حميد الرقيمي يواجه “عمى الذاكرة” بتدوين سيرة ضحايا الحرب وسرد أوجاعهم
تتألف الرواية من أجزاء/ فصول، تبلغ 26 جزءًا، لكل جزء/ فصل عنوان مستقل، بدءًا بالفصل الأول “لحظة الهروب”، وانتهاءً بالفصل الأخير الذي حمل عنوان “عندما سألتني بكيت”. بالإضافة إلى الإهداء “إلى كل من طالتهم نيران الحرب…”، والافتتاح الذي تضمن مقطعًا من قصيدة “ابتهالات” للشاعر الكبير الراحل عبدالعزيزالمقالح.
الكاتب اليمني الشاب الذي شهد كثيرًا من فصول الحرب الدامية عندما كان في اليمن، قريبًا من جبهات القتال الملتهبة، يبدو في هذه الرواية -كما في أعماله السابقة- شاهدًا على بشاعة ما تعيشه البلاد وقسوة ما يعانيه ملايين اليمنيين، سواء في ذلك من يعيشون في اليمن، أو من غادروها، فقد عاش حميد في اليمن السنوات الأولى من الحرب، قبل أن يغادرها إلى السودان ثم إلى مصر.
في كلا الحالتين كان حميد في الواجهة، في اليمن كان إعلاميًا يغطي جانبًا من الحرب، وفي الخارج هو الكاتب والناشط والمتابع لما يجري لأبناء بلده، وما يواجهون من أهوال.
الرواية التي اختار مؤلفها “عمى الذاكرة” عنوانًا لها، تسلط الضوء على ما تختزنه الذاكرة اليمنية عن بؤس الحرب وقسوة الواقع وانسداد الأفق أمام اليمنيين، بخاصة فئة الشباب الذين أجبرتهم ظروف الحرب على البقاء تحت وطأتها أو الهروب بحثًا عن الخلاص، مع ما يكتنف ذلك الهروب من مخاطر وصعوبات، وهما خياران أحلاهما مرٌّ.
ويرى النقاد أن “الكاتب يتمكن -من خلال السرد- من إخراج تجربته من الأطر المكانية والزمانية المحدودة، وسكبها في ذاكرة لا نهائية الاتساع وهي الذاكرة البشرية كلها” (تمام طعمة، تقنيات السرد الروائي)، وهو ما فعله الكاتب في “عمى الذاكرة”، حين تمكن من إخراج الأحداث إلى ذاكرة القارئ، دون أن يقع في فخ التقريرية أو المتابعة والتغطية الإخبارية، فهذه مهمة الصحفي لا الروائي.
ما تبوح به الذاكرة هنا يأتي كمعادل موضوعي لـ”عمى الذاكرة”، الناجم عن عطبٍ تحدثه الحرب في جدار الذاكرة الخاصة ببطل الرواية، لا سيما وأن ذاكرته تنشطر بين اسمين وأسرتين وأكثر من حياة، ناهيك عن أشكال عديدة للموت، كان يعيش حياته القاسية بهويتين وذاكرتين وقلبين”، ولايزال يجهل كيف “استطاعت الذاكرة أن تنام بين الأشلاء والأطلال، حتى عادت بقذيفة أخرى وبعد غياب طويل”.
وقد استطاع الكاتب أن يشيد بناءه السردي موظفًا عدة تقنيات سردية في هذا البناء الآسر، دون أن يضع للرواية إطارًا زمنيًا، فالحرب التي تشتعل بين سطور الرواية عابرة للأزمنة والأجيال، تعصف بالبلد وتخترق الذاكرة فتصيبها بالعمى، وتحيلها أكوامًا من الخراب، من البداية إلى النهاية، لا حدود للخراب والندوب التي تتركها الحرب. منذ ميلاد بطل الرواية الذي تزامن مع انفجار أودى بحياة والديه، حتى قرر مغادرة البلاد على وقع أصوات الانفجارات التي لم تتوقف لحظة واحدة.
يوظف الكاتب لغته الشاعرية واطلاعه الواسع في سرد الأحداث بتكثيف يمنحها الكثير من الدهشة والجمال، على الرغم مما تتضمنه من أوجاع وانهيارات تطال كل شيء في البلد المثخن بالحرب، إذ تتراءى الأحداث المؤلمة لوحاتٍ معبرةً عما يعيشه اليمنيون، وقد أجاد الكاتب رسم لوحاته بكلماتٍ ناضحة بالمعاناة وعبارات راسخة في صدقها الفني والوجداني، إنها فاجعة الحرب ومآسيها اليومية اختزنتها ذاكرة المؤلف، ثم أعادت رسمها وسردها في قالب روائي ممتع فيه من الجاذبية، ما يجبر القارئ على إكمال قراءتها بمجرد مطالعة بداياتها الأولى.
اجتاز الكاتب مراحل عدة حتى وصل إلى هذا المستوى المتقدم من السرد، وهو الذي لم يفارق احتراف الكلمة منذ نعومة أظفاره، إذ عرفته مدينته معلقًا رياضيًا يتجاوز عمره الصغير حينها بأداء يبهر الجميع، ثم غدا إعلاميًا يراسل عددًا من القنوات الفضائية، ناقلًا بالصوت والصورة وقائع الحرب. فكان هو الصوت الذي تردد في جنبات المكان لسنوات عدة، وغدا اسمه حاضرًا في المشهد الثقافي والإعلامي بعدما حفره بيقين الواثق وثقة المبدع.
بين انفجارين ولد البطل “بدر” أو “يحيى”، ثم عاش في كنف أسرة أخرى تتألف من الجد الحكيم، وأب وأم جديدين، ارتبط بجده وأمه الجديدة “لطيفة”، بينما كان الأب يقضي معظم أيامه بعيدًا عن المنزل والأسرة، لظروف سيعرفها “يحيى” في ما بعد.
انتقل بعدها للدراسة الجامعية في صنعاء، وهناك تعرف على حب حياته “يافا “، غير أن طبول الحرب دقت مرة أخرى، فأوقفت نبض الحب في قلب البطل، أو أجلته حتى إشعار آخر، إذ قرر مع مجموعة من الشباب مغادرة البلاد إلى أوروبا التي لم تكن الطريق إليها سالكة، فدونها أهوال وأهوال، من مطار عدن كانت الانطلاقة، وتطل محطات التوقف عبر مساءات القاهرة، ثم نهارات الخرطوم التي أفضت بالمهاجرين إلى حدود ليبيا، حيث فتحت لهم الصحراء أبواب التشرد والضياع على امتداد الأفق، وفي رمالها الحارقة دفنوا أول رفيق لهم، لم تمهله أوجاع الكلى حتى قذفت به جثة هامدة.
وقبل الوصول إلى البحر كانت عصابات التهريب في انتظارهم لأخذ ما تبقى لديهم من مال، وفي رحلة البحر صوب الخلاص في الشاطئ الإيطالي تنتصب أشباح الموت، وتترصد القادمين الذين تقذف بهم الأمواج في أعماق الخوف والخطر. “وهذا الليل الطويل الذي يسلخني ويلتهمني لا حدود له، كنت أشاهد كل شيء ينحدر أمامي، وكنت ألمس الجراح واقفة على كل باب، وفي كل عين تراقب عبوري أسمع ألف أمنية للهروب”.
مخاطرة الهجرة إلى أوروبا عبر البحر كان المؤلف قد تابع كثيرًا من تفاصيلها عندما غرق مجموعة من الشباب اليمنيين، وكان هو الذي تولى التواصل مع الجهات الرسمية اليمنية والليبية والجزائرية لمتابعة تطورات الأحداث حينها، لذلك فقد بدا سرده المكثف هنا دافقًا ودافئًا بما لديه من حقائق ومعلومات ومشاعر وانطباعات وتفاصيل عاشها أبطال روايته -على الورق- كما عاشها بعض أصدقائه على الواقع، ولايزالون يعيشونها.
“كانت العتمة مفروشة على كل البقاع، وكانت الدمعة خجولة من بكاء القلوب التي لا تمنحها حقها في التعبير والهذيان، تحجرت في عيني الرؤية، وغابت على قدر المسافة التي قطعتها بين صنعاء وعدن ذكريات عمري كلها، ولم يبقَ مني إلا أشلاء موزعة على كل خطوة”.