حكايات وحكاؤون في رواية الاستدارة الأخيرة
تحذّر رواية «الاستدارة الأخيرة» من مستقبل مظلم للرجل على يد التسلط والإبادة النسوية، وهي رواية دستوبية مختلفة عن الروايات التي تخيلت خطورة الآلات والإنسان الآلي والكائنات الفضائية والأفاعي والعناكب وتشوه الطبيعة البشرية وغيرها. فمن الطبيعي أن يستشعر الإنسان ويتخيل توحش كائنات أخرى، وحتى أقوام أخرى ورغبتها في السيطرة عليه، ولكن أن يكون الخطر المحدق به من قبل الأنثى التي تشاركه حياته، ولا يكتمل الوجود إلا بها، فهنا مكمن الغرابة والخطر. ولكن في المقابل، فإن تسلط المرأة وتحكمها في البيت واقع لا يُمكن إنكاره؛ فلها الكلمة العليا والقرار النهائي في كثير من شؤون الأسرة الداخلية والخارجية، ولا شك، أن السلطة الحقيقية للمرأة في المجتمع، وإن كانت من وراء ستار، ولها تأثير بالغ في السياسة والاقتصاد وغيرها من خلال تأثيرها وسطوتها على الرجل، والتاريخ، وإن كان مزورا في معظمه، يؤكد ذلك.
يُمكن الحديث عن الرواية من جوانب وزوايا كثيرة؛ فهي ميدان خصب لكل من أراد أن يكتب عنها وحولها، غير أن اللافت فيها الحكايات والحكاؤون التي شكلت نسيج الرواية بكاملها، حيث إن معظم شخوص الرواية الرئيسيين حكاؤون، كما أن الرواية تألفت من ثلاث حكايات رئيسية متداخلة ومستقلة في الآن نفسه؛ حكاية الراوي، وحكاية الرجل النبيل، وحكاية الملوك والملكات، وتشكل معا ثلاث دوائر رئيسية متحدة المركز، بالإضافة إلى دوائر فرعية تشكل في مجملها ماندالا روائية مشوقة وجاذبة.
حكاية التاريخ
التاريخ بشكل ما حكاية؛ حكاية المنتصر أو الأقوى، حكاية السلطة المتنفذة التي تكتب التاريخ كما تريد، وإن خالف الوقائع ومجريات الأحداث الحقيقية، ولذا فإن التاريخ في مجمله تاريخ مزور، مترع بالأكاذيب والمبالغات والإنجازات الوهمية والانتصارات الدونكيشوتية «التاريخ فنّ الحكايات الكاذبة»، وإذا كان واقعنا الذي نعيش فيه يتم تحريفه وتزويره على مرأى العين، فكيف بالتاريخ البعيد؟ وأي سلطة تقبل أن يُكتب عنها، أو عن أسلافها ما يُشين أو يقلل من قيمتها ومكانتها وهيبتها؟!
في الرواية، ترفض أستاذة التاريخ الجامعية كتابة الرجال للتاريخ، بزعم أن «التاريخ ذاكرة تصونها النساء»، وأن «التاريخ لا يعرفه الرجال»، وتؤكد أن «المؤرّخات، لا يخطئنَ في كتابة التاريخ»، وتقول: «لا أتذكّر أنّ الرجال كتبوا التاريخ أصلا. وإن كتبوه، فهو كذب. نعم، الكذب من الرجال؛ فهم لا يعرفون الحكايات»، ولذلك أُوكل كتابة تاريخ المملكة إلى مؤرخات من النساء، فهن ذاكرة لا تخطئ، والرجل خصم غير مؤتمن، لا يمكن أن يكون منصفا وليس محلا للثقة. وزاد الأمر أن مُنع الرجال من دراسة التاريخ في الجامعات إلا لحالات فردية نادرة، لئلا يكون لهم كلمة أو تأثير في تدريس التاريخ أو تدوينه أو روايته.
وفي مفارقة واضحة؛ فإن حكايات هذه الرواية الرئيسية نقلها العجوز؛ «الرجل النبيل»، وليس امرأة، صحيح أنه نقل معظمها عن الملكة، ولكن يبقى رجلا، ولا يعني أنه كان أمينا وحرفيا في روايته، فلا بد أنه أضفى عليها من ذاته وتأويلاته ونكهته الخاصة. وبشكل عام، فأي رواية لأي حكاية، يعني تحريفا ما مهما كان بسيطا، ومع توالي الروايات الشفهية، يزداد التحريف، ومع الزمن، تُقلب الأحداث والحقائق وتكاد لا تمت بصلة إلى أصل الحكاية.
نحن حكايات
الإنسان؛ أي إنسان هو حكاية بعد أن يموت، وبعضهم حكاية وهو حي، ومن الأفضل أن يكتب كل منا حكايته بنفسه كما يريدها وكما عاشها، بدلا من أن يتركها للآخرين ليكتبوها كما يرتأون، وهنا لا بد أن تخضع للتحريف والتعديل حسب أهوائهم ورؤيتهم وما يخدم مصالحهم. وبقدر عدد البشر توجد حكايات، ولكل أسرة حكاية، ولكل قبيلة أو عشيرة حكاية، ولكل قرية أو حي أو مدينة حكاية، ولكل مجتمع أو دولة حكاية، وهذه الحكايات تتناسل بين وقت وآخر، ولكن، لا تدوين إلا لحكايات السلطة وأزلامها، أما حكايات الشعوب والناس البسطاء فتهمل ويطويها النسيان، إلا ما كان منها يوافق حكاية السلطة ويدعمها ويزيد في سمعتها ويرفع من شأنها. في الرواية، ثمة حكايات لأشخاص عاديين، وأشخاص ارتبطوا بالسلطة، وأشخاص تحالفوا مع السلطة، فظهرت حكاياتهم إلى العلن ودونت، ومن هذه الحكايات حكاية الراوي وطفولته مع عمته، ثم انتقاله إلى بيت الأب وزوجة الأب المتسلطة المتحكمة، التي لها الكلمة الفصل في كل ما يتعلق بالبيت والأسرة، فيما كان الأب مجرد خادم، بل كان عبدا ليس له رأي ولا كلمة.
وتبرز حكاية الرجل النبيل، ومعاناته في سبيل العيش، ثم هروبه وتخفيه خوفا من البطش به كغيره من الرجال إلى أن تدخل ساعي بريد وأنقذه واتخذه مساعدا، مما فتح له أبواب القصر واتخذته الملكة الأولى كاتبا وكاتما لأسرارها وحكاياتها. وهذا الرجل النبيل هو الذي روى جميع قصص وحكايات الملوك والملكات من البداية إلى النهاية.
كما ذكرت الرواية حكاية الجدة الزعيمة التي كانت تحكم إحدى القبائل المتحالفة مع الملك على أطراف المملكة، والتي احتضنت بنته الطفلة، ورعتها، ومن ثم توجتها ملكة بالتعاون مع القبائل المتحالفة بعد القضاء على عدوها الأكبر. وتطرقت حكاية هذه الجدة إلى طقوس القبيلة وعاداتها وثقافتها ومعتقداتها وحروبها وغيرها من الأمور التي تشكل مادة دسمة وطريفة وغريبة في الآن نفسه. ومع أن الرواية في ظاهرها منحازة ضد المرأة، وقد تقابل بنقد نسوي قاسٍ، إلا أنها تعترف للمرأة بالذكاء الخارق، وسعة الحيلة، وقدرتها على التلاعب، والتخلص من الأخطار، وفرض رؤيتها وشروطها، بالإضافة إلى قوتها وقدرتها على التخطيط والتنفيذ بحنكة وكفاءة. كما أن الرواية ذكرت نموذجا طبيعيا للأنثى دون انحياز أو تطرف، فقد كانت «لورا» أنثى عادية تتفاعل مع الرجل ولا ترى فيه عدوا، أو خصما أو حتى منافسا، بل إنسانا يستحق العيش والحياة والكرامة مثلها، وكانت صديقة للراوي، تشاركه زياراته للعجوز، وتهتم لأمره وتؤازره، وتشجعه على الكتابة، كانت شريكة حقيقية، صادقة في مشاعرها وكلماتها، وفي سلوكها هذا رفض وتمرد على السائد من تسلط المرأة وإقصاء الرجل والتنكيل به.
الرواية حكاية
الرواية؛ أي رواية هي حكاية، ولكنها كُتبت بلغة جميلة وفنيات وشروط إبداعية، والحكاية هي العمود الفقري للرواية، ولا يُمكن أن توجد رواية دون حكاية. وعلى هذا؛ فالروائي حكّاء على الورق، يسرد حكايته ويحاول أن يأسر بها لب القراء، ويستأثر على اهتمامهم ومتابعتهم، وهذا يتطلب مهارات وقدرات إبداعية عالية المستوى، وليس كل من كتب رواية حكّاء ناجحا بالضرورة، فقد يفشل، وتكون روايته مجرد حكاية مروية بأسلوب باهت لا يستثير أحدا.
إن رواية «الاستدارة الأخيرة» لأحمد الزمام حكاية مثيرة وممتعة، وصادمة أيضا، ومرعبة في بعض مفاصلها، وأرى أن الزمام حكّاء ماهر في هذه الرواية التي نجحت في جذب القارئ ومتابعته للتعرف على حكايات هذه المملكة التي تحكمها النساء وتترأسها الملكات، والرجل فيها مطارد، لا قيمة ولا أهمية له، ولا يُحتفظ ببعض الرجال إلا لغايات التكاثر واستمرارية الحياة. ولعل المرعب في هذه الرواية، أن يضطر الرجال للبس ملابس النساء، واستخدام المكياج؛ للتخفي وتجنب الملاحقة والقتل، ولكن الأكثر رعبا أن يتوجه بعض الذكور لارتداء ملابس النساء والمكيجة عن طيب خاطر، إيمانا منهم بأن السلطة للنساء، ومن كان كالنساء فله حظ وافر. وأكدت الرواية حقيقة مخيفة أن الملكة الثانية ما هي إلا ذكر في حقيقتها، ولكن أمه الملكة ربته منذ الطفولة على أنه أنثى، وتوج ملكة على هذا الأساس، وفي هذا اغتصاب للرجولة وإعدام لها، وحرمان للذكر أن يكون على طبيعته، ولم يستطع أن يتمرد، على الرغم من أنه أصبح ملكا/ملكة بسبب البطانة الأنثوية التي حوله، والتي لن تقبل بأن يحكمها ذكر، وإن كان سليل الملكة السابقة، بالإضافة إلى أنه لا يعرف ما هي الرجولة، وكيف يتصرف ويحكم كرجل، وفي هذا تعريض ورمزية لا تخفى على اللبيب!
والغريب أن الملكة الأولى التي قادت حملة الانقلاب على الرجل، تعهدت في طقس التحالف بحضور زعماء القبائل التي ستدعمها لاستراد عرش والدها أن يكون «الشعب نساء ورجالا»، وكان هذا شرطها للموافقة، ولكن هذا الشرط كما يبدو حمّال أوجه؛ فيكفي وجود بضعة رجال ليتحقق الشرط، وتفي بتعهدها. وفي تقديم النساء على الرجال دلالة واضحة على نواياها المبطنة.
وبعد؛ فإن رواية «الاستدارة الأخيرة» للروائي الكويتي أحمد الزمام، صدرت عن دار رشم في مدينة عرعر السعودية عام 2024 في 424 صفحة، وهي رواية مختلفة وتحذر من الأسوأ المقبل، وليس شرطًا أن يكون الخطر قادما من النساء، فثمة مصادر للخطر لا تحصى، وأقربها لنا خطر الأجهزة الذكية على اختلاف أنواعها، والذكاء الصناعي، والخطر النووي وأضرابه، والحروب المدمرة، والكوارث البيئية، وغيرها. وأيا كانت الأخطار المتوقعة، فإن الكائن البشري في طريقه للأفول أو الاستعباد بسبب ضعفه المتسارع، واعتماده على الآلة والتقنية، وتعطيله لمعظم قدراته ومهاراته الطبيعية، وإيثاره للكسل، وشراهته للاستهلاك الأعمى، وتجنبه التفكير والتطلع إلى المستقبل.
تدق الرواية ناقوس الخطر، وتدعو للتفكير في مستقبل البشرية، وأن يتدارك العقلاء الدحرجة المتسارعة نحو الهاوية، والمصير الضبابي. ويبقى الأمل موجودًا، على الرغم من طبقات الظلام التي تحيط بنا، والحروب التي تنذر بالويل والدمار، والتهديدات التي لا تتوقف، وكثير من المجانين الذين يحكمون العالم.
قراءة الأديب موسى أبو رياش.
المصدر: جريدة القدس العربي