحية، نتيجة المحطات الكثيرة والمتباعدة في حياته، حيث عرف عنه السفر والانتقال وعدم الاستقرار في مكان واحد. لذلك لا توجد إلى اليوم سيرة واحدة للأفغاني متفق عليها بين الباحثين والمؤرخين في العالم العربي والإسلامي، وحتى في العالم الغربي.
والمرحلتان اللتان نقصدهما في الحديث عن تطور الفكر الاصلاحي عند الكواكبي، هما:
المرحلة الأولى: كانت في حلب التي ولد ونشأ وترعرع الكواكبي فيها. وفيها أيضاً تبلورت تجربته الاصلاحية عن طريق الأدوار والأنشطة التي تصدى لها أو نهض بها، وشملت مجالات الصحافة والمحاماة والتجارة. وهي الأنشطة والمجالات التي جعلته على احتكاك مباشر وحي مع المجتمع من جهة، ومع السلطة من جهة أخرى. لذلك فإن الأفكار التي توصل إليها وتمسك بها، وكان شديد القطع بها، هي نتاج اختبارات وتجريبات واحتكاكات، وليست مجرد تأملات أوتجريدات أوتنظيرات باردة.
فقد شغل في مجال الصحافة محرراً بجريدة «الفرات» مدة أربع سنوات (1872 ـ 1876م) وهي الجريدة الوحيدة في حلب آنذاك، والناطقة بلسان الدولة، وكانت تصدر باللغتين العربية والتركية. ولعل هذه التجربة المبكرة كشفت له عن قيمة الدور الذي تنهض به الصحافة في تنوير الرأي العام والقدرة على تحريكه والتأثير عليه. الأمر الذي شجعه على الانخراط في هذا المجال باستقلالية، فأصدر سنة 1878م جريدة «الشهباء» بالتعاون مع «هشام العطار»، وكانت في وقتها أول جريدة عربية مستقلة صدرت في حلب. لكنها توقفت بعد صدور خمسة عشر عدداً بأمر من والي حلب آنذاك «كامل باشا القبرصي» الذي لم يتحمل المنحى النقدي للصحيفة. وعاود «الكواكبي» التجربة مرة أخرى لقناعته بهذا الدور فأصدر سنة 1879م جريدة «الاعتدال» باللغتين العربية والتركية، لكنها توقفت هي الأخرى بعد صدور عشرة أعداد منها، وبأمر أيضاً من والي حلب «جميل باشا».
وبعد هذه التجربة في الصحافة التي وجد فيها «الكواكبي» عدم إمكانية النهوض بها في ظل استبداد السلطة التي لا تحتمل النقد أو الرأي المختلف، تحول إلى العمل الإداري والحكومي الرسمي، وبدفع من السلطة. الخطوة التي يمكن تفسيرها بقصد امتصاص النزعة النقدية واحتواء الحس المعارض الذي ظهر متجلياً في نشاطه الصحفي. فقد عين سنة 1879م عضواً فخرياً بدون راتب مالي في لجنتين هما المعارف والمالية. وفي سنة 1881م أصبح مديراً فخرياً للمطبعة الرسمية بحلب، ثم رئيساً فخرياً للجنة الأشغال العامة. وفي سنة 1892م عين رئيساً للغرفة التجارية إلى جانب رئاسة المصرف الزراعي، واستقال منهما في السنة ذاتها. وفي سنة 1896م أعيد ليكون رئيساً لغرفة التجارة بحلب ولجنة بيع الأراضي الأميرية.
هذا التحول والانتقال السريع في المناصب والمواقع يكشف عن عدم قدرة «الكواكبي» على الانسجام والتوافق مع مؤسسات الدولة المستبدة. كما يكشف من ناحية أخرى عن سعي السلطة في احتوائه وترويضه وقولبته وفق سياساتها. ومن المجالات التي انخرط فيها أيضاً سلك المحاماة والقضاء ولم يستقر في منصب محدد، بل ظل ينتقل من موقع لآخر. فقد عين عضواً بمحكمة التجارة سنة 1886م بأمر من وزارة العدلية العثمانية، وفي سنة 1894م أصبح رئيساً لكتاب المحكمة الشرعية بالولاية.
هذه المجالات والأنشطة ساهمت في تكوينات «الكواكبي» في تصوراته الذهنية، ومزاجه النفسي، وانطباعاته الاجتماعية والسياسية، وفكره النقدي. فالصحافة جعلته في موقع الرقيب والناقد والمؤثر، وفتحت ذهنه على مجريات الشأن العام، والاقتراب من قضايا الأمة، والتأثير على الرأي العام. أما المناصب الإدارية والحكومية فقد كشفت له عن ديناميات الاستبداد وكيف ينمو ويتوسع في مؤسسات الدولة ويستشري فيها؟ وكيف يتضرر الناس من هذا الوضع الفاسد؟ أما القضاء والمحاماة فقد عرفه على معاناة الناس والتعدي على حقوقهم. ويسجل للكواكبي ما قام به من دور مهم في إظهار ظلامات المواطنين وحجم الضرر الذي وقع عليهم عن طريق مكتب فتحه للمحاماة ظل يستقبل فيه الشكاوي والتعديات، إلى درجة أن السلطات المركزية العثمانية كلفت مفوضاً عنها هو «صاحب بك» رئيس دائرة المحاكمات في شورى الدولة أرسلته إلى حلب سنة 1885م، للنظر في الظلامات التي حررها ووثقها الكواكبي ضد الموظفين والولاة في الإدارات والمؤسسات العثمانية.
وقد حول الكواكبي بذهنيته المفكر والاصلاحية هذه التجارب والمعاناة والخبرات إلى تأملات في تحليل مشكلات الأمة وكيفية النهوض بها، وهي التأملات التي عكسها في كتابيه الشهيرين «طبائع الاستبداد» و«أم القرى».
المرحلة الثانية: وكانت في القاهرة، التي وصل إليها سراً سنة 1899م، وفيها عرفت أفكاره الاصلاحية التي بشر بها، وحاول نشرها وتعميمها في بلاد الشرق والعالم الإسلامي، مستفيداً من أجواء الحرية هناك خصوصاً في نقد السياسات العثمانية، ومن نشاط الصحافة الواسع، ومن موقعية مصر كمركز إشعاع واتصال ثقافي وسياسي. ومن القاهرة عرف الكواكبي في بلاد الشرق، وتلاقحت أفكاره واندمجت بحركة الاصلاح الإسلامي. وانضم إلى نخبة من المصلحين والكتاب الذين سبقوه إلى مصر كالشيخ محمد رشيد رضا ومحمد كرد علي وطاهر الجزائري وعبد القادر المغربي ورفيق العظم وعبد الحميد الزهراوي. ونقل عنه رشيد رضا بعد وصوله إلى مصر قوله «إن الإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب في بلاد الحرية ما لا يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد، بل إن بلاد الحرية تولد في الذهن من الأفكار والآراء ما لا يتولد في غيرها».

وفي القاهرة نشر الكواكبي على حلقات كتابه «طبائع الاستبداد» في صحيفة «المؤيد» التي كان يصدرها علي يوسف، ونشر كتاب «أم القرى» في صحيفة «المنار». الكتابات التي عرفت بالكواكبي وفكره ونظراته وطبيعة توجهاته. وعن أجواء هذه الكتابات يقول زميله في القاهرة إبراهيم النجار «حدث أن صدر المؤيد ذات يوم يحمل إلى قرائه كتاباً غريب الشكل واللهجة والأسلوب والموضوع،لم يسبق للمقطم أو غيره من الصحف التي عرفت يؤمئذ بكتاباتها الحرة أن كتبت مثله، فلفت الكتاب إليه الأنظار، وشغل الخواطر، وأخذت الدعوة الحرة تلبس شكلاً جدياً، وأخذ الكتاب والقراء والناس يتساءلون عن صاحب هذا الأثر البديع في جريدة المؤيد التي سلكت مسلك الصحف الحرة على رغم اتصالها الشديد بالخديوي عباس الثاني والأستانة. ويقولون ترى من يكون صاحب كتاب طبائع الاستبداد؟ فاعتقد الجمهور لأول وهلة أنه من نتاج قلم وتفكير فقيد الشرق الشيخ محمد عبده، لولا الجفاء الذي كان مستحكماً بين صاحب المؤيد وبينه، ولولا بعد الشيخ محمد عبده عن كل ما يتصل بالخديوي قريباً أو بعيداً. فلم تمض أيام على انتشار ذلك الكتاب في المؤيد حتى عرف الكتاب الكواكبي فوضعوه دفعة واحدة في الدرجة الأولى بين رجال الفكر والقلم، وأنزلوه منزلة الشيخ محمد عبده، فعرفوا منزلته وأعلوا قدره»(1) وخلال فترة وجيزة استطاع الكواكبي أن يحتل مكانة متقدمة في مصر بين المفكرين والمصلحين. فحين يتحدث غالي شكري عن الجسر الإسلامي كما يصفه الممتد بين فكر النهضة ومصر الحديثة، ويبرز الأسماء التي أمدت هذا الجسر ويذكر ثلاثة أسماء رئيسية هي السيد جمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي ويضيف إليهم عبد الرحمن الكواكبي الذي يعتبره آخر الجسور التي واكبت المرحلة الثانية من عصر النهضة في مصر. وهذا الجسر في نظر غالي شكري «كان أكثر تأثيراً وفعالية من كافة الجسور الوافدة من الخارج، وذلك لسبب داخلي محض هو أن غالبية الشعب المصري تدين بالإسلام وبالتالي كان من الممكن للأفكار الإسلامية المتحررة أن تؤثر بوزن أكبر»(2) .
ومن مصر وتحديداً في سنة 1901م انطلق الكواكبي يجوب بلاد الشرق والعالم الإسلامي. حيث قام برحلته الأولى التي وصفها محمد عمارة بأنها شهيرة وهامة(3) . وشملت أفريقيا الشرقية والجنوبية وامتدت إلى سواحل آسيا الجنوبية والهند واندونيسيا إلى السواحل الجنوبية للصين. واستغرقت ستة أشهر عاد بعدها إلى مصر. وكان يخطط لجولة ثانية إلى بلاد المغرب. والذي نفهمه من هذه الزيارات أنها ذات صلة بأطروحة كتابه «أم القرى» وهذا ما سوف يتضح لاحقاً.

وهذا الربط والاتصال بين الكواكبي وحركة الاصلاح الإسلامي يستدعي الالتفات إلى ثلاثة أمور بحاجة إلى فحص وتشخيص وتحليل، وهي:

1 ـ إن الكواكبي حتى لو كان متأثراً بالسيد جمال الدين الأفغاني إلا أنه لم يكن تلميذاً له أو لمدرسته الفكرية والاصلاحية. وهكذا عن الشيخ محمد عبده. لذلك ليس صحيحاً ما يذكره بعض الكتاب في تصنيف الكواكبي علىتلامذة الأفغاني، كالذي حاول الاستدلال عليه عبد الباسط محمد حسن في كتابه «جمال الدين الأفغاني وأثره في العالم الإسلامي الحديث». وهذا ما يظهر ويتأكد في حالة تحليل الأفكار عندهما، فهناك قدر من الاتفاق وقدر من الاختلاف أيضاً. والذين أرخوا لحياة الكواكبي وسيرته لم يذكروا إنه التقى بالأفغاني أو صاحبه. والاحتمال الوحيد في هذا الأمر هو ما ذكره حفيده سعد زعلول الكواكبي الذي كتب السيرة الذاتية الموثقة لجده، حيث يحتمل أن يكون الكواكبي قد اجتمع بالأفغاني سراً في آخر زيارة له إلى استنبول عندما كان الأفغاني في إقامته الجبرية هناك. ولم يذكر شيئاً عن مضمون هذا الاجتماع سوى أن الأفغاني يحتمل أنه حذر الكواكبي من مغبة اعتقاله، الأمر الذي جعل الكواكبي يسارع إلى ترك استنبول ويعود إلى حلب ليخرج منها نهائياً متوجهاً إلى مصر(4) . أما لقاؤه بالشيخ محمد عبده فلم يحصل إلى بعد وصوله إلى مصر، علماً أن الكواكبي لم يغادر حلب طوال حياته إلا إلى تركيا. وفي مصر لم يجالس الشيخ عبده كثيراً لأنه سرعان ما ترك مصر لينشغل برحلاته وسفراته الطويلة والبعيدة. والأمر المهم في هذا الشأن هو أن الكواكبي حينما وصل إلى مصر كان قد تحددت لديه أفكاره الرئيسية الناضجة والراسخة لديه. فكتابيه «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» صنفهما في حلب وحملهما معه إلى القاهرة لينشرهما من هناك إلى بلاد الشرق والعالم الإسلامي.
2 ـ ما أضافه الكواكبي على الصعيد الفكري كان على قدر كبير من الأهمية في حركة الاصلاح الإسلامي، مع ذلك لم يكتسب تلك الأهمية المفترضة، وتراجعت تأثيراته الفكرية نسبياً في ظل هيمنة شخصية السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده على فكر ومشروع حركة الاصلاح الإسلامي. فالكواكبي كما يقول فهمي جدعان إذا لم يكن «أول عربي يتصدى للاستبداد بالنقد والتجريح في العصر الحديث، فقد سبقه إلى ذلك مفكرون كثر من أمثال خير الدين وابن أبي الضياف التونسيين وجمال الدين الأفغاني، بالإضافة إلى عدد من المسيحيين السوريين الذين إستقوا آراءهم السياسية من فلاسفة الثورة الفرنسية ومونتسكيو بصورة خاصة. لكن المؤكد أن الكواكبي كان أول عربي يتصدى للاستبداد بالتحليل والدراسة الجادة»(5) ويرى عاطف العراقي «إن الفكر السياسي عند الكواكبي يعد ثرياً ثراء لا حد له. وهذا الفكر السياسي يعد من أبرز الجوانب التي نجدها عند الكواكبي نظراً لأنه يصبغ الكثير من المجالات الأخرى التي يبحث فيها بصبغة سياسية وخاصة حين يبحث في بعض الأبعاد والمجالات الاجتماعية.. إن الكواكبي يعد واحداً من الأعلام والرواد الذين تركوا لنا آثاراً تدل على مدى الجهد الذي قام به، وهذه الآثار تدلنا على أن المؤرخ للفكر السياسي العربي المعاصر لن يكون بإمكانه إهمال فكر الكواكبي»(6) .
3 ـ لعل الكواكبي يمثل حالة وسطية بين الأفغاني وعبده. فهو في مجالات يتفق فيها مع الأفغاني ويختلف فيها مع عبده، وفي مجالات أخرى يحصل العكس يتفق فيها مع عبده ويختلف فيها مع الأفغاني. وقد اهتم بعض الكتاب والباحثين الذين درسوا حركة الاصلاح الإسلامي أو أرخوا لحياة المصلحين في إظهار المقارنة بين الأفغاني والكواكبي وجوانب الاتفاق والاختلاف بينهما. فأحمد أمين يرى بأن «الأفغاني اكتوى بالسياسة الانجليزية، فصب عليها جام غضبه، واستغرقت حملته عليها أكبر قسم في العروة الوثقى. في حين اكتوى الكواكبي بالسياسة العثمانية فكانت موضع نقده. الأفغاني نظر إلى العوامل الخارجية، والكواكبي نظر إلى العوامل الداخلية. لذلك كانت معالجة الأفغاني للمسائل معالجة ثائر، تخرج من فمه الأقوال ناراً حامية، ومعالجة الكواكبي معالجة طبيب يفحص المرض في هدوء ويكتب الدواء في أناة. الأفغاني غضوب والكواكبي مشفق، الأفغاني داع إلى السيف والكواكبي داع إلى المدرسة. الأفغاني حاد الذكاء حاد الطبع والكواكبي رزين الذكاء هادئ الطبع، إذا وضعت أمامهما عقبة تخطاها الأول قبل وتخطاها الثاني بعد. فلا عجب إن كان للأفغاني دوي المدافع وكان للكواكبي خرير الماء يعمل في بطء حتى يفتت الصخر»(7) وفي نظر الشيخ مرتضى المطهري بأن «الكواكبي كالسيد جمال الدين وعلى خلاف الشيخ عبده، يعطي للنشاط السياسي ورفع الوعي السياسي للجماهير اهتماماً أكثر منه بسائر الشؤون الاصلاحية في الحياة»(8) .
وإذا كان الكواكبي يشترك مع الأفغاني في مفهوم الجامعة الإسلامية، فإنه يختلف عنه في إعطاء موقعية الزعامة إلى العرب وبنوع من التأكيد والإصرار. ويشتركان في نقد ومعارضة الاستبداد، ويختلفان في أن الكواكبي يرى بأن الاستبداد لا يقاوم بالقوة أو الشدة وإنما باللين والتدرج. كما يمكن القول بأن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» يقترب من المزاج النفسي والعقلي عند الأفغاني، وفي كتابه «أم القرى» يكاد يقترب من المزاج النفسي والعقلي عند الشيخ عبده.

[ 2 ] طبائع الاستبداد

لقد عرف الكواكبي واشتهر بكتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» كما عرف قبله أيضاً السيد جمال الدين الأفغاني بالعروة الوثقى، وخير الدين التونسي بكتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، والشيخ محمد عبده بكتاب «رسالة التوحيد» وهكذا غيرهم قبله وبعده. وقد صنف الكواكبي هذا الكتاب في حلب دون أن يطلع عليه أحد، وحمله معه إلى القاهرة، حيث نشره على حلقات في صحيفة «المؤيد»، وجمعه لاحقاً في كتاب. وظهرت نسخته المنقحة أول مرة سنة 1957م، وحفظت المخطوط الأصلي حسب رواية ابنه الدكتور عبد الرحمن الكواكبي في مديرية الوثائق التاريخية التابعة لوزارة الثقافة بدمشق.
في هذا الكتاب حاول الكواكبي أن يشرح رؤيته لما وصفه بالداء الدفين وسبب الانحطاط في الأمة وما هو الدواء؟ والانخراط في بحث المسألة الكبرى على حد وصفه ويعني بها المسألة الاجتماعية في الشرق عموماً وفي المسلمين خصوصاً. وهي المسألة التي وجد كما يقول أفكار سراة القوم في مصر وفي سائر الشرق خائضة عباب البحث فيه، كل يذهب مذهباً في سبب الانحطاط وما هو الدواء. ومنذ البداية وفي مقدمة هذا الكتاب حدد الكواكبي رؤيته النهائية والحاسمة التي استقر عليها في تفسير أصل هذا الداء بعد بحث وتأمل ونظر استغرق ثلاثين عاماً كاد يشمل كما يقول «كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم فيه الباحث عند النظرة الأولى، أنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله، ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء، أو أن ذلك فرع أصل، أو هو نتيجة لا وسيلة»(9) وتمحص عنده أن أصل هذا الداء هوالاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية. الأصل الذي أعطاه الكواكبي وصف الإصابة والترجيح، وكيف أنه بذل جهداً كبيراً في التوصل إليه والثبات عليه، وحسب قوله «إن إراحة لفكر المطالعين أعدد لهم المباحث التي طالما أتعبت نفسي في تحليلها، وخاطرت حتى بحياتي في درسها وتدقيقها، وبذلك يعلمون أني ما وافقت على الرأي القائل بأن أصل الداء هو الاستبداد السياسي إلا بعد عناء طويل يرجح أني قد أصبت الغرض»(10) أما غاية المؤلف من هذا الكتاب فهو «التنبيه لمورد الداء الدفين، عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم، أنهم هم المتسببون لما حل بهم، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار، إنما يعتبون على الجهل وفقد الهمم والتواكل، وعسى الذين فيهم بقية رمق من الحياة يستدركون شأنهم قبل الممات»(11) .
وقد اكتسب هذا الكتاب اهتماماً واسعاً من الكتاب والباحثين والنقاد، وذلك لطبيعة موضوعه وطريقة معالجته ووضوح وجرأة أفكاره، وتركيزه على قضية شديدة الحساسية يصنفها البعض في دائرة المحرمات والممنوعات، وجاء في وقت لفت الانتباه إليه بصورة كبيرة، وعرف على نطاق واسع، ولعل الكواكبي التفت إلى حساسية هذا الجانب في ربط موضوع الكتاب بزمنه وعصره كما لو أنه موجه إلى سلطة أو دولة معينة فتدارك هذا الأمر بقوله في مقدمة الكتاب «وأنا لا أقصد في مباحثي ظالماً بعينه ولا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه»(12) .
ومنذ ظهور هذا الكتاب وهو يعتبر الأكثر أهمية في نقد الاستبداد وتشريح أصوله ومكوناته وعلائقه ومفاعيله، وإلى اليوم وهو يحافظ على هذا الزخم النقدي، وعلى قيمته المعنوية والفكرية، ومكانته المرجعية والمعرفية. لدرجة أصبح بالإمكان الاقتران بين الحديث عن الكواكبي والحديث عن الاستبداد، فهو أكثر من عرف من بين المصلحين في العالم العربي والإسلامي بنقد الاستبداد. وحين يصفه المستعرب الروسي المتخصص في تاريخ الفكر العربي الحديث والمعاصر «زلمان ليفين» يقول عنه بأنه «مفكر سياسي مفعم بكراهية الاستبداد في كافة مظاهره، وخاصة الاستبداد السياسي في الدولة العثمانية»(13) .
والاهتمام الواسع بهذا الكتاب لفت انتباه البعض لمعرفة طبيعة المصادر والمنابع الفكرية المكوّنة لمثل هذه الأفكار والمسائل والمقولات التي عبر عنها الكواكبي، واتصفت بالحيوية والنقدية والتنوير. خصوصاً وأن الكواكبي أشار في مقدمة وبداية هذا الكتاب إلى وجود اقتباسات بدون تحديد لنوعيتها ومصادرها، وكميتها ومساحتها في الكتاب. وحينما حاول الكواكبي تحديد الإطار العام أو الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه موضوع الكتاب، حدده بعلم السياسة وقال عنه «أن السياسة علم واسع جداً، يتفرع إلى فنون كثيرة ومباحث دقيقة شتى، وقلما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم، كما أنه قلما يوجد إنسان لا يحتك فيه. وقد وجد في كل الأمم المترقية علماء سياسيون تكلموا في فنون السياسة ومباحثها استطراداً في مدونات الأديان أو الحقوق أو التاريخ أو الأخلاق أو الأدب»(14) وهذا الحقل في نظر الكواكبي شهد تطوراً وتوسعاً عند الأوروبيين والغربيين عموماً، وحسب رأيه «أما المتاخرون من أهل أوروبا ثم أميركا فقد توسعوا في هذا العلم وألفوا فيه كثيراً وأشبعوه تفصيلاً حتى أنهم أفردوا بعض مباحثه في التأليف بمجلدات ضخمة، وقد ميزوا مباحثه إلى سياسة عمومية، وسياسة خارجية، وسياسة إدارية، وسياسة اقتصادية، وسياسة حقوقية الخ، وقسموا كلاً منها إلى أبواب شتى وأصول وفروع»(15) الأمر الذي يؤكد وجود اقتباسات من منابع الفكر الأوروبي. والذين حاولوا دراسة هذا الكتاب وتفكيك نصوصه يتفقون على هذه الحقيقة من حيث الإجمال والعموم، لكن من الصعب عليهم تحديد حجم ومساحة وحتى نوعية هذه الاقتباسات. وأكثر ما يتفق عليه هؤلاء هو استفادة الكواكبي من كتاب «في الاستبداد» للكاتب الإيطالي «فيتوريو ألفيري» (1749 ـ 1803م). وقد عزز الكواكبي هذه الحقيقة حينما أشار إلى إسمه في أواخر الكتاب ووصفه بالكاتب المشهور. لذلك فقد اعتبر أحمد أمين أن الكواكبي استفاد من الاقتباسات الأجنبية في كتابه «طبائع الاستبداد» واقتبس فيه كثير من أقوال ألفيري، لكنه لا يعرف كيف توصل إليها، أو كيف وصلت إليه(16) . أما فهمي جدعان فهو لا يعطي وصف الكثير إلى هذه الاقتباسات، ويرى أن الكواكبي استقى عدداً من أفكاره بدون تحديد لحجمها ونوعيتها، ويرجح عنده أن الكواكبي تعرف على كتاب ألفيري عن طريق ترجمته إلى التركية التي قام بها جودت عبد الله(17).
ولعل الذين بالغوا في تصوير هذه الاقتباسات هم بعض الكتاب الغربيين، حيث نظروا إلى الكواكبي كما لو أنه كان ناقلاً أو مترجماً لأفكار غيره من الأوروبيين، لكن في قالب يتكيف وطبيعة السياقات الاجتماعية والفكرية والسياسية للمنطقة العربية. وهذا ما يتجلى بوضوح كبير فيما طرحه «ليفين» الذي يرى بأن «طبائع الاستبداد» يتضمن «عرضاً موجزاً لمبادئ الايديولوجية التنويرية الفرنسية، ولأفكار الثورة الفرنسية التي لقيت فيه تدعيماً نظرياً فريداً وتطوراً تالياً في التربية العربية على أساس القرآن والاتجاهات العقلانية للفكر العربي.. ولا تكمن أهمية الكواكبي في أن مؤلفاته تعد قناة أخرى لتغلغل ايديولوجية التنوير الفرنسي البورجوازية التقدمية في الشرق العربي، بقدر ما تكمن في استيعابه وصياغته لهذه الايديولوجية بما يتماشى مع الاحتياجات الملحة للتطور الاجتماعي للعالم العربي وإطلاع العرب عليها في أنسب شكل لهم، يطابق مستوى استعدادهم الايديولوجي المعاصر»(18) ومن المحتمل أن يكون هؤلاء الكتاب الأوروبيون هم أول من تحدثوا عن مثل هذه الاقتباسات عند الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد، ومنهم نقل الكتاب العرب وجود التثاقف والتلاقح أو الاقتباس. وما يؤكد هذا الافتراض أن ألفيري الذي رجع إليه الكواكبي قطعاً لم يكن معروفاً في العالم العربي، ولعل الكواكبي هو أول من أشار إليه، وكتابه «في الاستبداد» إذا كان معروفاً في أوروبا فإنه كان مجهولاً في المنطقة العربية.
والملاحظ على تصويرات الباحث الروسي «ليفين» وغيره من الكتاب الغربيين الذين يتقاطعون معه أنها تصويرات تتصف بالمبالغة وعدم الانصاف والاعتراف بالجدارة العلمية، وفيها مصادرة واضحة لجهد الكاتب. كما أن هذه التصويرات تكشف عن ذهنية التعالي والاستحواذ عند الغربيين واحتكار عقل الحداثة والتنوير والتقدم. في حين أن فحص كتاب «طبائع الاستبداد» يكشف عن السيرة العملية للكواكبي نفسه وتاريخه في مصادمة الاستبداد، وأنه كتب بلغة شفافة وثائرة تعبر عن طبيعة معاناته وحقيقة وجدانه الداخلي وتكوينات إدراكاته الذهنية في تأملاته لمشكلات الأمة وتشخيص أصل الداء أو علة العلل. وغالباً ما كان يعبر عن شدّة معاناته وعمق تأملاته في استنباط هذه الأفكار، فحين يصف مباحث كتاب «طبائع الاستبداد» يقول عن حاله «طالما أتعبت نفسي في تحليلها وخاطرت حتى بحياتي في درسها وتدقيقها» وحين حاول تجديد النظر في الكتاب بعد نفاده في برهة قليلة كما يقول عبر عن حاله بقوله «أحببت أن أعيد النظر فيه وأزيده زيداً مما درسته فضبطته، أو ما اقتبسته وطبقته، وقد صرفت في هذا السبيل عمراً عزيزاً وعناء غير قليل»(19) وكأنه أراد أن يؤكد انتساب هذه الأفكار إليه، وتمسكه بها، وموثوقيتها التامة لديه. لذلك لا يمكن القول إلا بانتماء هذه الأفكار له، الجزم الذي لا يلغي استفادته من أفكار الآخرين وفي مقدمتهم ألفيري نفسه. وحتى هذه الأفكار تعامل معها الكواكبي بذهنية نقدية، فقد أظهر اختلافه مع ألفيري، وهو يناقش إشكالية أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني وحسب قول الكواكبي «تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما ما كان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب»(20) والفريقان في نظره «مصيبان في حكمهما بالنظر إلى مغزى أساطير الأولين، والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة إلى الانجيل. ومخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما، كما هم مخطئون إذا نظروا إلى أن القرآن جاء مؤيداً للاستبداد السياسي، وليس من العذر في شيء أن يقولوا نحن لا ندرك دقائق القرآن نظراً لخفائها علينا في طي بلاغته، ووراء العلم بأسباب نزول آياته، وإنما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الان من استعانة مستبديهم بالدين.. وهذا القرآن الكريم مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتساوي حتى في القصص منه.. ـ فلا ـ مجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد»(21) إلى جانب أفكار أخرى ناقشها الكواكبي واختلف فيها مع ألفيري أيضاً كمسألة استخدام القوة في مقاومة الاستبداد الذي يراها ألفيري ويرفضها الكواكبي.
أما الملاحظات التي تسجل على كتاب «طبائع الاستبداد» فقد أخذ عليه أحمد أمين «حصره في دائرة النظريات، وكان الكتاب يكون أوقع في النفس لو ملأه بالشواهد، أو ما رأى وسمع من أحداث وهو معروف بسعة الاطلاع، فلو قرن النظريات بالشواهد لكان كتابه أكثر فائدة وأعم نفعاً»(22) ولعل الكواكبي كان حذراً من هذه الملاحظة ومتقصداً اجتنابها حين قال «وأنا لا أقصد في مباحثي ظالماً بعينه ولا حكومة أو أمة مخصصة»(23) حتى لا يتحدد الكتاب بزمان ومكان ويتأطر بهما.

[ 3 ] الكواكبي والنائيني

هناك مساحة مهمة فيما يمكن أن نطلق عليه بعملية التثاقف والتلاقح أو التناص مع تجربة الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد»، وهذه المساحة على أهميتها إلا أنها مجهولة أو غير مكتشفة عند العديد من الأوساط والنخب العربية، كما تكشف عن ذلك الكتابات والأدبيات العربية نفسها، التي لا تتطرق في معظمها لهذه المساحة أو تقترب منها لعدم الاطلاع عليها وتكوين المعرفة بها. وقد التفت إليها مؤخراً بعض الكتاب والباحثين الذين أكدوا بدورهم على قيمة هذه المساحة وأهميتها في تراكم وتطور تجربة الكواكبي. وهي تجربة الشيخ محمد حسين النائيني (1277 ـ 1335هـ/1860 ـ 1936م) في كتابه «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» الذي جاء كتنظير فقهي للحركة الدستورية في إيران مطلع القرن العشرين (1905 ـ 1911م). وهناك من وصف هذا الكتاب بأنه شديد التشابه والتقارب والتماثل مع كتاب الكواكبي «طبائع الاستبداد»، الذي ترجم إلى اللغة الفارسية منذ وقت مبكر جداً وتحديداً في سنة 1907م، وصدر كتاب الشيخ النائيني سنة 1909م. ولعل هذه الترجمة هي أسبق الترجمات من العربية إلى لغة أخرى، وقام بهذه الترجمة عبد الحسين قاجار ونشرته المكتبة العلمية الإسلامية في طهران. لذلك كان الإيرانيون هم أول من التفتوا إلى استفادة النائيني من كتاب الكواكبي، وإظهار ما بين المحاولتين من تقارب وتشابه، والذين كانت لهم محاولات في دراسة وفحص وتحليل كتاب الشيخ النائيني كانوا دائماً يتوصلون لمثل هذه النتيجة ويلفتون النظر إليها. فالنائيني كما يقول الباحث الإيراني عبد الهادي حائري «قد تأثر كثيراً بكتاب الكواكبي ليس فقط بنقل أفكاره بل استخدم ألفاظ ومصطلحات الكواكبي مثل الاستعباد والاعتساف والتسلط والتحكم والحكم المطلق ومال الرقاب والظالم القهار، ويسمي الذين يخضعون لسلطة الحكومة الاستبدادية بالأسرى المستصغرين والمستنبتين»(24) ومن أكثر الدلائل النصية التي يتوثقون بها في الاستدلال على استفادة الشيخ النائيني من كتاب «طبائع الاستبداد» هو ما ذكره الشيخ النائيني في استحسان تقسيم الاستبداد إلى سياسي وديني، ونص كلامه «من هنا تظهر جودة استنباط بعض علماء الفن الذين قسموا الاستبداد إلى نوعين سياسي وديني، يرتبط كل منهما بالآخر ويسنده، واعتبروهما توأمين لا ينفك أحدهما عن الآخر»(25) والذين يتوقفون عند هذا النص يعلقون دائماً في الهامش إلى أن المقصود بهذا الكلام هو الكواكبي، وهذا ما يذهب إليه السيد محمود الطالقاني في تعليقاته على كتاب الشيخ النائيني حيث يقول «الظاهر أن المصنف يشير إلى عبدالرحمن الكواكبي الذي خصص فصلاً عن الاستبداد الديني في كتابه طبائع الاستبداد، وأظنه أول من استعمل هذا الوصف بين الكتاب العرب»(26) وكانت لبعض الكتاب الإيرانيين محاولات في تمييز كتاب الشيخ النائيني والإعلاء من شأنه في مقابل التقليل من قيمة كتاب الكواكبي لأن أغلب محتوياته كما يقول عبد الهادي حائري مأخوذ من كتابات ألفيري(27) . وفي رأي آخرين «صحيح أن هناك تشابه ظاهر بين مباحث طبائع الاستبداد وتنبيه الأمة، ولكن يمتاز كتاب تنبيه الأمة بأنه أكثر علمية، ويدل على السعة والعمق الفكري لمؤلفه، وأنه أبدع وأكثر تنظيماً من طبائع الاستبداد، بالرغم من عدم شهرته بسبب تعقيد أسلوبه وطريقة استدلاله، والبحث والمقارنة الدقيقة لا يؤيدان دعوى اقتباسه من طبائع الاستبداد»(28) وحين يتحدث الشيخ مرتضى المطهري عن الكواكبي الذي يعتبره الشخصية الاصلاحية الثالثة التي ظهرت في العالم العربي، بعد السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، يشير إلى الترجمة الفارسية لكتاب طبائع الاستبداد في بداية ثورة الدستور، ويقارب بين الكواكبي والنائيني حول مفهوم التوحيد ويخلص إلى تعظيم رأي الشيخ النائيني، وحسب قوله «من الانصاف القول أنه حتى الآن لم يفسر التوحيد العلمي والاجتماعي والسياسي في الإسلام، تفسيراً دقيقاً بأفضل من تفسير العلامة الكبير والمجتهد الفذ المرحوم ميزرا محمد حسين النائيني في كتابه القيم تنبيه الأمة وتنزيه الملة. وان كل ما كان يقصد من أمثال الكواكبي حول التوحيد فإن المرحوم النائيني أثبته في ذلك الكتاب بأدلة إسلامية، ولكن مع الأسف أن محيط الجهل الذي عم مجتمعنا هو الذي دفع المرحوم النائيني إلى السكوت والصمت بعد نشره الكتاب»(29) .
هذا النوع من المقاربات أو المقارنات يكاد يكون غائباً في الأدبيات العربية لعدم تكوين المعرفة بكتاب الشيخ النائيني. ومن المحاولات العربية الجديدة التي تذكر في هذا الشأن محاولة الباحث السوري محمد جمال باروت الذي نشر مقالاً بعنوان «الكواكبي والنائيني جوانب غير مكتشفة» واختيار هذا العنوان يعبر عن غياب مثل هذه المقاربات. وقد أسس باروت مقالته على اكتشاف الترجمة الفارسية لكتاب «طبائع الاستبداد» وبعبارته «تم أخيراً اكتشاف الترجمة الفارسية لكتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد لعبد الرحمن الكواكبي في مكتبة جامعة برنستون في الولايات المتحدة، وقد بين مترجمها عبد الحسين في مقدمته المقتضبة أنه أنهى هذه الترجمة في شهر شعبان سنة 1325هـ أي ما يوافق شباط 1907، حيث قامت المكتبة العلمية الإسلامية في طهران بطبع الترجمة عام 1327هـ أي عام 1909م.. وتزامن نشر هذه الترجمة لكتاب الكواكبي مع إصدار الميزرا محمد حسين الغروي النائيني منظر ثورة المشروطة لكتابه تنبيه الأمة وتنزيه الملة في وجوب المشروطة في العام نفسه. والذي يعتبر وثيقة نادرة وراقية وبالغة التطور تكشف عن مدى نضج الخطاب الاصلاحي الإسلامي في المجال الشيعي.. وقد جاء في مقدمة المترجم إنه قام بهذه الترجمة استجابة للأوامر الصادرة لتعميم الفائدة للعوام والخواص، بوصف كتاب طبائع الاستبداد من الكتب النفسية والمفيدة في مجال توعية الشعب وإيقاظه من نوم الجهل والغفلة وخلق استعداد الرقي والتربية، وبذلك فهو من أفضل المؤلفات القديمة والجديدة، بل يمكن القول في هذا المجال بأنه لم يؤلف كتاب مثله حتى الآن»(30) وانتهى باروت إلى وصف الشيخ النائيني بأنه كواكبي الشيعة.
والذي اعتقده أن القيمة الحقيقية بين هاتين المحاولتين ليس في إظهار المفاضلة بينهما، أو الانحياز والتبجيل، ولا في البحث عن المشتركات والمفترقات بين التجربتين ولكن القيمة الحقيقية هو في التراكم المعرفي والتواصل الحيوي المبكر بين المحاولتين ولأنهما ظهرتا في مجتمعين وبيئتين مختلفتين من جهة الروافد الثقافية والمنابع والمرجعيات الفكرية. وفي ظرفين مختلفين أيضاً، بين ظرف يتوجه فيه الخطاب إلى الدولة العثمانية، وظرف يتوجه فيه الخطاب إلى الدولة القاجارية. ومن منطلقين مختلفين كذلك، فالكواكبي كان ينطلق من تشخيص المشكلة وتحديد أصل الداء في الأمة، والنائيني كان ينطلق من تشخيص الحل وتحديد العلاج والتأصيل الفقهي والقانوني لهذا الحل والعلاج. وكلاهما توصل إلى نتيجة متقاربة ومتطابقة تماماً وهي أن معالجة الاستبداد السياسي والحكم المطلق إنما يكون بالحكم المقيد بنظام الشورى والدستور. وأما المفارقات بينهما أو الخصائص التي تميز كل محاولة عن الأخرى، منها أن الكواكبي كتب مؤلفه بلغة المفكر السياسي، والنائيني كتب مؤلفه بلغة الفقيه القانوني، طبائع الاستبداد كتب بأدب بسيط وواضح عكس خبرة الكواكبي الصحفية، وتنبيه الأمة كتب بأدب فيه صعوبة وتعقيد عكس المعرفة الفلسفية وطبيعة نظام التعليم في الحوزات الدينية التي ينتسب إليها النائيني. الكتاب الأول يعكس خبرة أو معرفة علم السياسة، والثاني يعكس خبرة أو معرفة علم الفقه والأصول.

[ 4 ]أم القرى

وصف الشيخ رشيد رضا كتاب «أم القرى» في جريدته «المنار» بأنه «لم يكتب مثله في الاصلاح الإسلامي»(31) واعتبره أحمد أمين بأنه «بحث مبتكر يدل على كبر عقله ـ أي الكواكبي ـ وقوة تفكيره، وسعة اطلاعه، وصدق غيرته على العالم الإسلامي»(32) ولاشك أن هذا الكتاب قد تميز بأطروحة فريدة من بين مؤلفات المصلحين، وحاول الكواكبي من خلاله أن يقدم تحليلاً شاملاً لمشكلات الأمة، وبمنهجية تستوعب تعدد البيئات والقوميات واللغات وتنوع المجتمعات والثقافات، وصياغة برنامج مشترك للنهضة والتمدن.
ومن أكثر ما شغل اهتمام الكتاب والباحثين في هذا الكتاب هو معرفة ما إذا كانت هذه الجمعية التي تحدث عنها الكواكبي لها أساس من الوجود أم لا؟ ومنشأ هذا الاهتمام هو دقة الطريقة التي اعتمدها الكواكبي في تصوير وتوصيف اجتماعات هذه الجمعية والتي تعطي كل إيحاءات الحقيقة وباتقان فني محكم. فقد تساءل أحمد أمين «هل كانت هذه الجمعية حقيقة، أو هي من نسج خياله؟ يقول هو ـ أي الكواكبي ـ إن لها أصلاً في الحقيقة، وأن الخيال تممها فهل هذا صحيح؟ أم هو من قبيل تأييد الخيال كما يفل كثير من الروائيين؟»(33) وقد رجح أحمد أمين الرأي الثاني. وهذا ما يؤكده ويقطع به حفيده عبد الرحمن الكواكبي الذي اعتنى بتدقيق مؤلفات جده فقد نوه في تقديم كتبه بعد مراجعة وتدقيق كتاب «أم القرى» بقوله «ولما كان السيد الفراتي(*) لم يغادر حلب خلال مقامه فيها إلا إلى استنبول، ولم يقم بجولاته إلى العالم الإسلامي إلا بعد رحيله إلى مصر، فإن المؤتمر الذي عقد في مكة، والذي يدور عليه موضوع الكتاب، إنما هو مؤتمر تخيله المؤلف ليعرض فيه آراءه الاصلاحية في قالب جذاب يستهوي النفوس»(34) مع ذلك هناك من اعتقد بأن هذه الجمعية ليست مجرد رواية مختلقة أو محاورات متخيلة، ويذهب إلى هذا الرأي محمد عمارة الذي يؤكده ويقطع به، ويستشهد بما نقله رشيد رضا عن كلام الكواكبي له بأن لهذه الجمعية أصلاً(35) . وينقل عبد الباسط محمد حسن رأياً غربياً لصاحب كتاب «الحركات الحديثة بين المسلمين» قوله بأن هذه الجمعية إذا كان لها وجوداً حقيقياً فليس بعيداً أن يكون السيد جمال الدين هو منشئ الجمعية. ويتمم هذا الكلام عبد الباسط بقوله «إذا راعينا أن منهج الجمعية كان قائماً على أساس تناسي الاختلافات المذهبية بين السنة والشيعة، وتوحيد قوى المسلمين لوجدنا أن هناك صلة كبيرة بين منهج الجمعية ودعوة جمال الدين»(36) أما الذي اعتقده فهو غير ذلك تماماً، وهو يتحدد في أمرين:
الأول: إن الكواكبي لم يكن بصدد كتابة رواية أدبية يعبر فيها عن أفكاره الاصلاحية، وإنما لأنه قد تمحص عنده كما يقول بأن أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية، فإنه أراد أن يجسد مفهوم الشورى ويؤكد عليه كمنهج لحل وعلاج مشكلات الأمة وطريق للنهوض بها نحو المدنية. فالكتاب يقدم تصويراً عملياً ممكناً لتطبيق الشورى الجامعة لكل الأمة.
الثاني: إن هذه الجمعية لم يكن لها وجوداً حقيقياً بالفعل، ولم يكن القصد من الحديث عنها هو من قبيل تأييد الخيال على طريقة بعض الروائيين كما يقول أحمد أمين. والذي أرجحه في هذا الشأن هو أن الكواكبي أراد القول بحاجة الأمة إلى مثل هذه الجمعية وضرورة السعي نحو تكوينها، ولعله كان يحاول النهوض بجمعية بهذه الصورة والكيفية. ومن المحتمل أيضاً أن رحلته الطويلة إلى أفريقيا وشرق آسيا تأتي في هذا النطاق تحديداً أي لتكوين المعرفة بالعالم الإسلامي والتأكيد على ضرورة قيام جمعية تتبنى مشروع النهضة الإسلامية في الأمة. وبالتالي فإن الغاية من الكتاب هو تكوين صورة واكتشاف المثال وبلورة نموذج للقياس عليه. إلى جانب هذا التفسير هناك بعض الحقائق المهمة التي يكشف عنها هذا الكتاب، وهي:
1 ـ إن المشكلة التي تعاني منها الأمة هي مشكلة عامة وشاملة، أو كما وصفها الكواكبي على لسان الأستاذ الرئيس في الاجتماع الثاني بالفتور العام أي «أن هذا الفتور شامل لكل أعضاء الجسم الإسلامي، فيناسب أن يوصف بالعام، وربما يتوقف الفكر في الوهلة الأولى عند الحكم بأن الفتور عام يشمل كافة المسلمين، ولكن بعد التدقيق والاستقراء نجده شاملاً للجميع في مشارق الأرض ومغاربه»(37) الأمر الذي يتطلب تكوين المعرفة بهذه المشكلة العامة أو الفتور العام في الأمة وتشخيص هذا الفتور وتحديد مسبباته وأعراضه وتداعياته ومفاعيله، وكيف يظهر ويتطور ويؤثر في المجتمعات الإسلامية، وضرورة أن يعرف الجميع مشكلة الجميع. وقد حدد الكواكبي هذه المشكلات واعتبر «أن هذا الفتور المبحوث فيه ناشئ عن مجموع أسباب كثيرة مشتركة فيه، لا عن سبب واحد أو أسباب قلائل تمكن مقاومتها بسهولة وهذه الأسباب منها أصول، ومنها فروع لها حكم الأصول، وكلها ترجع إلى ثلاثة أنوع، وهي أسباب دينية، وأسباب سياسية، وأسباب أخلاقية»(38) .
2 ـ إن الأمة بحاجة إلى اجتماع عام يضم أهل الحل والعقد ومن كل الملل والنحل للتداول في قضايا الأمة العامة ومشكلاتها الكبرى وكيفية النهوض بها واكتشاف طريق المستقبل والمدنية. الاجتماع الذي يفترض فيه أن يتعالى عن الخلافات المذهبية، ويتخطى إشكاليات ورواسب الماضي، ويتجاوز خطوط الانقسام بكافة صورها، وذهنية التصنيف بجميع أنماطها. ويرسخ من جهة أخرى المشتركات العامة، والتوافقات الكلية، والاجماعات التامة، والتفاهمات المتحدة، وينطلق من رؤية جديدة لمفهوم الأمة والمستقبل.
3 ـ لكي تتغلب الأمة على هذا الفتور العام وتغير من أوضاعها ومن موقعها في هذا العالم فهي بحاجة إلى نهضة في كل أجزائها وأطرافها، وفي كل مللها ونحلها. نهضة عامة وشاملة يشترك فيها الجميع، ويتحمل مسؤوليتها الجميع، ويتشاور ويتفق عليها الجميع.
4 ـ هذه النهضة تتطلب الاتفاق على برنامج عام يشترك الجميع في بلورة تصوراته ومكوناته وعناصره، وصياغة ملامحه ومرتكزاته ومنطلقاته. وضرورة أن تكون هناك جمعية تعمل على تحريك وتطبيق هذا البرنامج ومتابعة مقرراته وتوصياته في سبيل تحقيق النهضة الإسلامية.

وقد حدد الكواكبي العناصر العامة والأساسية لمثل هذا البرنامج وهي حسب رؤيته التي حددها في النقاط التالية:

1 ـ المسلمون في حالة فتور مستحكم عام.
2 ـ يجب تدارك هذا الفتور سريعاً، وإلا فتنحل عصبيتهم كلياً.
3 ـ سبب الفتور تهاون الحكام، ثم العلماء، ثم الأمراء.
4 ـ جرثومة الداء الجهل المطلق.
5 ـ أضر فروع الجهل، الجهل في الدين.
6 ـ الدواء هو: أولاً تنوير الأفكار بالتعليم، ثانياً إيجاد شوق للترقي في رؤوس الناشئة.
7 ـ وسيلة المداواة عقد الجمعيات التعليمية القانونية.
8 ـ المكلفون بالتدبير هم حكماء ونجباء الأمة من السراة والعلماء.
9 ـ الكفاءة لازالة الفتور بالتدريج موجودة في العرب خاصة.
10 ـ يلزم تشكيل جمعية ذات مكانة ونفوذ في دائرة القانون»(39) .

[ 5 ]ملاحظات واستنتاجات

أولاً:

لقد حاولت بعض الكتابات العربية أن تصور أفكار الكواكبي على أنها البدايات الأولى والحقيقية والناضجة لانبعاث القومية العربية والفكر القومي العربي. ويذهب إلى هذا الرأي سليمان موسى ويضيف إلى جانب الكواكبي نجيب عازوري، ويرى أن الكواكبي دعا في كتابيه «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» إلى أن يتولى العرب إدارة بلادهم، وإلى نزع الخلافة من الأتراك وإعادتها إلى العرب(40) . سليمان موسى الذي اعتبر كتابات الكواكبي على أنها تمثل البدايات الحقيقية لأفكار القومية العربية، مع ذلك لم يأت على ذكر الكواكبي إلا مرة واحدة فقط في كتابه الذي حاول فيه أن يقدم دراسة تاريخية وثائقية عن الحركة العربية الحديثة. فهو من جهة لم يبرهن على صدقية هذا الرأي، ولم يظهر من جهة أخرى أهمية هذه المكانة الفكرية للكواكبي وتجاهلها كلياً في دراسته الموسعة. وأما محمد عمارة الذي يدافع عن هذا الرأي أيضاً في كتابه حول الكواكبي، وهو الكتاب الذي غلب عليه عموماً الافراط في المبالغة والتبجيل. فقد اعتبر أفكار الكواكبي أنضج بناء فكري شهده تطور الفكر القومي عند العرب حتى ذلك الحين، والبناء الأول في هذا المجال، حيث اكتملت لديه عناصر النظرة المتكاملة.. وأن نظرية الكواكبي في العروبة والقومية إنما تقف في مقدمة الأبنية الفكرية، والتي هي من تجديداته وإبداعاته. ويعتقد عمارة بأن الذين أخطأوا في فهم موقف الكواكبي من قضية العروبة إنما خلطوا وجهةنظره فيها بحديثه عن الدين الإسلامي، والروابط الروحية التي تربط بين المسلمين. ومصدر هذه الأخطاء حسب رأي عمارة هو كتاب «أم القرى» وهؤلاء إما أنهم لم يتعمقوا في دراسة هذا الكتاب، أو أنهم درسوه دون أن يتعمقوا الفروق الدقيقة والحاسمة بين عدد من المصطلحات والأسماء التي اشتمل عليها الكتاب(41) . والنتيجة التي يريد عمارة الوصول إليها هي تخطئة الذين صوروا الكواكبي على أنه داعية خلافة إسلامية أو جامعة إسلامية، أو يدعو إلى دولة تقوم على العقيدة الدينية. وهناك من يرى بأن الكواكبي مثل حلقة الوصل بين حركة الاصلاح الإسلامي وبين الحركة القومية والفكر القومي.
هذا النمط من القراءات لأفكار الكواكبي فيه قدر من النزعة التوظيفية التي لا ضرورة لها، لأن من الواضح على كتاب «أم القرى» إنه يدور في إطار مفهوم الجامعة الإسلامية مع إعطاء العرب موقعية الزعامة في هذه الجامعة. وحتى هذه الزعامة للعرب لا يربطها الكواكبي بمنطلقات عرقية أو قومية، وإنما بخلفيات واعتبارات دينية. وحتى اللغة العربية لا ينظر الكواكبي لها باعتبارات قومية وإنما باعتبارات الدين لكونها لغة القرآن الكريم.
يضاف إلى ذلك أن الفكر القومي العربي كما تحدد في مساراته ومسلكياته الفكرية وبالصورة التي وصل إليها، يلاحظ عليه أنه تحول من المرجعية الإسلامية التي كان يمثلها الكواكبي إلى المرجعية العلمانية التي مثلها نجيب عازوري وساطع الحصري لاحقاً. التحول الذي ترتب عليه قطيعة فكرية بين حركة الاصلاح الإسلامي ومرجعيتها الفكرية وبين الفكر القومي العربي ومرجعيته الفكرية.

ثانياً:

هناك مقولة جاءت في سياق تحليل العلاقة بين كتابي «طبائع الاستبداد» و«أم القرى»، الملفت في هذه المقولة أنها تكررت بتمامها وتطابقها عند ثلاثة من الكتاب المصريين في أزمنة مختلفة لكنها ليست متباعدة. ومن حيث التراتب الزمني فإن أقدم هؤلاء هو أحمد أمين الذي اعتبر أن كتاب «طبائع الاستبداد» هو في نقد الحكومات الإسلامية، و«أم القرى» هو في نقد الشعوب الإسلامية(42) . هذه المقولة ذكرها بتمامها عبد الباسط محمد حسن في كتابه «جمال الدين الأفغاني وأثره في العالم الإسلامي الحديث»(43) وأعاد تكرارها عاطف العراقي في كتابه «العقل والتنوير»(44) وهذا التكرار ليس بالتأكيد هو من محض الصدفة، ولا هو نوع من التثاقف والتناص أو التواتر. وليس القصد من ذلك هو الكشف عن هذا التكرار، وإنما القصد هو مناقشة هذه المقولة. ومن حيث الإجمال يمكن القول بصحة هذه المقولة من جهة التوصيف العام، لكنه ليس هو التوصيف الأدق في تقديري لأن هناك اختلاف أو تمايز في المنطق واللغة والغاية بين الكتابين. فالمنطق العام لكتاب «طبائع الاستبداد» هو البحث في تحليل أصل المشكلة، أما كتاب «أم القرى» فمنطقه العام هو البحث عن حل المشكلة. الكتاب الأول جاء بلسان الفرد والكتاب الثاني جاء بلسان الجماعة. الأول أقرب إلى عالم السياسة والثاني أقرب إلى عالم الثقافة والاجتماع. الأول كتب بذهنية الثائر والثاني كتب بذهنية المفكر. الأول يصنع معارضة وممانعة ورفضاً والثاني يصنع رؤية وتصوراً ومنهجاً.

ثالثاً:

إن الرؤية التي قدمها الكواكبي في توصيف مشكلة أو مشكلات الأمة كانت على قدر كبير من الأهمية والتميز، واتصفت عن غيرها من رؤى وتصورات المصلحين والمفكرين في عصره بالتركيز والتحديد والضبط والنظام. فمن السهولة معرفة هذه الرؤية ومكوناتها وعلائقها وهكذا حدودها ونظامها، إطارها ومنهجيتها. وقد ظهر الكواكبي بمظهر الواثق في التعبير عن هذه الرؤية والقاطع بها، بعد أن بذل جهداً واسعاً في البحث والتأمل والنظر كما كان يصف حاله دائماً، خصوصاً في كتابه «طبائع الاستبداد» في حين أن الدارس لرؤية السيد جمال الدين الأفغاني يواجه صعوبة في تجميع هذه الرؤية وتوثيقها بالكامل لأنها رؤية مشتة ومتناثرة في مقالات وكتابات وخطابات موزعة بين دول ولغات مختلفة وبأسماء متعددة. أما رؤية الشيخ محمد عبده فقد مرت بأطوار وتحولات وتغيرات فحين كان في مصر كانت رؤيته في طور معين، وبعد نفيه إلى الخارج أصبحت هذه الرؤية في طور آخر، وبعد عودته إلى مصر دخلت هذه الرؤية في طور مختلف كلياً عما كانت عليه سابقاً. وهكذا الحال مع رشيد رضا الذي تغيرت رؤيته بين عصرين، عصر استاذه الشيخ عبده، وعصر ما بعده. بخلاف الكواكبي الذي كان واضحاً في التعبير عن رؤيته وأفكاره واهتم كثيراً في ضبط وتحديد هذه الرؤية.

رابعاً:

لقد التفت الكواكبي منذ وقت مبكر إلى مشكلة الاستبداد والاستبداد السياسي، واعتبرها أصل الداء وعلة العلل، فالقائل مثلاً والكلام للكواكبي «إن أصل الداء التهاون في الدين، لا يلبث أن يقف حائراً عندما يسأل نفسه لماذا تهاون الناس في الدين؟ والقائل إن الداء اختلاف الآراء يقف مبهوتاً عند تعليل سبب الاختلاف. فان قال سببه الجهل، يشكل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشد، وهكذا يجد نفسه في حلقة مفرغة لا مبدأ لها»(45) والرؤية التي قدمها الكواكبي في تحليل وتفكيك هذه المشكلة هي من أنضج الرؤى التي أنتجها الفكر الإسلامي الحديث، وتحولت إلى رؤية مرجعية في مجالها، ومازالت هذه الرؤيةتحتفظ بقيمتها وفاعليتها في الفكر الإسلامي المعاصر. وكان من المفترض أن يكون لهذه الرؤية تحريضاً قوياً نحو زيادة الاهتمام بهذه المشكلة وبمختلف أدوات البحث ومنهجيات العلوم الاجتماعية والانسانية. لأنها ظاهرة معقدة وخطيرة، ولها رواسب وجذور قديمة، وعلائق وتأثيرات واسعة وممتدة. وقد حاول الكواكبي أن يهول من شدّة هذه المشكلة بتوصيفات خطيرة وكأنه يريد إلفات النظر لها، كقوله «أن الاستبداد داء أشدّ وطأة من الوباء، أكثر هولاً من الحريق، أعظم تخريباً من السيل، أذل للنفوس من السؤال. داء إذا نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء، والأرض تناجي ربها بكشف البلاء»(46) ومع ذلك فإن الفكر الإسلامي المعاصر مازال مقصراً في مستويات الاهتمام ودرجات الالتفات والنظر لهذه المشكلة المستشرية والمستعصية، حيث لم يقدم معالجات مهمة أو تراكمات معرفية، فالكتابات الإسلامية في هذا المجال تعد ضئيلة ومحددة، لا تعادل على الإطلاق حجم وخطورة هذه المشكلة.

خامساً:

من المفارقات التي تظهر بين كتابي «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» وتحتاج إلى تفسير هي طبيعة الموقف من السياسة. فطبائع الاستبداد كتاب في السياسة بامتياز، وخطاب في المعارضة السياسية بامتياز أيضاً. وقد صنف الكواكبي هذا الكتاب منذ البداية على حقل السياسة بشكل واضح وصريح، وقدم تعريفاً لعلم السياسة ربطه بالاستبداد، وحسب قوله «لما كان تعريف علم السياسة بأنه هو إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة، يكون بالطبع أول مباحث السياسة وأهمها بحث الاستبداد، أي التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى»(47) هذا الاقتحام في السياسة ومن موقف المعارضة للاستبداد، يفارقه ما دعا إليه في كتاب «أم القرى» من عدم التدخل في السياسة. فقد جاء في قانون الجمعية التي اقترحها ما نصه «الجمعية لا تتدخل في الشؤون السياسية مطلقاً فيما عدا إرشادات وإخطارات بمسائل أصول التعليم وتعميمه»(48) وفي مكان آخر من الكتاب يقول أيضاً «من المأمول أن تكون الحكومات الإسلامية راضية بهذه الجمعية حامية لها ولو بعد حين، لأن وظيفتها الأساسية أن تنهض بالأمة من وهدة الجهالة وترقى بها في معارج المعارف، متباعدة عن كل صبغة سياسية»(49) مع إن الكتاب لا يخلو من إشارات ومضامين سياسية ففي أكثر من مكان يؤكد الكواكبي على ضرورة النظر السياسي لمشكلات الأمة، ففي حديثه عن أمراض الأمة يقول بضرورة أن «يتشخص المرض أو الأمراض المشتركة تشخيصاً سياسياً»(50) وقوله «لنبدأ بتشخيص داء الفتور المستولي على الأمة تشخيصاً سياسياً مدققاً»(51) .
والقدر الممكن في تفسير هذه المفارقة هو أن الكواكبي في «طبائع الاستبداد» تحدث عن رؤيته بما يراها هو، واعتبر علة العلل في الاستبداد السياسي، أما في كتاب «أم القرى» فقد تحدث عن رؤيته لكن بما تراها الأمة، ووصف المشكلة بالفتور العام. ولأنه كان يتطلع لتأسيس جمعية إسلامية عامة تضم مختلف الملل والنحل الإسلامية، فأراد لهذه الجمعية أن تكون مستقلة وغير متحيزة لا لمذهب ولا لحكومة ولا لمنطقة، وإنما معبرة عن الجامعة الإسلامية.
سادساً: لقد وصف الكواكبي مشكلة الأمة بالفتور العام، وقبله وصف الشيخ محمد عبده هذه المشكلة بالجمود واعتبرها علة تزول. ولعل الكواكبي أراد أن يبعث الأمل في إمكانية التغلب على هذه المشكلة والنهوض بالأمة نحو المدنية، وقد قال على لسان الأستاذ الرئيس في كلمة افتتاح الاجتماع الأول «انه ينبغي أن لايهولنا ما ينبسط في جمعيتنا من تفاقم أسباب الضعف والفتور كي لا نيأس من روح الله، وأن لا نتوهم الإصابة في قول من قال إننا أمة ميتة فلا ترجى حياتنا، كما لا إصابة في قول من قال إذا نزل الضعف في دولة أو أمة لا يرتفع، فهذه الرومان واليونان والأمريكان والطليان واليابان وغيرها، كلها أمم أمثالنا استرجعت نشأتها بعد تمام الضعف وفقد كل اللوازم الأدبية للحياة السياسية.. ثم أيقنوا أن الأمر ميسور، وظواهر الأسباب ودلائل الأقدار مبشرة أن الزمان قد استدار ونشأ في الأمة أنجاب أحرار وحكماء أبرار»(52) وبعد قرن على غياب الكواكبي من الصعب القول بأن مشكلة الأمة هي مجرد فتور عام، بل هي أعمق من ذلك بكثير فهي مشكلة حضارية وليست مجرد فتور عام.

(1) عبد الرحمن الكواكبي وفلسفة الاستبداد. سمير أبو حمدان، بيروت: الشركة العالمية للكتاب، 1992م، ص31.
(2) النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث. د. غالي شكري، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992م، ص171.
(3) أنظر كتاب: عبد الرحمن الكواكبي شهيد الحرية ومجدد الإسلام. د. محمد عمارة، بيروت: دار الوحدة، 1984م، ص39.
(4) نوافذ. ملحق اسبوعي لصحيفة المستقبل، بيروت، ملف مئة سنة على وفاة عبد الرحمن الكواكبي، سعد زغلول الكواكبي، الأحد 5 أيار/ مايو 2002م، ص10. أنظر أيضاً كتاب: عبد الرحمن الكواكبي السيرة الذاتية، سعد زعلول الكواكبي، بيروت: بيسان للنشر، 1998م.
(5) أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. د. فهمي جدعان، عمان: دار الشروق، 1988م، ص298.
(6) العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر. د. عاطف العراقي، القاهرة: دار قباء، 1998، ص175.
(7) زعماء الاصلاح في العصر الحديث. أحمد أمين، بيروت: دار الكتاب العربي، 1979م، ص278.
(8) الحركات الإسلامية في القرن الأخير. الشيخ مرتضى المطهري، ترجمة: صادق العبادي، بيروت: دار الهادي، 1982م، ص57.
(9) طبائع الاستبدا ومصارع الاستعباد. عبد الرحمن الكواكبي، دمشق: دار المدى، 2002م، ص15.
(10) المصدر نفسه، ص16.
(11) المصدر نفسه، ص16.
(12) المصدر نفسه، ص16.
(13) الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في مصر والشام. ز. ا. ليفين، ترجمة: بشير السباعي، القاهرة: دار شرقيات، 1997م، ص117.
(14) طبائع الاستبداد، مصدر سابق، ص19.
(15) المصدر نفسه، ص19.
(16) زعماء الاصلاح في العصر الحديث، مصدر سابق، ص254.
(17) أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. مصدر سابق، ص298.
(18) الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في مصر والشام. مصدر سابق ص117.
(19) طبائع الاستبداد. ص16.
(20) المصدر نفسه، ص29.
(21) المصدر نفسه، ص29ـ34.
(22) زعماء الاصلاح في العصر الحديث. ص266.
(23) طبائع الاستبداد. ص16.
(24) الدستور والبرلمان في الفكر السياسي الشيعي. جعفر عبد الرزاق، إيران: كتاب قضايا إسلامية معاصرة، 2000م، ص34. نقلاً عن كتاب: تشيع ومشروطيت در إيران، عبد الهادي حائري، طهران، 1986م، ص223.
(25) ضد الاستبداد: الفقه السياسي الشيعي في عصر الغيبة. توفيق السيف. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1999م، ص268. تضمن هذا الكتاب النص الكامل لكتاب تنبيه الأمة وتنزيه الملة مع تعليقات السيد محمود الطلقاني.
(26) المصدر نفسه، ص268، أنظر أيضاً كتاب: اتجاهات الفكر الديني المعاصر في إيران. مجيد محمدي، ترجمة: ص. حسين، لم ينشر بعد.
(27) الدستور والبرلمان في الفكر السياسي الشيعي. مصدر سابق، ص34، نقلاً عن كتاب عبد الهادي حائري.
(28) المصدر نفسه. ص34، نقلاً عن مجلة الحكومة الإسلامية، السنة الثانية، العدد الأول، ربيع 1998م، ص134 السيد محمد ثقفي، أنديشه سياسي ميرزاية نائيني.
(29) الحركات الإسلامية في القرن الأخير. مصدر سابق، ص58.
(30) الكواكبي والنائيني جوانب غير مكتشفة. محمد جمال باروت، جريدة المستقبل، بيروت، مصدر سابق، ص8.
(31) عبد الرحمن الكواكبي. د. سامي الدهان، مصدر سابق، ص74.
(32) زعماء الاصلاح في العصر الحديث. ص253.
(33) المصدر نفسه. ص266.
(*) يقصد عبد الرحمن الكواكبي كما أطلق على نفسه في كتابه أم القرى.
(34) أم القرى. عبد الرحمن الكواكبي، بيروت: دار الرائد العربي، 1982م، ص1.
(35) عبد الرحمن الكواكبي شهيد الحرية ومجدد الإسلام. مصدر سابق، ص165.
(36) جمال الدين الأفغاني وأثره في العالم الإسلامي الحديث. د. عبد الباسط محمد حسن، القاهرة: مكتبة وهبة، 1982م، ص226.
(37) أم القرى. مصدر سابق. ص158.
(38) المصدر نفسه. ص158.
(39) المصدر نفسه. ص191ـ192.
(40) الحركة العربية: المرحلة الأولى للنهضة العربية الحديثة. سليمان موسى، بيروت: دار النهار، 1986م، ص23.
(41) عبد الرحمن الكواكبي شهيد الحرية ومجدد الإسلام، ص76ـ72ـ45.
(42) زعماء الاصلاح في العصر الحديث. ص252.
(43) جمال الدين الأفغاني وأثره في العالم الإسلامي الحديث. مصدر سابق، ص225.
(44) العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر. ص162.
(45) طبائع الاستبداد. ص72.
(46) المصدر نفسه. ص72.
(47) المصدر نفسه. ص20.
(48) أم القرى. ص199.
(49) المصدر نفسه. ص18.
(50) المصدر نفسه. ص128.
(51) المصدر نفسه. ص18.
(52) المصدر نفسه. ص16.

المصدر: مجلة الكلمة

«عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي» فينومينولوجيا الذات والمجتمع عندما تصبح الكاتبة نفسها هي البطل

رجاء البوعلي في«عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي»

فينومينولوجيا الذات والمجتمع عندما تصبح الكاتبة نفسها هي البطل.

 بقلم: د. وائل احمد الكردي

كتب (ديستويفسكي) الشهير في روايته (الأخوة كارامازوف) معلقاً على (زوسيما): «يقال.. أنه غارق في العديد من الأسرار والأحزان، وقد اعترف لنفسه أنه في النهاية قد بلغ درجة من وضوح الإدراك بما يمكنه من مجرد اللمحة الأولى لوجه الوافد الغريب أن يخبرنا لأي سبب هو جاء، وماذا يريد، وأي نوع من أوجاع عذاب الضمير هو يعاني». فقال الفيلسوف التحليلي المعاصر (لدفيش فيتجنشتاين) معقباً: «نعم، يوجد بالفعل مثل أولئك الناس الذين ينفذون بأبصارهم مباشرة نحو نفوس الآخرين وفض مغاليقها».. «إن العمليات الباطنة تظل في حاجة إلى معيار خارجي». وفي مجموعة (عشرة أيام في عين قسيس الانجيلي) القصصية كان هناك معيار تخرج به العمليات الباطنة كأنها هي الظاهر الواضح فيحسب من يرى ذلك أن الظاهر كما لو كان هو باطنها.
صدرت مجموعة (عشرة أيام في عين قسيس الانجيلي) القصصية لمؤلفتها الروائية السعودية (رجاء البوعلي) وأبرز ما فيها القصة التي تحمل ذات الاسم، لذلك فهي مستند هذا التحليل الأساسي. لقد كان من عادة الروايات في الغالب الأعم أن يصنع المؤلف فيها بطلاً متخيلاً أو حتى مستوحى من وقائع فعلية، ثم يدعه يتكلم أو يتكلم الراوي باسمه أو يتكلم هو عنه. ولكن في هذه الأقاصيص كان البطل فيها هو الكاتبة عينها وبذاتها مما يبدو من سياقها المباشر وبكل ما تحمله من هوية وعي جمعي لشعبها صبغت بطابعها هويتها الذاتية عبر التفاعل الإنساني في أحاديث ووقائع القصة، والتي يمكن القول أنها تمثل تجسيداً روائياً لمنهج الفلسفة الظاهراتية (المنهج الفينومينولوجي Phenomenology كما وضعه أدموند هوسرل) بكونه منهجاً للرؤية ولإعادة إدراك الظواهر المختلفة في بنائها (الحسي/ الشعوري)، وذلك وضع الظاهرة المراد إدراكها والحكم عليها بين قوسين أي عزلها عما هو ليس متصل بسياقها الوجودي والماهوي وعن كافة الأحكام المسبقة بصددها، ومن ثم يتاح لدينا التواصل معها شعورياً في الأساس على نحوها الكلي لإعادة تكوينها عقلياً ووجدانياً في لحظة واحدة بكونها كائناً يحمل ظاهره باطنه في هيئة واحدة أي لا تمييز حقيقي بين ظاهر وباطن فيه، إذ هذا التمييز – بحسب الفلسفة الظاهراتية – إن هو إلا تمييزاً لفظياً اصطلاحياً أكثر الشيء وليس تمييزا جوهرياً. وهذا التوجيه الإدراكي الشعوري نحو الظاهرة لإعادة بنائها في الوعي بعد عزلها بين قوسين إنما يتم من خلال زاوية الرؤية التي ننظر منها إليها، وأياً كانت الزاوية التي ننظر منها تختفي عنها اشكال الزوايا الأخرى فإنها تعطي الماهية الكلية لها بحد سواء.
(ب)
“لا أحد يسمع الأصوات الداخلية وهي تفترس رأسي – (عين قسيس الإنجيلي)”..
هكذا وضعت الكاتبة – بطلة القصة- نفسها بين قوسين، وسلطت شعاع شعورها نحو ذاتها وماهيتها الوجودية لتحقق بذلك الشعور إدراكا مباشراً ومجرداً عن أي متعلقات أو مؤثرات خارج سياق هذه الذات تكون مانعة عن فهم حقيقة هذا البناء الشعوري لتلك الظاهرة أي (الذات). وهنا يتبين الفارق بين المستوى الفلسفي التجريدي والمستوى الروائي الأدبي التطبيقي للمستوى الفلسفي، فالفلسفة تضع المنهج الذي ينظر الانسان به الى الاخرين والاشياء غيره من واقع شعوره الذاتي، أما الأدب فله أن يضع الذات الناظرة نفسها كموضوع للفهم والبناء والحكم الشعوري من خلال الرواية الأدبية. ويمكن القول أن أشهر من برع في تجسيد هذا المنهج الفينومينولوجي في الرواية أو القصة هو (ديستويفسكي) لاسيما في روايته (المراهق) بدلالة ما جاء فيها مثلاً “قررت أن أعود إلى الحديث عن فكرتي.. وللمرة الأولى سأصفها، بادئاً منذ البداية.. أي منذ تولدت وتبلورت في مخيلتي.. قررت أن أكشف عنها أمام القارئ، وبالتالي كي أسلط الأضواء على ما قد يفحص من العرض الذي سأقدمه.. ورغم ذلك وجدتني أقع في دوامة الروائي وما يعمد إليه من تبديل وتحوير في مواضيعه.. وليست الفذلكات الروائية هي التي اجبرتني على الصمت حتى الآن، ولكنها طبيعة الأشياء”.
(ج)
“علي أن أنظر جيداً لمنطقتي كجزء وليس ككل – (عين قسيس الإنجيلي)”..
لعلنا نستلهم مقولة (الوجود –هناك Da-Sein) للفيلسوف الفينومينولوجي الوجودي (مارتن هايدجر) التي تفيد أن الإنسان الفرد يجدد اكتشافه لذاته بصورة مستمرة، وفي كل لحظة يواجه فيها موقفاً جديداً فإنه يتفاعل معه بنحو غير مسبوق فالإنسان بذلك هو مشروع دائم للتحقق بكونه تفاعلات متعددة ومتغيرة وكلها تنبع من هوية وأصل وجودي واحد للفرد، فكذلك كل مجتمع وشعب إنما تنبع أفكاره ورؤاه المتجددة والمتنوعة عن أصل مصدري وماهية ذاتية أصيلة للوعي الجمعي به، وهذا ما يعكسه الفرد من هوية مجتمعية عندما يضع ذاته بين قوسين كموضوع للإدراك الشعوري المباشر. وعلى هذا الأساس، يمكن القول، أن الكثير من الروايات والأقاصيص إذا كانت تعبر في جوهرها عن ظاهر وحال الثقافات المحلية المربوطة بواقع شعوبها، أما (عين قسيس الانجيلي) فقد نحت نحو الكشف عن أصول ومصادر الثقافة المحلية من حال التفاعلات التلقائية لدى الانسان المنتمي لها في مواجهة مؤثرات خارجية لثقافات أخرى عديدة ومختلفة. ومما هو مشهود أن الغوص الأدبي في جذور واصول طريقة الحياة هو مهارة ذات خصوصية حدسية تجمع بين قراءة الذات وفي نفس الوقت قراءة العقول الأخرى في تفاعلها أمام الذات وتفاعل الذات أمامها، وهذا المنحى الروائي هو من الوعورة بمكان ويحتاج الى حفر بقلم كالمعول.
(د)
“الجميل في هذه الحوارات المفتوحة أنها تجعلك سفيراً دون أن تشعر – (عين قسيس الإنجيلي)”..
لقد كان نمط الوعي وطريقة الحياة التي وضعت بين قوسي المنهج الفينومينولوجي في تجربة المؤلفة هو الوعي العربي السعودي البارز في بعض اشاراتها بصدد حالته المعاصرة الراهنة، ولكنها إشارات مركزة تثبت القيم المتجذرة لهذا الوعي فيما قبل العقود المتأخرة وإلى قرون خلت، وبرغم مرور هذا الوعي بمراحل حضرية وتكوينية متغيرة الى ان استقر على ما هو عليه راهناً فقد ظل هذا النسيج المميز للثقافة المحلية وطريقة الحياة ممتداً على هويته بطول مسيرة هذه التحولات، وهذا ما يمكن الاصطلاح عليه بمسمى (التفاعلية السعودية) في اطار (التفاعلية الخليجية العامة) التي تسم إنسان تلك الأرض، حيث ابرزت القصة أن احتفاظ هذا النمط للوعي الخليجي بالثنائيات الضدية (إما.. أو) في أحكام الصواب والخطأ المُعترض عليها من قبل البعض في ذاك المحفل لم يعد ينظر إليه كحالة منغلقة بل كمدعاة للتبادل التفاعلي مع الثقافات المتعددة وفي نفس الوقت الاحتفاظ بالهوية الذاتية لهذه المجتمعات الخليجية. وهذا يستبين من تقديم التعبير الروائي عن هذا الوعي من خلال الصراع التفاعلي الإيجابي لشعوب أخرى اجتمعن جميعاً لعشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي.
“فلقد وافق الجميع على سفري لوحدي تقديراً لرؤيتي للحياة حيث أدوار الإنسان –عين قسيس الإنجيلي”.

المصدر: جريدة اليمامة

حميد الرقيمي يواجه “عمى الذاكرة” بتدوين سيرة ضحايا الحرب وسرد أوجاعهم

حميد الرقيمي يواجه “عمى الذاكرة” بتدوين سيرة ضحايا الحرب وسرد أوجاعهم

 

تتألف الرواية من أجزاء/ فصول، تبلغ 26 جزءًا، لكل جزء/ فصل عنوان مستقل، بدءًا بالفصل الأول “لحظة الهروب”، وانتهاءً بالفصل الأخير الذي حمل عنوان “عندما سألتني بكيت”. بالإضافة إلى الإهداء “إلى كل من طالتهم نيران الحرب…”، والافتتاح الذي تضمن مقطعًا من قصيدة “ابتهالات” للشاعر الكبير الراحل عبدالعزيزالمقالح.

 

الكاتب اليمني الشاب الذي شهد كثيرًا من فصول الحرب الدامية عندما كان في اليمن، قريبًا من جبهات القتال الملتهبة، يبدو في هذه الرواية -كما في أعماله السابقة- شاهدًا على بشاعة ما تعيشه البلاد وقسوة ما يعانيه ملايين اليمنيين، سواء في ذلك من يعيشون في اليمن، أو من غادروها، فقد عاش حميد في اليمن السنوات الأولى من الحرب، قبل أن يغادرها إلى السودان ثم إلى مصر.

  

في كلا الحالتين كان حميد في الواجهة، في اليمن كان إعلاميًا يغطي جانبًا من الحرب، وفي الخارج هو الكاتب والناشط والمتابع لما يجري لأبناء بلده، وما يواجهون من أهوال.

 

الرواية التي اختار مؤلفها “عمى الذاكرة” عنوانًا لها، تسلط الضوء على ما تختزنه الذاكرة اليمنية عن بؤس الحرب وقسوة الواقع وانسداد الأفق أمام اليمنيين، بخاصة فئة الشباب الذين أجبرتهم ظروف الحرب على البقاء تحت وطأتها أو الهروب بحثًا عن الخلاص، مع ما يكتنف ذلك الهروب من مخاطر وصعوبات، وهما خياران أحلاهما مرٌّ.

 

ويرى النقاد أن “الكاتب يتمكن -من خلال السرد- من إخراج تجربته من الأطر المكانية والزمانية المحدودة، وسكبها في ذاكرة لا نهائية الاتساع وهي الذاكرة البشرية كلها” (تمام طعمة، تقنيات السرد الروائي)، وهو ما فعله الكاتب في “عمى الذاكرة”، حين تمكن من إخراج الأحداث إلى ذاكرة القارئ، دون أن يقع في فخ التقريرية أو المتابعة والتغطية الإخبارية، فهذه مهمة الصحفي لا الروائي.

 

ما تبوح به الذاكرة هنا يأتي كمعادل موضوعي لـ”عمى الذاكرة”، الناجم عن عطبٍ تحدثه الحرب في جدار الذاكرة الخاصة ببطل الرواية، لا سيما وأن ذاكرته تنشطر بين اسمين وأسرتين وأكثر من حياة، ناهيك عن أشكال عديدة للموت، كان يعيش حياته القاسية بهويتين وذاكرتين وقلبين”، ولايزال يجهل كيف “استطاعت الذاكرة أن تنام بين الأشلاء والأطلال، حتى عادت بقذيفة أخرى وبعد غياب طويل”.

 

وقد استطاع الكاتب أن يشيد بناءه السردي موظفًا عدة تقنيات سردية في هذا البناء الآسر، دون أن يضع للرواية إطارًا زمنيًا، فالحرب التي تشتعل بين سطور الرواية عابرة للأزمنة والأجيال، تعصف بالبلد وتخترق الذاكرة فتصيبها بالعمى، وتحيلها أكوامًا من الخراب، من البداية إلى النهاية، لا حدود للخراب والندوب التي تتركها الحرب. منذ ميلاد بطل الرواية الذي تزامن مع انفجار أودى بحياة والديه، حتى قرر مغادرة البلاد على وقع أصوات الانفجارات التي لم تتوقف لحظة واحدة.

 

يوظف الكاتب لغته الشاعرية واطلاعه الواسع في سرد الأحداث بتكثيف يمنحها الكثير من الدهشة والجمال، على الرغم مما تتضمنه من أوجاع وانهيارات تطال كل شيء في البلد المثخن بالحرب، إذ تتراءى الأحداث المؤلمة لوحاتٍ معبرةً عما يعيشه اليمنيون، وقد أجاد الكاتب رسم لوحاته بكلماتٍ ناضحة بالمعاناة وعبارات راسخة في صدقها الفني والوجداني، إنها فاجعة الحرب ومآسيها اليومية اختزنتها ذاكرة المؤلف، ثم أعادت رسمها وسردها في قالب روائي ممتع فيه من الجاذبية، ما يجبر القارئ على إكمال قراءتها بمجرد مطالعة بداياتها الأولى.

 

اجتاز الكاتب مراحل عدة حتى وصل إلى هذا المستوى المتقدم من السرد، وهو الذي لم يفارق احتراف الكلمة منذ نعومة أظفاره، إذ عرفته مدينته معلقًا رياضيًا يتجاوز عمره الصغير حينها بأداء يبهر الجميع، ثم غدا إعلاميًا يراسل عددًا من القنوات الفضائية، ناقلًا بالصوت والصورة وقائع الحرب. فكان هو الصوت الذي تردد في جنبات المكان لسنوات عدة، وغدا اسمه حاضرًا في المشهد الثقافي والإعلامي بعدما حفره بيقين الواثق وثقة المبدع.

 

بين انفجارين ولد البطل “بدر” أو “يحيى”، ثم عاش في كنف أسرة أخرى تتألف من الجد الحكيم، وأب وأم جديدين، ارتبط بجده وأمه الجديدة “لطيفة”، بينما كان الأب يقضي معظم أيامه بعيدًا عن المنزل والأسرة، لظروف سيعرفها “يحيى” في ما بعد.

 

انتقل بعدها للدراسة الجامعية في صنعاء، وهناك تعرف على حب حياته “يافا “، غير أن طبول الحرب دقت مرة أخرى، فأوقفت نبض الحب في قلب البطل، أو أجلته حتى إشعار آخر، إذ قرر مع مجموعة من الشباب مغادرة البلاد إلى أوروبا التي لم تكن الطريق إليها سالكة، فدونها أهوال وأهوال، من مطار عدن كانت الانطلاقة، وتطل محطات التوقف عبر مساءات القاهرة، ثم نهارات الخرطوم التي أفضت بالمهاجرين إلى حدود ليبيا، حيث فتحت لهم الصحراء أبواب التشرد والضياع على امتداد الأفق، وفي رمالها الحارقة دفنوا أول رفيق لهم، لم تمهله أوجاع الكلى حتى قذفت به جثة هامدة.

وقبل الوصول إلى البحر كانت عصابات التهريب في انتظارهم لأخذ ما تبقى لديهم من مال، وفي رحلة البحر صوب الخلاص في الشاطئ الإيطالي تنتصب أشباح الموت، وتترصد القادمين الذين تقذف بهم الأمواج في أعماق الخوف والخطر. “وهذا الليل الطويل الذي يسلخني ويلتهمني لا حدود له، كنت أشاهد كل شيء ينحدر أمامي، وكنت ألمس الجراح واقفة على كل باب، وفي كل عين تراقب عبوري أسمع ألف أمنية للهروب”.

مخاطرة الهجرة إلى أوروبا عبر البحر كان المؤلف قد تابع كثيرًا من تفاصيلها عندما غرق مجموعة من الشباب اليمنيين، وكان هو الذي تولى التواصل مع الجهات الرسمية اليمنية والليبية والجزائرية لمتابعة تطورات الأحداث حينها، لذلك فقد بدا سرده المكثف هنا دافقًا ودافئًا بما لديه من حقائق ومعلومات ومشاعر وانطباعات وتفاصيل عاشها أبطال روايته -على الورق- كما عاشها بعض أصدقائه على الواقع، ولايزالون يعيشونها.

 

“كانت العتمة مفروشة على كل البقاع، وكانت الدمعة خجولة من بكاء القلوب التي لا تمنحها حقها في التعبير والهذيان، تحجرت في عيني الرؤية، وغابت على قدر المسافة التي قطعتها بين صنعاء وعدن ذكريات عمري كلها، ولم يبقَ مني إلا أشلاء موزعة على كل خطوة”.

أنتوني ترولوب: كاتب أيرلندي مُشرِّف وجديرٌ بالاحترام

أنتوني ترولوب: كاتب أيرلندي مُشرِّف وجديرٌ بالاحترام 

بقلم: جون مكُرت

ترجمة: زينب بني سعد

ثمة مقولة شهيرة للروائي ناثانيال هاوثورن يذكرفيها أنّ روايات أنتوني ترولوب الإنكليزية مكتوبةٌ، على نحوٍ مثاليّ، «بمتانة شريحة لحم بقري، ومن خلالإلهام بيرة المِزرْ». وبالمثل، قال الناقد الأيرلندي ستيفن غوين إن ترولوب كان «إنكليزياً بقدر  ما كان جون بُل». 

بَيدَ أنهُ، على عكس العِظام من الكُتّاب الإنكليز الآخرين في العصر الفيكتوري،  وصل ترولوب إلى ما  هو عليهِ من خلال مغادرته وطنَه،وبدء حياته عبر البحر في أيرلندا؛ حيث حقق هناك نجاحاتهِ الأولى في مهنتهِ، بوصفه مفتشَ مكتب البريد، وحياته الأدبية على حدٍسواءشعر ترولوب، في سن السادسة والعشرين، «بوصفه موظف بريد في لندن»، أنه منخرطٌ في عملٍ ليس هناك مجال للتقدم فيهِ، وبعد أنفشل في إنهاء رواية خيالية بالفعل، رأى أن ليس لديهِ ما يخسره في قبول وظيفة لا يرغب فيها شخص آخر في مقاطعة أوفاليالنائية في مدينة بانغروعلى مدى السنوات الخمس عشرة التالية تعرف على الجزيرة كلها،  وعاش وعمل في كلونميل، وملوُ،وكورك، وبلفاست، ودبلن.

وبمجرد وصوله إلى أيرلندا، بات رجلاً ثانياًفما إن نزل من على متن الباخرة، حتى بدأ عمله  الدؤوب، والتقدُّم في عمله بمثابرةٍ مبهرةٍعلى حدٍ سواءأقواله الخاصة عن أحد أبطاله السياسيين، اللورد بالمرستون، تنطبق على ترولوب ذاته  تماماً منذ ذاك الحين:«كان العمل الشاق، في نظرهِ، الضرورةَ الأولى لوجوده».

وفي أيرلندا بدأت موهبته الأدبية الجبارة في الظهور أخيراًحتى لو كانت أعظم رواياته إنكليزية، مكاناً وحبكةً، بشكلٍ لايمكن إنكاره، وتُهيمن عليها الشخصيات الإنكليزية، إنّباكورة أعمالهِ كانت أيرلندية، وهو يعود إلى الموضوعات الأيرلنديةمن حينٍ إلى آخر، وإن كان ذلك بنجاحات متفاوتة طوال حياتهِ المهنية الطويلةتشكل كتاباته  الأيرلندية مجموعةً حيوية ومتنوعة منالأعمال، وتضيف، بشكل كبير، إلى رؤيتنا الشاملة للكاتب، وتمثل مساهمة غنية لكن مستهاناً بها في المبادئ الأدبية للروايةالأيرلندية في فترة القرن التاسع عشر، ما يزيد من تعقيد المجموعات التعسفية، التي يتم رسمها بين التقاليد الإنكليزية والأيرلنديةشعر ترولوب أنه كان في وضع فريد بوصفه وسيطاً ثقافياً بين أيرلندا وإنكلترا، مع مزايا العيش لفترة طويلة في أيرلندا،والالتزامات الأخلاقية التي فرضتها عليه هذه الإقامة المؤقتةولهذا حاول على مرّ الزمن أن يمنح شكلاً سردياً عنالتعقيدات التي تعاني منها دولة لم يكن صوته مسموعاً فيها عن طيب خاطر في بريطانيا، صوتاً واهناً في منتصف القرنالذي هيمن عليه الجوع.

ولئن كان صحيحاً، كما ذكر الباحث جون سادلير في أوائل القرن العشرين، أنّ ترولوب في أيرلندا  أصبح «سفيراً لإنكلترا،يعيش في وئام متنازع عليه مع واحدةمن أكثر الأمم وعياً بالعِرق في العالم»، فإنه أصبح أيضاً مبعوثاً لبلده الثاني، أيرلنداوإلى جانب تقديرنا لترولوب روائياً إنكليزياً مشهوراً، يتعيّن علينا أن ننظر إلى ترولوب باعتباره كاتباً أيرلندياً جديراً بالاحترامذا إنجازات عظيمة، كاتباً لم يتهرب قط من القضايا الخطيرة والرهيبة أحياناً، مثل التحريض  على مسألة الأراضي، والحكمالذاتي أو الداخلي لأيرلندا، والمجاعة والقحط، التي أثرت في البلد على جميع المستويات  الاجتماعية أثناء إقامته الطويلة هناك،وبعد ذلك.

في الغالب، يظهر ترولوب، في رواياته الأيرلندية، أقلّ شهرة وغيرمعهود، شخصية متضاربة، وأحياناً يكاد يبدو متمرداًومحشوراً بين آرائه «الرسمية» و«غير الرسمية»، متردداً بين تأييد وجهات النظر الإنكليزية  القياسية حول أيرلندا، وتقديم بدائلخاصة به، وأحياناً محرجة، وقراءات مضادةفعن طريق المصادفة، بدلاً من التصميم، أصبح عابراً للحدود، وكان لزاماً عليه أنيتقبل حقيقة مفادها أنّه بعد بداية عمله موظفاً في مكتب البريد، وكاتباً ناجحاً في أيرلندا،  سوف يظلّ دوماً بين الناس، وسوفيقع في شرك الولاء المتضارب للثقافتين في بعض الأحيان، وهذا من شأنه أن يضع ترولوب في  حالة إنتاجية إبداعية حتى لوتمكن تدريجياً من كبح جماح تعاطفهِ مع وجهات النظر الأيرلندية، والتراجع إلى موقف «إنكليزي» أكثر دفاعاً

لكن رحلته الأدبية الأيرلندية، التي لم ينصحه الناشرون بها، رحلةٌ حريٌّ بالقُرّاء أن يقتفوا أثرها اليوم، بدءاً من مأساوية(Macdermots of Ballycoran) (1847)، التي تعرض مناقشاتٍ ثاقبة لأسباب الاضطرابات في المناطق الريفيةالأيرلندية، والرحلة الأكثر تفاؤلاً وهزلاً في روايتهِ 

(The Kellys and the O Kellys) (1848)، التي تُعدُّ أُنموذجاً أوليّاً قيّماً لبعض روايات ترولوب اللاحقة (والأكثر أهمية) عن قصص الزواجومن الأعمال الجديرة بالاهتمام وإن كانت معتقداته السياسية موضع شك في أحسن الأحوالرواية عن المجاعة ألفها ترولوب، وكثيراً ما كانت مؤثرةً بشكلٍ عميق، هي رواية (Castle Richmond) (1860)،إلى جانب الروايتين الثانية والرابعة من سلسلة روايات (Palliser novels)، اللتين تحملان عنوان فينياس فين (Phineas Finn)، وتكملتها التي تحمل عنوان العضو الأيرلندي (1869) (The Irish member)، وفيناس ريدوكس (Phineas Redux) (1874).

بطلهما الأيرلندي فينياس فين، الذي يكافح من أجل شقّ طريقه في العالم السياسي الإنكليزي، وجد نفسه محاصراً بينتأثيرين مُتناقضين لزواجٍ مُحتمل في أيرلندا وإنكلتراتتحدى السلسلة الأدبية، بأكملها، الصور النمطية الأيرلندية، وتدعو إلىالتأمل في اثنين من أكثر المفاهيم شيوعاً عن الأيرلندية أولهما عن أيرلنديوا المسارح، أو كما يُعرف بالصورة النمطية للشعبالأيرلندي، الذي كان شائعاً في المسرحيات. ويشير هذا المصطلح إلى تصوير مبالغ فيه، أو كاريكاتوري، للسمات الأيرلنديةالمفترضة في الكلام والسلوك؛ المفهوم الثاني هو  أيرلندا بوصفها ضحية مؤنثة

الروايتان الأيرلنديتان الأخيرتان (The admonitory An Eye for an Eye) (عام 1879)، و (The Landleaguers)، آخر رواياتهِ وأكثرها إثارةً للجدل، تستحقان أن تأخذا مكانتهما ضمن سلسلة  المحاولات الشجاعة –وإن كانت معيبة– لاحتواء مشكلات أيرلندا في شكلٍ روائيّ وخدمتها في العقود الأخيرة الحالكة من القرن التاسع عشر، تحذيراً لقرائه الإنكليز من أن عدم أخذ المشكلات الأيرلندية على محمل الجد سيؤدي حتماً  إلى عدم الاستقرار والفتنة والعنف الذي قديمتد عبر البحر الأيرلندي.

جون مكُرت: كاتب دبلني. أستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة ماشيرتا، وهو مؤلف كتابة الحدود: أنتوني ترولوب بين بريطانياوأيرلندا

حكايات وحكاؤون في رواية الاستدارة الأخيرة

تحذّر رواية «الاستدارة الأخيرة» من مستقبل مظلم للرجل على يد التسلط والإبادة النسوية، وهي رواية دستوبية مختلفة عن الروايات التي تخيلت خطورة الآلات والإنسان الآلي والكائنات الفضائية والأفاعي والعناكب وتشوه الطبيعة البشرية وغيرها. فمن الطبيعي أن يستشعر الإنسان ويتخيل توحش كائنات أخرى، وحتى أقوام أخرى ورغبتها في السيطرة عليه، ولكن أن يكون الخطر المحدق به من قبل الأنثى التي تشاركه حياته، ولا يكتمل الوجود إلا بها، فهنا مكمن الغرابة والخطر. ولكن في المقابل، فإن تسلط المرأة وتحكمها في البيت واقع لا يُمكن إنكاره؛ فلها الكلمة العليا والقرار النهائي في كثير من شؤون الأسرة الداخلية والخارجية، ولا شك، أن السلطة الحقيقية للمرأة في المجتمع، وإن كانت من وراء ستار، ولها تأثير بالغ في السياسة والاقتصاد وغيرها من خلال تأثيرها وسطوتها على الرجل، والتاريخ، وإن كان مزورا في معظمه، يؤكد ذلك.
يُمكن الحديث عن الرواية من جوانب وزوايا كثيرة؛ فهي ميدان خصب لكل من أراد أن يكتب عنها وحولها، غير أن اللافت فيها الحكايات والحكاؤون التي شكلت نسيج الرواية بكاملها، حيث إن معظم شخوص الرواية الرئيسيين حكاؤون، كما أن الرواية تألفت من ثلاث حكايات رئيسية متداخلة ومستقلة في الآن نفسه؛ حكاية الراوي، وحكاية الرجل النبيل، وحكاية الملوك والملكات، وتشكل معا ثلاث دوائر رئيسية متحدة المركز، بالإضافة إلى دوائر فرعية تشكل في مجملها ماندالا روائية مشوقة وجاذبة.

حكاية التاريخ

التاريخ بشكل ما حكاية؛ حكاية المنتصر أو الأقوى، حكاية السلطة المتنفذة التي تكتب التاريخ كما تريد، وإن خالف الوقائع ومجريات الأحداث الحقيقية، ولذا فإن التاريخ في مجمله تاريخ مزور، مترع بالأكاذيب والمبالغات والإنجازات الوهمية والانتصارات الدونكيشوتية «التاريخ فنّ الحكايات الكاذبة»، وإذا كان واقعنا الذي نعيش فيه يتم تحريفه وتزويره على مرأى العين، فكيف بالتاريخ البعيد؟ وأي سلطة تقبل أن يُكتب عنها، أو عن أسلافها ما يُشين أو يقلل من قيمتها ومكانتها وهيبتها؟!
في الرواية، ترفض أستاذة التاريخ الجامعية كتابة الرجال للتاريخ، بزعم أن «التاريخ ذاكرة تصونها النساء»، وأن «التاريخ لا يعرفه الرجال»، وتؤكد أن «المؤرّخات، لا يخطئنَ في كتابة التاريخ»، وتقول: «لا أتذكّر أنّ الرجال كتبوا التاريخ أصلا. وإن كتبوه، فهو كذب. نعم، الكذب من الرجال؛ فهم لا يعرفون الحكايات»، ولذلك أُوكل كتابة تاريخ المملكة إلى مؤرخات من النساء، فهن ذاكرة لا تخطئ، والرجل خصم غير مؤتمن، لا يمكن أن يكون منصفا وليس محلا للثقة. وزاد الأمر أن مُنع الرجال من دراسة التاريخ في الجامعات إلا لحالات فردية نادرة، لئلا يكون لهم كلمة أو تأثير في تدريس التاريخ أو تدوينه أو روايته.
وفي مفارقة واضحة؛ فإن حكايات هذه الرواية الرئيسية نقلها العجوز؛ «الرجل النبيل»، وليس امرأة، صحيح أنه نقل معظمها عن الملكة، ولكن يبقى رجلا، ولا يعني أنه كان أمينا وحرفيا في روايته، فلا بد أنه أضفى عليها من ذاته وتأويلاته ونكهته الخاصة. وبشكل عام، فأي رواية لأي حكاية، يعني تحريفا ما مهما كان بسيطا، ومع توالي الروايات الشفهية، يزداد التحريف، ومع الزمن، تُقلب الأحداث والحقائق وتكاد لا تمت بصلة إلى أصل الحكاية.

نحن حكايات

الإنسان؛ أي إنسان هو حكاية بعد أن يموت، وبعضهم حكاية وهو حي، ومن الأفضل أن يكتب كل منا حكايته بنفسه كما يريدها وكما عاشها، بدلا من أن يتركها للآخرين ليكتبوها كما يرتأون، وهنا لا بد أن تخضع للتحريف والتعديل حسب أهوائهم ورؤيتهم وما يخدم مصالحهم. وبقدر عدد البشر توجد حكايات، ولكل أسرة حكاية، ولكل قبيلة أو عشيرة حكاية، ولكل قرية أو حي أو مدينة حكاية، ولكل مجتمع أو دولة حكاية، وهذه الحكايات تتناسل بين وقت وآخر، ولكن، لا تدوين إلا لحكايات السلطة وأزلامها، أما حكايات الشعوب والناس البسطاء فتهمل ويطويها النسيان، إلا ما كان منها يوافق حكاية السلطة ويدعمها ويزيد في سمعتها ويرفع من شأنها. في الرواية، ثمة حكايات لأشخاص عاديين، وأشخاص ارتبطوا بالسلطة، وأشخاص تحالفوا مع السلطة، فظهرت حكاياتهم إلى العلن ودونت، ومن هذه الحكايات حكاية الراوي وطفولته مع عمته، ثم انتقاله إلى بيت الأب وزوجة الأب المتسلطة المتحكمة، التي لها الكلمة الفصل في كل ما يتعلق بالبيت والأسرة، فيما كان الأب مجرد خادم، بل كان عبدا ليس له رأي ولا كلمة.
وتبرز حكاية الرجل النبيل، ومعاناته في سبيل العيش، ثم هروبه وتخفيه خوفا من البطش به كغيره من الرجال إلى أن تدخل ساعي بريد وأنقذه واتخذه مساعدا، مما فتح له أبواب القصر واتخذته الملكة الأولى كاتبا وكاتما لأسرارها وحكاياتها. وهذا الرجل النبيل هو الذي روى جميع قصص وحكايات الملوك والملكات من البداية إلى النهاية.
كما ذكرت الرواية حكاية الجدة الزعيمة التي كانت تحكم إحدى القبائل المتحالفة مع الملك على أطراف المملكة، والتي احتضنت بنته الطفلة، ورعتها، ومن ثم توجتها ملكة بالتعاون مع القبائل المتحالفة بعد القضاء على عدوها الأكبر. وتطرقت حكاية هذه الجدة إلى طقوس القبيلة وعاداتها وثقافتها ومعتقداتها وحروبها وغيرها من الأمور التي تشكل مادة دسمة وطريفة وغريبة في الآن نفسه. ومع أن الرواية في ظاهرها منحازة ضد المرأة، وقد تقابل بنقد نسوي قاسٍ، إلا أنها تعترف للمرأة بالذكاء الخارق، وسعة الحيلة، وقدرتها على التلاعب، والتخلص من الأخطار، وفرض رؤيتها وشروطها، بالإضافة إلى قوتها وقدرتها على التخطيط والتنفيذ بحنكة وكفاءة. كما أن الرواية ذكرت نموذجا طبيعيا للأنثى دون انحياز أو تطرف، فقد كانت «لورا» أنثى عادية تتفاعل مع الرجل ولا ترى فيه عدوا، أو خصما أو حتى منافسا، بل إنسانا يستحق العيش والحياة والكرامة مثلها، وكانت صديقة للراوي، تشاركه زياراته للعجوز، وتهتم لأمره وتؤازره، وتشجعه على الكتابة، كانت شريكة حقيقية، صادقة في مشاعرها وكلماتها، وفي سلوكها هذا رفض وتمرد على السائد من تسلط المرأة وإقصاء الرجل والتنكيل به.

الرواية حكاية

الرواية؛ أي رواية هي حكاية، ولكنها كُتبت بلغة جميلة وفنيات وشروط إبداعية، والحكاية هي العمود الفقري للرواية، ولا يُمكن أن توجد رواية دون حكاية. وعلى هذا؛ فالروائي حكّاء على الورق، يسرد حكايته ويحاول أن يأسر بها لب القراء، ويستأثر على اهتمامهم ومتابعتهم، وهذا يتطلب مهارات وقدرات إبداعية عالية المستوى، وليس كل من كتب رواية حكّاء ناجحا بالضرورة، فقد يفشل، وتكون روايته مجرد حكاية مروية بأسلوب باهت لا يستثير أحدا.

إن رواية «الاستدارة الأخيرة» لأحمد الزمام حكاية مثيرة وممتعة، وصادمة أيضا، ومرعبة في بعض مفاصلها، وأرى أن الزمام حكّاء ماهر في هذه الرواية التي نجحت في جذب القارئ ومتابعته للتعرف على حكايات هذه المملكة التي تحكمها النساء وتترأسها الملكات، والرجل فيها مطارد، لا قيمة ولا أهمية له، ولا يُحتفظ ببعض الرجال إلا لغايات التكاثر واستمرارية الحياة. ولعل المرعب في هذه الرواية، أن يضطر الرجال للبس ملابس النساء، واستخدام المكياج؛ للتخفي وتجنب الملاحقة والقتل، ولكن الأكثر رعبا أن يتوجه بعض الذكور لارتداء ملابس النساء والمكيجة عن طيب خاطر، إيمانا منهم بأن السلطة للنساء، ومن كان كالنساء فله حظ وافر. وأكدت الرواية حقيقة مخيفة أن الملكة الثانية ما هي إلا ذكر في حقيقتها، ولكن أمه الملكة ربته منذ الطفولة على أنه أنثى، وتوج ملكة على هذا الأساس، وفي هذا اغتصاب للرجولة وإعدام لها، وحرمان للذكر أن يكون على طبيعته، ولم يستطع أن يتمرد، على الرغم من أنه أصبح ملكا/ملكة بسبب البطانة الأنثوية التي حوله، والتي لن تقبل بأن يحكمها ذكر، وإن كان سليل الملكة السابقة، بالإضافة إلى أنه لا يعرف ما هي الرجولة، وكيف يتصرف ويحكم كرجل، وفي هذا تعريض ورمزية لا تخفى على اللبيب!

والغريب أن الملكة الأولى التي قادت حملة الانقلاب على الرجل، تعهدت في طقس التحالف بحضور زعماء القبائل التي ستدعمها لاستراد عرش والدها أن يكون «الشعب نساء ورجالا»، وكان هذا شرطها للموافقة، ولكن هذا الشرط كما يبدو حمّال أوجه؛ فيكفي وجود بضعة رجال ليتحقق الشرط، وتفي بتعهدها. وفي تقديم النساء على الرجال دلالة واضحة على نواياها المبطنة.

وبعد؛ فإن رواية «الاستدارة الأخيرة» للروائي الكويتي أحمد الزمام، صدرت عن دار رشم في مدينة عرعر السعودية عام 2024 في 424 صفحة، وهي رواية مختلفة وتحذر من الأسوأ المقبل، وليس شرطًا أن يكون الخطر قادما من النساء، فثمة مصادر للخطر لا تحصى، وأقربها لنا خطر الأجهزة الذكية على اختلاف أنواعها، والذكاء الصناعي، والخطر النووي وأضرابه، والحروب المدمرة، والكوارث البيئية، وغيرها. وأيا كانت الأخطار المتوقعة، فإن الكائن البشري في طريقه للأفول أو الاستعباد بسبب ضعفه المتسارع، واعتماده على الآلة والتقنية، وتعطيله لمعظم قدراته ومهاراته الطبيعية، وإيثاره للكسل، وشراهته للاستهلاك الأعمى، وتجنبه التفكير والتطلع إلى المستقبل.

تدق الرواية ناقوس الخطر، وتدعو للتفكير في مستقبل البشرية، وأن يتدارك العقلاء الدحرجة المتسارعة نحو الهاوية، والمصير الضبابي. ويبقى الأمل موجودًا، على الرغم من طبقات الظلام التي تحيط بنا، والحروب التي تنذر بالويل والدمار، والتهديدات التي لا تتوقف، وكثير من المجانين الذين يحكمون العالم.

قراءة  الأديب موسى أبو رياش.

المصدر: جريدة القدس العربي

القول المأثور من كونفشيوس حتى تويتر.. مقاربة متعمقة لنوع أدبي له سحره

القول المأثور من كونفشيوس حتى تويتر.. مقاربة متعمقة لنوع أدبي له سحره

بقلم: محمد سليم شوشة

في رأينا أن كتاب (القول المأثور من كونفشيوس إلى تويتر) للمؤلف أندرو هيو الأستاذ المساعد بجامعة يال-نوس كوليج بسنغافورة من ترجمة الدكتور حمادة علي أستاذ الفلسفة بجامعة جنوب الوادي والصادر عن دار منشورات جدل عملا أدبيا وفكريا بالغ الأهمية لعدد من الأسباب والسمات الخاصة به سنفصل القول فيها، وقد بذل فيه جهدا كبيراً وأخرجه في صورة مميزة تجعله كما لو كان دراسة مكتوبة باللغة العربية برغم بعض المشكلات التي يمكن أن يستشعرها القارئ مثل إشكالية تضارب المصطلح الأدبي والفلسفي، والكتاب برغم تصنيفه في الأدب المقارن يمثل تجربة نقدية ثرية ويمكن تلقيه بوصفه كتابا فكريا أو فلسفيا أو حتى في تاريخ الحضارات، إذ يصبح التأريخ للقول المأثور مكافئا بصورة ما للتأريخ للحضارة أو لما وصلت إليه حضارة معينة من الحكمة والمعرفة والبلاغة والرغبة في تدوين معارفها وتداولها والاحتفاظ بها أو تخليدها أو اختبارها وإقامة جدل تأويلي وتفسيري حولها.

لقد قارب المؤلف تاريخ القول المأثور في الثقافات المختلفة وقارب تباينه أو اختلافاته بين الحضارتين الشرقية والغربية أو نقاط الاتفاق والاختلاف بينهما، فكما كشف عن الاختلاف الحتمي والطبيعي في القول المأثور نتيجة اختلاف الثقافات والحضارات بين الشرق والغرب، فقد قارب كذلك نسقيته والروابط التي جعلته شكلا واحدا أو صنعت منه روحا بلاغية واحدة ربطت ما هو إنساني وما هو نسقي ومنتظم فكريا ويمثل شكلا من الحكمة في العقل البشري.

وقد ذهب أندرو هيو بعيدا في مقاربة علاقة القول المأثور بالنسقية الفكرية والفلسفة والتراكم المعرفي في مرحلة ما قبل الفلسفة وفي مراحل الأديان السماوية أو مراحل التعاليم الصينية لكونفوشيوس وغيره من المعلمين والحكماء والآباء الروحيين والزعماء أو القادة، بمثل ما تنقل بأريحية وبالعمق ذاته نحو القول المأثور في الثقافة الغربية الوسيطة والحديثة وكذلك بعض حضارات الشرق الأوسط وبخاصة الحضارة العربية والإسلامية، وركز على بعض النماذج التي يراها من وجهة نظره مثالا عالميا للقول المأثور في القرآن الكريم(مثل ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، وحتى شهادة أن لا إله إلا الله، رآها نموذجا للغة المكثفة ذات الطابع الاستخلاصي الذي يظل خالدا أو يملك مقومات البقاء والانتقال من عقل إلى آخر بأريحية مطلقة.

ولم تكن مقاربته في الحقيقة مقصورة على المحتوى الدلالي والفكري برغم أهميتها الكبيرة، بل غلّب في كثير من الأحيان دور الناقد واللغوي الخبير بداخله، وقارب البنية والمحتوى الشكلي والسمات التكوينية والخصائص البنائية للقول المأثور وركز تحديدا على التكثيف، كما ركز كذلك على عمليات التلقي وحالات التأويل وتنشيط عقل المتلقي، أو ما توالد عن القول المأثور من أثر ثقافي وتأثير في البنى المعرفية للأمم والحضارات المختلفة، أي تأثير حضور القول المأثور في العقل الجمعي، فيما يمثل دراسة ثقافية متعمقة وتمثل تنبيها لخطاب في غاية التأثير والتعمق بامتداده الرأسي عبر التاريخ هو خطاب القول المأثور وركز على سلطته فيما يمثل إعمالا وتمثيلا عمليا ناعما لنظرية سلطة الخطاب لميشيل فوكو.

وفي تجربة هذا الكتاب المهم يصبح المتلقي أمام دراسة تتسم بالشمول والعمق، فالمسح الشامل للقول المأثور عند كونفشيوس وعند الفلاسفة والمسيح وفي الثقافة العربية الإسلامية في القرآن والسنة وبعض فلاسفة المسلمين مثل الفارابي وغيره، وصولا إلى العصر الحديث والفلسفة الغربية بثرائها وسياقاتها المتنوعة وتماوجاتها اللامحدودة تقريبا، ثم وصولا إلى عصر الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي وأثرها في السياسة أو في المعرفة أو الحكمة والفلسفة وخلخلة الرأي العام وغيرها من الآثار والتداعيات الواسعة أو اللامحدودة، فيما يمثل تنبيها مهما لمخاطر أنواع الخطاب وما يمتلك من سلطة وقدرة في كل العصر بما يجعله يحكم سلوك البشر وتشكيل العقل الجمعي وصياغته.

كما قارب المؤلف كذلك بنية القول المأثور الفنية واستكشف سماته أو خصائصه الأدبية عبر العصور والثقافات المختلفة، فهو حسب المؤلف: “إن القول المأثور من أدب الحكمة، بسيط في العادة، وعبارته منسوجة على نحو حسن، ومتوازية في الإيقاع، وهذا يجعل سردها واستدعاءها أمرا يسيرا”.

ويبدو أن المؤلف قد كان شغوفا بالقول المأثور في التراث الصيني تحديدا، حيث نال وقفة مطولة في الكتاب، قارب فيها أثر القول المأثور في الثقافة الصينية القديمة وأهميته بالنسبة للمعلم الروحي والقائد في تلك الحضارات والدويلات المتجاورة، ودوره في نقل التعاليم والأخلاقيات والخبرات وترسيخها، وتأثير القول المأثور في تكوين ما يعرف بالمدرسة الروحية أو الافتراضية إذ كانت سلطة المعلم هي المدرسة أو هي المؤسسة إن شئنا الدقة في التوصيف. فكأن القول المأثور هو ما كان يحرك البشر في بعض المراحل أو يتحكم في ذهنيتهم وكان يتحكم فيما يتحقق من حالات من النزاع أو التوافق أو غيرها من التحولات المختلفة في الثقافة الصينية التي غلب عليها الحكمة، وهي حكمة إن شئنا الدقة ارتكزت على الشعر الروحي والقول المأثور والتأملات النقدية والبلاغية لثقافة منحت اللغة قدرها ومكانتها وتقدير دورها في تشكيل الحضارة ورسم ملامحها.

وهكذا نجد أن المؤلف قد غاص عميقا في درس القول المأثور واستكشافه على المستويات التاريخية والسياقية واختلافه من حضارة إلى أخرى ومن عصر أو زمن إلى آخر، فقد كان القول المأثور اختزالا بصورة ما للثقافة التي يصدر فيها، وكذلك غاص في استكشافه على المستويين التركيبي والبلاغي، وفي التركيبي كان لمّاحا في استكشاف السمات اللغوية بمثل ما حاول استكشاف السرد وحاول أن يتفاعل تأويليا مع بعض الأمثلة والنماذج والأنماط من القول المأثور، بما هو متحقق فيها من التباين أو الاختلاف بين نماذج سلسلة تماما وذات طابع نسقي واختزالي للمعرفة والخبرات الإنسانية وأخرى ذات طابع تأملي فلسفي ربما لا يكون مطلقها نفسها واعيا تماما بكل ما فيها من دلالات ومعان. واستكشف المؤلف كثيرا من النماذج التي تتأرجح الدلالات فيها بين الخبرات الحياتية والتعاليم السلوكية والأخلاقية وبين أخرى فيها تأمل وجدل أو ديالكتيك بين التعبير والصمت أو بين الأرض والسماء، بين الفيزيقي والميتافيزيقي، وهكذا تتضح الوشائج ونقاط الالتقاء والارتباط والجذور الأولى التي تجمع بين القول المأثور والأقوال العقدية والدينية والروحية.

وتتجلى في القول المأثور اختزالات ليست أدبية فقط، لكنها بالأحرى فلسفية وروحانية كانت منحة اللغة للبشر ليسجلوا ما يدور في نفوسهم وداخل عقولهم حتى يتم تناقلها عبر الأجيال والأزمان، وسيشعر المتلقي أن القول المأثور وفق هذه المقاربة المتعمقة أقرب للغة تفرض نفسها على صاحبها أو أنها تجربة لغوية فوق كل لغة، فهي في المساحة البينية للشعر ولغة النثر والحياة اليومية أو لغة العبادة والتعاليم، ليكون القول المأثور في هذه المنطقة الوسطى التي تلتقي فيها كل هذه الأنواع الأخرى، ليكون مزيجا منها جميعا في بعض صوره وتمثلاته أو حالاته ونماذجه التي أنتجها الحكماء أو الفلاسفة ورجال الدين، فهي نصوص غير دينية ولكن لا يمكن نزعها وفصلها تماما عن النسق الديني والروحي العام الذي شكّل منبعا لكثير منها، وهي كذلك ليست نصوصا فلسفية خالصة، ولكن أيضا لا يمكن فصلها عن منابعها الفلسفة ودوافعها الأولى التي هي دوافع فلسفية لكنها تبدو أكثر عفوية وأكثر تحررا من المنهج والصرامة الفكرية.

أمينة مكتبة جيه بي مورغان امرأة سوداء في زمن العنصرية

لديّ اعتراف: أنا لست من محبّي المجاز التصويري الماضوي. بدءاً من فيلم نيلا لارسن الكلاسيكي مضى في عام 1929، إلى النسخة الأصلية من تقليد الحياة (فيلم من 1934، من بطولة فريدي واشنطن في دور بيولا الذي لا يضاهى؛ الفتاة الصغيرة التي أرادت أن تكون بيضاء)، وصولاً إلى رواية بريت بينيت لعام 2020 النصف المختفي، فإن فكرةَ شخص أسود يتمظهر كأبيض للهروب من سواده هي فكرةٌ تُشعِر… بالتعب والملل.

«في الأعماق، يريد كلّ السود أن يكونوا بيضاً». سمعت هذه العبارة في أحد صفوف علم النفس الاجتماعي تتكرَّر كما لو كانت حقيقةً بديهية، وهي ليست كذلك. في عدة مراحل من طفولتي، وبوصفي شخصاً بالغاً، أحببت فكرة أن أكون ثرية، لكن بيضاء؟ لا أستطيع تخيّل ذلك. لن أكون أنا.

وهذا، أساساً، هو جوهر كتاب أمينة المكتبة الخاصة، وهي رواية جديدة من تأليف هيذر تيريل (Heather Terrell) (وهي تَكتب باسم ماري بنديكت) وفيكتوريا كريستوفر ميوريه. كانت بطلتهما، بيل دا كوستا غرين، واحدة من أبرز النساء العاملات في عصرها. بصفتها أمينة المكتبة الخاصة للخبير المالي جي بي مورغان، تابعتْ ونظمتْ مجموعةً من الكتبِ النادرة، والمخطوطاتِ، والقطعِ الفنية، التي أصبحت مشهورة عالمياً.

تسجيلهم كبيض يسبّب انفصال الأسرة

ما لم يعرفه العالم أنّ بيل دا كوستا غرين كانت سوداء، أو، بِلُغةِ اليوم، ملوّنة. وُلِدت غرين في عائلة بارزة من سكان واشنطن الخلاسيين في عام 1883. كان والداها من المثقفين؛ حيث والدها، ريتشارد تي غرينر، كان أول أسود يتخرج في جامعة هارفارد، كما كان أيضاً رجلاً متحمّساً قضى حياته يضغط لأجل المساواة العرقية. قررت والدة غرين، جينيفيف فليت، أنّ المساواة العرقية لن تحدث في مدّة حياتها، ولهذا، بعد انتقال الأسرة إلى نيويورك، صرّحت بأن العائلة بيضاء في إحصائيّة تعداد ولاية نيويورك عام 1905. أصبحت هذه الخدعة سبباً لصَدعٍ كبير: انفصل والدا غرين، وعاشت عائلتها بعد ذلك بيضاء.

بيل ماريون غرينر صار اسمها بيل دا كوستا غرين، ودا كوستا يشير إلى جدة برتغالية مختلقة، وهو تفسير مناسب لبشرة بيل زيتونية اللون. (تُظهر الصورُ المعاصرة امرأةً جذابة يميِّزُها العديدُ من السودِ، على الفور، كقريبةٍ لهم؛ وتظهر أن الأشخاص البيض من العصر الذهبي كان خداعهم أسهل).

بيل تجتمع مع جيه.بيربونت مورغان

اعتمدت حظوظ العائلة بأكملها (مكان معيشتهم ومهنهم وكل شيء)، بشكل كامل، على هوية بيل البيضاء، كما كانت والدتها تذكِّرها باستمرار. عندما صارت صديقة لابن شقيق الخبير المالي جيه بيربونت مورغان، وقد كانا يعملان في مكتبة الكتب النادرة في برينستون، اقترح الشاب مورغان على عمّه أن يعتبر بيل أمينةً لمكتبته الخاصة. أثناء المقابلة، راقَ لمورغان شيءٌ شفَّ عن ذكاء الشابة، وروح الدعابة لديها؛ فتم تعيينها على الفور.

أصبحت بيل قوةً بذاتها، يتودّد إليها تجار الأعمال الفنية، ويتبنّاها أصحاب النفوذ الاجتماعي، وتوصف بأنّها محترفة أنيقة في وقت كانت فيه النساء العاملات نادرات.

عندما بدأ الاثنان العمل بشكل وثيق معاً، صار مورغان يثق في رؤية بيل وخبرتها، وكان يعي أن مجموعته، تحت عينيها الفطنتين، ستكون مجموعة متنوعة من النوادر لا يمكن إلا لرجل واحد فقط من أغنى أغنياء العالم أن يقتنيها. كان باستطاعة بيل أن تمدّ وتزوّد بما فُقد من ربطٍ مهم: السياق. وبالفعل، أصبحت مكتبة مورغان معروفةً بوصفها مجموعةً خاصة من الكتب النادرة والمخطوطات والفنون، التي تنافس المؤسسات العامة المرموقة مثل المتحف البريطاني. بصفتها كانت، حَرْفياً، وجهَ المكتبة، أصبحت بيل قوة في حدّ ذاتها، يتودد إليها تجار الأعمال الفنية، ويتبناها أصحاب النفوذ الاجتماعي، وتوصف بأنّها محترفة أنيقة في وقت كانت فيه النساء العاملات نادرات.

دفع الثمن لحياة جديدة

ولكن، كما أظهرت بنديكت وميوريه، كانت هناك تكلفة باهظة للحفاظ على تلك الواجهة؛ انقطعت بيل عن عائلتها المحبوبة في العاصمة. تقول: «بمجرد أن اتخذتْ أمي القرار بأن نعيش كالبيض لم يعد بإمكاننا المخاطرة». وبينما كان لديها العديد من العشاق (بمن في ذلك مؤرخ الفن الشهير برنارد بيرينسون)، لم تستطع الزواج من أحد:

«لقد عرفتُ دائماً أنّ العلاقة التقليدية، بسبب إرثي، لن تكون ممكنةً بالنسبة إلي… لأنّ الزواج يعني الأطفال، وهذا شيء لا يمكنني المخاطرة به. من دون البشرة الفاتحة لأقربائي، لم أستطع أبداً تحمل أن يولد لي طفلٌ ربما يكشف لونُ بشرته خداعي».

تقوم بنديكت، وهي بيضاء، وميوريه، وهي أمريكية من أصل أفريقي، بعمل جيّد في تصويرهما الحبلَ المشدود الذي سارت عليه الحسناء، وصراعها الداخلي من كلا الجانبين: الرغبة في التمسك برغبات والدتها والمضي عبر العالم كبيضاء، وتوقها إلى أن تظهر لوالدها أنّها فخورة بعرقها. وكما كانت لدى بيل وربِّ عملها، كانت لدى بنديكت وميوريه كيمياءُ فورية تقريباً، ونتيجةً لذلك أصبح سردُ الكتاب سلساً. وعلى الرغم من نفوري من المجاز التصويري الماضوي، بتُّ مشدودةً للكتاب.

بيل دا كوستا غرين ليست، الآن، في مقدمة وقلب قصة مكتبة مورغان، بل ستكون أكثر بروزاً عندما تحتفل المكتبة بالذكرى المئوية لتأسيسها كمؤسسة عامة في عام 2024، وهو أمر مناسب؛ حيث أقنعتْ جاك مورغان بالتبرّع بمكتبة والده المذهلة للمدينة. إنها هديةٌ تكرّم جيه. بي. مورغان وأحفاده، وأمينة المكتبة الخاصة، التي كانت عاملاً حاسماَ في نجاح مورغان.

بقلم: كارين غريغسبي بيتس

سنة حلوة يا أنتوني ترولوب! بعد أن أكمل ترولوب 200 سنة، جربوا القراءة لهُ. قد تستيقظوا من نومكم ضاحكين!

قد لا يكون أنتوني ترولوب، بشكل عام، جزءاً أساسياً من فهم الناس للأدب الفيكتوري؛ فهو لم يحقق النجاح الذي حقّقه آخرون أمثال ديكنز أو إليوت، ولكن لمّا كان بلغ مؤخراً ٢٠٠ سنة من عمرهِ، فقد ترونه على أختامكم البريدية على موائد الإفطار عمّا قريب. يبدو أنَّهُ الوقت المناسب لتشجيعكم على قراءته.

كتبَ ترولوب ونشرَ بلا كلل. كان يسيطر على المشهد الأدبي طالما أنّهُ يلاقي اهتماماً من الطبقات الوسطى المُنعّمة بالرفاهية، في أكثر أعمالهِ شعبيةً خلال ستينيات القرن التاسع عشر. تخيّل القراء شخصياته، وكتبوا عنهم كما لو كانوا أشخاصاً حقيقيين. وقد كان ترولوب صورة لحياة أرباب المهن الحرة وأصحاب الأراضي ممن يعترف الناس بهم ويثقون. كان ديكنز يبيع المزيد من نُسخ أعمالهِ باستمرار وهذه حقيقةًوكان لديه العديد من القُرّاء من الأُسَر الأقل ثراءً. وقد يُقال: إن كل من قرأ لترولوب قرأ لديكنز كذلك، ولكنليس كل قُرَّاء ديكنز كانوا من معجبي ترولوب.

تخصص ترولوب في الكتابة عن حياة الطبقات الوسطى والعليا، وجهود الأفراد للتصرف بأخلاقية في عالمٍ يتغير سريعاً؛ حيث يحقق الناس ثروات ويخسرونها، وتتم الزيجات مقابل المال أكثر منها لأجل الحب. لقد تم تحديث عالم جين أوستن إلى عالم السكك الحديد، والباخرات، والتلغرافات، وإصلاح النظام الانتخابي، والجدالات من أجل حقوق المرأة، والتمثيل السياسي للطبقة العاملة.

كانت الحياة حافلةً أكثر، وكانت القطارات تنقل الناس من أبعد المناطق الريفية إلى لندن كلّ يوم، جالبين معهم أزياء لندن، وأموال لندن، وجرائم لندن، وأفكار لندن إلى الريف. حتى في كنيسة إنكلترا، بدأت الأفكار الجديدة والطموح الاجتماعي والسياسي والسعي وراء الثروة تزداد وضوحاً بصورةٍ يومية

روايات ترولوب مسلية ومُشوَّقةً للغاية ومؤثرة في أحيانٍ كثيرة، ولكن،في جوهرها، ثمة مشكلةٌ أزليةٌ حول كيفية عيش حياةٍ هانئة في عالمٍ خطِر وشرير رُبما. تتساءل شخصياته باستمرار في حال كان بإرادتهم القيام بأفضل ما يمكنهم لأجل أنفسهم، فباستطاعتهم أيضاً فِعلُ أشياء جيدة لعائلاتهم وللإنسانية برمّتها.

نساء ترولوب

يتوق الشبّان والشابات إلى زواجٍ يُلّبي الرغبات المناقضة للعلاقات الغرامية، والإشباع الجنسي، والثراء، والاحترام الاجتماعي؛فالفكتوريون مُتهمون، غالباً، بتجاهل جنسانية الشخصيات، ورغمذلك، ابتكر ترولوب شخصية شابة أرستقراطية تقول إنها تودّ أن «تظفر» بشاب وسيم من أعضاء البرلمان. وشخصية ابنة مراهقة لعائلة محترمة تقول: إن الزواج، بالنسبة إلى الرجال، مثل شراء الجُبْن: يرغبون في تذوق العديد من القِطع قبل أن يشتروها

ينبغي أن تُقرأ روايات ترولوب بتبصُّر، وهذهِ عقبةٌ أمام شُهرتهِ اليوم؛ فرواياته طويلة، وتتطلب منا الاهتمام بكلّ درجات الفكر والمشاعر المحيطة بأفراد أُسَر الطبقة الوسطى أو العليا في الفترة ما بين 1850-1882. ولكن، إذا نظرنا إلى ما بعد تفاصيل هذه الفترة نجد أنّ ترولوب هو  الروائي الذكر الذي يمنح شخصياته النسائية أكثر الأفكار والطموحات قوةً.

إذ إنّ نساءه، على وجه العموم، ذكيات وذوات معرفة واسعة، في كثير من الأحيان، مثل رجاله. لا يمكنك قول هذا عن شخصيات نساء ديكنز، وثاكري، وميريديث، أو كولينز. ولكن، بطبيعة الحال، إنّ روايات ترولوب مكتوبة لتكون مقبولةً اجتماعياً كما يقول الفيكتوريين؛ حيث يمكن للأم أن تسمح لابنتها بقراءتها. وقبل كلّشيء، إنّ رواياته ممتعة. اقرأوا كلمة الأميرة الملكية، التي كتبت إلى والدتها، الملكة فيكتوريا، في عام 1858، قائلةً:

«أعجبتني رواية (صروح بارچستر) كثيراً؛ إنها تجعل المرء يضحك حدَّ البكاء؛ إنها حقيقيةٌ للغاية؛ لكنّي أظنها ماكرة ومثيرة إلى حدٍّ ما». 

ويُقال إن الكاردينال نيومان (شاعر ولاهوتي وفيلسوف وكاهنأنجيليكانيّ) استيقظ في الليل ضاحكاً على ما قد قرأه لترولوب.

من أين نبدأ القراءة لأنتوني ترولوب؟

رواية صروح بارچستر (1857) ممتازة للقارئ بوصفها بدايةً؛إنها عمل ترولوب المبكر. قد لا تكون مهتماً بسياسة حرم الكاتدرائية، لكن لا يزال هناك الكثير فيها لتستمتع به. رواية الدكتور ثورن(1858) ممتعة وسهلة القراءة على حدّ سواء. ورواية جواهر ثمينة هي الرواية المفضلة لظرافتها وإبداعها، وهي، بالمناسبة، الرواية التي ينتظر الرجل العجوز الأعمى في قصيدة تي.إس.إليوت «جيرونشن»المقتبسة جزئياً من الشاعر إدوارد فيتزجيرالدأن يقرأها «ولده» له.

تُشكِّل العديد من رواياته استفزازاً أكبر مثل رواية الطريقة التي نحيا بها اليوم (1874-1875)، وتُعدّ بمنزلة هجماتٍ متواصلة على مجتمع يسيطر عليه المال والمضاربات التجارية؛ إذ يمارس الأثرياء سلطة سياسية غير متكافئة. أما رواية رئيس الوزراء(1875-1876) فهي من الأعمال التي أُسيء فهمها إلى حدٍّ كبير، وهي حول التخلي عن السلطة من قبل سياسي أرستقراطي ثريّ يحب القيم القديمة، التي نشأ معها، لكنه، مثل مؤلفه، يريد للقوى السياسية والرفاهية أن ينتشرا على نطاق واسع بما يمليه عليه ضميره

لقد استصعب ترولوب أن يعيش حياةً هنيئةً حقيقية في عالم معطوب. من الصعب أن نعرف لماذا يعتقد الناس أن ترولوب رضخ للأمر، بشكلٍ مطلق؛  لأنه فهم عصره وضحك عليه. والحقيقة أنه تحول، بوساطة منتقديه، إلى شخص مُمتثل للأعراف والعادات ومنغلق، وذلك لأن العديد من منتقديه كانوا، شخصياً، مُمتثلين للأعراف والتقاليد، ومُنغلقين على مرّ السنين.

اقرؤوا ترولوب بذهنٍ منفتح، وتحلّوا بالصبر على الأسلوب الكتابيّ لعصر يعيش معظم أُناسه حياة مرفهة.اتبع الراوي فحسب، وسوف تجد طريقك عَبْرَ هذا العالم الثري جداً لهذا الروائي العظيم الذي عاش في منتصف الحقبة الفيكتورية

 

بقلم: ديفيد سكلتون

ترجمة: زينب بني سعد